النقد السينمائي نشأته وأغراضه ومستقبله

عزة خليل 09 يونيو 2022 النقد السينمائي

الكاتب : عزة خليل
لازمت كلمة "أزمة" النقد السينمائي طوال تاريخه. ففي 1909، سخرت مجلة "موفنج بكتشر وورلد" الأمريكية من النقاد بسبب "غباءهم الفاضح" وأفتقارهم للمعرفة السينمائية. وانطلقت دعوات في أوروبا عام 1919، لوضع تشريعات تمنع إصدارل المجلات السينمائية بجملتها (Frey 2015, 37). ونشرت مجلة "فارايتي" الهوليودية انتقادات لاذعة بشكل منتظم، مثل هل مازالت هناك حاجة حقًا للنقاد السينمائيين، أم إنها حرفة عفا عليها الزمن؟ ثم حوصر المحيط العالمي للنقد السينمائي" من كل الجهات لأكثر من سبب. فقد استغنت الصحف عن عدد غير قليل من العاملين بها، وإنهار سوق المجلات المطبوعة المتخصصة، وتكاثرت مواقع الهواه على الإنترنت".


وتذمر معلقون كثيرون من "تخمة الكتابة في النقد السينمائي" التي حولت النقد إلى شكل من الأطعمة السريعة عبر الانترنت. بينما قال آخرون "آن أوان التوقف عن النواح على وفاة الصحافة السينمائية، وحانت بداية التفكير في أسوب لإحياءها". وأكدت الكتابات السينمائية الوفيرة، عبر كافة أشكال وسائل الإعلام، على وجود تناقضات ومشكلة عسيرة تواجه النقد. إذًا، ماذا ستعني كل وجهات النظر تلك لمستهلكي النقد السينمائي وقراءه؟
وكانت أدبيات النقد السينمائي مفيدة في توضيح تلك القضايا جزئيًا. حيث اتخذت كتب عديدة عناوينًا مثل "الأزمة الدائمة للنقد السينمائي". ونشرت مقالات تحت عناوين مثل "صعود وأفول النقد السينمائي". وكتب عدد وافر من التعليقات على الانترنت بعناوين تصف "الحرب ضد نقاد السينما". ولكن لم يقدم نطاق الكتابة، غير محدد المعالم هذا، توضيحًا وافيًا للنقد السينمائي، ولا شكل خطابًا مشتركًا حوله. وعكس هذا حقيقة اتساع نطاق الاختلاف في وجهات النظر، وتفاوت الاهتمامات داخل المؤسسات والصناعة، وتباين انشغالات كتاب السينما وقراءهم أيضًا. وعانت منابر وسائل الإعلام واسعة الانتشار من أزمة تحديث، حيث يمضي التقدم التكنولوجي للاقتصاد الرأسمالي للأمام بلا هواده، في حين أن ذلك لم يلفت الانتباه لمدى تلاؤم فنون مثل السينما مع عالم الانترنت الجديد. وإذا نظرنا إلى تاريخ النقد السينمائي الطويل والشائك، والبكائيات المستمرة على انهياره الوشيك، ربما نندهش من بقاءه على قيد الحياة أصلًا.
وداخل هذا السياق، يمكن قول إن النقد السينمائي عانى دائمًا من أزمة جوهرية. فقد انطوى دائمًا على تناقضات جوهرية عديدة: يتم استغلاله على نطاق واسع، ولكنه لا يحظى دائمًا بالتقدير؛ ولا يمتلك مبادئ إرشادية شاملة؛ وتتسم علاقاته بالفساد البيّن، ولم يكتسب طوال تاريخه اعترافًا به بوصفه شريكًا أساسيًا في الحياة الثقافية التي يمثل جزء منها. وفي الوقت نفسه، عرف النقد السينمائي نطاق واسع من القراءة. وقام بدور القابلة التي تلقت السينما عند مولدها؛ في حين أنه وليد صناعة السينما، وساعد على جعل القالب الفني السينمائي مفهومًا ومستساغًا لعدد لا نهائي من المشاهدين. واستمرت الكتابة في مجال السينما على تنوعها، لأن قراءها يلجأون إليها للتأكد من المعاني التي يشاهدونها ويسمعونها، ويبحثون عن التفسير والتعمق الذي يوفره النقد السينمائي.
ومع استمرار ملامح الأزمة طوال الوقت، إلا أن طبيعتها ونطاقها وأسبابها وأثارها، ظلت تمثل موضوعًا للجدال بين المعنيين، الذين قدموا تشخيصات وتوقعات مختلفة. دار الجدل حول عوامل متعددة؛ مثل دور التقييم في النقد؛ والشد والجذب بين الجماليات والسجالات الجدلية؛ وإمكانية الموضوعية داخل عملية ذاتية من حيث الجوهر، واندماج المنتجين والمستهلكين الثقافيين داخل العالم الالكتروني الذي يتيح مشاركة المستخدمين في عملية النشر. وبعد كل هذا، هناك من يرى في الأزمة شاهدًا على التطور الناتج من تفاعل القديم والجديد.
وتبحث هذه المقالة تاريخ للنقد السينمائي العام وخطاباته الرئيسية. وتحدد خطوط الاشتباك الرئيسية في تناول النقد السينمائي بين الأكاديميين والصناعة ووسائل الإعلام الجماهيرية. وتوضح كيف تعكس خطوط الاشتباك هذه مواقفًا تقنية وإيديولوجية حول سلطة النقد على تشكيل الرأي العام حول السينما، بوصفها فنًا وانتاجًا تجاريًا. وتظهر أهمية ذلك بوضح في انعكاسها على سمعة صناع الأفلام، وقدرات شباك التذاكر، وموضع السينما في المجال الثقافي للمجتمع.
النقد الثقافي وتاريخ السينما
نشأ النقد السينمائي متوازيًا مع السينما، وكان كل منهما سببًا ونتيجة للآخر. وقد نبع من فلسفة ظهرت في وقت سابق على ميلاد النقد الثقافي. ويهمنا هنا التنويه بعدائية الفكر النقدي للسلطوية من حيث الجوهر. فقد ولد النقد الأوروبي الحديث خلال النضال ضد الدولة الاستبدادية. ويعبر النقد السينمائي عن خطاب صراعي بين النقاد والثقافة والمجتمع في الصراع الجاري للبت في شأن "أين تكمن الدرر فيما نشاهده".
وتطور النقد الأدبي في عصر التنوير من شكل لإضفاء الشرعية على محاكم المجتمع التي كانت تنعقد في الصالونات الارستقراطية، أو ما اعتبره هابرماس ’المجال العام‘ للتفكير الجمعي، حيث يستطيع الأفراد تبادل الأفكار حول المجتمع القائم أو النظام السياسي. ثم أصبح النقد أداة لفصل الحنطة عن الزوان، أو ما يتسم بالإبداع والمذعن للتقليدية. ويعمل كنوع من الهجاء الاجتماعي، الذي يعطي شعورًا بوجود صمام أمان، إذا ما توفرات الرغبات في قراءة ما يقوله بعض الأشخاص ضد الفرضيات الحاكمة. فيمثل النقد الثقافي الجدل بين القديم والجديد الذي يحمل إمكانيات التغيير الاجتماعي.
وشهد قرن التنوير تطورات سريعة في تكنولوجيا انتاج وتوزيع الأداب، مع ظهور سلطة "رجال القلم". وكان النقد الثقافي شغل "رجال القلم" الشاغل، ثم أصبح خطابًا تحليليًا صارمًا يتجاوز حدود القارئ والعقل العادي. وأصبحت سلطته مسئولة عن البحث بصفة خاصة فيما يعكسه الأدب الحديث من خبرة اجتماعية معاصرة، وفي الأسلوب الذي تؤثر به الحياة الاجتماعية على موضوع الأدب وشكله ولغته.
وظل صراع القوى مستمرًا بين النقاد والمبدعين طوال تاريخ النقد الثقافي. ويرى شاعر القرن التاسع عشر ماتيو ارنولد Matthew Arnold، الذي يعتبره بعض النقاد أول ناقد أدبي حديث، إن ممارسة السلطة الإبداعية تمثل أعلى وظيفة للإنسان. وبالتالي يكون لسلطة النقد وظيفة أقل في المستوى، الغرض منها رؤية الشيء كما هو في حد ذاته، داخل كل فروع المعرفة واللاهوت والفلسفة والتاريخ والفن والعلوم. وبالتالي تكون مهمة النقد تحديد أفضل ما تمت معرفته والتفكير فيه على نطاق العالم، ونشر المعرفة به لخلق تيار من الأفكار الحقيقية والجديدة. ويبقى حجر الأساس في مهمة النقد متمثلًا في الشد والجذب بين النقد والإبداع، ومعلمات المقارنة، والتقييم، والموضوعية.
ولكن لم يقبل الجميع الانفصال التام بين النقد والإبداع. حيث أوجب الكاتب تي إس أليوت أن يكون الناقد والفنان المبدع نفس الشخص في أكثر الأحيان، لأن اتجاهي الحساسية متكاملان. ومثل الشد والجذب بين الذاتية والموضوعية في النقد الثقافي جزءًا من السياق الذي ظهر فيه النقد السينمائي أول مرة، واستمر في الخطاب المعاصر.
تطور النقد السينمائي
في العصر الذي عاشه أرنولد، وسع اختراع الفوتوجرافيا مستوى فن التكنولوجيا المتاح كثيرًا. وفتحت إمكانية تمثيل الواقع من خلال تجميد الزمن، آفاقًا وحرفًا إبداعية جديدة. وأمكن من خلال الاختراع الجديد تسجيل صورًا للأشخاص وصورًا من التاريخ، مما أتاح نوع من الخلود لآلاف الناس العادية، وبقاء صورهم محفوظة لدى النخبة. وتقدمت تكنولوجيا القالب الفني الجديد تدريجيًا؛ من الإبقاء على اللحظة في صورة، إلى الصور المتحركة، ثم إلى مشاهد للعرض العام في السينما. ولا يمكن الوقوف عند حدث فريد واحد واعتباره فاصلًا بين الممارسات غير الواضحة السابقة على السينما، وبين السينما الفعلية. وقد توسع الانتاج السينمائي التجاري بسرعة خلال عقدين، حتى تحول ما اعتبروه في 1895 مجرد بدعة إلى صناعة راسخة في 1913. وبعد قرن، أصبحوا بالفعل ينظرون إلى السينما بوصفها صاحبة إنتاج يرقى للمقارنة مع الأعمال الرائدة في فن الرسم والموسيقى والأدب.
وفي البداية، اقصرت تطلعات صناعة السينما الجديدة على المتعة والتسلية، ولم يحدوها الأمل في أن تكون فنًا. وعندما فر المشاهدون إزاء اقتراب القطار في فيلم الأخوة لومير عام 1895، أفصح المظهر المادي لرد فعلهم عن مدى الإقناع الذي يحمله التقاط الواقع على الشاشة. ومع بداية تحول السينما الصامتة من مجرد بدعة إلى وصف حقيقي للحياة، لم يعد مدى اعتبار السينما فنًا موضعًا للتساؤل، بل تعلق التساؤل بالآفاق التي سيسمو إليها الفن الجديد في نهاية المطاف؟ حتى أن البعض راوده التفكير في احتمال أن نكون على عتبة ثقافة بصرية جديدة؟ وآمن المصلحون الاجتماعيون والنقاد الأدبيون والمتعلمون في هذا العصر بقدرة الوسيط البصري الجديد على تعليم الجماهير، بنفس مقدار تعجيل الصحافة المطبوعة لعمليات تشكيل الآراء والتدريب على أنماط أخلاقية ونشر الأفكار. ومع انتقال الفيلم من عصر السينما الصامتة، اعتقد كثيرون أن وسيط الصوت الجديد سيكون بمثابة أداة تواصل قوية، لدرجة لن تصبح معها ثمة حاجة إلى تعقيب الناقد وتفسيره وتقييمه.
وخلال سنوات التشكل تلك، مثل كل فيلم مهم جديد مرحلة من التطور التقني الخاص بالقالب الفني الناشيء. ومثلت تلك الركائز تقنية سينمائية جديدة، أو بعض الوسائل الفنية لصناعة الحبكة والشخصيات والخلفية المنطقية بصريًا، وأصبح توصيل الأهمية التاريخية لمثل هذه التطورات إلى الآخرين الشغل الشاغل للنقاد السينمائيين في هذا العصر. وعلى هذا، اعتبر الناقد راصدًا عمليًا للابتكار في السينما، واعتبرت مهمته كشف التغيرات التي تستحق الوقوف عندها للرأي العام، مثل ظهور قاعات عرض جديدة، والحديث في الأفلام المعروضة.
وحتى في الزمن الأول، تعرض النقاد في أحيان كثيرة للانتقاد من داخل صفوفهم. في 1935، وصف ناقد مرموق دوره بأنه لا يزيد عن وظيفة من الدرجة الثانية للصحفيين المحليين، الذين تقتصر مهمتهم في نسخ عمل نقاد آخرين في مجال الكتب واللوحات والروايات والمسرح. وحتى يتجاوز الناقد مثل تلك الجماليات الخاملة إلى أمور جوهرية، عليه النظر إلى الفيلم بوصفه منتجًا اقتصاديًا، وتعبيرًا عن رؤى سياسية وأخلاقية. ولايجب ان يتعامل ناقد المستقبل مع السينما بوصفها مسرحًا أقل فخامة، يمثل فيه قلة من الفنانين المستقلين أمام قلة من محبي الفن، بل ينظر إلى إمكانية التحول الاجتماعي التي يحملها الفيلم. وهكذا، تكون مهمة ناقد المستقبل تخليص العالم من الشخصية الكوميدية التي يمثلها اليوم الناقد والباحث النظري السينمائي العادي، ويحلل الفيلم في سياقه الثقافي الأوسع.
وبالتدريج، وظهر الجدل حول الذاتية الموضوعية في خطاب النقد السينمائي، عندما رفض بعض المعلقين الأوائل إمكانية الموضوعية التامة في النقد السينمائي. فعلى سبيل المثال، أكد ناقد البي بي سي المرموق اليتسير كوك Alistair Cooke في منتصف الثلاثينيات، أن دوره باعتباره ناقدًا تمثل في الكتابة بدون وجهة نظر سياسة ولا طبقية، وبرغم مدى رغبته في أن يغضب أو يحتج أو يعقب من الناحية الأخلاقية، إلا ان دوره الرئيسي يتمثل في تقرير ما إذا كان الأداء في ابتسامات السيدة هارلو وتكشيراتها متسمًا بالخبرة الكافية لإغواء السيد جابل. في حين اتخذ آخرون وجهة النظر العكسية، مؤكدين أن النقد لا يمكن أو يوجد في فراغ قيمي، وأن النقاد الذين يزعمون أن وظيفتهم منفصلة عن السجالات الدائرة ينغمسون فقط في إخصاء ذاتهم طوعًا، حيث لايوجد مثل ذلك النقد الخالي من القيم.
وأستعيد النقاش حول هذا بعدها بثلاثة عقود، الوقت وصفه كثيرون بزمن مجد السينما، من خلال مقالة نشرتها الجريدة المرموقة "فيلم كوارترلي"، بعنوان باتجاه نقد سينمائي موضوعي. وجاء فيها إنه بينما قد يستمر البحث عن مبادئ الموضوعية، إلا أن هذا لا يعني أن مثل هذه المبادئ غير موجود. ولا ضير في أن ينسخ النقد السينمائي عن العلم إلى حد الإدلاء بتصريحات قاطعة حول أسلوب عمل الفيلم. وتضع الموضوعية النقدية الحد الفاصل بين النقد السينمائي الاحترافي وما يقدمه الهواه، حيث يتشكك القراء بوجه عام من التناول الشخصي للأفلام، ويتخوفون من الأحكام القيمية.
وعرفت السينما نموًا سريعًا خلال القرن العشرين، فشاهد جمهور أوسع أفلامًا أطول، تتسم بزيادة تعقيد المحتوى. واستدعت الأفلام الأكثر جوهرية نقدًا أكثر جوهرية وتدقيقًا، مما أثمر عن ظهور مقالات مطولة في المجلات السينمائية حديثة النشأة. وأضفى ظهور مجلات وجرائد سينمائية "جادة" احترامًا ثقافيًا ومجالا عامًا للخطاب. وإلى جانب نقد الأفلام، كون النقاد في البداية جماعات ضغط تنشط حول الوسيط والصناعة ودورهم. وقالوا أن النقد شيء جوهري لمستقبل السينما، وأكدوا سلطتهم النقدية بوصفهم محكمين للثقافة السينمائية. ويعود الفضل في القبول المتزايد للسينما بوصفها فنًا بدرجة كبيرة إلى دور النقاد في الدعوة إلى منتج وتقنية سينمائية أكثر إتقانًا، والإشارة إلى الحاجة للإبداع الفردي، حتى تتمكن السينما من الوصول إلى مستوى رقي الفنون الراسخة.
وشجع التناول السينمائي لأعمال أدبية شهيرة على تدفق مجموعات الممثلين وفرق العمل من عالم المسرح إلى السينما، وعلى ازدهار أفلام فنية مستندة على طموحات ثقافية أعلى. وعمل إدخال الدراسات السينمائية إلى الجامعة في الجزء الأخير من القرن الماضي، على زيادة ارتباط النقد السينمائي مع التخصصات المعرفية الأدبية التقليدية والأعراف الأكاديمية التي ساعدت على اعتباره تخصصًا معرفيًا قائمًا بذاته.
وشهدت الفترة الأولى أيضًا ظهور النقاد المرموقين ذوي الأساليب الكتابية الممتعة. فوسعوا دائرة القراء ورفعوا قيمة الصورة العامة للناقد. وفي عصر مجد السينمام، قيل أن بعض النقاد المرموقوين امتلكوا موهبة حامل المسدس في سرعة سحبه وسهولة تصويبة، فكانت لديهم القدرة على قتل أفلامًا وجندلة مسيرات فنية. واجتذبوا إعجاب حتى ذوي الثقافات الرفيعة.
وأكتملت دائرة النقد السينمائي في نهاية القرن. وتطور الناقد من البدايات المتواضعة إلى مصاف المشاهير، ليواجه الموجة التالية من الإبتكار التكنولوجي والتحول الاجتماعي. و في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حفز انحدار وسائل الإعلام المعتمدة على الطباعة، وتراجع نقاد مشاهير بارزين، صعود موجة تصريحات بموت النقد. ومع هذا، كان نعيه سابقًا لأوانه، حيث واصل تطوره بوصفه أحد أجناس الكتابة. ولم ينحدر الفيلم وواصل تطوره من الحشود الجماعية في الأماكن العامة، إلى حميمية وعزلة شاشة التليفون الخاص، ومن السيليوليد إلى النقاط الضوئية، ومن رعاة واضحين إلى تدفق غير ملموس. وفي عالم الاتصالات غير المحدود، وجد تنوع لم يسبق له مثيل من النقد السينمائي، يلبي تنوع أوسع من الاحتياجات. وتقدم هذه النظرة العامة لتطور النقد السينمائي سياقًا ننظر من خلاله إلى أنماط النقد السينمائي في المجتمع المعاصر.
مناهج النقد السينمائي
تفترض مناقشة النقد السينمائي وجود مصطلح له معنى وحيد متفق عليه. بينما في الاستخدام الشائع، تختلط تعبيرات مثل عرض الفيلم Film review، ونقد الفيلم film critic، وكاتب سينمائي film writer وصحفي سينمائي film journalist ، وتستخدم في مواقع بعضها بعض. ويكمن وراء هذا اختلافات واضحة في التعريف. ظهر تعبير عرض الفيلم مع بدايات السينما، وكانت مهمته تسجيل إصدار أفلامًا جديدة ووصف محتوياتها في وسائل الإعلام العامة. وظل العرض يميل إلى كونه وصفًا لقصة الفيلم يتضمن آراء ذاتيه وتقييميه، تصاحبها في أغلب الأحيان أرقامًا لترتيب التصنيف.
بينما يشير مصطلح "نقد الفيلم" إلى التعامل مع الفيلم بوصفه واقعًا فنيًا ثقافيًا. ويكون مصحوبًا في أكثر الأحيان ببروتوكلات أكاديمية تبحث في الوسيط باعتباره ظاهرة جمالية واجتماعية وتاريخية، ويكون عادة بقصد النشر في مجلات متخصصة أو وسائل إعلام مشابهة. ورغم أن عارض للفيلم والناقد قد يكونا نفس الشخص، إلا أن لكل منهما تاريخيًا خلفيات وأغراض مختلفة. من الناحية العملية، يمثل نطاق وأسلوب الكتابة السينمائية المعاصرة تقريبًا متصلًا هجينًا بين النوعين، وليس انقسامًا بينهما، ويرجع هذا إلى تعدد الأغراض والصيغ والعلاقة مع المعنيين. ويحتمل أن نعين على هذا المتصل أطرًا مرجعية ونماذجًا تحليلية مختلفة.
إذا أمكن اختزال الفيلم إلى شرح أو تفسير أو تصنيف وحيد، لقل التنوع أو التعارض في الكتابة السينمائية. ورغم هذا، تختلف حاجات القراء من حيث التعليم والعمر والنوع وما إلى آخره من العناصر الأخرى للتركيبة السكانية. كما سيختلف الأمر أيضًا إذا كانت قراءة العرض قبل مشاهدة الفيلم أم بعده، أو بديلًا من مشاهدته. يتجه القراء قبل مشاهدة الفيلم إلى البحث عن المعلومات العامة حول تصنيفه من حيث النوع، ووصف الحبكة، والممثلين وأحيانًا تفاصيل عن المنتج (مثل المخرج والمصور) للوصل إلى قرار حول اختيار الفيلم المقبلون على مشاهدته. وبعد المشاهدة، يسعى القراء عادة إلى اختبار التفسير الذي استنتجوه للفيلم، أو لإثراءه. وهناك قراء لم يشاهدوا الفيلم لأسباب متعددة، فيلجأون إلى التعرف عليه بقراءة نقدً عنه. وكما تتضاعف تنويعات الكتابة السينمائية وعلاقة القراء بها، وفقًا لتنوع الأطر المرجعية ونماذج شرح الفيلم.
إطاران مرجعيان
تتراوح الكتابة السينمائية بين إطارين مرجعيين؛ أولهما الإطار النصي textual. ويركز النقد النصي على ما تتم مشاهدته داخل الفيلم مثل الحبكة والشخصيات والموضوع والأداء والكفاءة الفنية. ويهتم بفيلم واحد، وكثيرًا ما ينشر في الجرائد ووسائل الإعلام الجماهيرية. أما النوع الثاني من النقد فهو النقد السياقي contextual ، يتجاوز التركيز على فيلم واحد ليشمل معايير تحليل متعلقة بالسياق. ويكامل هذا النوع بين العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويشير إلى أفلام أخرى لنفس المخرج على سبيل المثال. وحيث يتجاوز النقد عادة التركيز على فيلم واحد، فيمكن توظيف نماذج شرح متعددة في الوقت نفسه، تدور حول التفاعل بين الخبرة الفردية (المتعلقة بنص) والخبرة الجماعية المتعلقة بعدة أفلام.
نماذج التفسير
يرتبط تحليل الفيلم عمليًا بعدة نماذج تفسيرية، أكثرها شيوعًا النموذج الإنساني، أوالمرتبط بمؤلف الفيلم، أو المتأثر بالعلوم الاجتماعية أو التاريخ أو الإيديولوحيا. وتقدم هذه النماذج مجتمعة ثراءًا وتنوعًا في الرؤى للفيلم، كما تعكس في الوقت نفسه تنوع الأغراض والمناهج في النقد المعاصر.
يركز النموذج الإنساني على فيلم بعينه في سياق أفلام أخرى، ويوضح علاقته بالاعتبارات الاجتماعية والسياسية والفلسفية. يساعد هذا النموذج في فهم تنوع وتعقد قلب الإنسان وعقله. ويتجاوز الوصف إلى اعتبارات أعمق في مساهمة الفيلم سينمائيًا، ويضم عادة عنصر التقييم المقارن.
ويهتم نموذج المؤلف على فاعل مفرد وراء الفيلم. وفي الغالب، يلجأ إلى المقارنة مع الأفلام السابقة لنفس المنتج أو المخرج أو الممثل أو الكاتب ليحدد اختلافات هامة يمكن أن تساعد في تفسير الفيلم أو مجموعة الأفلام. وإذا كان لهذا فائدة من حيث التصنيف، إلا إنه يحد النموذج التفسيري، لأنه يفترض أن الفيلم ناتج عن موهبة إبداعية شخصية. ويخضع هذا النموذج لهالة تأثير امتداح فيلم معين بسبب انتسابه لمسيرة فنية معينة أو تراث محدد.
وينظر نموذج العلوم الاجتماعية إلى الفيلم فيما يتعلق بتأثيره النفسي أو الاجتماعي. وبناء عليه، يرى النقاد الأفلام بوصفها مظاهر لثقافة محددة في زمن محدد، ويبحثون عن تحديد الارتباطات السببية بين الفيلم والسلوك الإنساني. ويمكن أن يناقش الفيلم من زاوية تأثيره على الهوية الوطنية، ومدى اعتماده على خطوط درامية عديدة خفية وغير واعية مثل الخوف وإشباع الرغبة، تعلم على تدعيم خرافات اجتماعية وثقافية. ويمثل مصطلح "مصنع أحلام هولويود" رغبة للنظر إلى القيم والأهداف المجسدة في صناعة السينما، وموقعها باعتبارها انتاج سلعي داخل النظام الرأسمالي. وتعتمد هذه الرؤية على المناهج التجريبية التي تبرز سلوك المشاهدين وصناع الأفلام والعناصر الأخرى من صناعة السينما، وليس على جماليات الفيلم أو مقصده كسياق ثقافي.
ويتحرى النموذج التاريخي مدى صحة ومصداقية تصوير الفيلم للعصور السابقة. ويمكنا بالبحث في الأفلام الباقية لنا عبر تاريخ السينما القصير، الوقوف على تسجيل للتاريخ في الزمن الماضي. فقد سجلت الأفلام جزء مهم من تاريخ العالم منذ بداية القرن العشرين، وهكذا يمكن القول أن "هوليود مستودع للذاكرة الثقافية". ورغم أن النموذج التاريخي يستدعي للأذهان الدراما التار يخية والسير الذاتية، إلا إنه يحمل قدرة محدودة تجريبيًا على التحقق من التاريخ. كما تحده أيضًا الطبيعة العنصرية والأبوية للتاريخ، التي يسجل من خلالها سرد تاريخ بطلات وأبطال وبلهاء وأشرار، برؤية ذكورية في أغلب الأحيان.
ويعتبر النقد من خلال النموذج الإيديولوجي تحليلًا للفيلم فيما يتعلق بالقيم الاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، تستدعي الأفلام الكثيرة التي صورت في الفترة الأخيرة توابع الأزمة المالية العالمية في 2008، نقدًا سياسيًا للرأسمالية الأمريكية، سواء كان ذلك ضمنًا أو صراحة. ويوضح النقد في سياق هذا النموذج أبعاد النسيج الاجتماعي الذي يعترض عليه جوهريًا، ويكون تحليل أي فيلم فقط من خلال السياق الأوسع للقيم الإيديولوجية.
ويعتبر نموذج التحليل وفقًا للنوع الأكثر شيوعًا إلى حد كبير. ويستدل الجمهور من خلال نوع الفيلم على المتوقع مشاهدته وأسلوب تفسيره. وحيث صار نظام الستوديو في القرن العشرين وسيلة الانتاج الأكثر فاعلية من حيث التكلفة، أصبحت الأفلام ذات البنى السردية والموتيفات والأساليب السينمائية المعروفة منتجات نمطية تحمل تصنيفات شائعة مثل أفلام الغرب والرعب والدراما والكوميديا والإثارة والموسيقىة والرومانسية. ويركز النقد وفقًا لنموذج النوع على علاقة البنى السردية والمحتوى بالسياق الاجتماعي والسياسي للفيلم. ويعد التحليل النوعي شائعًا ومفيدًا من الناحية التحليلية في الوقت نفسه، حيث يوضح الطريقة التي يمكن فهم الفيلم بها بوصفه تأملًا وتفكيرًا حول المجتمع.
خطوط الشد والجذب الأساسية:
صناعة الفيلم والحرفة والتكنولوجيا
نظرًا لنطاق استهلاك الأفلام في الزمن الحديث، ووظيفته بوصفه حاملًا للثقافة المعاصرة، يمكن اعتبار أن مقولة "الفيلم أكثر القوالب الفنية ديقراطية" تصدق على وقتنا هذا أكثر من أي وقت مضى. وبناء على هذا لا مجال لوصف النقد السينمائي اليوم بأنه في أزمة، حيث أصبحت القدرة على مناقشة الأفلام وسلطتها أكثر ديمقراطية في بيئة الانترنت المعاصرة. وينشأ معظم مايسمى بأزمة النقد السينمائي من علاقات القوة المتغيرة، ومن المفيد تحديد بعض التفاعلات الأساسية بين الصناعة، وحرفة النقد والتغير التكنولوجي.
العلاقة مع الصناعة
نشأ النقد السينمائي كوليد لصناعة السينما، ووجدت دائمًا علاقة "حب- كره" بينهما. وتحدد النقد في عشرينيات القرن العشرين داخل إطار مؤسسي مثل اهتمامات اقتصادية أكثر من اهتمامه بالجمالية. وساعد دور النقد في تعريف الرأي العام بالأفلام، حيث كان محرضًا على انتاج أفلام أفضل، وبدرجة أقل قاد تقدم جماليات السينما. وفي البداية، كان دور النقد التوسط بين الصناعة والجمهور، وهو دور غير مستقر وهش بطبيعته. على سبيل المثال، عندما يكون للناقد ارتباط وثيق بالصناعة، ينظر إليه باعتباره لسان حال صناع الافلام، وبأنه يتبنى خطاب الصناعة باعتباره أخبارًا. بينما ترفض صناعة السينما من جانبها النقد السلبي روتينيًا عندما تتطلب ذلك مصالحها التجارية، بما يعكس التوازن الصعب الذي حققه كتاب السينما الأوائل بين تغذية الصناعة ودافعي مرتباتهم الأساسيين وتدليل الفن الوليد الرقيق.
وربما تقدم هذه العلاقة التكافلية بين النقاد والصناعة حلًا وسطًا لكليهما. فينتج عن الروابط التكافلية مع الصناعة حصول النقاد على مزايا مثل حضور العروض الصحفية المميزة وإعطاءهم مساحة منفصلة ومعرفة مبكرة لتمكينهم وتمييزهم عن المشاهدين العاديين. ويتضمن هذا في أغلب الأحيان قنوات مميزة للوصول إلى المخرجين والممثلين، ومعلومات تههم بها دوائر النميمة الإعلامية. وحيث تستلزم الأفلام استثمارات ضخمة، لذا فمن الطبيعي أن يسعى مسئولو التسويق إلى التحكم في الرسائل الموجهة للرأي العام حول منتجهم، وأن يعمل النقاد غير المتعاطفين معهم على إعاقة سيطرتهم على المعلومات. وأدت هذه الرابطة الصناعية التجارية المتوازنة جدليًا بين الستوديو والنقاد إلى إتهام كتاب عروض الأفلام بأنهم عقدوا صفقة مع الصناعة شبيهة ببيع أنفسهم للشيطان، بحيث أصبح النقاد جزءًا من الآلة الهائلة المكرسة لغرس رغبة جماعية في المشاهدة.
ومن ناحية أخرى، يحتاج النقاد السينمائيون المختصون إلى المحافظة على مستوى من الارتباط مع الصناعة حتى تكون لهم سلطة مهنية. ويقال أن النقاد الذين ينأون بأنفسهم طوعًا عن الصناعة، لا يخسرون سوى تأثيرهم على تحسين المنتج، ويعجلون بالفعل بالتصورات المتعلقة بأزمة النقد. ولن يتحصل الكتاب السينمائيون بدون اتصالات داخلية سوى على معلومات قليلة تفيدهم في نقد الأفلام الجديدة. كما يمكن أن يوجه لهم نقد نقص المعرفة التكنولوجية لديهم. وقد عبر أرنولد عام 1864 عن هذا الجدل حول دور النقاد فيما يخص علاقتهم بالمبدعين، ومازالت رؤيته صالحة لفهم خطاب النقد السينمائي المعاصر.
حرفة النقد
قال المؤرخ نويل سميث Nowell-Smith إن النقد السينمائي في منتصف القرن العشرين لم يحظ بالاحترام بوصفه نوعًا من الكتابة، واعتقد ناشرون كثيرون في وسائل الإعلام إن بإمكان نقاد الأفلام الإفتاء دون وجل، حيث مهما كانت محدودية معرفتهم بما يكتبون عنه، فمعرفة قراءهم به أقل. ومع مرور العقود التالية، فتحت مساحة للممارسة النقد، حتى أن نويل سمث لاحظ تقدمًا ضئيلًا على حرفية النقد السينمائي، الذي انغمس في "الموضوعية البرجوازية". وأدى التوسع السريع للدراسات الثقافية في مؤسسات التعليم العالي أواخر القرن العشرين، إلى تقوية الدراسات السينمائية بوصفها تخصصًا أكاديميًا. ورأى بعض الناس في تقوية الصلة بين النقد والأكاديمية نعمة ونقمة، بسبب تركيز الأكاديمية على ما هو قابل للتحقق منه وتعميمه. ويقلص هذا أشكال الكتابة المغامرة. ومثل تأسيس مجلة "ذا جورنال أوف بوبلار فيلم" عام 1972 إحدى ركائز المجال المعرفي متعدد التخصصات، الذي طور المنظور والممارسة عبر النقد الأدبي وعلم النفس وعلم الاجتماع والصحافة والتاريخ والعلوم السياسية والإعلام. وتشكل تلك الخطوط لمجال التخصص الآن دعائم للنماذج التحليلية في النقد السينمائي المعاصر التي ناقشناها فيما سبق.
وجلبت الصلات الوثيقة بين النقاد والتعليم العالي مساحات جديدة للشد والجذب في الكتابة السينمائية، أحيت الجدل التاريخي المتعلق بالجماليات مقابل سجالات النقد السينمائي. وبينما قوت الدراسات السينمائية مكانتها بوصفها مجالًا لتخصص أكاديمي، فقد استقت التركيز على القراءة وثيقة الصلة "بالنص" من تقاليد الدراسات الأدبية. ووفقًا لطرح بعض النقاد، يظل النقد السينمائي في أقوى حالته مركزًا على حالة معينة، وتتطلب السينما، بوصفها شكًلا خاصًا وباطنيًا وعاطفيًا، شكلًا حميمًا من النقد يؤديه من لديهم الخبرة التجريبية. ووفقًا لأخرين، ينبغي ان يكون للنقد السينمائي أغراض اجتماعية اوسع من "النص"، ولابد أن يمثل النقد جزءًا لا يتجزأ من فهم الثقافة الاجتماعية والسياسية.
وتردد صدى هذا الجدل في دفاع ارنهيم Arnheim عام 1935 عن أهمية السياق الاجتماعي والسياسي للنقد السينمائي. ولا يمكن أن تكفي خصوصية التفاصيل الجمالية بمفردها، أو استقراء السياق الاجتماعي السياسي بمفرده، في تلبية أغراض النقد الثقافي. وبينما نظر بعض الناس إلى وجهات النظر المتنازعة باعتبارها دليلًا على الأزمة والتخلف والعجرفة الثقافية تجاه التعبير النقدي التقليدي المستند على الأدب، رفض آخرون هذا الجدل بوصفه "منفصلًا عن حقائق الصناعة". ولكن يمكن رؤية الخطاب الجاري حول الوظيفة الأساسية لتخصص معرفي أو حرفة بوصفه أمرًا طبيعيًا وبناءًا، ولا يشكل في حد ذاته أزمة وجودية.
التغيرات التكنولوجية
أدى ظهور الانترنت إلى إعادة تشكيل العلاقة بين المنتجين والمستهلكين للثقافة بشكل أساسي. وحيث تكثفت المعرفة في وقت ما داخل حدود التخصصات العلمية الأكاديمية أو الحرفية، فقد أشاعت الإنترنت تقريبًا منافذ الوصول إلى المعرفة. وخلق هذا الواقع شد وجذب داخل النقد السينمائي، فمن ناحية احتفل أصحاب الأحلام الطوباوية حول الانترنت بالديمقراطية الجديدة في النقد السينمائي، ومن ناحية أخرى، تحسر النقاد المحترفون على سلطتهم التقليدية في أن يتحدثوا ويسمعهم العامة. وهكذا خلص عديد من المعلقين البارزين إلى موت النقد.
قلص تقدم انتشار الحوسبة سلطة النقاد السينمائيين التقليدية إلى حد لم يصبح معه النقد السينمائي عملًا يميز قلة من الناس. ولم يقتصر تفشي النقد من خلال الانترنت على الصبية الهواة والمسنات المنعزلات، بل تضمن عددًا كبيرًا من مدونات المؤلفين المحترفين، الذين شجعتهم سهولة النشر دون مراجعة الأقران أو معايير صارمة للنشر. ووفر مجال المدونات مساحة تبادل ديمقراطية ينعدم فيها تباين المقامات، حيث بإمكان محبي السينما الانخراط في المناقشات حول الأفكار. وتكيف نقاد عديدون مع التغيير التكنولوجي، وقالوا لا يهم أين يوجد النقد (في كتاب أو مدونة)، ولا مدى طوله (في 140 حرف أو موسوعة)، ولا قالبه (عبر نثر أو رسوم متحركة أو فيلم محاكاة ساخر). وكما قيل إن الشيء المهم هو قدرة النقد على تناول الفيلم بأساليب تتراوح بين الأسلوب التاريخي والنظري والنمطي والاهتمامات الاجتماعية، إلى النوادر والنميمة والمداخلات المحدودة جدًا بحجم النقر على "أعجبني".
وشكل التوفر الهائل للمصادر على الانترنت فرصًا جديدة للارتباط الثقافي، كما مثل تحديًا لأصحاب المخزون المعرفي التقليديين. ويمكن القول بإن النقاد المحترفين المحتجين علنًا على فقدهم لسلطة النقاد الثقافيين، يمثلون حنينًا إلى ماضٍ كان النقد فيه قادرًا على تغيير الأسباب التي يشاهد الناس من أجلها الفيلم، أو طريقة مشاهدتهم، أو حتى قرار المشاهدة من عدمها. واستوعب المتبنون الأوائل للتكنولوجيا الجديدة فرصًا جديدة للمساهمة في محو الأمية السينمائية والاستمتاع، بينما واصل أخرون المناداة بإحياء السلطة النقدية التقليدية. وكما تحولت وسائل الإعلام المطبوعة إلى بيئة الانترنت المأهولة فعليًا بأعداد هائلة من المؤلفين الطموحين البارعين، مازال صوت "أصحاب القلم" يردد صدى نخبوية عصر مضى. ومازال هناك كثيرون مصرون على أنهم بوصفهم دارسين ونقاد ومؤرخين للسينما، عليهم واجب تحديد الغث من الثمين ربما أكثر من أي وقت مضى، بينما الجيل الجديد من عشاق السينما يقررون كل شيء لأنفسهم.
منشورفي مارس 2017 على موقع: https://cinemusefilms.com/

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات