كمال الشيخ.. الهارب من ظله

سامح سامي 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظله

الكاتب : سامح سامي


لماذا عدد خاص عن كمال الشيخ؟
الإجابة تكمن في مجلة الفيلم نفسها، التي تحتفل هذه الأيام بمرور خمس سنوات على تأسيسها بصدور 18 عددا، وتخطط أن يكون العدد العشرون عن تلك المناسبة، عبر نشر شهادات تقييمية ونقدية لمسار المجلة، وليس عبر الكلام المعسول عن أهميتها.
مجلة الفيلم تهدف إلى أمرين: الأول يخص المشاركة في الثقافة السينمائية، وإتاحتها للقارئ العربي، ورفع مستوى التذوق الفني والنقدي، والثاني تقديم ما يفيد صناع السينما المصرية لإنتاج أفلامهم التي بالضرورة تسهم في تلك الصناعة التي تقف قبل المنحدر.
كل عدد لابد أن يتضمن هذين الأمرين (الثقافي والتعليمي)، حينما تحدثنا عن السينما التسجيلية كان الغرض أن نقدم إلى صناع تلك السينما نماذج وآليات ومخرجين كبارا لهم إسهامات واضحة، تكون دليلا لأي صانع فيلم مبتدأ، لكي يستلهم منها ما يفيده ويشجعه. وكذلك الأمر مع عدد يوسف شاهين، وكان هو العدد الأول المخصص بالكامل عن مخرج.
والعدد الحالي هو الثاني الذي نخصصه عن مخرج آخر، هو كمال الشيخ الذي نحتفل بمئويته (1919-2019)، فهو الأيقونة والنموذج لما تريد تقديمه مجلة الفيلم في هدفها الأول والثاني، خاصة الجانب التعليمي، حيث لاحظت أن بعض الشباب الذين يريدون صناعة فيلم أول لهم، لا يعرفون آليات المونتاج، ولا يريدون المعرفة.
وليتهم يدركون أن كمال الشيخ الذي بدأ من غرفة المونتاج كمونتير لـ 56 فيلما، أعطته ميزة وخبرة شكلت عالمه السينمائي، الذي أصبح عالما فريدا لدرجة أننا نقرأه ونشاهده مرة أخرى بعد سنوات طويلة، وربما سيأتي بعدنا آخرون ويقرأون عالمه السينمائي في محاور جديدة ووفق ثقافة سينمائية مختلفة.
كمال الشيخ الذي يسبق باسمه (أول) مخرج رغم أن (أول) تلك أثبتت عدم دقتها في الأبحاث السينمائي، إلا أن كمال الشيخ يمكن القول بارتياح إنه شكّل مدرسة خاصة في تاريخ السينما المصرية، وأبدع لغة شديدة الخصوصية في أفلامه، سواء التي تعتبر في وقتها جديدة على السينما المصرية أو استخدامه المميز للأعمال الأدبية، وتحويلها إلى صوت وصورة.
ورغم ذلك عندما نقرأ مقال الزميلة فاطمة نبيل نكتشف أن الكتابات النقدية التي تناولت كمال الشيخ خلال حياته المهنية جاءت انطباعية مملوءة بكلاشيهات رددها أحدهم، وساهم النقاد وقتها في ترسيخها عن أن كمال الشيخ هو "هيتشكوك العرب"، وهو اللقب الذي رفضه الشيخ ذاته مرارًا، معللا رفضه بخلاف كبير بين أسلوبيته وأسلوبية هيتشكوك، وأن مطلقي هذا اللقب لم يقرأوا سينماه حق قراءتها، بل ولم يقرأوا سينما هيتشكوك أيضا. صديقتي علياء طلعت أيضا تناولت في مقالها هذه المقاربة التي يستسهلها البعض في إطلاق أحكام جاهزة معلبة.
(2)
لماذا مرة أخرى كمال الشيخ في مجلة الفيلم؟
كمال الشيخ معلم، وتتبع أفلامه التي يعرفها معظم المصريين، تعلمنا الكثير عن هذا الشخص المعجون بحب السينما، بداية من رغبته في التمثيل إلى دخوله حجرة المونتاج ليكون مساعد أول ميكانيكي مونتاج في البداية مع المخرج نيازي مصطفي، إلى تعلمه الذاتي فنون السينما والصورة في وقت لم يكن هناك معهد للسينما بل عبر الاستوديوهات مثل استوديو مصر والكتب والمشاهدة، مرورا بتجريبه في تقنيات جديدة لتصوير أفلامه الأولى مثل "المنزل رقم 13"، و"مؤامرة" الذي يرفض وصفها بأنها أفلام بوليسية، ويفضل وصفها بأفلام علامات الاستفهام، حسب الكاتب بلال فضل.
مقال الدكتور وليد سيف يقول عن هذا التجريب والتطلع إلى التجديد: "قبل كمال الشيخ كانت معظم الأفلام المصرية تنتهج أساليب السرد التقليدي، فيتوالى سرد الحكاية طبقا لتتابعها الزمني، وكانت تلك الأفلام التى تتخللها مشاهد عودة إلى الماضي نادرة، وتتحقق عادة بأسلوب بدائي، وكان كمال الشيخ بحكم خبرته الطويلة وتعامله مع آلاف الأمتار من أشرطة الأفلام يدرك هذا العيب، ويدرك أن هناك وسائل أحدث يمكن من خلالها تحقيق صورة أفضل، ودون أن يقع أى تشتت للمشاهد أو خلل فى تتابع الصورة، فهل كان انشغال المونتير بفكرة الزمن والذاكرة، وضرورة ظهورهما على الشاشة بصورة سليمة ومؤثرة أحد دوافعه المهمة لولوج عالم الإخراج. مشاهد المعارك والمطاردات، فالمعركة الوحيدة التى تدور قرب نهاية الفيلم ابن البطل والمجرم معركة هزيلة وتتناسب مع كونها معركة بين طبيب ومهندس، كما أنه يمكنك أن تكتشف بسهولة ثغرات واضحة فى السيناريو وأهمها غياب الدافع الحقيقي وراء ارتكاب طبيب ناجح يعيش حياة مرفهة لسلسلة من الجرائم بيده وبيد غيره، هذا فضلا عن مواقف يغلب عليها التلفيق، حين يستبدل الطبيب شريكته فى الجريمة بامرأة أخرى فى ثوان قليلة، ليخدع البطل ويصرفه عن الشك فيه، كما أن التتابع يعاني من انتقالات غير مبررة، مثل هروب المهندس من السجن، وهذا فضلا عن التزام الفيلم بكليشيهات السينما المصرية السائدة فى ذلك الوقت، مثل رقصة الكباريه الكاملة، وموسيقى "الساسبنس" الزاعقة. ولكن الأهم من كل هذا أن كمال الشيخ استطاع بسيطرته على الإيقاع والزمن أن يصنع أسلوبية جديدة، فالطابع الغالب على أفلام التشويق قبله كان الإيقاع السريع العصبي والانتقالات الحادة المفاجئة، بينما اعتمد كمال الشيخ على اختيار الأزمنة القوية والمواقف المهمة والمؤثرة، ليترك لها المساحة الكافية، فهو يبدأ الفيلم بلقطات متصلة، وبإيقاع متمهل لسيارة تقطع الطريق فى الظلام حتى تصل أمام منزل رقمه 13، ليهبط سائقها دون أن نرى وجهه، وبعد أن يخرج المسدس من التابلوه متوجها إلى العمارة، وهنا يثبت الكادر وتتوالى العناوين، فى أقوى وأقصر "أفان تيتر" عرفته أفلامنا فى ذلك الحين، وعلى عكس المألوف لا تنتقل الأحداث بعد الأفان تيتر إلى زمن آخر، بل تتواصل اللقطات من نفس المشهد السابق، وفى تتابع زمني تفصيلي لحركة نفس الشخص، حتى يقتحم غرفة رجل ويطلق عليه الرصاص ويرديه قتيلا، وهنا تتميع الرؤية بأسلوب فني تمهيدا لأول نقلة زمنية لمشهد آخر يبدأ برؤية متميعة أيضا، حتى تتضح الصورة لمنبه على "كومودينو" يرقد إلى جواره البطل، وحيث يترسخ الإيهام لدى المشاهد، هل ما سبق هو زمن حقيقى، أم أنه حلم البطل النائم؟".
(3)
لماذا كمال الشيخ مرة ثالثة؟
كمال الشيخ المجدد والإنساني يعلمنا في تتبع حياته التي لا يعرفها الكثيرون كيف كان، وهو أبن الطبقة العليا، مستقلا فكريا عن الكلام السياسي السائد وقته، والذي جعله يبتعد عن الأضواء قليلا، أو يتعامل معه النقاد بجفاء شديد، مقارنة بحفاوة بالغة لمخرجين أقل موهبة منه لمجرد أنهم من اليسار، يعلمنا كيف كان يحلم بفيلمه الأول، وكيف أنتجه بأقل التكاليف مع صديقه وحيد فريد وبمساعدة استوديو مصر، وبطرق بديلة عن السائد، وهو ما نحاول قوله هنا في الجزويت إن "السينما يمكن أن تكون عظيمة في تجريبها لطرق بديلة في الإنتاج"، بحيث تكون تجربة إنتاج الفيلم وإصرار المخرج على خروجه للنور درسا ملهما للأجيال القادمة، يزيد من روعة الفيلم واستقباله".
كمال الشيخ.. لأنه مخرج متواضع كان يستعين بمخرجين آخرين معه، وهي تجربة بديعة تعلمنا أن الكبار يتعاونون مع غيرهم، مثل تعاونه مع فطين عبد الوهاب في فيلم "الغريب"، وكذلك تعاونه في تكوين شركة مع المخرج رأفت الميهي، وحوار صديقي العزيز حسن شعراوي والأستاذة عزة إبراهيم مع تامر رأفت الميهي توضح لنا كواليس ذلك التعاون.
كمال الشيخ.. لأنه مخرج هادئ، يرى "السياسة" في زجاجة دواء وتوفيرها لمواطن بسيط في فيلمه " حياة أو موت"، وليس عبر الخطب السياسية المباشرة، التي تقتل الفن.
في مقالها تقول نور الصافوري الباحثة صاحبة كتاب "رصد جماهير السينما"، والتي تكتب في المجلة لأول مرة: "يقترح علي أبوشادي في كتاب "وجوه وزوايا" تقسيم أفلام كمال الشيخ إلى مجموعتين: سينما الفرجة (من 1952 إلى 1962 ) وسينما الفرجة والفكر (من 1962 حتى 1987 ). بالنسبة له الأفلام التي اعتمدت على التشويق الدرامي من أجل إمتاع المشاهد(ة) لم تحمل نقدًا اجتماعًيا؛ لأن صانعيها استغرقوا في آليات وتكنيكات السرد وحبك تجربة مشاهدة لذيذة، أما الأفلام التي اعتمدت على "الفكر" إلى جانب الفرجة – وهذا الفكر يأتي به بشكل أساسي كاتب السيناريو الماهر - استطاعت أن تقدم نقدًا اجتماعًيا وسياسًيا. ربما في هذه الفصلة شيء من الجمود؛ لأن في حبك تجربة الفرجة نفسها وعي اجتماعي، متعتنا من مشاهدة فيلم نتيجة لتراكم اجتماعي وثقافي، وبالتالي فعل الفرجة ولذة المشاهدة يحملان رؤية للواقع الاجتماعي ويساهمان في تشكيله، والانشغال بهما لا يعني عدم الاكتراث بالبعد الاجتماعي للسينما، بل العكس. "على من نطلق الرصاص" مثال جيد يوضح ارتباط علاقة المشاهد(ة) بالشاشة - من خلال الفرجة - بعلاقة المشاهدين مع بعضهم، أي بالبعد الاجتماعي في تجربة الفرجة في السينما".
(4)
في هذا العدد أيضا ملفات وموضوعات لا تندرج ضمن ملف مئوية كمال الشيخ، منها ترجمة الروائي أحمد زغلول الشيطي لمقال المفكرة سوزان سونتاج بعنوان "انحطاط السينما"، وهو مقال نشر بمجلة التايم الأمريكية 25 فبراير 1996، وهو مقال يثير العديد من الأسئلة والنقاشات، إذ تقول فيه: "بعد مائة عام من السينما، تبدو كما لو كانت تمتلك شكل دورة الحياة: الميلاد الحتمي، التراكم الثابت للأمجاد ثم بداية عقد من الهبوط المزري الذي يصعب تجنبه، هذا لا يعني أنه لا يمكنك التطلع بعد الآن إلى أفلام جديدة تستطيع احترامها، لكن لا يجب أن تكون هذه الأفلام مجرد استثناءات فقط - وهذا صحيح بخصوص التحققات العظيمة في أي فن، ينبغي على هذه الأفلام أن تكون اختراقات مؤكدة للمعايير والممارسات التي تحكم صناعة السينما الآن في كل مكان في العالم الرأسمالي، أو ما سوف يكون رأسماليًّا، أي يمكنك القول في كل مكان، غير أن الأفلام العادية التي صنعت ببساطة من أجل الترفيه، أي لأغراض تجارية، هي غبية على نحو مذهل، الغالبية العظمى تفشل بطريقة ساخرة وبشكل فاضح في اجتذاب جماهيرها المستهدفة، بينما غاية الفيلم العظيم الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن يكون إنجازًا فريدًا في نوعه، نجد أن السينما التجارية قد استقرت على سياسة أفلام الإنتاج الضخم، المشتقة من تجارب سابقة، أو الاستناد على فن الخلط وإعادة الدمج الوقح، على أمل استنساخ نجاحات الماضي، لقد بشرت السينما يومًا أنها فن القرن العشرين، على أنها تبدو الآن مع قرب إغلاق القرن عدديًّا، لتكون فنًّا منحطا"، وهناك أيضا ترجمة قام بها الناقد محسن ويفي رئيس جمعية النقاد المصريين عن كيف تُصنع الأفلام؟، وأيضا مقال الدكتورة ثناء هاشم عن السيناريو وهو درس مهم وممتع. ونستمر في تقديم ملف الأرشيف الفوتوغرافي للأدباء وللفنانين الذي تقدمه الزميلة إيمان على، وهذه الحلقة عن المبدع نعمان عاشور برسمة بديعة من الفنان عماد عبد المقصود الذي قدم أيضا لنا تحفة في غلاف المجلة الذي تحول بفضل الزملاء، خاصة الفنانة دعاء العدل إلى لوحة فنية تقدمها مجلة الفيلم.

التعليقات :

أحدث المقالات