وَمضات "أنطون ألبير" الخاطفة

د.ياسر منجي 17 مايو 2022 ومضات "أنطون ألبير" الخاطفة

الكاتب : د.ياسر منجي
مضات "أنطون ألبير" الخاطفة بين إضاءة الحَدَث وإضاءة أغوار الذات د. ياسر منجي على سبيل المقدمة (الوميض الفوتوغرافي وجَدَلِيّة الصورة الفنية): منذ البدايات الأولى لظهور الفوتوغرافيا، نشأت علاقةٌ مُلتَبِسة وجَدَلِيَّة بين المجالات الفنية – وبخاصةٍ مجالَي الرسم والتصوير Painting – وبين هذا الوسيط الجديد المُنتِج للصورة بوسائط آلية، اعتماداً على حساسية الضوء وتفاعلات المواد الكيميائية.



وقد مرت الفوتوغرافيا بالعديد من المراحل التي رسّخت وجودها كوسيط بصري معترف به؛ فعلى الرغم من أن أول صورة ثابتة Permanent ناجحة سُجِّلَت عام 1826، من التقاط المخترع الفرنسي "جوزيف نيبسي" Joseph Niepce (1765 – 1833)، إلا أن هذا الوسيط الجديد لم يشهد بدايات انتشاره إلا بعد اختراع طريقة التعريض المعروفة باسم "الألواح الفضية" Daguerreotype، على يد الفرنسي "لوي داجير" Louis Daguerre (1787 – 1851)، ثم اختراع الإنجليزي "ويليام تالبوت" William Henry Fox Talbot (1800 – 1877) لطريقة ورق الملح الحساس Paper and Salt Print Process، التي مهدت لاحقاً لظهور الأفلام الحساسة.
وكان لهذه الطفرة أثر هائل على تحولات مدارس الفن؛ من أشهرها ما سجله المؤرخون عن تحريرها للرسامين من الموضوعات النمطية، وفي مقدمتها الصور الشخصية (البورتريه) والمناظر الطبيعية، كوسيلة لكسب العيش؛ حيث أصبح من الممكن التقاط الصور الشخصية والمناظر بدقة، تفوق قدرة الرسام على المحاكاة، مما حدا بالفنانين للانطلاق نحو معالجة موضوعات أكثر تحرراً، سواء في الأفكار أو التنفيذ التقني. وربما يكون أبرز مثال على إسهام الفوتوغرافيا في تحرير الفن من ضرورات التسجيل، ظهور الحركة "الانطباعية" Impressionism عام 1874 في فرنسا، والتي حولت الفن من حالة تسجيلية إلى حالة بحث في تحليل الضوء واللون وانعكاساته على الأسطُح والخامات.
كما تطور الأمر داخل الممارسة الفنية نفسها، بحيث صارت الفوتوغرافيا وسيلة فعالة في التجهيز والتنفيذ لدى بعض أشهر الرسامين، ومن أهمهم الفرنسي "إدجار ديجا" Edgar Degas (1834 – 1917) – الذي كان واحداً من أبرز رواد الحركة "الانطباعية" سابقة الذِكر – فقد أُثِر عن "ديجا" استعانته بالعديد من الصور الفوتوغرافية، التي كان يلتقط أغلبها بنفسِه، داخل قاعات المسارح وحلبات السيرك، للممثلين والعارضين خلال أدائهم للحركات السريعة المعقدة، ليستخدمها لاحقاً في إنشاء تكوينات لوحاته؛ وهو ما نتج عنه مجموعة أعماله الشهيرة عن راقصات الباليه.
وبرغم هذا التأثير الكبير للفوتوغرافيا على التطور التاريخي لفن الرسم، وبرغم هذا التفاعل الخَلّاق بينهما، فقد ظل سؤالٌ يتواتر ما بين الفنانين والنقاد ومؤرخي الفن على السواء، على امتداد حوالي 180 عاماً، وهو: "هل الفوتوغرافيا فن؟". ففي أحد الاجتماعات المهمة لأعضاء "الجمعية الفوتوغرافية" Photographic Society بلندن، عام 1853، اعترض أحد الأعضاء على وصف الفوتوغرافيا بالفن؛ بحجة أنها لا يمكنها "إطلاق خيال المصور".
وبعد مرور ما يزيد على مائة عام من هذا الاجتماع، ظل هذا التشَكُّك موجوداً، حتى في نطاق المصورين الفوتوغرافيين أنفسهم، وبخاصةٍ خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين؛ حيث اشتهر وقتها عن المصور الكندي "جيف وول" Jeff Wall (من مواليد عام 1946) مصطلح (جيتّو الصورة) “Photo Ghetto” – في استعارة لمفهوم الجيتّو اليهودي، أو الحارات المنغلقة على الطوائف اليهودية في الأزمنة السابقة – وهو ما كان يشير به متهكماً إلى اقتصار الاهتمام بالفوتوغرافيا على المعارض المتخصصة والهواة ومجال النشر.
غير أن بعض المتغيرات الجذرية التي حدثت في الفترة الأخيرة، سواء على مستوى سوق الفن أو على مستوى ممارسات الفن المعاصر، جعلت من طرح مثل هذا السؤال أمراً عبثياً. فخلال المدة من 31 أكتوبر 2012 إلى 20 يناير 2013، نظّمت القاعة الوطنية للفنون The National Gallery بلندن – بما هو معروف عنها من اتجاهات محافظة وتاريخ فني عريق – معرضاً شاملاً للفوتوغرافيا، تحت عنوان "مَغويٌّ بالفن: ماضي الفوتوغرافيا وحاضرها" Seduced by Art: Photography Past and Present.
وقد قام المعرض على فكرة البحث في كيفية استفادة الفوتوغرافيين القُدامى من فن الرسم وتقاليده وتكويناته، وكذلك على البحث في مدى استفادة الفوتوغرافيين المعاصرين من تراث الفوتوغرافيا القديم وفن الرسم المعاصر على السواء.
أعاد هذا المعرض الاعتبار للعديد من الأدلة على انتباه أوائل الفوتوغرافيين لأهمية قواعد فن الرسم، واستفادتهم من أعمال مشاهير الرسامين؛ وهو ما يؤكده على سبيل المثال ما كتبه الفوتوغرافي الفرنسي "يوجين ديزديري" Eugène Disdéri (1819 – 1889) عام 1863، قائلاً: "من الأهمية بمكان أن ندرس أعمال أساتذة الفن الكبار، لنستخلص منها قواعد تصوير الصور الشخصية (البورتريه)".
وقد أثبتت العديد من نماذج الفوتوغرافيا المبكرة هذا الأمر؛ وهو ما يتضح من خلال نماذج لم يظهر فيها فقط فهم عميق لقواعد تكوين الصورة وفقاً لتقاليد الرسم، بل وظهرت من خلالها أيضاً محاولات لمحاكاة الموضوعات والأفكار، التي طالما عالجها كبار الرسامين العالميين.
وقبل معرض "الناشونال جاليري" ببضعة أشهُر، في عام 2012، نشرت صحيفة "جارديان" البريطانية خبراً أعاد ترتيب حسابات سوق الفن العالمي إلى حدٍ كبير؛ حيث نوَّهَت ببيع الفوتوغرافي الألماني "أندرياس جورسكي" Andreas Gursky (من مواليد عام 1955) لنسخة من صورته المسماة "نهر الراين الرمادي تحت مساحة مساوية من سماء عديمة اللون" Grey river Rhine under an equally colorless sky، بمبلغ 2.7 مليون جنيه إسترليني. وقد أعاد هذا الحدث انتباه الفنانين والنقاد ومقتني الفنون، على السواء، إلى واقع التحولات الفنية المعاصرة، التي باتت الصورة الفوتوغرافية معها تمثل منافساً قوياً للمجلات الفنية التقليدية، كالرسم والنحت وفنون الجرافيك.
والواقع أن النجاح الكبير الذي سجله هذين النموذجين – معرض "ناشونال جاليري" وصورة "جورسكي" – وكذلك التأثيرات والتحولات المهمة التي تسببا في إيجادها، فيما يتعلق بالفوتوغرافيا كوسيط فني معاصر، خلال السنوات الخمس الماضيات تحديداً، لم تكن لتحدث لولا تراكمات تاريخية مهمة، أسهم في إيجادها العديد من الفنانين الطليعيين، الذين لعبوا أدواراً بارزة في سياق الحركات الفنية الحديثة.
وربما يكون النموذج الأبرز بين هؤلاء، الفنان الأمريكي المولد الفرنسي الموطن "مان راي" Man Ray (1890 – 1976)، الذي كان واحداً من أهم وأشهر أعضاء حرَكَتَي "الدادا" Dada (Dadism) والسريالية Surrealism. لقد تمكن "راي" من تطويع الوسيط الفوتوغرافي كأداة فنية، قادرة على خلق أعمال توازي في مضمونها التعبيري والرمزي أعمال مشاهير الفن خلال النصف الأول من القرن العشرين.

مان راي: صورة شخصية (بورتريه) لعَرّاب السريالية، الشاعر "أندريه بريتون"، 1930، مجموعة خاصة.
وعلى نفس الخط من المعالجة والفكر، استطاعت المصورة الأمريكية "لي ميلر" Lee Miller (1907 – 1977) – التي ربطتها علاقة حب عميقة بـ"مان راي" – أن تسجل نماذج مهمة، استفادت خلالها من التوجُّهات السريالية لبعض اعمال "راي"؛ ومن أبرز هذه النماذج، الصورة التي التقطتها عام 1931 لأشهر نجوم الكوميديا في العصر الحديث، "شارلي شابلن" Charlie Chaplin (1889 – 1977)، والتي أظهرَته فيها بوضعٍ غرائبيّ، وقد نبتت فوق رأسه ثُريا تتفرع بمصابيح كهربائية.

لي ميلر: شارلي شابلين تتفرع من رأسه المصابيح الكهربية، 1931، مجموعة خاصة.

غير أن "ميلر" سجلت بأعمالها توجُّهات دعائية سياسية واضحة، كشفت من خلالها عن قدرة الوسيط الفوتوغرافي على تطويع قواعد الفن لصالح الأيديولوجيا والبروباجاندا، وإمكانية توظيف الجماليات البصرية في الدعاية والدعاية المضادة. ويُعَدُّ أشهر أعمالها في هذا السياق صورتها وهي تستحم داخل المغطس الشخصي الخاص بـ"أدولف هتلر" Adolph Hitler (1889 – 1945)، عقب هزيمته وانتحاره؛ حيث غامرت "ميلر" باجتياز رحلة خطرة عام 1945، عبر طُرُق مهددة ببقايا وحدات عسكرية في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرةً. واستطاعت في ختام الرحلة أن تصل إلى أحد المقارّ المحصنة، التي كان "هتلر" يستخدمها في مدينة "ميونيخ"، لتلتقط لنفسها صورة داخل مغطس استحمامه الشخصي.



لي ميلر: داخل حمام "أدولف هتلر" بميونيخ، 1945، مجموعة خاصة.

"أنطون ألبير" والوَمضة الخاطفة (مفتاح وُلوج بوابة الكبار):
يمنحنا هذا السياق التاريخي المُلتَبِس فرصةً – بل بالأحرى يدفعنا دفعاً - لإعادة النظر من جديد في أعمال أساطين الفوتوغرافيا المصريين، لنتساءَل بِدَورِنا عن العلاقات الكامنة فيها بين الحِرفي والفني، وبين الجمالي والتسجيلي، وبين الإبداعي والتوثيقي.
ستتأكد مشروعية هذه التساؤلات وضرورتها دون شك، حين يتعلق الأمر بأسماء أولئك الفوتوغرافيين، الذين ارتبط إنتاجُهم بمَسارات أحداثنا التاريخية المِفصَلِيّة، توثيقاً وتأريخاً واقتناصاً، لِيَصير هذا الإنتاج بمثابة ذاكرة، سُجِّلَ فيها ما لا حصر له من اللحظات الفارقة، والوجوه الصانعة لهذه اللحظات، والوجوه التي استقبلت أثرها، وانعكَسَت عليها وفيها نتائجُها وآثارها.
على هذه الأرضية تأتي قراءتُنا لأعمال المُعَلِّم "أنطون ألبير" (1930 – 2012)، أحد أقطاب الفوتوغرافيا المصريين، الذين حملوا على عاتقهم مهمة إثراء هذا الوسيط، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، واستمرت جهوده بارزةً حتى رحيله في مُفتَتَح العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ولكي نضع أيدينا على طرف الخيط الذي تتشعّبُ منه مَسارات تجربة هذا المُعَلّم العتيد، علينا أن نعود إلى بداية البدايات، زماناً ومكاناً، لنكتشف أن ميلاد "أنطون ألبير" بمدينة السويس – تلك البؤرة الملتهبة في أتون أحداث الاحتلال البريطاني لمصر - أمرٌ له دلالته دون شك؛ إذ وُلِدَ فيها في العام الذي سبق توقيع معاهدة 1936 بست سنوات، وعاش فيها عشرين عاماً، شَهِد خلالها جريان الكثير من الأحداث الساخنة في نهر السياسة المصرية، إلى أن كان نزوح أسرته عنها إلى مدينة دمنهور، قبل عامٍ واحدٍ من إلغاء البرلمان المصري للمعاهدة نفسها، في أكتوبر من عام 1951. وعلى خلفية هذا الإلغاء، دار الصراع الدامي بين الاحتلال البريطاني والمقاومة الشعبية المصرية، إلى أن اندلعت ثورة يوليو عام 1952، وما أعقبها من توقيع اتفاقية الجلاء في أكتوبر من عام 1954.
نحن إِذَن أمام شابٍ في نحو العشرين من عُمرِه، مُشبَع الذاكرة بومضات المقاومة الشعبية، ووَميض انفجارات بطولات الفدائيين في منطقة القنال. وهو إلى ذلك شابٌ حَسَم أمرَ موهبتِه في سنٍ مبكرة، بعد أن وَلِعَ في طفولته بالتقاط الصور بآلة تصويرٍ عتيقة، من النوع المُزوَّد بالشرائح الزجاجية الحساسة، لِيَتَلَقّى دراساتٍ فنيةً حرة عقب انتهاء دراسته الثانوية.
وبرغم أنه بدأ حياته العملية عام 1950 مُدَرّساً للمرحلة الابتدائية، فقد شَرَع في نفس العام في مراسلة بعض الصحف القاهرية لنشر صوره، وبعض أخبار الأحداث الجارية بمدينة دمنهور. وكان في مقدمة هذه الصحف جريدة "المصري" الشهيرة، وجريدة "الأساس" لسان حال حزب "السعديين"، التي كان "النقراشي" قد أسسها عام 1947. وبعد إغلاق "الأساس" بدأت علاقته بمؤسسة "الأهرام"، مراسلاً لها، في نفس عام اندلاع ثورة يوليو 1952، وهو العام نفسُه الذي استَهَل فيه نشاطه في تدريس فن التصوير بـ"الجامعة الشعبية".
وفي عام 1959، ينتقل "أنطون ألبير" للاستقرار في القاهرة، ليلتحق رسمياً بأسرة "الأهرام"، خلال ذروة توهُّج "هيكل" الذي كان يرأس هيئة تحريرها آنذاك. وفي بداية عمله تحت مظلة الأهرام، احتك "أنطون ألبير" باثنين من خيرة مُصَوّري تلك الفترة، كان كلٌّ منهما يتمتع بصيتٍ ذائعٍ، وحملا لقب (كبير مُصَوّري الأهرام) على التعاقُب، وهما: "أرشاك مصرف" و"محمد يوسف".
وبرغم شهرة هذين المُصَوِّرَين الأَريبَين، وما تمتعا به من مكانةٍ وحظوة لدى رأس النظام آنئذٍ، فقد أَبَت موهبة "أنطون ألبير" العارمة إلا أن تُفصِح عن نفسِها، وإلا أن تُفسِحَ له مكاناً بين الكبار. وكانت (الوَمضة الخاطفة) هي كلمة السِر لعبور الحاجز الفاصل بين شابٍ في مُستَهَلّ العقد الثالث من عُمره، وبين المُخَضرَمين المُتَمَرّسين بأفانين الصنعة الفوتوغرافية، السابرين لأغوار أسرارها التقنية.
تَمَثَّلَت تلك (الوَمضة الخاطفة) فيما أظهره هذا الشاب، وأثبتَه مِراراً، مِن قُدرةٍ استثنائية على الإمساك بتلابيب (اللحظة الدالّة)، التي تستخلص معنى كل حَدَثٍ تترَصَّده عدسَتُه اليقظة، وتَستَصفي خلاصته ودلالته ومغزاه، وتُجَسِّده في قالب مَرئيٍّ، يُجَمِّد هذه الخلاصة والدلالة، في صيغةٍ بصريةٍ، تجمَعُ رَونَق الفن بطرافة الواقعة، وتُزاوِج بين جمال التكوين وعُمق المعنى.
لقد كان "أنطون ألبير" قناصاً يجيد تسديد عدَسَتِه، في التوقيت المناسب، وبأدَقّ الزوايا المُمكنة، ليُصيبَ صميمَ روح اللحظة التي يتَرَصَّدُها. ولم تكن هذه الإجادة المشمولة بتوفيق التوقيت ودقة الزاوية تقتضيه إلا مجرد إطلاق العنان لِحَدسِه، لِيُصبَح لُبّ المشهد أسيراً لحدود الكادر الذي تَخَيّرَته عينُه الراصدة. فَمِن بين الحشود المُلتَفّة حول مواكب "عبد الناصر"، ثَمّة وجهٍ لا يراه إلا هو، لِيُسرِع بالتقاط تعبيراتِه التي تختزل أسطوريّة الحشد، وبين سَيل الجُموع الهادرة في شوارع القاهرة، حماساً أو احتجاجاً، ثمّة زوايا لا يعرف خريطتها إلا هو، لِيَكشِف من خلالها عن شرارات الحماس القادحة، وعن غبار الاحتجاج المُنعَقِد تحت ظلال الهدير.
لم يكن عجباً، مِن ثَمّ، أن نرى تلك اللقطات التي أسهَمَت في سطوع بريق اسمِه خلال تلك المرحلة، مُقتَرِنةً بمقالات "هيكل" الفَخمة، أو منشورة على صفحاتٍ كاملة، وقد ارتفعت عن مستوى تصنيف (الصورة المُصاحِبة) للمقال أو الخبر، بِوَصفِها سَبقاً مُستَقِلّاً، لا يعوزه نَصٌّ شارحٌ.
هكذا صار "أنطون ألبير"، في غضون سنوات قلائل، واحداً من أفراد طبقة الـ(فرتيوزو) Virtuoso المُبدعين في مجال إنتاج الصورة الصحفية، خلال مرحلةٍ أسهَمَ فيها هذا النوع من الصور في تشكيل الوعي الجمعي المصري بِحَقّ، وبخاصةٍ في نطاق الشأن السياسي، وما يوازيه ويُزامِنه من حراكٍ فنيٍّ وثقافي.
وإلى جانب هذه القدرات الفنية/ التقنية/ الحَدسِيّة، تمتع "أنطون ألبير" بِمَزِيّةٍ كادت تكلفه حياته عدة مرّات؛ إذ كان من أولئك النفر من المحترفين الذين لا يعبؤون بالمخاطر، في سبيل الوصول بإنتاجهم إلى ذروة درجات الكمال. وقد سجّلَت بعضُ الحوارات التي أُجرِيَت معه قبل وفاته، وبعض الكتابات التي وَثَّقَت سيرتَه المهنية، العديد من المواقف التي أوشك خلالها أن يلقى حَتفَه، نتيجة استغراقه التام في حصد لقطاته، وتَماهيه في الكاميرا في أثناء اقتناص اللحظات الدالّة، لِمَشاهِد أحداثٍ خَطِرة، تكتَنِفُها ظروفٌ مُهَدِّدة. هكذا أوشك على السقوط من الطائرة، في أثناء تغطيته لأحداث سيول منطقة "أبو زنيمة" في منتصف الستينيات، وهكذا واجه قصف المدرعات الإسرائيلية تحت الضباب في سيناء، قبل أيامٍ قلائل من وقوع نكسة يونيو 1967، لِيَتَعرّض عقب ذلك للأسر أكثر من شهرين، ويُطلَق سراحه بعد مُراوَغات ومفاوضات، تصلح في حد ذاتها نواةً لمعالجةٍ سينمائية.
هكذا كُتِبَ لعدسة "أنطون ألبير" أن ترسم مَسارات الانكسار والصعود في المنحنى البياني للأحداث السياسية والعسكرية المصرية آنذاك؛ إذ كما قُدِّرَ له أن يوثق غصة مشهد بقايا المدرعات المصرية في أثناء النكسة، قُدِّر له أن يُخَلّد رفرفة روح الانتصار مع ارتفاع العلم المصري في "عيون موسى" في أثناء حرب أكتوبر 1973. وقد كانت مجموعة صوره التي التقطها لأحداث نصر أكتوبر واحدةً من أكثر مجموعاته الفوتوغرافية شهرة، بل إن بعضها صار في عداد الأيقونات التي شَكَّلَت الصورة الرمزية لحرب أكتوبر في وجدان الجيل الذي عاصرها، وما تلاه من أجيال. ولا زال عددٌ من هذه الصور يُستَحضَرُ، ويجري توظيفه وإدماجه في مئات التحقيقات، والدراسات، والمعالَجات الفيلمية والوثائقية، كلما استَجَدَّت مناسبة الحديث عن حرب أكتوبر.
غير أن حدود (الكادر) في صور "أنطون ألبير" لم تقتصر على الداخل المصري فقط، بل امتدت امتداداً رحباً، لِتَشمَل النطاق العربي الرحب، وتُشارِف انعكاسات الأحداث على خريطة الدولية. هكذا رأينا ومضاته الخاطفة تقتنص اللحظات الدالّة لانتفاضات الثورة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ولأحداث الثورة اليمنية، والسورية، وتشهد على فواجع الحرب الأهلية بلبنان، وترسم تفاصيل اتفاقات تقسيم قبرص، وترصد لحظات الاتفاق المصري الروسي بموسكو، وتفتش في كواليس مؤتمر السلام بين مصر وإسرائيل في جنيف.
وعبر هذه المَسيرة المهنية المُتَوَغّلة في شِعاب صناعة الذاكرة المصرية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كان طبيعياً أن يتراكم إنتاج "أنطون ألبير"، لِيُمَثّل كنزاً وثائقيّاً مُصَوّراً، يُغري بإعادة الفحص، والاستقراء، والتحليل، واستكشاف الدلالات، واستخراج الرموز.

المعادلة الصعبة بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة (الفني من رَحِم الوثائقي):
تظل أصعب التحديات التي يجابهها المصور الصحفي، ماثلةً في كيفية اصطياد اللحظة الزمنية وزاوية الرؤية، اللتَين تمثلان طَرَفَي معادلة التوازن، للتوفيق بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة.
يرتَهِنُ ما سبق باستطاعة هذا المصور النجاة من فخ التأويل – سواءً المقصود وغير المقصود – حيث يمكن للتكوين، أو نَسَق الإضاءة، أو تعبير الوجه، أو زاوية اللقطة، أن تُحَمَّل الحَدَث مِن المَضامين والإيحاءات ما يخرجه من سياقه، ويضفي عليه من التأويلات، ويُكسبه من الرموز، ما يعرضه للتشويه والتزييف. فإذا حدث ذلك بالصدفة كان دليلاً على ضعف المصور، وإن كان عمداً فهو دليل على انحيازات مُسبَقة وتَعَمُّد أدلَجَة الحدث، أو إقحامه ضمن سياق يخدم مَلَفّاً سابق الإعداد أو مأرباً مُبَيَّتاً.
ولا شك أن حساسية هذه المعادلة تصل حدها الأقصى حين يتعلق الأمر بالأحداث السياسية؛ إذ يمكن للتأويل – بالمعنى المشار إليه تَوّاً – أن يُفرِغ الحَدَث تماماً من معناه، أو يُعَرّض الشخصيات المشاركة في صنعه للانتقاد، أو الاستخفاف والسخرية والزراية، وهو أمرٌ تستعصي نماذجه على الحصر، شرقاً وغرباً، لدرجة أنها باتت من بين آليات صناعة الكوميديا البصرية، وبخاصةٍ بعد تطور وسائط التواصل الاجتماعي الشبكية ووسائط تداوُل المعلومات المُرَقمَنة.
بطبيعة الحال هناك هامشٌ آمنٌ لهذا النوع من التأويل؛ إذ إنه سيكون مِن قبيل المثالية المُفرطة أن نتوقع حياداً تاماً مِن قِبَل المصور، فهو في النهاية فردٌ ذو قَناعات خاصة، وتؤثر في قراراته وتَوَجُّهاته واختياراته انحيازاتٌ لا سبيل لإنكار وجودها، ومن هنا كانت صعوبة المعادلة التي أشرنا إليها. غير أن ما يميز كبار الأساطين المُدركين لخصوصية الصورة الصحفية، عن غيرها من أجناس الصورة الفوتوغرافية، هو أنهم يستطيعون التحرك – مِهنِيّاً – في حدود ذلك الهامش الآمِن من التأويل البصري؛ وذلك من خلال توظيفه لصالح إبراز مضمون كل حَدَث.
هنا تكون اليد العليا للموهبة العارمة، المدعمة بالخبرة التقنية الراسخة، وبالإدراك العميق لقواعد بناء الصورة، وقوانين الضوء واللون، وهندسة تكوين اللقطة. فمن خلال هذا المستوى من الأستاذية، يتمكن المصور (الفنان) من تحديد طبيعة التأويل البصري، الذي تتطلبه كل لقطة، لترجمة مغزاها، وتجسيد مَحمولها الدلالي بصرياً.
وفي هذا السياق، تُعَدُّ مجموعة الصور التي التقطها "أنطون ألبير" لمنطقة النوبة، خلال الستينيات من القرن الماضي، نموذجاً قياسياً لهذا النوع من الصور التي يتجلى فيها توازُن معادلة التوفيق بين مقتضيات التوثيق وجماليات الصورة الفنية، كما يتجلى فيها دور التأويل البصري في تلخيص جوهر الحدَث وتجسيد مكنوناته.
ولِتَخَيُّل مدى حساسية مهمة "أنطون ألبير"، وما اقترن بها من أحداث سياسية واحتشاد قومي، يكفي أن نتأمل فقط طبيعة الظروف المِفصَلِيّة التي كان يمر بها هذا الجزء من جنوب مصر آنذاك. فخلال الفترة الفاصلة ما بين وضع "جمال عبد الناصر" حجر أساس السد العالي، في 9 يناير 1960، وبين الاحتفال بتنفيذ المشروع في يناير من عام 1971، شَهِدَت هذه المنطقة أحداثاً فارقة، لا تقل أهميةً وأثراً عن مشروع تشييد السد، كان في مقدمتها ترحيل أهل النوبة إلى هضبة "كوم امبو" عام 1963، ومشروع نقل معبدَي "أبو سمبل"، الذي استمر بدوره خلال المدة ما بين عامَي 1964 و1968.
هنا تتوهج أستاذية "أنطون ألبير"، وهو يسجل بعدسته تاريخ التحولات الجيوسياسية والديموغرافية التي شَهِدها الجنوب المصري خلال عقد الستينيات الملتهب. ففي واحدة من لقطاته تلك، يرسم "أنطون ألبير" حدود الكادر، ويضع خارطة تكوينه، تاركاً لغيره مهمة التقاطها، من الزاوية والبُعد المَسافي اللَذَين حددهما، لنراه وقد وقف متحدثاً إلى أهل النوبة، أمام مدخل منزلٍ تحمل واجهته ملامح البصمة الوراثية، المعمارية والزخرفية والرمزية، لتراث هذه المنطقة وثقافتها. هكذا يوثق "أنطون ألبير" شطراً من ذاكرة المكان، مانحاً نفسه امتياز الظهور ضِمن اللقطة التاريخية، على غرار مُخرجي الأفلام الذين كانوا يحرصون على الظهور ضِمن مَشاهد ذات دلالة في بعض أفلامهم.

وفي لقطة أخرى، تتسلل عدسته داخل واحدة من تلك المراكب النيلية، التي حملت على مَتنِها أفواج المُهَجَّرين من أبناء النوبة. يضعنا "أنطون ألبير" من خلال هذه اللقطة في موضع هؤلاء المُهَجّرين أنفسهم، لِنُطِل في اللقطة من داخل المركب، مُستَطلعين – للمرة الأخيرة - معالم الأرض المُوشِكة على الغرق، تؤَطِّرُ إطلالتَنا صارية وشراع، وجانبٌ لسفينة قريبة راسية، تحمل صِبيةً يرمقون جموع الآباء والأمهات، الواقفين بأمتعة الرحيل بين صخر الوادي وأرضِه المُعشِبة.

ويتجاوز التأويل مَخاوِف إطلالات الرحيل المُتَوَجِّسة، إلى مَشارِف الأمل، حين يلتقط انعكاسات الإضاءة الشَمسية الجَهيرة، على سُمرة وجوه الصبايا المُنتَشِيات بالرحلة النيلية، وهن يُنشِدن ويعزفن لصفحة النهر، كي تحملهنّ إلى أرضٍ يبدأن فيها بَذر خلاصة رحيق الأجداد الذي حَمَلَته حناجرهن من الأرض القديمة.

ومن زاوية عُلوية، يُوَظّف "أنطون ألبير" قوانين المنظور Perspective، لِيَمنَحنا ميزة الإطلال الكُلي، من منظور (عين الطائر) Bird’s-eye view، لنرصد خارطة المنطقة بعد أن بَدَّلَها تغيير مجرى نهر النيل، ولنشهد على آخر ما بَقِيَ من يابسةٍ، لا زالت تتشَبَّث بذاكرة بيوتٍ تُراوِغ الغرق لآخرِ رَمَق.

ومن المنظور العلوي نفسِه، يُوَلّي الطائرُ أجنِحَتِه تِلقاء المجرى الذي شقّته السواعد في صخر الجبل، لِنُطِلّ على بؤرة العمل في موقع السد العالي، حيث كَشَفَت مَسافةُ اللقطة وارتفاعها عن جَسامة التحدي الهائل، الذي يواجه الآلات الضئيلة، وهي تؤسس مشروعاً تَحُفّه من الجانبين جَلاميد الوادي العتيق. لقد لخص "أنطون ألبير"، من خلال هذا التأويل البصري، ما كان يكتنف مشروع السد العالي، على المستوى الدولي، من عراقيل مَهولة، تواجه إمكانات دولةٍ ناشئة.

وحين نهبط إلى مستوى النظر الأرضي، نكتشف أن ما رأيناه ضئيلاً مِن آلات الحفر، قد تَجَسّد وحوشاً ميكانيكية، رابضةً كالديناصورات الغابرة، تحرث الصخر وتفتت الجبل، فلا يجرؤ على اعتراض طريقها إلا صِبية الوادي وشبابِه، من صعايدة ونوبيين، مَضوا يحملون فؤوسَهم، في مسيرةٍ عسكريةٍ توجه سلاحها صوب الصخور العنيدة.

ويَعمَد "أنطون ألبير" أحياناً إلى مَسرَحة الحَدَث، من خلال استثمار الإمكانات البصرية للتضادّ الظلّي Contrast، بين مَواضِع الإضاءة والإعتام، لتجسيد التصاعُد الدرامي لبعض لحظات الحَدَث. وتتجلى هذه المسرحة الضوئية في بعض اللقطات الليلية، التي اقتنصها لمراحل ومواضع مختلفة من موقع العمل في السد. نرى في واحدةٍ من تلك اللقطات أبلغ ترجمة لمعنى "الإشراق في العتمة" (الكياروسكورو) Chiaroscuro – ذلك المصطلح الفني الدال على الجمع بين متضادّين شديدين من الأضواء والظلال، وعلى استخدام تأثيرات الضوء للإيحاء بالعمق الفراغي وحجم الأشكال الثلاثية الأبعاد – تلك التقنية التي سبق وأن تَفَنَّن فيها أساطين عالميين بِقامة "رمبرانت" Rembrandt. في هذه اللقطة، نرى الإضاءة وقد سَطَعَت من خوذات مهندسي الموقع المُعتِم، لتُؤكد من ظلال جَدّية النقاش التقني الدائر في المنتصف، محفوفاً بتوتر الأفراد من العمال الواقفين يسار خلفية المَشهَد.

وفي لقطةٍ مَثيلة، تتصاعد درامية الـ(كياروسكورو) إلى حدودٍ مَلحَميّة، حين تتراجع الكاميرا لتستوعب المشهد في لقطة عامة، يتوهج في قلبِها ضياءُ كهرباء الوقع، تاركاً جموع العاملين تحت الظلال الكثيفة، كأسراب نملٍ لا يهدأ نشاطُها في شقوق الجبل.

ويتجلى إدراك "أنطون ألبير" لطبيعة كل لحظة، تبعاً لمتغيرات ظروفها، لِيَتَخير لها من الزوايا والتكوينات ما يلخص دلالة هذه المتغيرات. ذلك ما يصادفنا في صورةٍ التقطها خلال زيارة "نيكيتا خروتشوف" الشهيرة لمصر، التي استغرقت 16 يوماً، والتي زار خلالها موقع السد العالي، ضاغطاً مع "عبد الناصر" زر تفجير المجرى الجديد لنهر النيل، يوم 15 مايو من عام 1964، إيذاناً بانتهاء المرحلة الأولى من مشروع بناء السد العالي، الذي كان الاتحاد السوفييتي قد أسهم في تمويله.
هنا، كان "خروتشوف" شريكاً أساسياً في المشروع – بخلاف ما سجله خلال تلك الزيارة من إمعان في انتقاد النسخة الناصرية من الاشتراكية – وهو ما ترجمته عدسة "أنطون ألبير"، حين عمد إلى ذراعين مرفوعتين في جانبَي مقدمة اللقطة، جاعلاً منهما إطاراً يحدد المشهد بين ضِلعَي مثلث مقلوب. وهنا كذلك لا نرى "عبد الناصر" – كعادته دَوماً – يحتل بؤرة المشهد، بل نراه وقد تراجع إلى يمين منتصف اللقطة، تاركاً المركز والبؤرة لـ"خروشوف" المُعتَمِر قبّعتَه البيضاء. هي مجرد زوايا وأبعاد مَسافية، لكنها تكثّف، في صورةٍ واحدة، دلالات مرحلةٍ بأكملها من السجال الدبلوماسي والنضال القومي.

كذلك كان رصده لمراحل مشروع إنقاذ معبَدَي "أبو سمبل"، رصداً يستَنطِقُ خصوصية كل لحظة، بدءاً من توثيق الموقع قبل بدء تقطيع المعبدين – الكبير والصغير – مروراً بمراحل التقطيع والنقل، وانتهاءً بإعادة تركيب أجزاء المعبدين في موقعهما الجديد.
ومن أجمل لقطات هذه المجموعة، تلك اللقطة التي صور فيها "أنطون ألبير" جمعاً من نساء النوبة المُتَّشحات بالسواد، وقد اصطحبن بناتهن وأطفالهن، واصطَفَفن أمام واجهة المعبد الكبير، لتوثيق لحظة ما قبل الشروع في تفكيك أوصال المعبد، ونقله من البقعة التي ظل هاجعاً فيها لآلاف السنين. إنها لقطة تستدعي مقارنةً سياقية، مع ذلك المشهد الذي اختتم به "شادي عبد السلام" فيلم "المومياء"، بخروج النسوة المُتَّشِحات بالسواد لوداع مومياوات الملوك القدامى، وهم بسبيلهم للسفينة التي ستنقلهم للقاهرة، بعد هجوعٍ لآلاف السنين في مغارات جبل الخبيئة.
ويُلاحَظ أن "أنطون ألبير" قد تعمد التقاط الصورة من زاوية جانبية مائلة، عَزَّزَت صَرحِيّة اللقطة، وأضفَت عليها حيوية حركية، يصعب الحصول عليها عند التقاط الصورة من زاوية المواجهة الاعتيادية.


إضاءة أغوار الذات وومضات الـ"فيزيوجنومي":
ومن إضاءة الأحداث والمَشاهد بومضاته الخاطفة، نرى "أنطون ألبير" يتصدى لإضاءة أغوار ذوات مَن احتَضَنَت عدسَتُه قَسَمات وجوههم، مِن مَشاهير مصر وأعلامها. فكما أثبت تميزه في القدرة على اقتناص لُباب الأحداث وخلاصتها، أثبت كذلك أنه صاحب فراسة لا تخيب، مَكَّنَته من النفاذ إلى أعماق نفوس نماذجه (موديلاته)، واستخراج مكنوناتها من السِمات والخصال، التي كثيراً ما خَفِيَت على المحيطين بهم، بسبب الصورة الإعلامية النمطية، التي التصَقَت بكلٍ منهم في عيون الجماهير ووعيهم، حاجبةً (بَشَرِيّة) الشخصية وحقيقتها.
وعلى رغم أن عدسَته قد سجلت ملامح المئات من هؤلاء المشاهير، وما نُشِرَ له من صور جمعته هو شخصياً بعددٍ منهم، مثل "البابا شنودة الثالث"، والرئيس الأسبق "محمد نجيب"، والكاتب "محمد حسنين هيكل"، والرئيس "السادات"، والأديب "إحسان عبد القدوس"، والفنان "فريد شوقي"، وعشرات غيرهم، فقد بَقِيَت بعض الصور التي لا يمكن إغفال دلالتها، في إثبات مقدرته التحليلية النفسية، وكأنه يطبق – داخل حدود الصورة - قواعد علم الفراسة، والاستدلال على سمات الشخصية من قَسَمات وجهها وتعبيراتها، أي ما يُعرَف بقواعد الفيزيوجنومي Physiognomy.
مِن ذلك مثلاً ما نراه في بعض الصور، التي التقطها لبعض المَشاهير في مرحلة خريف العُمر، كاشفاً من خلالها عن المخبوء تحت طبقات البريق. واحدةٌ من تلك الصور كانت من نصيب الشيخ "زكريا أحمد"، لنراه من خلالها في هيئةٍ تَنوء بأحمال السنين، وتعبيرات وجهٍ تفيض بالأحزان، على عكس صورته التي وَقِرَت في أذهان عشاق موسيقاه، باعتباره أحد أقطاب الفكاهة اللاذعة وأنصار فلسفة خُلُوّ البال في الحياة.

وعلى عكس ذلك، تأتي صورة عميد المسرح العربي "يوسف وهبي"، فَيّاضةَ القَسَمات بشباب الروح، برغم شيخوخة الملامح الظاهرية، وقد تَوَقَّدَت العينان بذكاءٍ نَفّاذ، وكَشَفَتا عن إقبال على الحياة واحتفاءٍ بها، على عكس الصورة النمطية التي كَرَّسَتها شخصياته التراجيدية، وموضوعات العديد من مسرحياته وأفلامه ذات النبرة الخطابِيّة الوَعظيّة.

وفي صورةٍ للعندليب الأسمر، نكتشف مع "أنطون ألبير" الوجه الآخر من القمر في شخصية "عبد الحليم حافظ"، ذلك الوجه الذي أشار إليه بعض كُتاب سيرَتِه، وسَجَلَته شهادات بعض القريبين منه؛ إذ نرى شخصيةً قوية الشكيمة، مُسَيطرة، تُوَجِّه نظراتٍ حادة صوب شخصيةٍ غير منظورة، نفهم من سياق الصورة أنها شخصية أحد العازفين خارج حدود الكادر. لقد لَخّص "أنطون ألبير" الكثير بمجرد اقتناصه لتلك النظرة الصَقرِيّة التي يسددها العندليب إلى عازفٍ، ربما لخروجه عن سياق اللحن، أو لغير ذلك من الأسباب. غير أننا في النهاية، لا نملك إلا أن نستشعر ذلك البأس المُنبَعِث من نظرات "حليم"، داعياً إيّانا لإعادة النظر في زوايا مغايرة لأغوار تلك الشخصية الهَشّة الحزينة، المأزومة بالأحزان واليُتم والمرض، الذائبة رقةً وحُبّاً.

أما صورة "كوكب الشرق"، التي التقطها على خلفية وجه أبي الهول، فبصرف النظر عن كونها واحدة من أشهر صوره – إن لم تكن أشهر الصور التي التقطها لأعلام مصر على الإطلاق – فقد اكتَنَزَت من المعاني والدلالات البصرية والرمزية، ما يستأهل إفراد دراسةٍ مستقلةٍ لها، غير أننا سنكتفي بالإلماح إلى بعض أهم مفاتيحها الدلالية لضيق المقام عن الإسهاب.
بدايةً لا يخفى ما في الجمع بين وجه "سيدة الغناء العربي" ووجه حارس الأهرام الأمين، مِن إحالةٍ رمزية، تُكَرِّس لشخصية "أم كلثوم"، بِوَصفِها المُعادِل الصوتي والنسائي لشخصية مصر ذاتها. وفي السياق نفسِه، نجد ما يدعونا للمقارنة بين هذا الجمع، وبين ما سبق وأن تَفَتَّقَت عنه قريحة "مختار" في رائعتِه "نهضة مصر". فالفلاحة في تمثال "مختار" تَنضو عن وجهها حُجُبَ الركود والتخلف، لتَستَطلِع أفق المستقبل، بينما ينهض "أبو الهول" مستقبلاً الوِجهة ذاتها. وفي إطار المعنى ذاته، تَشخَص "أم كلثوم" بعينيها في استشرافٍ عُلويّ، في نفس اتجاه نظرة أي الهول إلى أفق شروق الشمس.
وإذا كان "أبو الهول" قد تراجع في الخلفية مُتَّشِحاً بغُلالةٍ من الدرجات الظلية الخافتة، فقد احتلت "أم كلثوم" بؤرة التركيز، لِتَتَشَبَّع صورتها بأقصى قِيَم الضوء والظل. لكن، هل هي صدفة أن تجمع صفة امتلاء الوجه واكتناز الوجنات بين حارس جَبّانة الأجداد المَلَكِيّة وبين الحفيدة الأسطورة؟! وهل هو مَحض توفيق الصدفة التي قَيَّضَت الجمع بين الوجهين المُكتَنِزَين (الكُلثومِيَّين)، أم هو إثباتٌ آخر على رهافة فراسة "أنطون ألبير"؟!

ثم انظر الآن إلى تلك الصورة، التي جعلنا "أنطون ألبير" نرى من خلالها "سيدة الشاشة العربية" مرتين، أو بالأحرى، جعلنا نراها وهي تواجه نفسها! إنها صورة "فاتن حمامة"، وهي تتلَمَّس بأصابع الدهشة الطفولية وجه النُسخة الطينية من تمثالها الذي نحته لها الفنان المصري "عبد العزيز صعب" عام 1985، والذي عُرِضَ ضِمنَ تماثيل أخرى، لوجوه نجومٍ وأعلامٍ مصريين، افتتحَته "فاتن حمامة" بنفسها عام 1986، في "مُجَمَّع الفنون" بالزمالك.
استطاع "أنطون ألبير" في هذه الصورة أن يترَصّد (الطفلة) "فاتن"، وهي تخرج مِن إهاب رصانة "فاتن" (النجمة)، لتقترب أناملها بِحَذَرٍ هَيّاب من جبهة تمثالها، وكأنها لا تصدق أنها تواجه صورتها الطينية. هي إذَن ثلاث صور في صورة واحدة؟!
ثم لا يفوتك، وأنت تتأمل هذه الصورة، أن تنتبه إلى النَسَق الضوئي الذي اختاره "أنطون ألبير" لإخراجها ضِمنَه، حيث الإضاءة الخلفية، تكاد أن تجعل من "فاتن" وتمثالها صورةً ظِلّيّة (سيلويت) Silhouette على شاشة عرضٍ غير منظورة، يؤطّرها من اليمين واليسار غَزْلٌ رقيق من خشب الخرط، لِيُكَوِّن صورةً داخل الصورة، تجمَعُ في لقطةٍ واحدة بين إضاءة المَشهَد وإضاءة أغوار الشخصية، في واحدةٍ من ومضات "أنطون ألبير" الخاطفة.



 
 
 

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات