الكاتب : سامح سامي
أنت أمام مهرجان سينمائي عريق. من ينظر إلى تاريخه يكتشف مدى أهميته وتأثيره في حركة الثقافة المصرية. مبادرة أهلية من شخصيات ثقافية وفنية أرادت في ظروف تاريخية وسياسية صعبة تأسيس مهرجان القاهرة، الذي بدأ بعد حرب أكتوبر العظيمة بثلاث سنوات، وبالتحديد في 16 أغسطس 1976 على أيدي الجمعية المصرية للكتاب والنقاد السينمائيين برئاسة كمال الملاخ، ومع الوقت تحول من رد فعل وحلم شخصي للملاخ إلى همّ فني وسينمائي، ينشغل به السينمائيون والنقاد والجمهور. وأظن أن الكل يدعم هذا المهرجان، بدافع أنه حدث فني مصري قومي. بالطبع المهرجان، خلال دوراته الأربعين السابقة شهد هبوطا وصعودا في تأثيره وأهميته، سنكتشفه في الصفحات التالية. لكن يبقى أنه المهرجان المصري الوحيد الذي يمكن القول إنه "ملك الجميع".
(2)
قد يستغرب البعض تخصيص (مجلة الفيلم) عددا عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؛ بحجة أن المهرجان يبدو بعيدا عن اهتمامات المجلة التي تصدر أعدادها بهدف أول وأساسي، وهو نشر الثقافة السينمائية وفن الصورة، ودعم الفن المستقل (البديل). لكن مجلة الفيلم - بانفتاح شديد ورغبة صادقة – تدعم كل ما هو سينمائي وكل ما هو جميل، وكل ما هو جاد. لكن هل هذا يتحقق مع مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الحالية التي تحمل اسم واحد من أعظم النقاد السينمائيين "يوسف شريف رزق الله"؟
نعم؛ لأنه جدد ذهنه مؤخرا عبر عدة أمور تظهر اهتماما خاصا بالثقافة السينمائية، فـ"ركن" المظاهر الاحتفالية من فساتين وسجاد أحمر، واهتم بالسينما وثقافتها وصناعة الأفلام، فأصبحت هناك حركة وتغيير بعد جمود، ففي تكريم المخرج العالمي تيري جيليام، الدورة الحالية، سيكون هناك فرصة للحوار معه والحديث عن تجربته، وليس مجرد التقاط صورة معه هنا ولقطة على سجادة حمراء هناك، وكذلك الاستمرار في أيام القاهرة لصناعة السينما، الذي يساعد بشكل مباشر صنّاع الأفلام، ووجود 16 مشروعا مصريا وعربيا ستشارك في ملتقي القاهرة السينمائي، فضلا عن مشاركة واسعة للأفلام العربية، وعرض ما يزيد على 30 فيلما ما بين طويل وقصير في عروضها العالمية والدولية الأولى، بالإضافة لأكثر من 90 فيلما نال المهرجان حقوق عرضها الأول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أيضا تطوير فريق البرمجة بنظامه الجديد - وافق عليه الأستاذ يوسف شريف رزق الله قبل رحيله - الذي يعتمد على تقسيم العمل على خمسة مبرمجين يعملون تحت إشراف المدير الفني، وكل واحد فيهم مسئول عن منطقة جغرافية، ثم هناك مجموعة ثانية مكونة من 6 أشخاص هم "لجنة البحث"، ومهمتها فرز الأفلام التي تأتي للمهرجان، ثم هناك مجموعة أخيرة من المنتجين ومديري المهرجانات مهمتهم ترشيح الأفلام والضيوف للمهرجان، ويعملون بشكل تطوعي، ولا يتحمل المهرجان سوى دعوتهم للحضور، وعند حضورهم يشاركون في الأنشطة ويقدمون للأفلام والندوات دون أن يكونوا عبئًا على ميزانية المهرجان. وأظن أن هذا شكل غير تقليدي، ساعد في فحص أكثر من ألف فيلم تقدمت للمهرجان وإنهاء البرنامج في الوقت المناسب، مع الاحتفاظ بالجودة كمعيار أول للحكم.
اللافت أيضا توقيع إدارة المهرجان على ميثاق للمساواة بين النساء والرجال في الفعاليات السينمائية بحلول 2020، والمعروف باسم "5050 في 2020" ليكون القاهرة المهرجان الأول عربيا والثاني إفريقيا الذي يعلن التزامه ببنود الوثيقة التي أطلقتها حركة "5050 في 2020"، وكان أول الموقعين عليها مهرجان كان السينمائي في دورته الـ71 عام 2018، وبموجب هذا التوقيع سيكون "القاهرة السينمائي" ملتزما بدءًا من دورته الـ42، المقرر إقامتها خلال شهر نوفمبر 2020، بإعلان الإحصائيات المرتبطة بنسب مشاركة النساء في فريق البرمجة، ولجنة الاختيار، كما يلتزم المهرجان أيضا بدءًا من العام المقبل، بإعلان نسبة الأفلام التي تقدمت من إخراج نساء، وعدد الأفلام التي اختارها المهرجان منها.
(3)
وجدت مبادرة التعاون مع إدارة مهرجان بحجم القاهرة السينمائي، عبر الاطلاع على أرشيف المهرجان لدوراته الأربعين منذ 1976 وحتى الآن، من أرشيف صور وإصدارات وكتالوجات، فرصة مهمة لمناقشة دور المهرجان وتقييم أهميته لصناعة السينما ولصناع الأفلام، بكل استقلالية وحرية، بدون تلميع أو تزييف. لكن الأهم أنها كانت تجربة كاشفة أيضا عن مدى قوة كتّاب المجلة، التي تصنع مجدها الصحفي والبحثي والفني، وهي تحتفل بمرور 5 سنوات على تأسيسها، التي أراها، حسبما ألمسه أيضا في تعليقات الناس، أنها علامة فارقة في تاريخ الصحافة المصرية، ومشارك مهم في الثقافة السينمائية، خاصة أن تنفيذ هذا العدد جاء في وقت قصير للغاية (25 يوما)، وسط تخوفات من السرعة، والقلق أن تفقد المجلة الدقة المعروفة بها. لكن الحياة متعة، والتحدي والمغامرة أقصى لذة في الكتابة والثقافة والفن؛ ولأني كنت أثق أن وراء المجلة تاريخا طويلا لجمعية أهلية مدنية، فكنت مطمئنا، فجمعية النهضة العلمية والثقافية "جزويت القاهرة" التي يشع منها نور استوديو ناصيبيان (تأسس عام 1937) التاريخي والمؤثر في صناعة السينما المصرية، ذلك النور الذي أحلم أن يتجدد ويتمدد عبر مدارس جزويت القاهرة: السينما والمسرح والرسوم المتحركة والعلوم الإنسانية، تربي الجزويتيين على تلك المتعة وذلك التحدي، عبر العمل باستقلال لتشكيل الوجدان الإنساني وتدعيم العدالة الثقافية عبر إتاحة الفنون للكل( فالكل فنان، والكل يستطيع التعبير عن ذاته ومجتمعه عبر السينما، وأن صناعة الأفلام ليست بعيدة عن الناس العادية، ويمكن تحقيقها بأقل التكاليف والإمكانات، المهم الفكرة، والتفكير في بدائل). ولذلك أصدرت الجمعية عبر مكونها الأساسي نادي سينما الجزويت (مجلة الفيلم)، كمشروع حالم لتشكيل الوعي السينمائي كممارسة اجتماعية؛ لأن نوادي السينما هي التي تخلق جماهير عريضة محبة للسينما، كأنها تمشي على الجمر، متحدية تجريف الواقع الثقافي والسينمائي، الذي تم ويتم لصالح الجهل والقمع والرقابة. وأظن أن مهرجان مثل القاهرة بدون هذا الجمهور، سيصبح أشبه بالمهرجانات "البلاستيك" التي تلمع. لكنها ليس ذهبا.
ذلك الجمهور الذي يتعطش لأفلام يقف وراءها فكر وصناعة مبدعة مختلفة عن تلك الصناعة التي تهتم بـ”رص” النجوم في أفيش فيلم باهت، لا يقول شيئا، ولا يتذكره المشاهد فور خروجه من العرض، صناعة لديها وعي بحل كل مشاكل الواقع السينمائي الحالي الذي هو نتاج مجتمع أكله السوس، في كل جوانبه، عبر زمان ممتد من التجريف المعرفي، أنتج واقعا سينمائيا يغرق في فكر غير مستنير، وبتعليم رجعي، وباقتصاد تجاري نفعي لا يؤمن بمسئوليته الاجتماعية، بمثقفين لا يعرفون دورهم (غير مستقلين، ويميلون دوما للمكاسب)، بمناخ ومجال عام لا يشجع على الإبداع إلا فيما ندر.
حينما تنهض تلك الصناعة بعيدا قليلا عن دوائر شركات الإنتاج الكبرى وموزعي الأفلام ودور العرض أو التقنيات عالية الجودة، وتجد حلولا بديلة تغير واقع القوانين والرقابة وتدعم تعليم السينما الحر المتحرر، سينهض المجتمع بأكمله، فالصناعة نتاج مجتمع ناهض حر فاعل ثقافيا وفكريا واقتصاديا، أو خامل يعيش طوال الوقت كمستهلك وتابع. الصناعة ليست فيلما ممتازا هنا أو فيلما مشوها هناك. وإذا ما تحقق هذا سيكون لمهرجان القاهرة السينمائي شكلا مختلفا وتأثيرا في الجمهور وفي صناعة السينما، ومن ثم التغيير في الواقع المصري نفسه.
(4)
العدد يضم أسماء بارزة تكتب معنا لأول مرة، مما أعطى للعدد ثقلا وجمالا وثقة، خاصة أن هذا العدد سبقته عدة اجتماعات تحضيرية، كانت لها العامل الأول في بلورة شكل العدد الذي بين أيدينا، عبر مناقشات جادة بين هيئة التحرير والأكاديمي د.مجدي عبد الرحمن، والأستاذ محسن ويفي رئيس جمعية النقاد المصريين الذي كاد ينهي كتابة شهادته عن المهرجان والبرامج الموازية له، إلا أن المرض حرم القراء من قلم باحث وناقد كبير مثله، وكلي أمل أن يعود إلى القراء قريبا، بكل نشاطه وحيويته ومحبته للسينما وللفن. ومجلة الفيلم وسط سعادتها بالتعاون مع إدارة مهرجان القاهرة، تحلم بالاهتمام بشكل أوسع بأرشيف هذا المهرجان الكبير، ليكون فيما بعد أحد أكبر العوامل المساعدة لنشر الثقافة السينمائية ومساعدة الباحثين وليتحول إلى مركز ثقافي سينمائي يليق باسم المهرجان. والشكر هنا موصول إلى صديقي الكاتب أحمد فاروق مدير المركز الصحفي للمهرجان الذي سهل مهمة إنجاز هذا العدد، وكذلك إلى إدارة المهرجان وفريق عمله، والشكر للكاتب والمنتج محمد حفظي رئيس المهرجان، وللناقد أحمد شوقي المكلف بأعمال المدير الفني.