ملامح من شخصية الفتى الإسبانى الذى أصبح بمفرده تيَّارا سينمائيا

أحمد الكيال 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : أحمد الكيال


ملامح من شخصية الفتى الإسبانى
الذى أصبح بمفرده تيَّارا سينمائيا
أحمد الكيَّال
فى مطلع القرن الماضى، وتحديدا فى الثانى والعشرين من فبراير عام 1900، وُلِد فى قرية كالاندا القريبة من مدينة سرقسطة شمال شرق إسبانيا (لويس بونويل).
(لويس) كان الابن الأكبر لمالكِ أراضٍ غَنِى, لم يلبث فى القرية أكثر من أربعة أشهر؛ لأن أسرته سُرعان ما انتقلت إلى منزل هائل فى مدينة سرقسطة، يشغل طابقا كاملا فى مبنى ذى طابع برجوازى (على حد وصف لويس بونويل).
بدأت عَلاقة (بونويل) بالسينما فى عام 1908، فى مكانٍ يدعى (ڤاروثينى)، وشاهَد يومها فيلم رسوم متحركة لخنزير يغنِّى ويتلفَّع بشال ذى ألوان ثلاثة. كان الصوت يأتى من جهازٍ وُضِع خلف الشاشة، وكان الفيلم بالألوان، ممَّا يعنى أنهم قاموا بتلوينه صورةً فصورة. وكان يشاهد الأفلام من نافذة ابنة عمه القريبة من السينما فيما بعد.
يظهَر جَلِيا لِمَن يقرأ مذكرات (لويس بونويل)، أنه كان يحمل لوالديه حبا جما، واحتراما كبيرا؛ حيث إن موت والده قد أثَّر فيه بشكل بالغ، حتى أنه ظلَّ يرى والده فى سريره وفى المنزل بعد وفاته. وتحدَّث بتأثُّرٍ بالغٍ أيضا عن لقاءاته الأخيرة بوالدته، وكيف أن عدم تذكُّرها له بسبب الشيخوخة، ترك لديه انطباعا ومعنى جديدا عن ذاكرة الإنسان وأهميتها.
ولكن حبه الكبير لهما، لم يمنعه من أن يكون شيئا لم يَوَدَّا أن يكون عليه... فنَّانا!
ذاتَ مرَّةٍ سأله أبوه: "ماذا تودُّ أن تكون عندما تكبر؟". فأجاب أنه يحلم أن يكون مؤلفا موسيقيا، ويكمل دراسته فى (سكولا كانتوروم) بباريس. فاستاء والده قائلا: "الموسيقيون يموتون جوعا. من الأفضل أن تحلم بمهنة جادَّة".
كذلك فإن أباه الذى توفى عام 1923، لم يشاهد فيلما واحدا طِيلةَ حياته، بل ورفض ذات مرة تمويل شبكة سينمائية فى معظم مدن إسبانيا، بدعوى أن السينما لا تبدو له أكثر من لعبة مشعوذين، ولا تُوحِى له إلا بمنتهى الازدراء.
وفى عام 1928، عندما علمت أمه بنيَّته القيامَ بصناعة أول أفلامه (كلب أندلسى)، أصابتها حالة من الحزن الشديد، وَصَفها بونويل نفسه بأن قال: "أصاب أمى حالة من الأسى، وكادت تبكى كما لو أننى قلت لها: «ماما أريد أن أصبح مهرِّجا»! إلى أن توسَّط صديق للعائلة، فأقنعَها، ولكنها لم تشاهد فيلمى الأول الذى موَّلته".
كما يقول (لويس) عن والده: "كان أبى لا يعمل. يستيقظ فيغتسل، ثم يُفطر ويقرأ الصحف، ويذهب لشراء النبيذ والكافيار وعلب السجائر التى تأتى خصِّيصا من هاڤانا. كما أنه كان لا يحمل حاجياته التى اشتراها بنفسه، بل كان يحملها له خادم؛ إذ إنه لا يليق أن يفعل ذلك رجلٌ فى مستواه. هذا ما كانت تقضى به التقاليد الاجتماعية. وفى المساء، كان يذهب هو وأمى أحيانا إلى المسرح".
المثير فى الأمر أنه لم ينفك عن انتقاد هذا النموذج البرجوازى من العَيْش فى كل أفلامه. لم يمنعه حبه الشديد لوالديه من ذلك.
درس بونويل لمدة 7 سنوات فى مدرسة (المُخَلِّص)، التابعة لطائفة اليسوعيين. ورغم أنه كان طالبا مجتهدا، إلا أنه كان أيضا مشاغِبا متمرِّدا. وعلى الرغم من انزعاجه من النظام الصارم لهذه المدرسة، إلا أنه قال عن تلك الفترة: "على الرغم من طبيعة ذلك النظام مع الصمت والبرد، فإننى أحتفظ بذكرى طيبة من مدرسة (المُخَلِّص). لقد كنت طالبا جيِّدا، غير أن تصرُّفاتى كانت من أسوأ التصرُّفات فى المدرسة، وخلافا لمعظم أصدقائى. وعلى الرغم من شروط الحياة غير المريحة، وعلى الرغم من البرد والملل، فإننى أحتفظ ببعض الذكريات الجيدة عن اليسوعيين، وعن الخدمة العسكرية؛ فهناك رأيت وتعلَّمت أشياءَ لا يمكن تعلُّمها فى مكانٍ آخر".
كان (بونويل) قد قضى مدة أربعة عشر شهرا فى الخدمة العسكرية، فى سلاح المدفعية، وكان يودُّ الهروب لأن أمرا بإرسالهم لقمع ثورة (عبد الكريم) فى مراكش قد صدر، ولكنه تراجع عندما أُلغِىَ الأمر فى اليوم التالى.
فى عام 1917، انتقل (لويس) إلى مدريد ليكمل دراسته، وهناك أقام فى المدينة الجامعية. لم يُوَفَّق فى دراسة الهندسة الزراعية، ولم يجد نفسه أبدا فى دراسة الهندسة الصناعية – كانت تلك الاختيارات تبدو وكأنها إرضاء للوالد. وسرعان ما انتقل إلى دراسة علم الحشرات، وعمل لمدة عام فى متحف التاريخ الطبيعى، ثم علم بأنهم يطلبون فى فرنسا أساتذةً مساعدين للُّغة الإسبانية، فدرس تاريخ الفلسفة حتى يتمكَّن من السفر.
فى مدريد، تعرَّف والتقى وصادَق أهمَّ الأدباء والمثقفين فى إسبانيا. وفى منتدى مقهى بلاتيرياس، تفتَّح وعيه، وبدأ يُكوِّن وجهة نظر سياسية، مع ميلاد الحزب الشيوعى الإسبانى، وظهور الفوضويين؛ لكن صداقته الوطيدة والعميقة كانت مع كلٍّ من الشاعر (رافائيل ألبرتى) والشاعر (فيديريكو لوركا) والرسَّام (سلڤادور دالى).
الصداقة عند (بونويل) تفاهُم واتِّساق، ورُفقة ومُنجَز مُشترَك. تأثَّر كثيرا بموت (لوركا) أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. أنجز أول فيلم سريالى فى تاريخ السينما، وهو (كلب أندلسى)، عام 1929 بمشاركة (سلڤادور دالى)، وعمل مع صديقه الفرنسى (جان كلود كاريير) منذ 1963، ولمدة 20 عاما، على الكتابة المشتركة لأفلامه.
أُعلِنَ فى عام 1925 أنه ستنشأ فى باريس منظمة تُدعَى (الجمعية الدولية للتعاون الفكرى)، وكانت تحت إشراف (عصبة الأمم). طلب (بونويل) من مدير المدينة الجامعية أن يكون سكرتيرا لمندوب إسبانيا فى تلك المنظمة. قُبِل طلبه، ولكن لأن المنظمة لم تكن قد أنشئت بعد، طلبوا منه الانتقال إلى باريس والانتظار هناك، وتحضير نفسه بقراءة صحيفة Le Temps وصحيفة Times كى يُتقن الفرنسية، ويبدأ صِلَته باللغة الإنجليزية.
دفعت له أمه أجرة السفر، ووعدته بأن ترسل إليه المال شهريا.
باريس كانت المدينة المناسبة لانطلاقة (بونويل). هناك كَوَّن أول اتصال حقيقى عن الثقافة الفرنسية، خلال محادثة مع إحدى فتيات اللهو فى الملهى الصينى، وكان أمرا مدهشا بالنسبة له، لم يرَه من قبل فى إسبانيا، ثم اندهش بشدة من تبادُل رجل وامرأة القبلات فى الشارع، أو إمكانية أن يعيشا معا فى بيت واحد دون رابطة الزواج. بدت له هذه الأمور عادات فاحشة. كانت هذه الأشياء، على حد قوله "تُفصِح عن هوَّة بعيدة بين فرنسا وإسبانيا".
عَلاقة بونويل بالجنس والعلاقات العاطفية، كان بها الكثير من التعقيد، نتيجة النشأة المحافظة؛ فكما كان يقول عن ذلك: "نحن جيل لديه خَجَل متوارَث من النساء، ورغبة جنسية كبيرة. لحسن الحظ أننا لم نكن نعرف شيئا عن المِثليَّة ونحن صِبيَة".
وبعد فترة وجيزة من وصوله إلى باريس، كان يسكن هو وزميلاه فى سكن مشترك. قَدِمَت ثلاث فتيات للسكن بجوارهم فى نفس الحى. يقول (بونويل) عن ذلك اليوم: "كانت إحداهن تُدعَى جان روكار، وقد بدت بالنسبة لى جميلة جدا. كانت تدرس علم التشريح، وحائزة على ميدالية برونزية فى الدورة الأوليمبية عام 1924، التى أقِيمت بباريس. جاءتنى فى الحال فكرة مكياڤيلِّية ساذجة. كان ضابط خيَّالة إسبانى قد أخبرنى عن مستحضَرٍ مُقَوٍّ للقدرة الجنسية، قادر على قهر أعتى مقاومة. اقترحت الفكرة: ندعو الفتيات الثلاث، نقدِّم لهن الشمبانيا، ونضع لهن فى الكأس بعض النقاط من هذا المستحضر. لكن زميلى فى السكن أجابنى أنه كاثوليكى، ولا يمكن أن يشارك فى دناءة كهذه على الإطلاق. لم يحدث أى شيء، باستثناء أننى أصبحت، فيما بعد، ألتقى باستمرار بـ (جان روكار)؛ لأنها، مع الأيام، أصبحت زوجتى، وما تزال".
كانت باريس تُعتبَر العاصمة الفنية للعالم. كان بها أكثر من خمسة وأربعين ألف رسام. تقابل (بونويل) مع أشهرهم، حتى إنه تقابل مع بيكاسو، ولكنه لم يُحِبه. فى فرنسا أيضا تعلَّم الرقص، وتعلَّم العزف على آلة البانجو، ثم قام بإخراج عرض مسرحى من تأليفه، فكان السبيل لإخراجه عرضا آخر فى أمستردام.
استمرَّ (بونويل) فى حبه للسينما. كان يذهب إلى السينما ما يقارب ثلاث مرات يوميا، وكان يكتب المقالات النقدية عن تلك الأفلام التى يشاهدها، لصحيفتين فى فرنسا، وأخرى فى مدريد.
يقول بونويل: "إن أكثر الأفلام التى أثَّرت فِىَّ الفيلم الروسى (المدمرة بوتمكين). لدى الخروج من العرض، كدنا أن نضع المتاريس، ولزم أن يتدخَّل البوليس. خلال سنوات طويلة، كنت أرى هذا الفيلم الأفضل فى كل تاريخ السينما. الآن، لست أدرى".
عندما شاهد بونويل فيلم los Nibelungos وفيلم ميتروبوليس، تأكد من أنه يريد أن يكون سينمائيا. ولكنه سأل نفسه كيف ذلك وهو إسبانى، وناقد فى المناسبات، وليس لديه تلك التى تسمَّى (عَلاقات)؟
وبسبب معرفته باسم المخرج (جان إيبشتاين)، ذى الأصل الروسى، وعِلْمِه أنه سينشئ معهد ممثلين، ذهب وسجل نفسه على الفور، وشرع فى التدريبات الخاصة بذلك المعهد. وعندما علم أنه يحضِّر لفيلم Mauprat، ذهب لمقابلته، وقال له:
"أعرف أنك بصدد صناعة فيلم. إننى أهتم بالسينما كثيرا، لكننى لا أفهم شيئا فى الأمور التقنية، وربما ليس باستطاعتى أن أكون نافعا بالنسبة إليك، إلا أننى لن أطلب نقودا. دعنى أقوم بدهان الديكور، أو تبليغ الأوامر، أى شيء...".
وافق (إيبشتاين)، وشارك (بونويل) بشيءٍ قليلٍ من كلِّ شيء، حتى إنه عمل كبديل لممثلين فى مشاهد السقوط فى إحدى المعارك.
ثم عمل معه كمساعدٍ ثانٍ، فى فيلمه التالى (سقوط بيت آشر). وبعد تنفيذ المشاهد الداخلية للفيلم، طلب المخرج منه مساعدة صديقه المخرج (آبل غانس)، فرفض (بونويل) متحجِّجا بأنه لن يساعد غيره، كما قال بفظاظته المعتادة: "إن (غانس) يبدو لى مُخرِجا مبتذلا". وهذا ليس حقيقيا؛ حيث كان مُعجَبا بأفلامه، خصوصا فيلم نابليون. فردَّ عليه (إيبشتاين): "كيف يجرؤ أجدب صغير مثلك على الحديث هكذا عن مُخرِج بهذه الأهمية؟! عملك قد انتهى معى".
ولم يكمل معه الفيلم. ولكنه استمرَّ بالعمل هنا وهناك.
أثناء زيارة (بونويل) لصديقه (دالى) فى إسبانيا، تلبيةً لدعوة الأخير، حكى له عن حلم رآه: "غيمة تقطعُ القمر، وموس حلاقة يشقُّ عينا". وردَّ عليه دالى بأنه رأى فى الحلم: "يدا مَلأى بالنمل". ثم أضاف (سلڤادور): "إذا انطلقنا من هذا، فهل نستطيع أن نصنع فيلما؟".
كانت هذه هى الخطوة الأولى فى صناعة الفيلم السريالى الأول فى تاريخ السينما، وفى لقاء بونويل ودالى لاحقا بكلٍّ من (مان راى) و(لويس أراغون)، اللذَين قدَّماهما لكلٍّ من (أندريه بريتون) و(ماكس إرنست) و(بول إيلوار) و(رينيه شار)، لينضمَّا إلى المجموعة السريالية.
وفى العرض الأول لفيلم (كلب أندلسى)، كانت مفاجأة مدوِّيَة لـ (بونويل)، عندما سمع دَوِىَّ التصفيق، من نخبة باريس التى حضرت لمشاهدة الفيلم؛ ولذلك فقد تخلَّصَ من الحجارة التى كان قد وضعها فى جيبه، كى يتشاجر بها مع الجمهور، عندما يبدأون فى الاستنكار والصفير وتوجيه السباب للفيلم! لينطلق بعدها (بونويل) فى إبداعه الفنى، بإنتاج غزير، يُقدَّر بأكثر من ثلاثين فيلما، والعديد من الجوائز السينمائية، أبرزها (كان) و(الأوسكار)، ليبقى (لويس بونويل) حيا فى ذاكرة السينما العالمية، وذاكرة السريالية الفكرية والفنية.

 
 
 

التعليقات :

أحدث المقالات