الكاتب : سامح سامي
نحن أمام أسطورة صحفية، نور لمن يقرأه الآن وسط الظلام، فالصحافة في مأزق، والصورة في أزمة.. والعالم كله أصبح مجنونا، ربما يحتاج إلى هدوء وتأمل، ليس بسبب وباء سنتجاوزه يوما ما. لكن لأن الأمور لا تستقيم إلا بالحرية الكاملة، التي ينتعش معها الإنسان وكل ما ينتجه من فنون وآداب. والأستاذ أنطون ألبير حياته ومسار عمله تجربة مهمة لمن يريد الاستمتاع والتعلم.
سؤال قديم. لكنه يتجدد ليل نهار، يمتزج في كثير من الأحيان بتعالٍ: هل الفوتوغرافيا فن؟ وكأن سؤالهم يبعد عن الفوتوغرافيا صفة الخيال.. لكن ما هو الفن؟ وما هو الخيال؟ علماء الاجتماع يقولون: إن على المرء الإدراك دائما أن الشيء لا يعد "فنا" إلا لأن مجموعة من الأشخاص أو الجماعات ذات النفوذ قد عرفته على أنه كذلك. ويصرون على أن مصطلح "فن"، والألفاظ المرادفة له ليست سوى اختراعات تاريخية، ظهرت في الغرب أولا منذ بضع مئات السنين، وقبل ذلك الوقت، لم يوجد مصطلح "فن" بالمعنى المعاصر. وعوضا عن ذلك، كان الناس في القرون الوسطى ينتجون أشياء ثقافية للاستخدام بطرق معينة، مثل: الأيقونات الدينية وغيرها، ومنها التصوير الفوتوغرافي، الذي هو - بحسب سوزان سونتاج - مثل أي شكل للفن الجماعي، لم يمارس من قبل الناس كفن، فهو، بالدرجة الأولى، طقس اجتماعي، وحصانة ضد القلق، وأداة للقوة. وبعيدا عن الأسئلة الوهمية عن فنية الفوتوغرافيا، وما يهمنا هنا أنها السلاح المثالي للوعي، وللتغيير أو تدل عليه، فلا تعرف الثابت أو المطلق؛ لذلك يخاف منها الاستبداد.
(3)
وأحد الإجابات عن سؤالي السابق، سنجده في دراسة وافية ومهمة للدكتور ياسر منجي، فتَحتَ عنوان فرعي "المعادلة الصعبة بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة (الفني من رَحِم الوثائقي)، قال د. ياسر منجي: "تظل أصعب التحديات التي يجابهها المصور الصحفي، ماثلةً في كيفية اصطياد اللحظة الزمنية وزاوية الرؤية، اللتَين تمثلان طَرَفَي معادلة التوازن، للتوفيق بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة. يرتَهِنُ ما سبق باستطاعة هذا المصور النجاة من فخ التأويل – سواءً المقصود وغير المقصود – حيث يمكن للتكوين، أو نَسَق الإضاءة، أو تعبير الوجه، أو زاوية اللقطة، أن تُحَمَّل الحَدَث مِن المَضامين والإيحاءات ما يخرجه من سياقه، ويضفي عليه من التأويلات، ويُكسبه من الرموز، ما يعرضه للتشويه والتزييف. فإذا حدث ذلك بالمصادفة كان دليلاً على ضعف المصور، وإن كان عمداً فهو دليل على انحيازات مُسبَقة وتَعَمُّد أدلَجَة الحدث، أو إقحامه ضمن سياق يخدم مَلَفًّا سابق الإعداد أو مأربًا مُبَيَّتًا. ولا شك أن حساسية هذه المعادلة تصل حدها الأقصى حين يتعلق الأمر بالأحداث السياسية؛ إذ يمكن للتأويل – بالمعنى المشار إليه تَوًّا – أن يُفرِغ الحَدَث تماماً من معناه، أو يُعَرّض الشخصيات المشاركة في صنعه للانتقاد، أو الاستخفاف والسخرية والزراية، وهو أمرٌ تستعصي نماذجه على الحصر، شرقًا وغربًا، لدرجة أنها باتت من بين آليات صناعة الكوميديا البصرية، وبخاصةٍ بعد تطور وسائط التواصل الاجتماعي الشبكية ووسائط تداوُل المعلومات المُرَقمَنة. بطبيعة الحال هناك هامشٌ آمنٌ لهذا النوع من التأويل؛ إذ إنه سيكون مِن قبيل المثالية المُفرطة أن نتوقع حيادًا تامًا مِن قِبَل المصور، فهو في النهاية فردٌ ذو قَناعات خاصة، وتؤثر في قراراته وتَوَجُّهاته واختياراته انحيازاتٌ لا سبيل لإنكار وجودها.. ومن هنا كانت صعوبة المعادلة التي أشرنا إليها، غير أن ما يميز كبار الأساطين المُدركين لخصوصية الصورة الصحفية، عن غيرها من أجناس الصورة الفوتوغرافية، هو أنهم يستطيعون التحرك – مِهنِيّاً – في حدود ذلك الهامش الآمِن من التأويل البصري؛ وذلك من خلال توظيفه لصالح إبراز مضمون كل حَدَث. هنا تكون اليد العليا للموهبة العارمة، المدعمة بالخبرة التقنية الراسخة، وبالإدراك العميق لقواعد بناء الصورة، وقوانين الضوء واللون، وهندسة تكوين اللقطة. فمن خلال هذا المستوى من الأستاذية، يتمكن المصور (الفنان) من تحديد طبيعة التأويل البصري، الذي تتطلبه كل لقطة، لترجمة مغزاها، وتجسيد مَحمولها الدلالي بصريا. وفي هذا السياق، تُعَدُّ مجموعة الصور التي التقطها "أنطون ألبير" لمنطقة النوبة، خلال الستينيات من القرن الماضي، نموذجا قياسيا لهذا النوع من الصور التي يتجلى فيها توازُن معادلة التوفيق بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة الفنية، كما يتجلى فيها دور التأويل البصري في تلخيص جوهر الحدَث وتجسيد مكنوناته".
(4)
مجلة الفيلم تنشغل بـ"فن الصورة" باعتبارها مظلة ومدخلا للسينما وتذوقها وصناعتها أيضا، لذلك منذ العدد الأول تهتم المجلة بشقي السينما والفوتوغرافيا، وليس السينما فقط، خاصة أن هناك فراغا كبيرا في المكتبة العربية، وكذلك في الصحافة، من كتابة متخصصة في الفوتوغرافيا، وفي نقد الصورة، لذلك المجلة، التي ترتكن إلى زخم ضخم من التجارب التعليمية البديلة في السينما، عملت على نشر مختارات بديعة في باب "مدرسة الفيلم"، ليكون فيما بعد أساس وخلفية معرفية لبرنامج تدريبي لنا وللآخرين من خارج هيئة تحرير المجلة، يكون أساسه عودة التكوين الثقافي الذي يسبق الكتابة، ذلك التكوين الذي كانت تعرفه الصحافة المصرية قديما كأساس لتطوير الصحفي عبر التدريب المستمر، حتى نتجنب الخفة والاستسهال الذي صبغ حياتنا الصحفية الفنية، وأصبحت السينما الحائط المائل لكل من يريد الظهور. ومرة أخرى أقول هذا ليّ ولكل هيئة تحرير مجلة الفيلم قبل أن أقوله للآخرين، فنحن نريد التعلم والتدريب المستمر والتطوير الذي لا يتوقف. لكن هذا لن يتحقق إلا بمزيد من الحرية المطلقة، وفتح أبواب الفن والإبداع أمام الشباب، وعدم غلق المجال العام بأوتار حديدية تُزرع في العقول عبر الرقابة الذاتية، والخوف من الأيادي العليا فكريا ومجتمعيا وسياسيا. فهذا هو السبيل في إنتاج تيار فني يخرج منه أمثال العظيم أنطون ألبير، وكل أسطوات الصحافة الذين جعلوها بحق مهنة ضمير.
(5)
هذا العدد متنوع، رغبة من زملاء وأصدقاء كثيرين طالبوا مننا ألا نخصص العدد بالكامل لموضوع واحد، لذلك فالعدد بجانب الملف عن الأستاذ ألبير، والذي جاء وتم بمساعدة وحب الكاتب والباحث الجاد عادل موسى، يضم عدة حوارات ودراسات تنشر لأول مرة، منها دراسة الناقد الكبير الراحل محسن ويفي عن المخرج الكبير كامل التلمساني بعنوان "ثم ماذا بعد السوق السوداء؟". كما يضم العدد آخر حوار مع مهندس الصوت الراحل جميل عزيز الذي كان - حسب حوار حسن شعراوي وعزة إبراهيم - واحدًا من المايستروهات الذين قبضوا بأناملهم على أشعة الصوت فأصبح شريط الصوت الذى يحمل توقيعه قادرًا على أسر المشاهد المستمع وجذبه من أذنيه وكل حواسه بمغناطيس خفى يختبئ فى الأصوات والموسيقى والمؤثرات؛ ليصبح بكل كيانه داخل الفيلم. جميل عزيز استطاع أن يسرب أشعة فن الصوت نحو وجداننا مباشرة؛ لتسكننا الأفلام التى هندس صوتياتها للأبد، فهو ساحر الميكروفون الذى جعلنا نبصر بأذنينا ونسمع بعينينا ونتماهى مع سحر الفيلم السينمائى ونسيجه الصوتى.
(6)
في بداية تولي مسئولية رئاسة تحرير مجلة الفيلم كتبت في الصفحة ذاتها فقرة عن أني أتمنى وأحلم بأن تؤسس جمعية النهضة العلمية والثقافية (جزويت القاهرة) ومن على الدرب نفسه لمشروعات صحفية أخرى في الموسيقى والرقص والفلسفة والفن التشكيلي والمسرح، وتشكيل الوعي النقدي والكتابة الحلوة. ففي مثل هذه المشروعات تكمن نهضة المصريين والإنسانية، وعبرها تكمن سلطة العقل والوجدان في نزع الخوف الإنساني من أي سلطة دينية أو سياسية. ومن خلال تلك المشروعات نعيد مرة أخرى ضبط بوصلة السينما المستقلة إلى الفكرة، إلى الوعي، إلى الاهتمام بالبشر وتجاربهم، بدلًا من الاهتمام الواهم بالمعدات وخطوط الإنتاج.. ومع هذا العدد الحادى والعشرين الذي يأتي بعد احتفالنا بمرور 5 سنوات على تأسيس مجلة الفيلم، أتمنى وأحلم أن تقفز المجلة قفزة تحريرية للأمام، بضخ دماء جديدة - وهو الجاري تنفيذه دوما - في شكل أكبر من أول رئاسة التحرير وحتى هيئة التحرير.