الكاتب : سامح سامي
أرجو ألا يوهمك عنوان المقال بأن "البديل الحالم" المقصود هنا نازل من السماء، له أجنحة، ومحمي من الانتقاد، أو معفي من المساءلة.. فالسينما المستقلة ليست ملاكـًا نورانيًا له عيون الإله، يحلِّق بعيدًا عن السلبيات، أو يطير عاليًا - بمبالغة شديدة - فوق مستوى النقد البنَّاء.
هذا هو العدد الثاني لمجلة الفيلم الذي يتم تخصيصه لموضوع السينما المستقلة/ البديلة. لكنه هو الموضوع الأساسي، وركيزة مجلة الفيلم منذ العدد الأول حتى العدد الأخير، بل هو هدف أساسي لعمل جزويت القاهرة "جمعية النهضة العلمية والثقافية". لكن ما هو الفيلم المستقل؟ وما المقصود بالاستقلال هنا؟ وهل الاستقلال يقدر عليه أي إنسان في الكون؟ وكيف يتم الاستقلال في صناعة الأفلام؟ وهل السينما المستقلة المصرية تتمثل فقط في إنتاج فيلم منخفض التكاليف؟ أما السؤال الأهم هو: كيف ونحن نبحث عن "بدائل" لصناعة الأفلام المستقلة نصبح "عبيدا" في سجون التمويلات والمنح الانتاجية، مربوطين بسلاسل حديدية من قوانين هنا ولوائح ورقابة ضد الحركة والحرية هناك؟.
(2)
تعلمت أن السينما هي فن وتجارة واختراع.. فكيف تكون السينما المستقلة محققة للأمور الثالثة؟ وهل لابد من ذلك؟
السينما بالضرورة فنية، سواء تجارية أم غير تجارية (تعبير مجازي ليس أكثر، وخيالي غير موجود)، وأية محاولة لجعل السينما بعيدة عن الفن، هي مجرد لقطات مصورة مصحوبة بحوار وصوت. ليست فيلما، وليست سينما.
السينما بالضرورة تجارية؛ لأنها صناعة في الأساس، تحتاج إلى "مال" حتى لو قليل، فهي وسيط فني جماعي، وليس عملا فرديا مثل الأدب، الذي يحتاج أيضا في إنتاجه مالا للطباعة والتوزيع وحقوق المؤلف والناشر لكي يستطيع تكملة مشواره. السينما المستقلة تجارية، ويجب أن تبحث عن "الربح" القليل للاستمرارية. لكن ما هي التجارة هنا؟ وكيف التوازن بين الفن والتجارة. وربما المصطلحات الجديدة المسماة "الاقتصاد الإبداعي" تخفف من حدة ما أقوله عن السينما التجارية، وليس كل "سينما تجارية" قبيحة، وليس كل "سينما مستقلة" فنية وجميلة وممتعة.. هذا وهم وفخ وتعالٍ.
السينما ناتجة عن اختراع في الأساس أيضًا، وتستفيد من كل اختراع لاحق، والسينما المستقلة استفادت من اختراع كاميرات "الديجيتال"، ذات التكلفة المنخفضة. لكن ليس كل سينما منخفضة التكاليف "مستقلة". أو لنعتبر سينما المقاولات سينما مستقلة.
وبعيدًا عن تعريفات السينما المستقلة، والتي نطرحها هنا في هذا العدد للفهم أولا، ثم لتجاوز هذه النقطة ثانيًا، فالمعضلة هنا ليس التعريف الجدلي للسينما المستقلة، وهل السينما، حسب دراسات عديدة، منها دراسة محمد ممدوح، التي أكدت أنها "تجربة إبداعية حرة تماما ومستقلة لا ينال من حريتها او استقلالها أي عامل خارج التجربة الإبداعية ذاتها.. ويكون المخرج الذي يصنع أفلاما مستقلة مسيطرا تقريبا على كل عناصر عمله الفني، كالسيناريو والتصوير والمونتاج، فيما يقترب من مفهوم سينما المؤلف".. إنما المعضلة هي كيف نقدم الجمالي والفني دون ملل؟!. السينما متعة حتى وإن كانت تتناول موضوعا فلسفيا، بدون المتعة تفقد السينما أحد أبرز عناصرها، فتتحول إلى خطب مباشرة مملة، لكن بصورة حلوة.
السينما المستقلة تطرح دائما البدائل الممكنة في كل مراحل الصناعة، إلا أن أهم ما يميزها من وجهة نظري أنها مستقلة عن السائد، دائما تطرح الجديد في الأفكار والتناول والمعالجة؛ لأن هناك أفلاما كثيرة منخفضة التكاليف وتم تصويرها بـ"ديجيتال" لكنها بنت التجارة السائدة وبنت الأفكار ذاتها المستهلكة، وبـ"تيمة" مكررة تتمثل في "بلطجي وراقصة وحي شعبي". السينما المستقلة المنشودة لديّ هي سينما ثقافية تقدم فكرة للتغيير بشرط أن تكون ممتعة، مصنوعة بطرق بديلة عن السائد سواء إنتاجيا أو فنيا. فالسينما ليست مقصورة على الفئات القوية فقط من المجتمع التي تملك الثروة - القدرة المالية - والنفوذ وشبكة العلاقات والمصالح.
(3)
هنا على بُعد عدة أمتار من هذا المبنى الذي أكتب فيه هذا المقال، ومنذ 18 عاما عُقد الملتقى الأول للسينما المستقلة بنادي السينما "قاعة الجزويت ــ مدرسة العائلة المقدسة" برمسيس، وقتها افتتح الأب وليم سيدهم الملتقى بكلمة محورية أن "السينما المستقلة كلمة تحمل معانى كثيرة قد تكون نبيلة أو هزيلة. ومن المعاني النبيلة، القدرة على الإبداع، والرغبة في التعبير الحر عن هذا الإبداع من خلال الصورة المرئية، وما تحمله من رسالة". ذلك الملتقى حضره العديد من الأسماء البارزة وقتها، مثل الأستاذة عطيات الأبنودي التي كانت تعلق وتشتبك مع المخرجين الشباب وقتها في الأسئلة والأجوبة، أمثال تامر عزت، أحمد رشوان، أحمد حسونة، أدهم الصفتي، أحمد ماهر، محمد نصار، عماد أرنست، نادر هلال، سارة عبد العزيز، وطاهر عناني، فضلا عن مشاركة محمد عبلة وحازم متولي وشادي النشوقاتي وهالة منصور وحسن خان ومحمد أبو النجا وخالد حافظ والفنانة الصينية بنج بن بن.
ورغم كلمة الملتقى التي ركزت على "الرغبة في التعبير الحر" فإنه كان هناك كلام مطروح أن السينما المستقلة مفهوم إنتاجي أكثر منه مفهوما فنيا؛ لكونها "سينما تصنع بإمكانات محدودة سواء من قبل شخص أو من قبل شركة صغيرة بعيدا عن المؤسسات الكبيرة والجهات الرسمية. لكن مسألة الاختلاف فهي طموح للبعض قد يبدو ملحوظا في بعض الأفلام، وقد يغيب في أفلام أخرى، فليس بالضرورة الفيلم المستقل يكون مختلفا فنيا".
إلا أن الأستاذة عطيات الأبنودي قالت بوعي شديد:"قدرت أشوف 6 أفلام للسينما المستقلة، والسينما المستقلة هي ملهاش علاقة اوي باللي بيتصرف عليها، أنا شايفة في الـ 6 أفلام مستوى تصوير عالي جدا، محاولة جادة جدا من كل المصورين في الـ 6 أفلام أنهم يعملوا صورة شكلها مختلف عن اللي بنشوفه السنة دي، وأفكار مختلفة عن اللي بنشوفها السنة دي، لكن ليَّ ملحوظة لو حللنا الأفلام دي الي عناصرها "الصوت، الصورة، السيناريو" أنا بشوف أنها تقليدية، يعني انا مشوفتش حد فيهم في ال6 افلام خارج المونتاج، كما أُنزل يعني اطلع من الكادر واخرج من الكادر الايد تترفع كده يبقي الحركة التانية كدة بالمسطرة. كان كل مخرج فيكم عايز يقول أنا بعرف اعمل فيلم كويس وده صحيح انتو فعلا بتعرفوا تعملوا افلام بشكل تقليدي كويس لكن مفيش حد فيكم قرر يعمل فيلم مثلا يعني زي ما حصل في تاريخ السينما، وفيه تجارب وتجارب قديمة جدا لما طلع كودار وعمل فيلم كله هاند كاميرا وفي لقطة 8 دقايق ومحدش خرج بره الاطار التقليدي يعني تسمية مستقلة عن إيه. أنا كنت متخيلة أن السينما المستقلة دي حد جرب يخرج بره الاطار التقليدي، لكن أنا أشهد أني شوفت أفلام لمخرجين من الممكن أن يكونوا مخرجين كبارا جدا في الإطار التقليدي".
تعليق الأستاذة عطيات الأبنودي أشار لمثله في هذا العدد المخرج أحمد أبوالفضل في مقاله حينما قال:"وهنا أحب أن أطرح السؤال مرة أخرى: هل هذا النموذج البديل (عبر التمويلات) هو نموذج مستقل؟ أم أنه نموذج بديل عن النموذج التجاري، لكن له توقعات وتدخلات بشكل ما تؤثر على استقلال الفيلم. لا تخبرك المنحة بالموضوع الذي يجب أن تصنع فيلمك حوله في الغالب، لكنها تختار ما تراه مناسبًا لأجندتها، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو نسوية...إلخ، أو ما تراه لجنة الاختيار، بناءً على ملف الفيلم، بما في ذلك من اعتبارات فنية كذلك، وبمرور الوقت، يصبح هناك ما يشبه الانتخاب الطبيعي لموضوعات وجماليات بعينها، وتتلاشى موضوعات وجماليات أخرى من الوجود، قد تكون صانع أفلام محظوظا توافق موضوعاتك التي تحب أن تصنع عنها أفلامك هذه الموضوعات، وقد تكون سيئ الحظ ولا تجد في عملية الانتخاب الطبيعي تلك ما يساعدك على إنجاز فيلمك، وإلا فإن عليك أن تختار من بين مشاريع أفلامك ما يناسب المنح والمهرجانات، وهي بداية كفيلة في اعتقادي بتهديد معنى الاستقلال من أساسه.
كما أن دور الجمهور قد تراجع أمام أهمية حصول الفيلم على الجوائز في المهرجانات، لما تمثله تلك الجوائز من دعم للفيلم القادم، أو تحقيق مصداقية تساعد صانع الفيلم على تمويل فيلمه التالي، وفي الحالتين فإن دور الجمهور لم يعد بنفس الأهمية التي من المفترض أن يمثله فيما ينشأ بينه وبين الفيلم من علاقة تفاعل واستحسان أو استهجان، وبعد أن يدور الفيلم دورته في المهرجانات وبعد أن يُباع إلى التليفزيون، تصبح فكرة إتاحته للجمهور عبر الإنترنت أصعب، وتصبح فرص مشاهدته بشكل جماهيري حقيقي بطريق مشروع أقل، ولا توجد آلية ما مناسبة لعرضه عبر الإنترنت بشكل يضمن للفيلم تحقيق ربح حقيقي يساعد على تحقيق استمرارية للفيلم المستقل الثاني والثالث.
هذا بخلاف الاعتبارات الفنية، فعلى سبيل المثال، تميل المنح إلى التوجه لصانعي الأفلام القادرين على إنجاز أفلام "متقفلة كويس" وهو مصطلح غير رسمي يعني أن تكون صورة الفيلم وصوته ومونتاجه على درجة من الكفاءة التقنية والفنية، وقد يبدو الأمر بديهيًا، ولم لا؟ لكن هذا التوجه يفرض على صانع الفيلم مزيدا من القيود غير المرئية، التي تؤثر بطبيعة الحال على استقلال الفيلم مرة أخرى، ويتضاءل أمامها هامش التجريب والحرية الفنية، في مقابل الإتقان التقني ذي المسحة التجارية".
إذن السينما المستقلة تشتمل على "تجريب" وتحتوي على "حرية فنية" وإلا أصبحت أفلاما "متقفلة كويس"، أو حسب ما أطلقت عليها الأبنودي أنها أفلام الإطار التقليدي.
(4)
"بعد رحلة عشر سنين الوضع الآن بوجه عام أصعب من لحظة البدايات، فمثلا عندما بدأنا كان هناك العديد من المبادرات الإنتاجية المماثلة معظمها توقف حاليا للأسف، بسبب السياق العام المأزوم، والقوانين التي ازدادت شراسة (مثلا أرغمنا القانون على التسجيل في ضريبة القيمة المضافة غير الدستورية أصلا والتي تضع عبئا إضافيا على كاهلنا، خاصة وأننا نعمل بشكل غير هادف للربح ولا نقوم بتأجير خدماتنا الإنتاجية من معدات أو مونتاج. أيضًا توقفت معظم صناديق الدعم التي كانت تساعدنا في تأمين جزء من التمويل، وصار التنافس على المنح القليلة الباقية عملا مضنيا ويضع السينمائيين في مواجهة بعضهم بدلا من العمل معًا، وفي النهاية أصبحت صناديق الدعم القليلة الباقية تقدم دعما ضئيلا للغاية يجعل عملية صنع الفيلم تمتد لسنوات دون وجود جهة دعم واحدة في مصر، وهو ما يجعل العمل مع منتجين أوروبيين صعبا بدوره".
ولكي نزيل ذلك الوضع الصعب، الذي وصفته المخرجة هالة لطفى، يجب فتح المجال العام أمام صناعة السينما، خاصة السينما المستقلة، عبر إزالة كل القوانين المعطلة للحرية والإبداع وصناعة السينما. هناك تحديات داخلية صعبة لدى صناع السينما أنفسهم، سهل تحسينها عبر التعليم والتجريب والرغبة في الطموح الفني إلا أن التحديات الخارجية مثل الرقابة والقوانين وغلق المجال نفسه فهي الأصعب على التحسين؛ لأن الحرية شاقة والتغيير حلم لا يؤمن به المقهورون.