الكاتب : سامح سامي
الفيلم القصير.. فراشة تطير حتى آخر المدى
سامح سامي
"استشهد الماء ولم يزل يقاتل النّدى..
استشهد الصّوت ولم يزل يقاتل الصّدى،
وأنت بين الماء والندى
وأنت بين الصّوت والصّدى
فراشةٌ تطير حتّى آخر المدى..."
يستشهد معظمنا بهذه الأبيات العظيمة للشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو، عند رحيل كاتب مؤثر أو شخصية عامة مهمة، إلا أن تلك الأبيات سيطرت عليَّ، ونحن ننهي ملف الفيلم القصير، ووجدت أن الفيلم القصير "فراشة" تطير لأبعد مدى، ليس شهيدا أو مقاوما بالطبع، لكنه فراشة رقيقة تحلِّق بعيدا لسينما نحلم بها أن تأخذ مكانتها في مصر والعالم العربي.. لماذا؟
لأني أحب الأحلام.. فيها أتعرف على عالم حقيقي ثانٍ، فمن دون الحلم والسحر لم يكن للإنسان أن يجد مبررا مقنعا لوجوده في هذا العالم بعدما غلفه بجميع الكوارث الممكنة. والفيلم القصير هو حلم يتحرك ببطء، شبه مرغم، شبه مرتاب*. لكن يغدو كل شيء أكثر دفئا من حوله مجددا، تكتسي الأحاسيس والشفقة عمقا جديدا.. هو رياح دافئة متنوعة تعبر فوق الرأس المهموم بصناعة مخيبة للآمال في معظم الأحيان، لكنها تصبح فجأة محط اهتمام الكل. ذلك الكل المسئول عن هذه الحالة المتناقضة في حياتنا السينمائية والنقدية في مصر. تلك الحالة التي نريد الخروج منها لمساحة أكبر لدعم الأفلام القصيرة تبدأ بشيوع المشاهدة في مراحل التعليم قبل الجامعي، مرورا بمدارس السينما وتشجيعها على إنتاج هذا النوع من السينما، وليس باعتباره جسرا للأفلام الطويلة، انتهاء بالسوق نفسها، وشركات الإنتاج ودور العرض، ومن ثم الجمهور وتفاعله معه (وكذلك النقاد)، عبر الشاشات في السينمات والمنصات وليس في غرف المهرجانات السينمائية فقط.
لماذا أيضا الفيلم القصير؟
دكتور مالك خوري في حواره المنشور في هذا العدد مع الزميلة أمنية عادل يؤكد أن الفيلم القصير يستحق أن يكون تجربة وليس مجرد جسر، وقال: "في رأيي الفيلم الذي لا يخرج من داخل الإنسان وشغفه الخاص بما يقدمه سواء كان على صعيد الفكرة أو الأسلوب الفني الذي ارتآه لرواية هذه الفكرة فإنه يخلق فجوة داخل الفيلم، ويجعله غير صادق ومصطنعا، والاصطناع هو المقتل الأساسي لأي فيلم وأي فنان".
لكن ما هو الصدق هنا؟ وكيف يتحقق؟ وكيف يكون هذا الصدق بعيدا عن المباشرة القاتلة للفن، أو الخطب والكلام التعبيري الهادم للاستمتاع؟
لماذا مرة أخرى الفيلم القصير.. وهل جاء العدد مصادفة؟
أحمد أبو الفضل، مدير تحرير المجلة والمحرر المسئول عن ملف العدد، يقول في مقاله: "الأمر ليس لغزاً، فطالما ظلت الأفلام القصيرة - من وجهة نظري - معزولة عن دورة المال والصناعة الطبيعية فلن تحظى بنفس الجهد في الجمع والترجمة والإتاحة، الأفلام الطويلة لديها نظام أكثر وضوحاً ورسوخاً، هذا النظام جعل الانتفاع منها أكثر سهولة، الأفلام الطويلة مشروع ناجح اقتصادياً في كثير من الأحيان، يمكن الاستثمار فيه، لكن الأفلام القصيرة على العكس، في احتياج دائم إلى الدعم، وإلى ساحات مغلقة لتحصل على فرصة عرض، بعيداً عن دورة المال والصناعة التي تسير إلى حد ما بقواعد منطقية مفهومة".
ما يقوله أبو الفضل هو أساس عمل" جزويت القاهرة"، بل هو سبب رئيس في تحول ذهنية "الجزويت" عامة إلى ثقافة الصورة، بجانب الثقافة المطبوعة والنشر الورقي منذ ستينيات القرن العشرين. الفيلم القصير وتخصيص عدد له ليس مصادفة بالطبع، وليس تأثرا بنجاح فيلم هنا أو محاولة هناك، بل "الفيلم القصير" يحمل روح المغامرة والتجريب التي يحملها كل "جزويتي" يتعلم في مدارس السينما. لكن متى تصبح أفلام الجزويت رائجة؟ وكيف؟. تعليم السينما في الجزويت له سمعة طيبة. لكن متى نتحرك ونتحرر وننطلق في إنتاج أفلام يراها الجمهور كله، وليس في قاعات مغلقة هنا وهناك، وبعدد جمهور محدود في أحد المهرجانات (أقسام الطلبة).
(2)
لماذا الفيلم القصير ملهم؟
رحمة الحداد كتبت في مقالها المحوري لهذا الملف: "جورج ميليه (1861-1938) هو أحد رواد السينما، بل هو أحد المساهمين في الصورة التي نرى بها الأفلام اليوم، في وقت ممارسته للإخراج وصناعته للأفلام كانت مدة أفلام السينما لم تزل قصيرة نسبيا، الفيلم الطويل الذي نشاهده اليوم لم يكن هو السائد بل كان الاستثناء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتجريب أو مخالفة التقاليد التي تم إرساؤها للتو، كانت السينما تجربة في الصورة والحركة في الأساس، عندما عرض الأخوان لوميير مقاطعهما المصورة لأول مرة، أو حتى قبلها حينما أجرى عليها توماس أديسون التجارب وعرضها بشكل محدود مخصص لتجربة شخص واحد في المرة.
بدأت السينما كتجارب وثائقية مجردة من الحكاية أو السرد، ومع شيوعها أصبحت أشبه بوسيط لنقل المسرح والرواية في إطار أبسط، فلم يكن الصوت حاضرا بعد، ومع ميليه وأفلامه القصيرة التي مزجت بين السحر والحركة توسعت إمكانياتها، بعده رسخت كفن روائي وتجريبي، طورها الكثيرون وأضافوا إليها كوسيط بصري، أصبحت وسيطا أكثر رحابة وتقبل لما هو خيالي وتجريبي، وكلما أصابها الجمود والمسرحية أو أصبحت أسيرة لقواعد السرد ومحددات القصة حرارتها تجارب قصيرة على فترات متباعدة، وعلى يد مخرجين متنوعين حول العالم، مع تطور السينما كصناعة وتجارة ضخمة لطالما كانت الأفلام القصيرة مساحة أكثر ترحيبا بالتجريب، يحدث كل عدة عقود أن يأتي أحدهم بتجربة قصيرة تطرح رؤية بديلة للسائد ويوقظ الوسيط من محدودية تفرض عليه".
(3)
من هذا العدد، تقفز مجلة الفيلم قفزة أخرى في إدارة التحرير، التي من شأنها تدعيم نقلة نوعية في المحتوى، حلمنا بها منذ العدد السابع، وتأسيسًا لروح "جزويت القاهرة" والمجلة القائمة على المغامرة والتجريب، ودعم كل جديد شهدها العدد الأول وحتى الآن؛ ولأن الفيلم القصير أساس عمل "جزويت القاهرة"، ولأنه دائما الأفلام القصيرة كانت مساحة أكثر ترحيبا بالتجريب، ومحور تطوير السينما. كانت مصادفة رائعة أن تشهد المجلة تلك القفزة في إدارة التحرير مع ملفنا عن الفيلم القصير، فمنذ العدد السابع تستقبل المجلة دماء جديدة في الكتابة، وكان وراء ذلك مجلس إدارة المجلة، الذي يفخر دوما بوجود الشباب في التحرير والإدارة. بدأنا ذلك مع شباب دبلوم النقد السينمائي أمثال: أندرو محسن وعلياء طلعت ورحمة الحداد، واجتماعات التحرير المثمرة مع مستشاري التحرير: وليد الخشاب وصفاء الليثي وعرب لطفي ومصطفى بيومي وضياء مرعي وغيرهم من أصدقاء المجلة الكبار، ثم تجربة أعمق مع الناقد رامي عبد الرازق، ثم مع الصديقين محمد عوض (أنيس أفندي) وأحمد سامي يوسف اللذين توليا بجهد عظيم وروح مغامرة كبيرة عدد السينما المستقلة، وعدد مهرجان القاهرة السينمائي، ومع الزميلة عزة إبراهيم مديرة نادي سينما الجزويت الذي كان يتولى إدارته بكل جدارة وحب وتفانٍ صديقي الناقد حسن شعراوي مستشار النادي ومستشار المجلة الآن، وهو واحد من الذين أطمئن لوجودهم في المجلة ومسار تطورها، وأخيرا تجربة مثمرة جدا مع الزملاء إدارة التحرير: أمنية عادل وأحمد عزت عامر والدكتور أحمد أبوالفضل، وهو محرر هذا العدد بالكامل، كل الأمور الجيدة في هذا العدد تنسب له، والأمور غير الجيدة تنسب ليّ.. وكل هذا يتم بحلم من الأب وليم سيدهم، رئيس مجلس إدارة المجلة والأب الروحي لجمعية النهضة العلمية والثقافية "جزويت القاهرة"، التي تحت مظلتها نجتمع ونبدع ونصدر مجلة الفيلم"، ضمن مشروع واسع لقطاع السينما بالجمعية، يديره صديقي الدكتور محمد طارق، وتساعده فيه ميسون المصري. وأتمنى أن تقفز المجلة قريبا قفزة نوعية أكبر بوجود رئيس تحرير غيري للمجلة، حتى تكتمل تجربة التغيير والتطوير.
(4)
في حوارنا مع مسئولي مجلة "شورت" الإلكترونية التي تهتم فقط بالفيلم القصير، وهي مشكورة في هذا الجهد، خاصة محاولتها الثبات والاستمرار رغم كل صعوبة البدايات، والخوف من التلاشي وأتمنى لها أن تستمر؛ لأنها تنحت في صخر الحياة السينمائية التي تهمش الفيلم القصير، رد الناقد صلاح سرميني على سؤال الزميلة آية طنطاوي: في رأيك ما سبب غياب الاهتمام بثقافة الفيلم القصير؟ فقال:" أما سبب/أسباب غياب الاهتمام بثقافة الفيلم القصير مع أنّ الناقد السينمائي العربي، وحتى طالب سنة أولى في معهد سينما، عندما يتحدثون عن السينما، سوف ينطلقون من شرائط الأخوين لوميير، وجورج ميليه.. ومع ذلك، سوف يتحدثون عنها كتاريخ، وليس كجزءٍ لا يتجزأ من السينما نفسها.
يهتمّ الناقد السينمائي بالسينما السائدة، أيّ: ما يُشاهده في المهرجانات الكبرى، وصالات السينما، الأفلام الطويلة تحديداً، وهو بذلك يحقق "أناه الطويلة" من خلالها، أما الدارس السينمائي، فهي بالنسبة له خطوةٌ مؤقتة نحو الأفلام الطويلة، بمعنى، يقدم الناقد السينمائي للمتفرج ما يرغب أن يعرفه عن تلك الأفلام، أو ما يعرفه مسبقاً، وليس ما يجب أن يعرفه، بالضبط، كما فكرة "الجمهور عايز كدا"، وبينما الناقد السينمائي نفسه، يتذمّر، ويحارب، ويقاتل، ويصارع فكرة/ظاهرة هذه المقولة، ولكنه، في المقابل، يعيش، ويمارس "انفصاماً نقدياً" غريباً في علاقته النقدية مع السينما، بغضّ النظر طبعاً عن القيمة النوعية للأفلام الطويلة التي يكتب عنها، وفي جميع الأحوال من مهماته أن يكتب عنها".
*هنا بعض التنويعات من كتابات نيتشه "إنساني مفرط في إنسانيته".