نبيل عيوش... من المحلية الى كان

جميلة ويفي 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : جميلة ويفي


نبيل عيوش... من المحلية الى كان

شارك المخرج المغربي / الفرنسي "نبيل عيوش" بفيلمه (علي صوتك) بالدورة الأخيرة لـ"مهرجان كان السينمائي الدولي", الرابعة والسبعون , و التي اقيمت فعالياتها بشهر يوليو الماضي , و تأتي هذة الدورة بعد عام من غيابها , نظرا لظروف جائحة ( كورونا ) , و برغم خروج فيلم ( علي صوتك ) من المهرجان دون جائزة من جوائز المسابقة الرسمية - فقط نال جائزتين خارج اطار المسابقة الرسمية , الاولى هي جائزة المهرجان "للسينما الايجابية ", كما فاز ايضا بجائزة " افضل انجاز في السينما ", (و هي جائزة نالها عيوش هذة الدورة بالمهرجان عن مجموع مسيرته السينمائية , مقدمة من قبل المنظمة الانسانية " يونيون – لايف انترناشيونال " ) – لكن تعد مشاركة فيلم ( علي صوتك) داخل المسابقة الرسمية بالمهرجان ,و منافسته على " السعفة الذهبية ", اهمية فى حد ذاتها , حيث تعد هذة المشاركة الأولى للمغرب بفيلم (روائي طويل ) بالمسابقة الرسمية , بعد مشاركة المخرج المغربي ( عبد العزيز رمضاني ) بفيلمه التسجيلي , " ايقاعات و ارواح " عام 1962 .
(علي صوتك) هو الفيلم الروائي الطويل السابع في مسيرة "عيوش" السينمائية, بجانب فيلماً روائياً قصيراً, وآخر وثائقياً, بالإضافة الى بعض الأعمال الأخرى التي قدمها مباشرةً إلى التلفزيون سواء أفلاماً وثائقية أو حلقات تلفيزيونية , ليست هذه هي المشاركة الأولى لـ(نبيل عيوش) بالمهرجانات الكبرى, تحديداً بـ"كان", ولكن سبق وإن شارك فيلمه (خيل الله) عام 2012 "بمسابقة نظرة ما" , وهي من مسابقات الأقسام الموازية للمهرجان, كما حصل الفيلم بالمهرجان على جائزة "فرانسوا تشالي", و عرض ايضا لعيوش فيلمه المثير للجدل (الزين اللي فيك) على هامش المهرجان عام 2015 , وبهذه المناسبة أحاول أن أقدم للقاريء في إيجاز, نظرة على ملامح سينما نبيل عيوش , التي بدأت منذ فيلمه الأول (مكتوب) عام 1997 إلى فيلمه الأخير (علي صوتك) الصادر هذا العام 2021 .

(مكتوب) .. التجربة الأولى ومحاولة البحث عن ملامح:-
يفتقر فيلم "مكتوب" , الذي يعد التجربة الروائية الطويلة الأولى لـ"نبيل عيوش" , إلى (الحبكة) الدرامية المحكمة, فيقوم الفيلم على مجموعة من المواقف الشبة ( هزلية), والصعاب الذي يواجهها زوجان, أثناء رحلتهما معاً منذ بداية الفيلم, فبالدقائق الأولى على الشاشة نشاهد زوجان شابان ينعمان بأجازة سعيدة بإحدى فنادق المغرب, حيث يعمل الزوج كطبيب عيون, ويتواجد بالفندق لحضور مؤتمر طبي ما, كما يحتفل أيضاً بذكرى عيد زواجه برفقة زوجته, إلى أن نفاجيء وبلا مقدمات (منطقية) بإغتصاب هذه الزوجة, بعلم وتواطؤ جميع عمال الفندق ,على يد بعض أفراد الشرطة , ويتم تصويرها على شريط فيديو!! , فتنقلب حياة الزوجان رأساً على عقب ويدخلان وندخل معهما في رحلة, تخلو من المنطق الدرامي أو حتى المتعة لمدة ساعة ونصف هي مدة عرض الفيلم.
فلقد حاول المخرج "نبيل عيوش" أن يضعنا هنا في تجربة "عبثية", يخلقها القدر وحده بلا منطق, فقط غن طريق الصدفة, ولكنه غفل أن حتى (للعبث) منطقه الخاص الذي ينطوي داخله, فالحبكة الرئيسية هنا بالفيلم هي حدث (إغتصاب الزوجة) وتصويرها على شريط, وهذا الحدث هو المحرك الرئيسي لباقي الأحداث, فهو الذي يجعل الزوج يتورط في عملية قتل لأحد أفراد الشرطة, أخذاً لهذا الشريط لتبدأ رحلة البحث عن هذا الشريط (الدليل) الذي يعد شيئاً هاماً وعظيماً لأفراد الشرطة, الذين قاموا بعملية الإغتصاب, فيظلوا يبحثوا عن الزوجين فقط من أجل هذا الشريط.
إلى أن يقدم أحد الأفراد المتعاونين مع الزوجين الشريط للشرطة بنهاية الفيلم, لحماية الزوجين!!, ولكن ينتهي الفيلم ولا نعلم لماذا تم الترتيب الدقيق والتآمر الكامل من كل أفراد الفندق, والشرطة, لإغتصاب هذه الزوجة تحديداً دون غيرها؟!
ولماذا هذا التمسك بالشريط من قبل أفراد الشرطة إذا كانت البلدة كلها (فاسدة), وكأنها كلها تدار من قبل شرطي واحد الذي يدعى (الكبير), الذي تمت عملية الإغتصاب تحت مظلته ,و ظل يحاول طوال الفيلم أن يحصل على الشريط من الزوجين.
هذا السيناريو "المفكك" جاء مناسباً جداً لجو الفيلم العام الذي كاد أن يخلو من مشهداً أو لقطة تنم عن مولد مخرج هام, أو موهوب, فكانت مشاهد (الحركة) ركيكة التنفيذ, تخلو من أي مهارة ما أو "صنعة لدى المخرج", كما لم يخدم هذا السيناريو ذات الحبكة المفتعلة مخرجه بعمله الأول, لكي يقدم أسلوباً ذات ملامح سينمائية تنم عن خصوصية ما...

"علي زاوا".. نضوج بلا مقدمات :-
لايمكن بأي حال من الأحوال, عند مشاهدة فيلم "علي زاوا" لـ"نبيل عيوش", أن يخيل اليك أن هذا هو فيلمه الثاني بعد فيلمه الأول "مكتوب" , حتى ولو كان الفارق الزمني بين الفيلمين هو ثلاث أعوام, ولكن لا يوجد أي صلة بين مخرج مكتوب ومخرج علي زاوا الصادر عام 2000, وكأن مخرجنا بعد تجربته الأولى قد تبدل, أو نضج كثيراً, بلا أي مقدمات ..
فيعد فيلم "علي زاوا" في نظري هو أكثر تجارب "عيوش" نضجاً خلال مسيرته السينمائية, فالبناء و " الشكل " السردي للفيلم جاء حداثيا " طليعيا " الى حد كبير , مغاييرا للشكل السائد لأغلب الافلام بالسينما العربية في هذا التوقيت , فالشكل الفيلمي هنا أشبه (بالقصيدة) الشعرية, شديدة التكثيف, والإشباع, التي تدخلك كمشاهد منذ اللقطة الأولى في تجربة (شعرية) كاملة شديدة الخصوصية, والعذوبة.
تبدأ الدقائق الأولى من الفيلم بموت (علي) – احد اطفال الشوارع - متأثراً بحجراً على رأسه قد ألقاه عليه أحدهم بينما كان علي يدافع عن أمه التي قد وصفها بعض الصبية الآخرون, من صبية الشارع, "بالعاهرة" , فيحاول رفقاء علي بعد موته بدفنه والعثور على أمه التي طالما أنكر وجودها, إلى أن يتم تشييع جثمانه في نهاية الفيلم عن طريق إلقاء جسده في البحر, كما كان علي يحلم (بالمدينة الأخرى التي لها شمسين على الجانب الآخر!).
ففي مشهد اشبه بال " ملحمة ", نرى فيه جميع صبية الشارع, رفقاء علي, الأخيار منهم والأشرار, من أحب علي ومن قتله, وهم يودعونه, بينما يحمل نعشه أصدقائه الثلاث : (عمر), (كويتا), (بوبكر), بجانب,(أم علي ) , والبحار حميد, صديق علي والأشبه بالعراب له, ذاهبون جميعاً الى مركب البحار حميد, لقضاء رحلة بحرية مع جسد علي قبل القائه بالماء..!
على الفور ذكرني بطل فيلم عيوش "علي", بـ"طبل" بطل فيلم "جنة الشياطين" للمخرج المصري الكبير الراحل "أسامة فوزي" , المأخوذ عن رواية (الرجل الذي مات مرتين) للروائي البرازيلي الكبير "جورج أمادوا", الذي قد أخذه أيضا أصدقائه من بيت عائلته البرجوازي بعد وفاته ليقوموا معه برحلة صعلكة أخيرة, شديدة الحسية ,المجون و "العدمية" اذا جاز التعبير , لكن هنا يحاول أصدقاء علي الذي عاش حياة الشارع (البائسة) أن يأخذونه إلى عالمه - "حلمه" – (الذي يشبه كثير من احلام الصغار و الذي لا يخلو من البراءه و المثالية )- , الي رأينا ملامحه من خلال رسومات علي التي قد شاهدناها على الشاشة في فوتومونتاج قصير" بأفان تتر " الفيلم .
جاء البناء السردي للفيلم , , في نسق و بناء (أفقي), فتتسلل إليك المعاني دون بناء حدث بعينه داخل السيناريو , تنطلق منه الدراما, فبإستثناء موت علي بأول الفيلم, لا يوجد ما يسمى (بالحدث) الرئيسي أو (الحبكة الرئيسية), و لكن توجد حبكات فرعية صغيرة تتضافر معاً, مثل "الدانتيلا", اذا جاز التعبير, فتتدفق المعاني ليخلق لدى المشاهد إحساساً وشعوراً ما, مثل حدث : (العثور على أم علي ومعرفة أصدقائه بمهنة الأم "الدعارة"), (إغتصاب "الذيب" لـ"كويتا"), (معرفة أصدقاء علي بلغز البحار حميد والساعة) وغيرها من الحبكات الفرعية, الصغيرة , التي قد تشابكت بحرفية وببساطة في إيقاع سهل دون إفتعال طوال مدة الفيلم.
نستطيع القول أن فيلم (علي زاوا) هو بمثابة الخطوة الأولى و ( الحقيقية ) نحو تحديد الهوية والمسار لنبيل عيوش, فإنه بهذا الفيلم إستطاع أن يضع قدمه بكل قوة في مصاف كبار المخرجين.


"كل ما تريده لولا".. وفيلماً آخر مخيباً للآمال
يبدو أن تجربة "نبيل عيوش" السينمائية لا تسير على خطى ثابتة, فبعد كل فيلم جيد يبدو اننا سوف نفاجيء بفيلماً آخر محطماً للآمال, ففيلم (كل ماتريده لولا) الذي عرض عام 2007, والذي يدور حول فتاة أمركية تهجر الولايات المتحدة الامريكية وتأتي الى مصر في محاولة بحث عن حبيبها (المصري) الذي قد قابلته بأمريكا, ولكن تفاجأ بأن هذا (الحبيب) قد تبدل الى رجل (شرقي) بمفهوم الغرب, فأخذ يعاملها مثل العاهرة ويلقي لها بالنقود بعد معاشرته الجنسية لها, فتهجر حبيبها وتبحث عن حلمها القديم بمصر وهو أن تصبح راقصة شرقية.
يبدو أن نبيل عيوش يجهل كثيراً عن حياة المصريين, ولا يعلم عنها سوى الحكايات الساذجة المرددة على ألسنة (بعض الغربيون), بأن مصر ليس بها سوى الجمال, الأهرام,و الجواري!, فنرى في مشهد مضحك "لولا", تنزل من مطار القاهرة بأول مشهد لها بمصر, بينما يبدو المطار أشبه بأسوأ "مواقف الميكروباصات"! بينما تسير مجموعات هائلة من الحشود, الذين يقدمهم عيوش لنا على أنهم (مصريون), فيسير البعض منهم على (جمال) أمام مطار القاهرة!
بينما البعض الآخر يسير في حركة بدائية, وكأنهم قادمون من كوكب آخر!, لتخرج "لولا" (الفتاة الشقراء الأمريكية) وتأخذ "تاكسي" ليصطحبها من المطار لبيت حبيبها, لتمر على المقابر التي تقع جنباَ الى جنب بمطار القاهرة، فيردد سائق التاكسي للولا : إنها مدينة الموتى، مشيراً الى المقابر!
نرى بعد ذلك بيت "حبيب لولا", الذي من المفترض, أنه بيت مصري "من الطبقة الرفيعة", مبني على الطراز المغربي, بينما جميع رجال البيت, بل أغلب رجال الفيلم, يرتدون "القفطان المغربي"! ويتلعثمون بينما يتحدثون العامية المصرية, نرى من عين المخرج نبيل عيوش "كباريهات" القاهرة عام 2007 - هو العام الذي تدور فيه أحداث الفيلم - وكأنها من عصر وبلد آخر, فنرى الراقصات البدينات, وهن يرقصن بالشموع على طريقة عوالم القرن الماضي!!, بينما نسمع أغاني شعبية بعيدة تماماً عن أغاني الشارع المصري, والتي تضفى عليك اثناء مشاهدتك للفيلم المزيد من الشعور بالأغتراب عن الفيلم و عدم التصديق !
لقد تناول مخرج الفيلم "نبيل عيوش" طابع الحياة المصرية, بعين الغربي الساذج, الذي لم يشاهد مصر ولو لمرة واحدة! فلم يكلف خاطره ولم يستعن حتى بصور أو مراجع عن شكل المباني, الملبس, الأغاني... وغيرها من الملامح الهامة , التي قد ربما كان وجودها من الممكن ان يضيف على الفيلم شيئاً من الواقعية او المصداقية ..
فلم يتخطى الفيلم سوى حكاية "مولد نجمة" على الطريقة الهوليودية المعتادة, ورحلتها من الغرب الى الشرق, مقدماً المخرج الى المتفرج كل "كليشيهات" النمطية الغربية عن الشرق, من رجعية, تخلف وقبحو غيرها .. , مستنداً الى حبكة ضعيفة, وهي حلم لولا في تعلم الرقص من الراقصة المعتزلة الشهيرة "أسمهان", بينما أسمهان تتوارى خلف الأضواء ولا تريد الظهور بسبب كراهية وإحتقار المصريين لها, وهذا الإحتقار ليس بسبب مهنتها (الرقص) ولكن بسبب خيانتها لزوجها!, فتعيش أسمهان مع ابنتها دون أن يعلم أحد عنهم شيئاً, سوى بعض الجيران بالحي, الذين إعتادوا على القاء الحجارة, على بيت أسمهان, لخيانتها لزوجها!.
فبجانب الحبكة الضعيفة المستندة عليها دراما الفيلم, لجأ المخرج الى روح (الميلودراما), في صياغة و بناء دراما الفيلم, فكانت الصدفة وحدها هي التي تحرك وتسير الأمور, فمثلاً (يريد وكيل أعمال كبير, يدعى "ناصر" العمل مع لولا, وبالفعل يتم العمل في أول فرح تقوم لولا بالرقص فيه بمصر, فتفاجيء لولا بان من بين الحضور حبيبها "المصري", وقد قام بخطبة قريبته, فتقول له لولا وهي ترتدي بدلة الرقص: يقولون عندما يقع أوروبي في الحب يتزوج.. ولكن عندما يقع عربي في الحب يتزوج إمرأة أخرى.
وكأن مخرجنا نبيل عيوش, قد صاغ, هذا المشهد تحديداً, ليجعل لولا تضيف بمقولتها هذه "بلة" فوق الطين, ليقوم فقط, بإعطاء الغرب ما يريدونه عن شكل الحياة بمصر والشرق, وتكتمل الصدف (عندما نفاجيء أيضاً أن "ناصر" وكيل أعمال لولا, هو نفسه الذي الرجل الذي خانت أسمهان – التي لعبت دورها الممثلة الموهوبة "كارمن لبس " – زوجها معه منذ سنوات ).
قبل أن ننتهي من الحديث عن هذا الفيلم يجب الاشارة الى "كارمن لبس" هذه الممثلة الموهوبة والتي لعبت دور الراقصة المعتزلة "أسمهان", فاستطاعت عن طريق تعابير الوجه والعيون وحركة الجسد أن تخلق طابعاً مميزاً لشخصية أسمهان, وإن لم يخدمها السيناريو, ولم تساعدها باقي العناصر الفنية.

"يا خيل الله".. و الخطوات الاولى لكان :-
شارك الفيلم الصادر عام 2012, كما ذكرنا في السابق بمسابقة "نظرة ما" ضمن مسابقات الأقسام الموازية بالمهرجان, كما فاز بجائزة "فرانسوا تشالي" التي تنظم على هامش المهرجان, الفيلم مقتبص من رواية "نجوم سيدي مؤمن", الذي كتبها الفنان التشكيلي المغربي "ماحي بينبين", تدور أحداث الرواية حول الأحداث الإرهابية المتفرقة التي قد وقعت بمدينة الدار البيضاء عام 2003, ويعد هذا هو العمل السينمائي الوحيد لنبيل عيوش المأحوذ عن نص أدبي الى الآن.
على غرار بداية فيلم "علي زاوا", نرى مجموعة من الصبية يلعبون الكرة, بإحدى حارات حي "سيدي مؤمن", لتدخل مجموعة أخرى من الصبية لضربهم, فيتدخل إحدى الفتيان الأكبر سناً لينقذهم ويفروا مسرعين.
تضعك هذه البداية الساخنة في قلب دراما الفيلم دون تمهيد أو (إستهلال), فيأخذك الفيلم, الأشبه بالعمل "الملحمي" – عن هذا الحي وهؤلاء الصبية منذ نشأتهم الأولى الى شبابهم ومراحل حياتهم المختلفة – في عمل يضم كثير من اللقطات "التسجيلية", الموضعة بإحكام دون خلل أو إرتباك جنباً الى جنب مع "الروائية", داخل الشريط السينمائي.
إستخدم المخرج اللقطات الوثائقية هنا لإضفاء هذا الحس "التسجيلي" على فيلمه و قام ايضا , بإستحدامها لعمل بعض النقلات "المونتاجية", لتفصل بين زمناً وآخر.
فالنصف الأول من الفيلم أشبه بأفلام "السيرة الذاتية", وأعني بالسيرة الذاتية هنا, ليس بالضرورة أن الفيلم بمثابة "تجسيد" لتجربة المخرج, كما قدم بعض كبار مخرجي السينما العربية من قبل , ولكن لتقديم "نبيل عيوش" هذا الواقع بمنتهى الحميمية , وكأن مخرجنا كان يوماً جزء من هذا الحي, عاش فيه لسنوات بل لعقود, وكأن هؤلاء الصبية كانوا يوماً أصدقائه بالفعل, وهذه العائلة – عائلة بطل الفيلم "طارق" – كانت تخصه هو, فشاهدنا أغلب أحداث النصف الأول من الفيلم, بعين بطله "طارق", و من زاوية, تشبه زاوية أو عين المخرج, على غرار أفلام " السيرة الذاتية", فلم نرى مشهداً, في أغلب الأحوال, الا من وجهة نظر "طارق", بخلاف بعض المشاهد القليلة التي شاهدناها بعين موضوعية "عين المخرج", فنرى "حميد" الأخ الأكبر لطارق والذي يعتبر دخوله السجن تغيير جذري ومحوري لدراما الفيلم, نراه بالنصف الاول من الفيلم من وجهة نظر "طارق" , او كما رأه طارق , بالاضافة الى الصديق المقرب لطارق ,"نبيل" , والذي يشاركه رحلته منذ الصبا الى الشباب, والذي تؤدي محاولة التحرش به من قبل الأسطى – الذي يعمل لديه طارق ونبيل بالورشة – الى تغيير جذري بدراما الفيلم, فيقتل "طارق" الأسطى فتنقلب حياة طارق ونبيل رأساً على عقب.
هنا يجب الإشارة الى ملمح هام ومميز بسينما "نبيل عيوش", قد ظهر منذ فيلمه الأول "مكتوب" عام 1997, أن (شخصيات أفلامه دائماً تسير وفق ظروف لا يخترونها, فهم أبطال مسيرون في أغلب الأحوال, تؤدي بهم الظروف الى قدرهم المحتوم.
قد تكون هذه الظروف في بعض الأحوال غير مقنعة للمشاهد, وغير مبررة درامياً بشكل كافي مثل فيلم "مكتوب", وقد تكون على خلاف ذلك مثل فيلم "خيل الله", فلقد استطاع المخرج بالنصف الأول للفيلم, التعبير عن هذا الواقع المليء بالقسوة والفقر داخل هذا الحي الصغير بالمغرب , وعن طموح هؤلاء الفتية وأحلامهم التي تصتدم بالجماعات الاسلامية بالجزء التاني للفيلم , فنراهم يتحولون الى متطرفين يفجرون أنفسهم بأيديهم.
فقط أعيب على مخرج الفيلم "نبيل عيوش", إن جاز التعبير, إنه بالنصف الثاني للفيلم قد غفل عن بعض التفاصيل, الرقيقة , التي قد ميزت هؤلاء الصبية , والتي منحت الخصوصية لهذا العمل , فالتفاصيل الموحية (بالصداقة) والتي أضفت على الفيلم الكثير من الحميمية , كما أشرنا من قبل, قد غفلتها عين المخرج بالنصف الأخير من الفيلم, فتحول الفيلم بنصفه الثاني , الى فيلم بالتأكيد هو (جيد الصنع) , و لكن على غرار افلام اخرى جيدة , قد تناولت قضايا الارهاب , تاركا المخرج بإرادته ملامح الخصوصية , التي حملها بالنصف الاول من الفيلم.
بإستثناء مشهداً واحداً على سبيل الحصر, قد جمع هؤلاء الشباب قبل القيام (بالعملية الإنتحارية), وهو عند دخولهم إلى إحدى الغابات بالمغرب, والتي كانت بمثابة معسكر لهم , فنسى كلاً منهم (العملية) للحظات, إختزلها على الشاشة في دقائق, بإقتدار المخرج "نبيل عيوش", فأخذوا يلعبون الكرة بالمياه, ويهرولون فرحين بهذه الطبيعة الجميلة التي لم يرونها من قبل, فهم الذين لم يخرجوا من حيهم الفقير, البائس طوال حياتهم إلا في هذا المشهد.
وعلى غرار باقي أفلام نبيل عيوش بأستثناء فيلم ( علي زاوا ) جاء الطابع البصري العام للفيلم معبراً عن ما يريد قوله من معنى في إيجاز, ودون رغبة منه, في خلق أبعاد "جمالية" أو تشكيلية ما, فتأتي الصورة في أغلب الأحوال في ابسط تكوين لها , لتعبر عما في داخل السيناريو من معنى , كما كان استخدام الاضاءة كمعظم افلامه , لتأتي من مصدر معلوم داخل الكادر السينمائي (available light ) , فتلعب دوراً هاماً في إظهار هذا الحس (الواقعي) على صورته السينمائية.

"الزين اللي فيك".. وجعجعة بلا طحن!! :-
أثار فيلم "نبيل عيوش" الخامس "الزين اللي فيك" الجدل والبلبلة, منذ تسريب وعرض بعض لقطات من الفيلم على (اليوتيوب), فأثارت هذه اللقطات حفيظة الكثيرون, خصوصاً من الجمهور المغربي, الذين قاموا بالهجوم على الفيلم في محاولة منهم لوقف عرض الفيلم داخل المغرب , فقد رأوا بهذه المشاهد ما يسيء الى دولة المغرب و نساءها ! , ولكننا هنا لسنا بصدد الإجابة على هل سؤال هل الفيلم مسيء للمغرب أم لا ؟, لأننا بكل حال من الأحوال لسنا مع المنع أو مقابلة أي عمل فني بهذه الإتهامات, والمعايير الأخلاقية (غير الفنية).
يعرض "الزين اللي فيك" حياة مجموعة من "بائعات الهوى" اللآتي يعملن بالجنس بالمغرب, فيقترب الفيلم من عالم الليل وحياة ( العاملات بالجنس ) , ولكن يقف الفيلم عند مرحلة "عرض الحال" وفقط.. فلا نرى دراما بالمفهوم المتعارف عليه, التي تبنى بالتراكم شيئاً فشيئاً طوال مدة الفيلم, صحيح يحاول المخرج أن يجعلنا نتعاطف مع هؤلاء النسوة, عن طريق مزيد من مشاهد الإغتصاب أثناء قيامهن بعملهن اليومي , أو مضايقات الشرطة لهن أو إبتزاز الزبائن, وغيرها...
فجاء تقديم هذه المشاهد بكثير من الفجاجة و المباشرة , فحاول ان يضفي مخرجنا على الفيلم شىء من السمات ( الرمزية ) بالتناول الدرامي , بتقديم بعض المشاهد التي تعكس تدهور الحال بالمغرب من فقر مدقع , في محاولة ربط بين حال المغرب الاقتصادي و ما يقدمونه هؤلاء النسوة من بيع جسدهن بشكل يومي لأثرياء الخليج ! .
لكنه لم يستطيع أن يخلق شخصيات غنية (لحم ودم) , فلا نرى في أغلب المشاهد سوى العهر وإجتذاب الزبائن وفقط! دون خلق مساحات متنوعة, أو تناقضات ما داخل شخصية كل واحدة منهن, أو خلق صفات خاصة بعيدا عن عملهن اليومي الذي يوحدهن جميعهن وكأنه عملاً مبتوراً يقف فقط عند المقدمات بعملية البناء الدرامي, دون أن يكمل باقي السطور!.

"غزية"...والرهان على المحرمات :-
يبدو إن نبيل عيوش يحاول دائماً الرهان على الأفكار ذات الصدى اللامع, خصوصاً لدى (الغرب), فإنطلاقاً من قضية الإرهاب بفيلم "خيل الله" لتقديم عالم الليل و بائعات الهوى بالمغرب بفيلم "الزين اللي فيك", يراهن عيوش بفيلمه السادس "غزية" الصادر عام 2017, و قد شاركته كتابة السيناريو زوجته "مريم التوزاني", كما تقوم مريم ايضا بلعب دور البطولة هنا بالفيلم فتؤدي دور "سليمة".
يقدم "عيوش" عدة شخصيات داخل زمنين مختلفين بالمغرب, كلاً منهم يعاني من إحدى مشاكل الحريات, فمن التسلط الديني الذي يعاني منه "جو" اليهودي الديانة إلى أحد المشاكل الزوجية بين "سليمة" وزوجها, إلى أزمة الهوية الجنسية التي تبحث عنها إحدى الفتايات المراهقات والتي تدعى "إيناس", فكلها موضوعات ساخنة, يستطيع كل واحداً منهم أن يبنى عليه فيلماً, ولكن يحاول عيوش أن يضعهم جميعاً جنباً الى جنب داخل عمل سينمائي واحد, ببناء سردي متشابك و مركب أشبه بالبناء السردي لفيلم (ماغنوليا), الصادر عام 1999 إخراج "بول توماس أندرسون", فلكل شخصية في ( غزية ) مسارها الخاص تتقاطع لتشتبك أحياناً مع شخصية أخرى من شخصيات الفيلم, لتكون في النهاية البناء الدرامي للفيلم.
ولكن هل كانت أزمات شخصيات فيلم "غزية" مقنعة؟ للأسف جائت أغلب أزمات الشخصيات مفتعلة وغير مبررة ولكنها فقط جائت لتحمل عنواناً أو (مانشيتاً) ضخماً, فشخصية "سليمة", التي نراها تحمل من زوجها , و تبحث طوال مدة الفيلم عن فرصة لإجهاض طفلها!, فنرى الممثلة "مريم التوزاني" التي لعبت دور "سليمة" وهي محملة طوال الوقت بمشاعر التعاسة من زوجها دون الإشارة لنا بالأسباب, أو حتى إعطاء المتفرج تفاصيل دالة على ملامح هذه "المعاناة".
كما جائت شخصية "جو" اليهودي الديانة , والذي نراه يشكو هو ووالده من التعصب الديني بأغلب مشاهد الفيلم ولكنه يملك مطعماً فخماً وباراً, ويبدو عليه الحياة المرفهة طوال الوقت.
و لكن حاول المخرج إقناعنا بهذا التعصب الديني بمشهد يضم "جو" مع فتاة قد أخذها من الشارع وراحت تقابله عدة مرات, وفي مرة اثناء لقائهما معا , ترى صورة له ببيته مع أحد (الحاخامات) فتتعرف على هويته الدينية وتغادر شقته غاضبة.
ففي رأيي أن الأزمة الأولى والكبرى عند المخرج الموهوب "نبيل عيوش" هو البحث الدائم عن العنوان أو "المانشيت"بأفلامه – الذي في بعض الأحيان يضعه لكي يجذب مشاهد ما بعينه – فهو يبحث عن هذا (المانشيت) قبل البحث عن الدراما نفسها.
فيا ترى هل فيلمه الأخير "علي صوتك" - الذي سبق و ان عرض مؤخرا بمهرجان كان السينمائي الدولي و الذي سوف يطرح قريبا بدور العرض السينمائية - هل حاول "عيوش" فيه الإنسياق وراء الدراما بمفهومها الواسع والعريض, دون الإنشغال (بالمانشيت) الجاذب للمتفرج "الغربي" تحديداً, أم أنه أيضاً قد خدم (المانشيت) على حساب (دراما الفيلم).







التعليقات :

أحدث المقالات