الكاتب : وفاء السعيد
تجربتي مع ورشة الكتابة والموضة .. وأشياء أخرى
وفاء السعيد
ذات مساء وأنا أقلب كالمعتاد بملل في صفحة فيسبوك، فيقابلني إعلان عن ورشة، عنوانه مكوَّن من كلمتين بينهما حرف عطف! .. إحداهما "الكتابة" وقد كانت كل ما أفعله في سنوات تربو على نصف عمري، والكلمة الثانية "الموضة"، وكنت كفتيات جيلي مظلومة؛ لأننا لم نعرف منها شيئًا! يكفي أن تنزل إلى الشارع في أي وقت من أوقات العام؛ كي تستدل على صحة هذه النتيجة التي أستريح في تعميمها عن نفسي وبنات جيلي دونما الحاجة إلى إجراء إحصاء!..
كانت أشهر الصيف قد بدأت تعلن عن نفسها بقسوة مبكرًا، في جثوم الهواء الثقيل على الأنفاس التي تجاهد درجات الرطوبة العالية، كأنّها تنازع الموت. أمّا الأجساد – وخصوصًا أجساد النساء - فتسير في المدينة الملوثة ببطيء رازحة تحت طبقات من الملابس، ذات الأقمشة الرخيصة، المصنوعة من مادة البوليستر التعيسة، التي تلتصق بالأجساد كمادة شمعية، فتختبر بها النساء صِنفًا من صنوف الجحيم على الأرض. وعندما تتعانق العطور التركيب الرخيصة، مع ارتداء البادي الكارينا، مع تلاحم أجساد النساء في عربة مترو السيدات، يكون القطار المتجه إلى الحفرة المظلمة أشبه بقطار سريع نحو الهاوية.
ولكن ما العلاقة المباشرة بين الكتابة والموضة؟!، طفقت أتساءل! ..
وعندما لمحت صورة الأديبة الكبيرة دكتورة "مي التلمساني" على غلاف الإعلان فهمت أنّها واحدة من بنات أفكار التلمساني النوعية التي لا تشبه شيئًا من السائد..
كنت قد اشتركت معها من قبل في عام 2018، في ورشة من إعدادها، بالتعاون مع مشروع "الدهشورية" الخاص بالمنتجة والمخرجة ماريان خوري، في منزلها بدهشور، للورش والإقامات الفنية. كانت الورشة خاصة بفكرة "الاقتباس من نص أدبي وتحويله إلى نص سينمائي"؛ إيمانًا من التلمساني وقتها بأن الشكوى التي تتردد دائمًا على ألسنة المخرجين والمنتجين أن أزمة السينما أزمة نصوص أو "ورق" بلغتهم. فكيف يمكن أن يساهم الكاتب في حل تلك الأزمة؟، بالرجوع لنبع الأدب الجيد الذي لا ينضب، ويستطيع دومًا أن يمدنا بكل ما نحتاجه من حكايات، تصلح للدراما والسينما!.. وقد انتهت الورشة وبين أيدينا عشرة نصوص لأفلام قصيرة استندت على قصص قصيرة للأديب منتصر القفاش. وقد كانت فكرة جديدة وجيدة حينها، لم يفكر فيها أحد ممن يقدمون ورشًا للكتابة في مصر! ..
**
تنافس مي التلمساني في ذلك، أو بالأحرى تكمل عملها، أفكار الأديبة الدكتورة "سحر الموجي"، ابنة جيلها ومرحلتها أيضًا؛ إذ تنتمي الكاتباتان إلى جيل كتاب التسعينيات. تقدم الموجي منذ سنوات ورشًا للكتابة الإبداعية من طراز فريد يعمل على الكاتبة نفسها، كجودة إنسان حر، يستطيع التعبير عن مشاعره وأفكاره، والأهم أن تقدم لها أدوات الوصول إلى دهاليز النفس، وما تخفيه في اللاوعي، وتختزنه تحت سنام جمل ضخم من الرهبة، والمخاوف، والمحاذير، والسير بجانب الحيط بل داخله، في مجتمع يقدس ثقافة الإسكات، وغض الطرف. يهيم هذا الجمل معنا في صحراء مقفرة في تمرينات صباحية تبدأ من نزولنا إلى الشارع، وتتوه الحكايا معه وتشرد! .. كل ما تفعله سحر الموجي هو أن تمسك بمصباح وتضئ هذا الكهف المعتم بداخلنا، تفتته، وتساعدنا على أن نجعله يتحلل؛ لتصبح الحكايا طيعة والكتابة مطواعة.. والأهم من ذلك، أن تصبح فعل تحرر!..
كنت قد أخذت مع الموجي ورشة عن السايكودراما قبل عدة أعوام، واختبرت إمكاناتها الشفائية الهائلة التي توظف الفن والrole play وتقنيات المسرح، وميكانيزمات تدريبات الممثل، وكذلك تدريبات التأمل والتنفس، وتفعيل الحواس لالتقاط صورًا من العالم المحيط، والتعامل معها بحساسية شديدة للتفاصيل. وهذا يختلف كثيرًا عمّا يقدمه "تجار الورش" الذي تعج بهم صفحات السوشيال ميديا، الذي يوهمون المشتركين بأنهم سوف يعلمونهم في يومين أسرار الكتابة الإبداعية، وأنهم سوف يكتبون في نهاية هذه المدة البسيطة رواياتهم الأولى، وأن معرض الكتاب القادم بالطبع سيتسع لكل هذا الكم من الأوراق المسوّدة، بلا أي قيمة، أو إبداع حقيقي!. وهذا يفتح باب عظيم للاحتيال، بات أشبه بالمافيا، وأبوابًا للغثاء المتخفي بين دفتي كتاب يصلح لاستخدامه لتلميع الأسطح والزجاج!.
ومؤخرًا كنت من المحظوظين الذين اشتركوا مع سحر الموجي في ورشة جديدة لـ "الحكي"، وتركز هذه الورشة النوعية أيضًا في موضوعها على التدرب على كتابة النصوص؛ من أجل استخدامها كأداة لعروض حكي مسرحية، توظف الصوت، وحركة الجسد، لحكي قصة قصيرة! فالهدف هنا مزدوج التدريب على الكتابة ثم حكي المكتوب..وغالبًا ما تكون لهذه الأداة إمكانات راديكالية مدهشة في حياة المشاركات اللوائي سرعان ما تتمكن من التعرف على أصواتهن، وتمكنهن من "الحكي" ليس فقط بوصفه أداة إبداع، بل كمشروع وجود!..
ومن المعروف عن سحر الموجي أنّها حكّاءة هائلة، فضلًا عن كونها روائية حققت نصوصها نجاحات كبيرة، وحصلت على جوائز. "وقد أسست في عام 1998 مع مجموعة من الكاتبات والأكاديميات والفنانات ورشة كتابة نسوية، كمشروع تابع حينها لمؤسسة المرأة والذاكرة، اسمها "مجموعة أنا الحكاية"، تهتم بقضايا الجندر وتغيير صورة المرأة السائدة في الحكاية والإعلام" – بحسب صفحة التعريف الشخصية بسحر الموجي على موقع ويكيبيديا. و"مجموعة أنا الحكاية، هي مجموعة نسوية معنية بمناقشة قضايا النساء بشكل إبداعي عن طريق كتابة حكايات من منظور نسوي ومراعي للنوع وأداء الحكايات في عروض حكي مسرحية" – بحسب موقع ويكي جندر. وأنا شخصيًا مدينة للورش التي اشتركت فيها معها بالكثير إنسانيًا وإبداعيًا..
**
كان الوصف الموجود عن ورشة الكتابة والموضة، يفيد بأن "موضوع الورشة هو الكتابة الإبداعية في مجالي القصة القصيرة وسيناريو الفيلم القصير مع التركيز على ظاهرة الموضة من منظور جمالي واجتماعي وتاريخي وأنثروبولوجي، وسوف تبحث الورشة في تاريخ الملابس والأقمشة والألوان والقيم الجمالية المعنية بالأناقة وتحولات الذوق الخاص والعام ومحاولات التعبير عن الذات من خلال الملبس والقيم الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالموضة وأثر كل هذا على رسم شخصيات العمل الإبداعي من قصة وسيناريو...."
وعلى الفور، وقبل أن أكمل قراءة الوصف في صفحة الفيسبوك الخاصة بها، كنت قد ضغطت على رابط التقديم دون إبطاء، فما كنت أريد في هذا الوقت إلا أن أجد شيئًا جديدًا مثيرًا للاهتمام يغير من المنظورات الثابتة والجامدة وزوايا النظر التي اعتدنا أن نقارب أي موضوع من خلالها، بما فيها الكتابة، التي عليها أن تكون طازجة ومتجددة ولا تعيد اجترار وإعادة إنتاج مدارس فنية وجمالية على مستوى الشكل، وكذلك الموضوعات والمضامين الخاصة بالأدب المعاصر. فتثوير النظرة للنص الأدبي هي مهمة أوليّة للخروج عن الأطر الكلاسيكية والثيمات المتعارف عليها. وبالنسبة للكاتبة هي وسيلة راديكالية للتعبير والبوح، والشفاء، والتصالح، ورأب صدوع و ترميم شروخ كثيرة.
وقد كان ذلك أهم ما يميز الموضوع الذي طرحته مي بل ما يميز مي نفسها. منذ عقود وتتحول العلوم الاجتماعية نحو الاقترابات التقاطعية، والمناهج البينية التي لا تعترف بدورها بالحدود الفاصلة الضيقة للتخصصات التي صاحبت الثورة العلمية، والانقسامات الحادة التي فرضتها النظرة الديكارتية لعقود. ومن ثم كان أهم منجز لفلاسفة القرن العشرين، هو هدم هذه الجدران، والاعتراف بأن الظواهر الاجتماعية هي أوسع وأكثر ديناميكية، وبالتالي تتطلب مناهج على مستوى ديناميكيتها.
وما يميز شخص مي التلمساني نفسها فضلاً عن الموضوعات النوعية المختلفة وغير المطروقة الي تقترحها، هي من أهم الكُتَّاب الذين لا يقدموا فقط موضوعات جديدة، بل أيضًا اقترابات ومستويات نظر مختلفة، ولها مستوى أعلى؛ وذلك بحكم تعدد الثقافات الذي تتمتع به؛ كونها تعيش بين مصر وكندا، وكون ثقافتها بالأساس فرنسية، بالإضافة إلى امتلاكها لـ Multidisciplinary approaches التي تجمع بين السينما، والأدب، فهي كاتبة روائية من طراز رفيع، ومن أبرز أسماء كتاب التسعينيات، وحازت نصوصها على جوائز رفيعة، بما في ذلك جائزة الدولة التشجيعية عن رواية "دنيا زاد"، وكذلك النقد والفن التشكيلي، وتوظيف الوسائط البصرية والحسية والجمالية؛ من أجل المساهمة في عالم النص. كل هذه التقاطعات تحدث ثقلًا، وتعمل على نقل النقاشات لمستويات أعمق. فضلًا عن خبرتها الطويلة في تدريس السينما والدراسات العربية بجامعة أوتاوا بكندا. كل ذلك يؤثر بالطبع على فكرة إدارة مجموعة، وتنظيم المحتوى بشكل علمي. كما استضافت الورشة خبراء في مجالات متداخلة؛ كي يقدموا نظرة أكثر تخصصية؛ إذ حضرت مصممة الأزياء للسينما الشهيرة أستاذة ناهد نصر الله في أحد أيام الورشة، وتحدثت في لقاء مفتوح عن كيفية التفكير في رسم زي الشخصية الدرامية. وكذلك استضافت الورشة دكتورة آمال كمال أستاذة علم النفس المتخصصة أكاديميًا في "صورة الجسد" Body image، وقد أعطت لنا إضاءات غاية في الأهمية على الجوانب النفسية التي تؤدي بدورها إلى التشكل الاجتماعي للأجساد ومن ثم الزي، وما يؤدي به إلى تفاعلات اجتماعية بين البشر، وكيف يستفيد كاتب القصة من كل هذه الاعتبارات. كما حرصت مي على أن تدخل الاقترابات التحليلية، مثل المشاركة بالملاحظة، وأداة الاستبيان، فطلبت من المشاركين أن نتجول في جولة حرة لمحلات الملابس في مناطق معينة بمنطقة وسط البلد، وصممت لنا اسبيانًا كي ندخل في نقاشات تفاعلية مع الباعة وأصحاب المحلات عن تاريخها، وعن التحولات الكبرى في الأذواق وواجهات المحلات، والفئة العمرية والجندرية التي تقبل على الشراء، وماذا تشتري.
فكرة أن يشتبك الكاتب بروح الباحث مع مجتمعه، ويعمل بروح الاستقصاء أو المحقق الذي يجمع بيانات عن الثيمة التي يكتب عنها، كانت من أفضل الأشياء التي جلبتها إلينا مي، وكان هذا ما فعلته هي نفسها عندما كانت تكتب روايتها الشهيرة "هيلوبوليس". كل تلك الموضوعات كللت بالانتقال السلس في جدول مُتخيَل منظم في عقل دكتورة مي لا نراه بمثل هذا الترتيب، لكن هي واعية به تمامًا، فضلًا عن إسهاماتها هي الشخصية النظرية ا لتي قدمتها لنا عن دور الـ material culture أو الثقافة المادية في طرح موضوعات جديدة للكتابة... هذا الاقتراب بدوره فتح مناطق أخرى في التفكير أبعد من حدود النص الأدبي؛ ذلك لأن مي تنظر إلى الأدب بمفهوم أوسع وتنقله لمستويات نفسية، واجتماعية، وأبعاد ثقافية ومجتمعية تثري الكتابة الأدبية إذا ما اجتمعت في تيار واحد متدفق، وهو ثقافة الكاتب الشخصية عن نفسه، وعن موضوعه.
كان الطموح في البداية أن تتناول الورشة الكتابة القصصية، والكتابة للسينما في اتجاه متوازِ. ولكن لم يتحقق للأسف أن نعمل على نص سيناريو فيلم قصير؛ ربما يعود ذلك لكون المجموعة متجانسة ككتاب قصصين، ومعظمهم بعيد عن عالم كتابة السيناريو، وبالتالي كانوا بحاجة إلى تدريب خاص ومن نوع آخر ، يخص فقط التدريب على كتابة نص للسينما، وهذا ما لم يكن له مجالًا بكل أسف.
كما أن مي دائمًا ما تفضل أن يكون للورشة نتاجًا، ومنتجًا نهائيًا، لا أن تعطي حديثًا لعدد من الساعات، ثم لا يتم تطبيق أي شيء منه بصورة عملية، وبالتالي قد يضيع هباءًا منثورًا في طي النسيان.. ولذلك كانت حريصة جدًا من البداية أن يكون ثمة انتظام في عملية الكتابة، بحيث ينتج عن الورشة نصوصًا متماسكة عند مدى زمني محدد، فضلًا عن امتداد الورشة لما بعد اللقاءات المكثفة، فتقوم مي بدور الـ mentor أو المشرف والملاحظ الذي يتابع، وينقح، ويعدل، وينصح، ثم في النهاية سوف تجتمع هذه النصوص في كتاب يجمع بين قصص المجموعة المشاركة، ومي نفسها سوف تقدم نصًا، وتضع مقدمة فضلًا عن مهمتها التحريرية. وسوف ينشر هذا الكتاب عن دار المرايا التي تولت مهمة تنسيق وتنظيم الورشة، بالتعاون مع مشروع مي وهو "بيت التلمساني" الذي استلهمت فكرته من "الدهشورية" ومن أماكن إقامات فنية للكتابة استفادت بها هي نفسها في دول أوروبية، أن تتيح للكاتب مساحة للابتعاد عن ضجيج المدينة والحياة الشخصية، وأن يتفرغ تمامًا في مكان هادئ ليعكف على كتابة مشروعه الذي سوف يعرض على هيئة استشارية تقدر ما إذا كان جادًا بالقدر الكافي، ويستحق أن يمنح هذه الإقامة، جزء منها بمقابل مادي مدّعم، وجزء آخر سوف يكون في صورة منحة مجانية. وقد زارت مجموعة الورشة البيت بالفعل في أول وآخر أيام اللقاءات، وكانت هذه الورشة هي افتتاح وتدشين لبيت التلمساني.
هذا النوع من ورش الكتابة النوعية التي تقوم به مي التلمساني، وسحر الموجي، وربما آخرين لا أعرفهم هو ما سوف يدعم ظهور كتابة إبداعية في مستوى متقدم،