الكاتب : سامح سامي
الصورة ليست لقطة، هنا أو هناك، وليست المقولة المخلة ” اضحك الصورة تطلع حلوة”. الصورة فلسفة. وجهة نظر للحقيقة، وللحركة، وللزمن. الصورة إعادة تأليف للأحداث وللزمن داخل المكان. والصورة فن، وذلك رغم أن الفوتوغرافيا عند ظهورها، حسب تأكيد دراسة للمصور المغربي عادل أزماط، كانت مبحثا علميا صرفا، بعيدا جدا عن الفن، حيث إن المشتغلين بها كانوا علماء كيمياء أو أطباء يبحثون في مسألتي الضوء و العين، فيما كان الفلاسفة يبحثون في إمكانية توقيف أو تجميد “لحظة من الزمن “، وهو حلمهم القديم.
الصورة هي حركة؛ أي تنشد التغيير، أو تدل عليه، فلا تعرف الثابت أو المطلق؛ لذلك يخاف منها الاستبداد.
لكن – للأسف- هناك مفارقة غريبة، رغم طغيان عصر الصورة والتكنولوجيا الحديثة في توثيق الأحداث، صوتا وصورة، إلا أننا مثلا شهدنا حالة من التضارب، وإخفاء الحقيقة في أحداث ثورة 25 يناير العظيمة وما تلاها. لم نستطع حتى الآن التأكيد المطلق بتفاصيل حادثة مثل موقعة الجمل، أو حادث ماسبيرو، الذي كان قريبا من أدوات التوثيق من معدات وكاميرات ( مبنى التليفزيون الرسمي).. وهذه حالة مصرية فريدة.
برجسون الفيلسوف المحبوب قال ما يشبه الصدمة إن “السينما وهم؛ لأنها تقدم لنا حركة كاذبة”. لكنه لم يعش هذا الزمن ليعرف أن السينما، والصورة أيضا، هي الحركة الصادقة في عالمنا، رغم ما تمارسه السلطات من تعتيم للحقيقة. وربما تظهر بعد سنوات صور فوتوغرافية شديدة الوضوح لكل ما حاولت الأنظمة إخفائه.
(2)
ولأننا؛ في مجلة الفيلم، وأمام عدد خاص عن الفوتوغرافيا، لا يمكن أن ننسى “شوكان” المصور الشاب العشريني المسجون منذ أربع سنوات حتى الآن، والتهمة ” مصور صحفي حر”. شوكان الذي اشتهر بصورة عبقرية له من خلف القبضان، راسما بيده “كاميرا” ليصور قاعة المحكمة، كأنه يريد القول” أخذتم كاميرتي. لكنني يمكن التصوير بيدي الفارغة”.
شوكان تخرج في أكاديمية أخبار اليوم، أعلن احترافه التصوير الصحفي منذ التحاقه بها، بدأّ بالتدريب في جريدة الأهرام المسائي بالأسكندرية وهو مازال طالبا، مرورًا بمشروع التخرج، إذ كان الوحيد بين رفاقه الذي اختار فكرته عن التصوير وعمل مع عدد من الصحف الاجنبية ومنها وكالة “ديموتكس” التي أرسلت خطابا للسلطات المصرية تؤكد فيه أن شوكان كان يغطي الأحداث لصالح الوكالة وليس مشاركا فيها، إلا أن السلطات المصرية أصرت على تجاهل هذه الحقيقة، والتي كانت قد أعتقلت شوكان والعديد من المتظاهرين السلميين وصحفيين أجانب في ستاد القاهرة لمدة يوم واحد، ثم قامت باطلاق سراح الصحفيين، ونقل شوكان إلى قسم أول القاهرة الجديدة ثم إلى سجن أبو زعبل حيث بقى رهن الاعتقال حتى يومنا هذا. هذا العدد من مجلة الفيلم تحية واجبة منا لشوكان، وللفوتوغرافيا في مصر.
(3)
للجزويت فلسفة خاصة تجاه الصورة، يعتبرونها ثقافة ووسيلة لتكوين الوعي والرقي بالذوق العام وآلية لتبادل الخبرات وقيام جسور التواصل بين الحضارات والثقافات، لذلك ليس غريبا أن نجد مراكز الجزويت الثقافية- ومنها جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة- تهتم بثقافة الصورة. في عدد مجلة الفيلم عن الفوتوغرافيا، نقرأ حوارا مع الأب وليم سيدهم اليسوعي، يتحدث فيه عن راهب فرنسي يسوعي ” استفان دي مونجلوفييه” جاء إلى مصر خادما في كنيسة قرية “جراجوس” بقنا عام 1946، وكان محبا وعاشقا لفن التصوير الضوئي، وتوثيق كل ما يراه في تلك الفترة منتصف الأربعينيات من القرن الماضي. في هذا الحوار نكتشف ثلاثة أمور: الأول هو الوثائق الفوتوغرافية النادرة لصعيد مصر وأهلها، الثاني تأثير هذا الراهب الفرنسي على طفل صغير الذي أصبح الأب وليم سيدهم الراهب اليسوعي فيما بعد، ومن ثم هو الآخر راهب يهتم بالصورة، ويدعم كل الأنشطة الخاصة بالصورة وثقافتها، الثالث أن الراهب الفرنسي “دي مونجلوفييه”، وهو يمارس التصوير الفوتوغرافي لأهل القرية لم ينس حلمه بقرية نموذجية في أعماق صعيد مصر، لذلك أسس خزانا لمياه الشرب النقية ليستفيد منه أهالي القرية، وأشترى “وابور” لري الأراضي بشكل منتظم، وأسس ورشة لصنع الفخار والخزف أستفاد منه أهالي القرية حتى الآن.
لكن قصة هذا الراهب اليسوعي الفرنسي، ربما سردها يجلب الحزن؛ حيث إننا نعرف أن صور هذا الراهب محفوظة، وبشكل جيد، في أرشيف الرهبنة اليسوعية، وفي المقابل-وهنا سبب البؤس- الأرشيف الفوتوغرافي في مصر مهمل ومهدر.
(4)
جيل دولوز في كتابه الفاتن ” فلسفة الصورة” قال:” من الممكن مقارنة المؤلفين السينمائيين الكبار ليس فقط مع الرسامين والمهندسين المعماريين والموسيقيين، وإنما مع المفكرين أيضا”.
لذلك أود شكر الزملاء المفكرين، المهوسين بالصورة: حسن شعراوي الناقد وصاحب الرؤية، وعلا سيف صاحبة الحماس الكبير في ظهور عدد مجلة الفيلم، والناقدة الكبيرة صفاء الليثي مستشارة التحرير التي تتعامل وتتعاون بحب مع الكل، والدكتور وليد الخشاب الذي أطمئن لوجوده معنا، فضلا عن وجود الناقدة المتميزة عرب لطفي، والأستاذة القديرة عزة إبراهيم والدكتور ياسر علوان والدكتور مجدي عبد الرحمن، والكاتبة ناهد نصر وهي إضافة للمجلة، وشكري للأستاذ سليمان شفيق، والأستاذة ريهام فرج.
والشكر لكل الزملاء والأصدقاء: حسام حافظ و بسنت الخطيب سكرتيرة التحرير ومحمد الميموني وهبه خليفة وعلى هزاع وروجيه أنيس وإسلام أنور، وللمخرج الفني الأستاذ أحمد عبد الباقي.
الشكر أيضا للصديقة الفنانة رندا شعث التي تجسد أرقى مراحل التصوير الصحفي، حيث نقلته من العمل اليومي القاتل إلى رحاب الفن و الجمال، ممثلة في ذلك تاريخ طويل لمصورين صحفيين كبار، أمنوا أن الصورة ليست لقطة هنا أو هناك.