الكاتب : اية طنطاوي
روجر كورمان:
كيف تصنع مئات الأفلام المستقلة دون أن تخسر مليمًا؟
آية طنطاوي
العراب
في ليلة اجتمع فيها صناع الأفلام الأمريكيين لتحيه الحاصلين على جوائز الأوسكار، صعد المخرج الأميريكي كونتن تارنتينو على المسرح قائلاً "إن محبي السينما في جميع أنحاء العالم يشكرونك الليلة". كان هذا عام 2009 قبل دقائق من صعود "روجر كورمان" إلى خشبة المسرح لتسلم جائزة الأوسكار الشرفية لتكريمه كواحد من أهم صناع السينما الأمريكية المستقلة والـ B movie. حيا كورمان الحضور بابتسامة ونظرة محبَّة؛ تحدث عن تفرد فن السينما بين الفنون الحديثة، وعن النجاح الذي يتطلب في خطواته الأولى البحث عن فرصة، ثم أهدى جائزته إلى زوجته المخلصة، وكل العاملين في حقل السينما المستقلة.
يرتبط اسم المخرج والمنتج الأمريكي "روجرو كورمان" بالأفلام ذات الميزانيات المنخفضة؛ وإن بدت الجملة تحمل في مدلولها نظرة اقتصادية لسينما كورمان، إلا أنها السمة الأبرز التي جعلت منه "عراب السينما الأمريكية المستقلة" و "ملك الـ B movies". وعلى الرغم من ميزانياتها المنخفضة إلا أن أفلام كورمان عرضت في أهم المهرجانات السينمائية العالمية، وكان أصغر صانع أفلام مستقلة تعرض أفلامه بأثر رجعي في السينماتك الفرنسي في باريس، والمسرح الوطني في لندن، ومتحف الفن المعاصر في نيويورك، كما أسس ستوديو New World Pictures لصناعة الأفلام المستقلة، وأصبح موزعًا أمريكيًا للأفلام الأجنبية - فازت 5 منهم بأوسكار أفضل فيلم أجنبي- لأشهر المخرجين العالميين أمثال: إنجمار بيرجمان، فيلليني، كوروساوا.. وغيرهم. تجمع سمات أفلام كورمان بين الفنية والإستقلالية المادية بعيدًا عن الضجيج المدوي في ستديوهات هوليود، ولم تبعد أيضًا عن ذائقة الجمهور فتنوعت أفلامه المستقلة بين أفلام المراهقين، الكوميديا، والرعب، واستطاع أن يبيع لاحقًا حقوق أفلامه للتليفزيون ويجني الأرباح.
يعود تاريخ الخطوات الأولى لروجر كورمان في مجال صناعة السينما إلى حقبة الأربعينات التي شهدت على استحياء فتح الأبواب أمام استقلالية الانتاج السينمائي، وخلال تلك السنوات، قام كورمان -وشاركه الحلم عدد من شركات الانتاج- بتغيير مساره في مجال صناعة الأفلام، وبدلاً من السعي وراء العمل كمندوب لشركة فوكس، استطاع أن يصمد بنفسه وأفكاره ليكوّن أحد أهم شركات الإنتاج المستقلة في الولايات المتحدة. وبسبب تاريخه في التمرد والاستقلال بعيدًا عن مؤسسات الإنتاج السينمائي في هوليود أصبح كورمان فنان ريادي في عيون جيل من شباب صناع الأفلام في الستينات، تعلموا منه ليس فقط مهارات الإخراج وصناعة الأفلام، بل أيضًا أساسيات الدعاية والإعلان والتوزيع.
في حقبة السبعينات كان كورمان قد غرس جذوره بثبات في أرض صناعة السينما المستقلة بتأسيسه "مدرسة كورمان" التي أصبحت أهم مؤسسة بديلة لصناعة الأفلام المستقلة، وتخرج منها مجموعة من صناع الأفلام هم أهم مخرجي السينما اليوم مثل: مارتن سكوسيزي، فرانسيس فورد كوبولا، جيمس كاميرون، جوناثان ديم، رون هاورد، بيتر فوندا، جو دانتي.. وغيرهم الكثيرين، كما أخرج كورمان –في بداياته- أول سيناريو يكتبه المخرج روبرت تاون، وكان الاكتشاف والظهور الأول لجاك نيكلسون في 8 أفلام من صناعة كورمان قبل أن تكتشفه ستوديوهات هوليود. إن تتبع المسارات التي رسمها روجر كورمان لنفسه في تاريخ صناعة الأفلام المستقلة غني ومثير للتأمل، لكن ما يتبادر للأذهان الآن، كيف استطاع كورمان أن يبني عمائده في عالم السينما المستقلة؟
سريع، رخيص، ومربح
على مر السنين، تعرضت صناعة السينما الأمريكية لتغيرات اقتصادية واجتماعية، وتماشيًا مع مظاهر الحداثة أصبحت المولات التجارية وعروض سينما السيارات drive-in theater منصات رئيسة لعرض الأفلام كبديل منافس لدور العرض، والاقبال الجماهير تزايد على الـ B Movies التي القت الميزانيات العملاقة وكبار النجوم والمخرجين بعرض الحائط من أجل تقديم فن استهلاكي سريع غير مكلف ويدر الأرباح. ونتيجة لكل ما سبق فإن سوق صناعة الأفلام بميزانية منخفضة تطور مع ازدهار عصر التليفزيون وأشرطة الفيديو.
في حلقة نقاشية أجريت معه عام 1970 سئل روجر كورمان عن تعريفه للأفلام منخفضة الميزانية، حينها، كان كورمان في ذروة نجاحه، وانتاجه للأفلام المستقلة تجاوز السبعين فيلمًا، قال كورمان إن تعريف الأفلام منخفضة الميزانية نسبي ويختلف من عام إلى آخر، فمثلاً إرتفاع نسبة التضخم تؤثر على الإنتاج وتتطلب ميزانية أكبر عن المعتاد، لكن بشكل عام فإن أي فيلم تقل ميزانيته عن 200 أو 300 ألف دولار هو فيلم منخفض الميزانية. لقد صنع كورمان أفلام روائية طويلة في حدود 20 ألف دولار وعادة لا تتجاوز مدة تصوير الفيلم أسبوعين عمل، على سبيل المثال أنتج فيلم Naked Angle بميزانية 120 ألف دولار وهو رقم منخفض للغاية في زمن انتاج الفيلم عام 1969.
يمكنني الآن القول أن سر نجاح روجر كورمان يكمن في عمله وفق استراتيجية خاصة صنعت منه عراب ملهم لصناع السينما المستقلة. أخرج كورمان عام 1966 فيلم الأكشن والتشويق The wild angle في ثلاثة أسابيع بإجمالي تكلفة 320 ألف دولار وحقق الفيلم أرباحًا بالملايين، هذا هو روجر كورمان يصنع أفلام سريعة بميزانية قليلة وأيضًا تدر الأرباح. من بين عشرات اللقاءات الصحافية معه يمكننا أن نلخص نصائح روجر كورمان لصناعة أفلام مستقلة في الخطوات التالية:
التخطيط، التخطيط، التخطيط
لا تدخل موقع التصوير دون خطة كاملة لفيلمك، ضع في اعتبارك كل المشكلات التي قد تواجهك وأعرف حلولها مسبقًا في مرحلة معاينة موقع التصوير، لا تترك نفسك للتفكير في حل أثناء التصوير. يعترف كورمان أن فترة الاعداد Pre- production تتطلب منه مدة لا تتجاوز الشهرين، ويقول إن أفضل أفلامه وأكثرها نجاحًا هي تلك التي لم يبدأ تصويرها إلا وقد جهز لها بالكامل في مرحلة الإعداد. لا يمكن لصانع الفيلم أن يترك نفسه في موقع التصوير ليسأل "أين سأضع الكاميرا؟" هذا ليس موضع للتساؤل، عليه أن يحدد كل شيء في مرحلة الإعداد، أن يسير وفق خطة إنتاج واضحة لا تغفل أي سؤال. هذا ما تعلمه كورمان وعلمه أيضًا للعديد من المخرجين الذين عملوا معه في بداياتهم، يذكر كورمان دائمًت إعجابه بعمل مارتن سكورسيزي في مرحلة ما قبل الإنتاج، الذي كان يرسم اسكتشات تفصيلية لكل مشاهد أفلامه بالكامل، وإن كان كورمان يرسم 80 % فقط من أفلامه قبل التصوير.
كن مقتصدًا، واحلم بالأرباح
قال كورمان في زيارته الأولى لمهرجان لوكارنو السينمائي بسويسرا "إن حال الأوربيين في صناعة الأفلام أفضل بكثير من الأمريكان" والسبب ما لاحظه كورمان من الدعم الحكومي الذي تقدمه الدولة لصناعة الأفلام، وهو أمر شحيح الوجود في أمريكا ولو كان متاحًا لكان سيحدث تغييرًا كبيرًا، الدعم الحكومي أحد أهم مصادر الدعم المالي للمشاريع السينمائية وتطور صناعة السينما.
من واقع تجربة كورمان لم يكن هناك دعم حكومي، وستوديوهات هوليود كانت تخوض معارك شرسة وتتوسع في ميزانيات إنتاجية ضخمة، لذلك قرر الاعتماد على نفسه، كان لديه القليل من الاموال فقرر استثمراها في صناعة أفلامه، وقرر ان يؤسس شركة إنتاج مستقلة على ان يضم كل فريق العمل معه في الشركة، يعملون بمقابل مادي بسيط شريطة أن يكون لهم نصيب من الأرباح، وبهذه الطريقة تمكن كورمان من تمويل أفلامه ذاتيًا، واستطاع أن يستثمر المال وثقة فريق عمله فيه.
واستكمالاً للنصحية السابقة الخاصة بالتخطيط، يقول كورمان أن ما يفسد الأفلام أحيانًا هو أن يحدد المنتج ميزانية الفيلم مسبقًا، ثم تظهر أفكار جديدة أثناء عمل الكاتب والمخرج لم تكن في الحسبان، في حال التصوير بدأ ولا مجال إلا تنفيذ هذه الأفكار على أمل أن تحدث معجزة ويتم تنفيذ تلك الأفكار بالميزانية المحدودة، لكن المعجزة لا تحدث دائمًا، ويظهر الفيلم بصورة سيئة عكس المتوقع، والسبب هو المجازفة في تنفيذ أفكار لم يتم التخطيط لها ولميزانيتها مسبقًا.
يذكر كورمان موقفًا طريفًا له مع المخرج جيمس كاميرون في بداياته عمله كرئيس قسم المؤثرات البصرية في شركة كورمان، أثناء عمله بأحدى مشاهد أفلام الخيال العلمي طلب منه كورمان أن يهدم سطح سفينة فضائية، في صباح اليوم التالي كان كاميرون قد نفذ المهمة ببراعة، سأله كورمان "كيف فعلتها؟" فأجابه كاميرون أنه ذهب إلى مطعم ماكدونلدز واشترى عدد من علب الهامبرجر، جمعهم سويًا ورشهم بطلاء من الألومنيوم ثم قام بتصويرهم وتحطيمهم بخدعة بصرية، ولم يتكلف الأمر 12 دولار. يمكننا أن نستنبط هنا ذكاء صناع الأفلام في تطوير موهبتهم وفق الميزانية، فاستطاع كاميرون بميزانية بسيطة لفيلم مستقل أن يبني سطح سفينة فضاء ويهدمه، وبعد عشرات السنوات استطاع أن يوظف ميزانية بالملايين ليصور مشاهد تحطيم سفية تايتانك. على صناع الأفلام أن يتعلموا الإنفاق بشكل عملي ووفق مواردهم سواء كانت ملايين، أو عشرات الدولارات.
اختار فريق عمل تفتخر به
بعد التحضير الجيد، ادخل فيلمك بفريق عمل صغير، كفء، منظم، ومستعد جيدًا، عندما تبني فريقًا متماسكًا لن تقلق بشأن تنفيذ فيلمك. بعد تصوير فيلمه الأول، أعد كورمان ثلاثة قوائم A, B, C لكل من عملوا معه، وقام بتقسيمهم من الجيد جدًا للسيء، هنا بدأ في الاستبعاد والاختيار، وبعدها كون قائمته الخاصة، وبعد فترة قصيرة أصبح لديه "فريق كورمان" الذي لا يتجاوز على الأغلب 15 فردًا بين مصورين، مهندسين صوت، فني كهرباء ومساعدي إخراج، ولا يتم تعيينهم في الأفلام بشكل فردي بل كوحدة واحدة، وهو أمر لم يكن معتادًا في عالم السينما المستقلة، وهو من أكثر الأمور التي صنعها كومران ويفخر بها في مجال السينما المستقلة. في حديث مارتن سكورسيزي عن ثالث أفلامه الطويلة Mean Streets تطرق إلى تعلمه منهجية تكوين فريق عمل من خلال استراتيجية كورمان في تشكيل فريق عمل واحد متماسك لصناعة الأفلام.
اعثر على بصمتك الخاصة داخل كل فيلم
اشتهر روجور كورمان بولعه بأفلام الخيال العلمي، ونجح في صناعتها بالأبيض والأسود، وبميزانية قليلة، مثل: Attack of the Crab Monsters, Not of This Earth, The Fall of the House of Usher ويرى كورمان أن ما من مانع لصناعة هذا النوع السينمائي بميزانية قليلة. من ناحية أخرى، يعد العمل مع شباب المخرجين تحديًا لكورمان كمنتج مستقل، فهو يختار أنواع فيلمية مختلفة سيكون من الممكن تنفيذها بميزانية متواضعة، ويتحكم في متابعة طرق تنفيذ العناصر الفنية والبصرية ومشاهد الحركة وغيرها من تفاصيل، لذلك يفضل كورمان العمل مع مخرجين يشاركون ببصمتهم الخاصة في الكتابة وتطوير الفيلم على الورق قبل بدء التنفيذ في موقع التصوير. يقول كورمان "لم أرى مطلقًا فيلمًا جيدًا صنع من سيناريو سيء"، وهو ما يقودنا للنصيحة الخاصة بالتخطيط، البصمة الخاصة وإن كانت تظهر في السيناريو ومرحلة التخطيط فلا تنس أن تكتب فيلمك في حدود ميزانيتك، درب نفسك ألا تكتب فيلم تتجاوز ميزانيته 200 مليون دولار، كن مقتصدًا، واستثمر المواقع الطبيعية والموارد المحدودة.
لم تكن الإمكانيات التقنية في عصر كورمان أكثر تطورًا كما الآن، الحياة أصبحت سريعة وسهلة، إذا كنت تملك كاميرا ديجيتال وإضاءة وبرنامج مونتاج وجرافيكس فبإمكانك أن تصنع فيلمك بميزانية متواضعة، لم تعد الأمور معقدة كما السابق، وهو ما يوافق عليه كورمان، كما ينصح شباب صناع الأفلام بألا يفقدوا شغفهم ومثابرتهم لصناعة الأفلام. "حبوا ما تفعلوه ولا تستسلموا" إنها نصيحته السحرية ليستمر تدفق الأمل والرغبة في صناعة الأفلام المستقلة بلا عوائق وبالمزيد من الشغف.
مصادر:
1. Roger Corman: Interviews, Edited by Constantine Nasr, 2011.
2. The American Film Institute Seminar with Roger Corman, 1970.
3. https://filmmakermagazine.com/95125-10-lessons-on-filmmaking-from-roger-corman/#.Xk5WUCjXLDc
4. https://nofilmschool.com/2016/08/9-genius-filmmaking-tips-roger-corman-locarno
5. https://www.masterclass.com/classes/martin-scorsese-teaches-filmmaking/chapters/working-with-crew#transcript
6. Roger Corman at the Academy Event, 2016.
7. https://www.youtube.com/watch?v=px3MJtd3tXw