جميل عزيز مايستروالسمعيات:شريط اصوت الجيد الذي يخطف المتفرج لقلب الدراما

حسن شعراوي وعزة إبراهيم 17 مايو 2022 ومضات "أنطون ألبير" الخاطفة

الكاتب : حسن شعراوي وعزة إبراهيم
مجلة "الفيلم" تحاور جميل عزيز مايسترو السمعيات وتسجل صوت كلماته الأخيرة شريط الصوت الجيد يخطف المتفرج لقلب الدراما سيمفونية تراشق المدفعية على جبهة الحرب لم يسجلها أحد قط أى أغنية ليس وراءها نصرى عبد النور أو جميل عزيز لن يتذكرها أحد شغفى بالصوت بدأ بمعزوفة قطارات باب الحديد فى السبتية حوار: حسن شعراوى وعزة إبراهيم فى البدء كان الصمت مصاحبًا للصورة السينمائية، فخلقت بلاغتها بدون كلمات وبعد ثلاثين عامًا من الصمت نطقت بلسان "مغنى الجاز"، وصاغت الصوتيات مع المرئيات سحرًا جديدًا للسينما قربها من حياة الناس الذين نطقت بلسانهم. جميل عزيز كان واحدًا من المايستروهات الذين قبضوا بأناملهم على أشعة الصوت فأصبح شريط الصوت الذى يحمل توقيعه قادرًا على أسر المشاهد المستمع وجذبه من أذنيه وكل حواسه بمغناطيس خفى يختبئ فى الأصوات والموسيقى والمؤثرات ليصبح بكل كيانه داخل الفيلم. جميل عزيز استطاع أن يسرب أشعة فن الصوت نحو وجداننا مباشرة لتسكننا الأفلام التى هندس صوتياتها للأبد، فهو ساحر الميكروفون الذى جعلنا نبصر بأذنينا ونسمع بعينينا ونتماهى مع سحر الفيلم السينمائى ونسيجه الصوتى. قبل رحيله بوقت قليل تمكنا فى مجلة الفيلم من التواصل معه وإجراء هذا الحوار على مقابلتين تركتا أثرًا عميقًا فى قلوبنا وأسفًا على ما عاناه قرب نهاية حياته من متاعب صحية ومتاعب لها علاقة بتدهور منظومة العلاج فى مصر.


البداية والتكوين
<أين وكيف بدأت حكاية جميل عزيز مع الصوت؟
- ولدت فى حى القللى بالأزبكية، وفى عام 1949 أراد صاحب البيت هدمه وإعادة بنائه، وقال لن أعيد تسكين أحد فى العمارة الجديدة سوى عم عزيز وأولاده، وكان لى سبعة من الإخوة. وكان بيتنا يقع ما بين حى السبتية وحى القللى، وكنت شغوفًا بسماع أصوات القطارات القادمة لمحطة باب الحديد والمغادرة منه فى النهار والليل وفى كل الأوقات. كان قطار الصعيد يسير موازيًا لشارع السبتية وصوته فى الصباح يختلف عنه فى المساء أو فى الظهيرة، وكانت أذناي شغوفة بمتابعة هذه الاختلافات.
فى تلك الفترة كنت شغوفًا أيضًا بالراديو وبالاستماع لمسلسلات المخرج محمد علوان وآخرين، ومحمد علوان كان أستاذًا للميكروفون يوجهه بحيث أنا كمستمع أشعر باتجاهات الممثلين وحركتهم فى الدخول والخروج والمشى يمينًا أو يسارًا. وتصادف أن كان لى جار يدرس هندسة الصوت فى معهد السينما اسمه سمير كامل، كان يسكن فى الطابق الذى يلينى، وكان الأول على الدفعة الأولى للمعهد. ساعدنى كثيرًا كى ألتحق بالدفعة الخامسة لمعهد السينما.
< وكيف ساعدك لتلتحق بالمعهد؟
- طلبت منه أن يعلمنى الصوت، فقام هو وأخي بتدريبي لمدة ثلاثة أشهر، ودرسوا لى كيمياء ولغة إنجليزية وتاريخ ورياضة وكرة قدم وسيمفونيات وباليه وكونشيرتو وموسيقى عربية وأجنبية وديكور وعرفونى بالأدباء العالميين والمصريين. ظللنا نذاكر بشكل متواصل ليلًا ونهارًا. علمونى أيضًا كيف أدخل اللجنة وأقدم نفسى: تخبط علي الباب، تسمع اتفضل، تدخل، ولما تدخل تقف بجوار الكرسي، ولا تجلس إلا عندما يطلبون منك ذلك، ولما يسألوك تجاوب، ولو سألوك سؤال وإنت بتجاوب سؤال تاني تبتسم وتقول: لحظة واحدة أخلص السؤال وأجاوب علي حضرتك.
ذهبت للامتحان ووجدت عددًا كبيرًا متقدمًا لهندسة الصوت، وكنت رقم 26، كل واحد منهم داخل اللجنة بمشروع إلا أنا، واحد عمل بيك آب، وواحد عمل جرس تليفون، وواحد عمل مكواة، وأنا بلا أى شيء، ارتبكت طبعًا فوجدت شخصًا يربت على كتفى ويمسح عرقى بمنديلى ويسألنى عما بى، ودون أن ينتظر إجابة قالى لى: الأساتذة الذين فى اللجنة جاءوا ليكتشفوا إذا كنت تنفع ولا طظ فيك، لو تنفع ستنجح ولو أنك غير مؤهل لن تنجح، شد نفسك يا أستاذ، ورزعنى على الكرسى، عرفت فيما بعد أن هذا الشخص هو المخرج محمد كريم شخصيًّا.
كان كل واحد يدخل اللجنة لمدة دقيقتين أو ثلاث ويخرج، أنا قعدت أكثر من 45 دقيقة وسألوني أسئلة كثيرة جدًّا، وكانت اللجنة تضم رتيبة الحفنى وبثينة فريد وجلال الدين صالح وعزيز بك فاضل وأساتذة من جامعة القاهرة والإسكندرية وعين شمس والأزهر وأساتذة لغة عربية ومهندس ديكور مرعب. سألتنى رتيبة الحفني وبثينة فريد عن السيمفونيات، وكانوا يقاوحوا معى وأنا أجاوب. سمعونى إسطوانة وسألونى عنها فقلت: التاسعة لبيتهوفن، فسألونى: فى أى مدينة ولد بيتهوفن، فلم أعرف، فرتيبة الحفنى قالت لى: بتتلامض من الصبح ولا تعرف إن بلد بيتهوفن هى بون الألمانية. فقلت لها: لو أنى أعرف كل شىء لما جئت إلى هنا لأتعلم.
وفي الآخر قالوا لي: إذا لم نقبلك ماذا ستفعل؟ هل فكرت أين ستذهب؟ قلت إننى لم أفكر فى هذا بعد لكن إن شاء الله سأنجح. وقالوا لى شكرًا ومع السلامة.
عند ظهور النتيجة لم ينجح سوى طالب واحد فقط فحدثت مشكلة وجاء الوزير لمحمد كريم، وقال له: هل سيعمل كل طاقم التدريس مع طالب واحد، وإذا غاب الطالب فأين سيذهب طقم الأساتذة القادمين من الإسكندرية وعين شمس والقاهرة، لا بد من قبول طالب آخر، ومحمد كريم متمسك برأيه ورافض قبول أى أحد آخر وبعد ضغط من الوزير قبل زيادات فى كل الأقسام وقدم استقالته.
<فترة دراستك فى معهد السينما.. ما الذى تذكره منها؟
- في الحقيقة الدراسة فى قسم هندسة الصوت صعبة جدًّا. كنا ندرس من التاسعة صباحًا حتى التاسعة مساءً. وكان عندنا راهب علم هو جلال الدين صالح الذى اعتبرنا أبناءه واهتم بنا جدًّا، كان قد تخرج فى لندن، وأراد أن يسقينا علمه بملعقة، كان يشرح لنا كل شىء بسلاسة، وأتذكر كل كلمة قالها لنا طوال سنوات الدراسة وكأنى سمعتها منذ خمس دقائق فقط، وهو الذى جعلنى متميزًا فى الإلكترونيات وهندسة الصوت وصوت الأفلام وفى الصيانة، وكان يساندنى دائمًا فى كل شىء وله فضل كبير علىَّ.
وأذكر أنه كان فى احتفال ومعسكر لمنظمة الشباب في حلوان، فأرسلنى هناك لمدة أسبوعين للتسجيل ورجعت من هناك بشريط صوت عجبه جدًّا، وقال لى: إيه الحلاوة دى، وأصبح يرسلنى فى كل احتفال فيما بعد، لا أنسى فضله أبدًا.
الذكرى الأهم مع جلال الدين صالح كانت سنة 1965 عندما أرسلنى لقاعة سيد درويش التى بناها المرحوم أبوبكر خيرت على شكل مروحة، يقع المسرح فى آخرها والبلكون والصالة على شكل شبه منحرف، فلما يتكلم شخص فى آخر الصالة يحدث انفجار فوكس فى أذن الممثل على المسرح، فأحضروا خبراء أجانب من فرنسا لإصلاح القاعة، وطُلب من جلال الدين صالح ألا أفارقهم وأن أكون الصبى البلية لهم وأن أستمع ولا أتكلم وأرسل معى مترجمًا. درست العملية من البداية، كانوا يضربون مسدسًا فى كل متر مربع من القاعة، ويقيسوا بالإثنوجراف الذى كان وقتها بالقلم الرصاص، ويعمل بالرول على موتور متزامن.
< وما هو الإثنوجراف؟
- الإثنوجراف راسم ذبذبات ورقى يدور بموتور متزامن متصل معه بالكهرباء وله سرعتان، سرعة مضبوطة ألف فى المائة، والأخرى لا تتحرك بالمرة، وهو الذى يتم به تصوير الصور فى لندن أو باريس وإرسالها للقاهرة نقطة نقطة فهو يرسم الصورة بالنقر.
<وكيف لم يدرك أبوبكر خيرت المعمارى العظيم هذا الخطأ؟
- أبوبكر خيرت بنى القاعة من الناحية الهندسية والجمالية لكنه لم يبنها من الناحية الصوتية. لأنه يوجد قواعد لعلم الصوت لا يتم تدريسها فى كليات الهندسة، فهى تخص مهندسى الصوت فقط وللأسف حتى مهندسو الصوت لا يعملون بها.
< وكيف عالج الخبراء الفرنسيون هذا العيب؟
- هدموا كل الصالة وأبعدوا كل ما فيها من موكيت وكراسى وكل شىء، واستوردوا من فرنسا موادَّ ماصة للصوت وموادَّ غير ماصة للصوت، وبدأوا يركبونها بطريقة معينة، حفظت كل ما فعلوه دون أن أدون شيئًا أمامهم.
<كيف أفادتك هذه الخبرة فيما بعد؟
- فى عام 2004 أخذ ممدوح الليثى الاستوديوهات وخصخصها 20 سنة، وهو كان صديقى جدًّا منذ كان فى وزارة الإعلام وأنا فى وزارة الثقافة، لأنه عندما كان يرسل لى شغل صوت لأفلام ومسلسلات كانت له الأولوية، لأن أفلامه لها تاريخ عرض، ودون أن يطلب منى أو يوصينى كانت له الأولوية، وعندما كان يرسل لى مكافآت الشغل أرفض استلامها إلا عن طريق الشركة وأقبضها أنا من الشركة. وعندما أصبح رئيسًا لجهاز السينما أراد عمل دور عرض بثمانى شاشات فى المعادى، وطلب منى تجهيزها صوتيًّا. فقلت له لو يستعين بمهندسى مدينة الإنتاج الإعلامى لأنى لم يسبق لى أن بنيت سينما، فقال لى: إنت الأساس إنت جميل عزيز بجلالة قدره، إرجع لكتبك وذاكر وأنت من سيعلم مهندسى مدينة الإنتاج كيف يبنون سينما.
< وماذا فعلت؟
- عدت لأستاذى جلال الدين صالح الذى أعطانى كل القواعد الخاصة بكل صغيرة وكبيرة فى بناء سينما حتى التكييف علمنى كيف أخفض صوته، وقال لى: بعيدًا عن الفريون والتصميم فكل ما يهمنى هو أن يخرج خمسة أمتار مكعب من الهواء فى الدقيقة. علمنى كيف أعمل الجرلات وأركب الكباس وكل التفاصيل الأخرى. ثم حضرت اجتماعًا مع اللواء جمال على رئيس قطاع دور العرض، وممدوح الليثى رئيس الجهاز، والمهندس إبراهيم محلب ومهندسين كهرباء وإلكترونيات وتكييف وإنشائى ومعمارى وصوتيات ومهندسين من المقاولين العرب. وطلبت أن أقوم أنا بتقسيم القاعات والعمل واعترضوا، وقلت أريد البناء بطريقة معينة حددتها لهم يمكن من خلالها الابتعاد عما يعرف فى الهندسة باسم الموجة الساكنة، فأى سطحين متوازيين سيكون الصوت رايح جاى بينهما مما سينتج عنه صدى صوت فبلموا كلهم.
واشترطت إن أنا الذى سأبنى بطريقتى، فطريقتهم تعتمد على بناء حجرة داخل حجرة، وطريقتى تكسر هذة القاعدة، وقمت بالفعل بإحضار البنائين ووقفت معهم وهم يبنون طوبة طوبة، لأتأكد من أنه لا فوارق بين الطوب وبعضه البعض أى الحائط مقفول تمامًا لا يخر منه أى شعاع نور. ولأتأكد من إن كله تمام كنت أرمى نور من الحجرة المجاورة للتأكد من عدم مرور أى شعاع ولو بصيص من النور، لأن هذا معناه أن لا نفاذ للصوت أيضًا. بعد هذه التجربة قال المهندس محلب لى: سمعًا وطاعة، وبعث المهندسين للمدينة ليتعلموا كيف يبنون قاعة سينما.
< كيف تصف البيئة الصوتية المصرية وما هى ملامحها؟
- عندنا تلوث سمعى رهيب، وخلال العشر سنوات الماضية نستيقظ فى الصباح لنجد عمارات وأبراجًا تلتهم كل المساحات الفارغة، يبدأون العمل فيها من العاشرة مساءً حتى العاشرة صباحًا بأوناش ديزل لا تعمل بالكهرباء محدثة ضوضاء غير محتملة، فلا يمكن لأحد أن ينام وسط هذه الضوضاء والمخالفات، وأصوات الباعة الجائلين القادمة من مكبرات صوت بشعة تحدث تلوثًا سمعيًّا إضافيًّا.
طلبت من الدارسين فى الأكاديمية الدولية للإعلام التى أعمل فيها كتابة صورة صوتية من منتصف الليل لعصر اليوم التالى لشخص ينام فى شاليه على بحر بجواره أربعة شاليهات أخرى على مسافات بعيدة وكازينو ومراجيح أطفال، ولا واحد فيهم عرف يكتبها ليس لديهم خيال.
وأنا فى المصيف أرهف السمع للسكون التام الذى يسبق الفجر ثم يليه الأذان من عدة مساجد فى سيمفونية رهيبة، من يسجل ذلك؟ لا أحد. فى اليوم التالى بدأت أسجل الصوت.
<كيف يخدم الصوت الدراما؟
- الصوت يؤكد الدراما ولو مستواه زاد ملى واحد تفسد الفرجة، فمستوى الصوت المضبوط يجعل المشاهد يدخل فى الشاشة وينسى أنه فى قاعة السينما. بعض المخرجين يفهمون ذلك جيدًا مثل شريف عرفة، الذى عملت معه فى "سمع هس" و"يا مهلبية يا" وخيرى بشارة الذى عملت معه فى "آيس كريم فى جليم"، وكان يتقبل التعديلات بمحبة لأنه لا بد من وزن صوت الموسيقى على مقاس الدراما حتى يصبح العمل متقنًا.
< ما هى الخبرات التى اكتسبتها من جيل الرواد الذين عملت معهم؟
- استفدت منهم جميعًا، من مصطفى والى الذى كان من المهندسين الأوائل فى الإذاعة المصرية ثم أصبح مهندس الصوت فى استوديو مصر فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات وبداية الخمسينيات. ومن جلال الدين صالح الذى تعلمت منه أساسيات التسجيل المغناطيسى والضوئى والإلكترونيات وجمال حرفية الصوت. ومن نصرى عبدالنور الذى أتى بعده، والذى سجل أصوات كل مُغنِّى مصر من أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش إلى نجاة الصغيرة وسعاد حسنى ونهاية بعفاف راضى. نصرى عبدالنور كانت أذنه ممتازة وراهب علم ويعمل 24 ساعة وغير متزوج ولا يأكل ولا يشرب، يشعل سيجارة صباحًا بعود كبريت واحد وآخر سيجارة يطفئها حينما ينام فهو مدخن شره يشعل سيجارة من سيجارة. كان يسكن فى 6 شارع الشواربى، وعندما عدت من أداء خدمتى العسكرية قالوا لى إن نصرى عبدالنور لا يُعلم أحدًا، وكانوا مخطئين تمامًا، فقد كان يجيب على كل أسئلتى باستفاضة وعلم وهندسة، لكن كل واحد تخرج من معهد السينما يظن نفسه أصبح الملك المتوج ويتكبر على الأسئلة.
نصرى عبدالنور ابتكر مونتاج الأغانى والموسيقى، وبفضله سمعنا أم كلثوم وجيلها والجيل الذى يليها بالجودة التى كتبت تاريخ الأغنية المصرية، وكل العازفين تربوا على يدى نصرى عبدالنور.
< ما الذى ابتكره نصرى عبدالنور ووضعه فى هذه المكانة؟
- ابتكر طريقة أن يسجل الكوبليه الواحد عشرات المرات ويوجه المطرب نحو مخارج الألفاظ الصحيحة، وما يجب خطفه وما يجب تطويله، وأماكن التوقف وتجويد الإحساس. ثم يختار من كل تسجيل أفضل ما فيه، ويقوم بعمل مونتاج الصوت مع المغنين. يسجل أول كوبليه فيحيى الجمهور المطرب فيعطيه هذا ثقة ويبدأ فى التجويد، وحينما يشعر عبدالنور بأن المغنى وصل لأعلى جودة ينتقل لتسجيل الكوبليه التالى. ومن شريط الحفلة يختار أحلى أداء ويضعه فى الشريط النهائى.
< كيف بدأت علاقتك بنصرى عبدالنور؟
- قبل تخرجى من المعهد كان عندى امتحان شفوى، وكانت اللجنة التى ستمتحننى كبيرة جدًّا، وبعد الامتحان نادانى نصرى عبدالنور، وقال لى: إنت يا إبنى مش فالح، فخرجت، فنادانى مرة أخرى، وقال لى: جميل تحب تشتغل معى؟ طرت من السعادة فطلب منى أن أذهب له فى استوديو مصر فى اليوم التالى. وقبل ظهور النتيجة عيننى فى استوديو مصر بمُرتب عشرين جنيهًا, وقال لى: أنا عاوز أمرمطك فى الشغل، وأرسلنى إلى استوديو الأهرام عند عزيز بك فاضل الذى يجيد تسجيل الموسيقى لايف، وعمل المكساج والتعامل مع العملاء، والذى يرتدى فى عز البرد بنطلون وقميص شياكة مفتوح لمنتصف صدره. وطوال تعاملى مع عزيز بك كان يعتبرنى كابن له، ومنه تعلمت خبرات عديدة فى المكساج، وكيفية التصرف فى المواقف الصعبة ومسئولية ضبط مستويات العناصر الثلاثة للصوت، الحوار والموسيقى والمؤثرات، دراميًّا.
<ما الخبرات العملية التى اكتسبتها من نصرى عبدالنور؟
- نصرى عبدالنور هو معلمى الفعلى، وهو الذى علمنى جماليات المكساج وكيف يمكن لعناصر الصوت الثلاثة– الحوار والموسيقى والمؤثرات- أن تحاكى الحالة الدرامية وتتزامن معها، وعلمنى كيفية تخليق المؤثرات الصوتية. وهذا ساعدنى أثناء عملى فى فيلم ناصر 56 على أن أنقل الصوت وأعالج عيوبه، وأضع الحلول الصوتية المناسبة لكى يحاكى صوت أحمد زكى صوت جمال عبدالناصر.
<هل استعنت أحيانًا بدوبلير للصوت؟
- فى فيلم الأقوياء مع أشرف فهمى توفى الفنان رشدى أباظة أثناء التصوير، فاستعان المخرج بصلاح نظمى ليكمل تصوير المشاهد المتبقية، وكان علىَّ أن أقوم بمحاولات تقريب الصوت للشخصية حتى لا يصبح هناك أى اختلاف ونجحت فى ذلك. والاستعانة بدوبلير صوت معروفة فى سينما العالم فصوفيا لورين مثلًا صوتها سيئ للغاية وفى كل أفلامها هناك استعانة بدوبلير صوت.
<كيف كنت تعالج شريط الصوت فى الأفلام الروائية التى سجلتها؟ وكيف كنت تتعامل مع المشكلات الطارئة التى تواجهك؟
- فى فيلم "عودة الابن الضال"، تم تسجيل موسيقى أغنية ماجدة الرومى فى لبنان، وطلب منى يوسف شاهين إضافة صوتها للموسيقى المسجلة، وكان المتبع أن يسمع المطرب الموسيقى فى الهيد فون ويغنى، لكنى رأيت أنها لن تتحمل ثقل الهيد فون على أذنيها فحددت نقطة ضعيفة للصوت فى قاعة التسجيل، وجعلت ظهر الميكروفون لهذه النقطة، وسجلت الأغنية بنجاح.
وفى فيلم البداية مع صلاح أبوسيف، كانت فرصتى لعمل شريط صوت مفعم بالدلالات التى تدعم جو الفيلم من ناحية، وتؤكد المعانى المطروحة فيه من ناحية أخرى، فاستخدمت المؤثرات الصوتية الخاصة بطبوغرافية المنطقة واللحن الدال الذى استخدمه أبوسيف مع شخصياته.
وفى فيلم "يوم حلو ويوم مر" مع خيرى بشارة قدمت شريط صوت وصفه الباحث العظيم مجدى عبدالرحمن بأنه مدق ثرى بالتنويعات الصوتية لحى العسال بشبرا والشوارع الجانبية التى يهرب إليها الصبى الصغير، ومزجت المرئيات بالصوتيات لأعطى معزوفة راقية من الدراما الفيلمية.
وفى "الكيت كات" مع داوود عبدالسيد استعنت بالنوتة الموسيقية الشرقية "العود"، ما أكسب الفيلم إيقاعًا ملائمًا للحى الشعبى.
وفى "أبناء وقتله" مع عاطف الطيب قدمت ذاكرة سمعية من فترات تاريخية مختلفة تناولها الفيلم.
<قضيت فترة تجنيدك على الجبهة وخضت حربين– الاستنزاف وأكتوبر- كيف تصف الذاكرة الصوتية للجبهة خلال تلك الفترة؟
امتدت فترة تجنيدى من عام 1968: عام 1974، وكنت جنديًّا قناصًا على الخط الأول بالجبهة على شاطئ قناة السويس أمام العدو مباشرة، وكانت الظروف عصيبة وقاسية أثناء تبادل القصف بالمدافع، وهو صوت قوى ومن أحلى الأصوات، وللأسف لم يتم تسجيله أبدًا، وحاولت تسجيل هذا الصوت فى الأفلام ولم أستطع أن أصل مطلقًا لهذا اللحن القوى لتراشق المدفعية وللإنفجارات المدوية فى أماكن متفرقة قريبة وبعيدة، عندنا وعندهم وصدى الصوت المنعكس من بقايا المنشآت والمساحات الطبيعية، وصوت القذائف وهى تنزل على زلط أو حديد أو رمل أو أرض رخوة وكل واحدة من هذه المواد كان لها صوت مختلف، سيمفونية رهيبة ربانية رائعة الأداء والتوزيع بدون مايسترو أو آلات موسيقية من صنع مدافع وقذائف وإنفجارات، تراشق لجمل وموازير لحنية، توليفة تفوق الخيال، بدون نوتة موسيقية عزفها شباب بقوة وعزم تحقيقًا لأهدافهم بآلات الحرب بدون مايسترو. لا أحد فى العالم سجل هذا الصوت ولا حتى أنا.
< حدثنا عن عملك فى الأفلام بعد العودة من الجبهة؟
- بعد العودة من الحرب عملت الكثير من الأفلام التسجيلية والروائية، واكتسبت الكثير من الخبرات، وعندما أصبحت محترفًا كنت أشارك بعملى فى نحو 90% من منتج مصر من الأفلام التسجيلية ونحو 60% من منتج مصر من الأفلام الروائية، وهذا بسبب حبى للفن والعمل.
ثم تعلمت مونتاج صوت الموسيقى والأغانى فطلبتنى أول عميدة لمعهد الباليه الدكتورة عنايات عزمى عام 1975 بعد شهور من رجوعى من الجيش، بعد ترشيح نصرى عبدالنور لى للقيام بمهمة تقصير مقاطع موسيقى الباليهات الطويلة. وبالفعل تم تعيينى فى معهد الباليه براتب شهرى 23 جنيهًا، فقمت بعمل أكبر مكتبة موسيقية للمعهد كان آخرها "عيون بهية" لرشاد رشدى.
<ما هو أكثر فيلم تسجيلى ترك أثره فيك كمهندس صوت؟
- هو فيلم "أبطال من مصر" لأحمد راشد، حيث كان علىَّ أن أراعى وضوح الكلمات التى ينطقها أهل الشهيد، فالكلمات هنا هى البديل الصورى للشهيد، وخاصة حينما قالت أم الشهيد فتحى عبادة جملة مستحيل لأى ممثلة فى العالم أن تقولها بنفس الإحساس القوى الصادق للأم حينما تذكرت ابنها وقالت: الفراق صعب، بأسلوب درامى أبكانا.
وكذلك أثر فى فيلم خيرى بشارة عن البطل عبدالعاطى صائد الدبابات، حيث استخدم المخرج أسلوب شهادة الشهود وصورنى داخل الكادر وأنا أسجل لعبدالعاطى.
وفى فيلم داوود عبدالسيد "وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم" كانت فرصتى لتطبيق درامية الصوت عند تسجيل الصوت الواقعى لأهل القرية، واستخدمت تون الصوت لإزالة الشوشرة الموجودة فى الكلمات المنطوقة.
< من هم الممثلون والممثلات الذين تحب أصواتهم؟ والذين لا تحب أصواتهم؟
- أحب صوت فاتن حمامة، وسجلت لها صوت فيلمها "ليلة القبض على فاطمة"، وصوت أحمد زكى الذى كان يطلب منى العمل معه فى كل أفلامه، وأصوات ميرفت أمين ونور الشريف ومحمود ياسين وحسين فهمى.
ومرة سجلت لليلى حمادة شوت فى أحد أفلامها ولم يعجبنى أداءها ولا صوتها فوجدت نفسى أقول: ستوب، بدلًا من مخرج الفيلم حسن الإمام وسمعته الصوت وقال لى: عندك حق.
<وبالنسبة لأصوات المطربين والمطربات كيف يؤثر تسجيل الصوت على جودة الأغنية؟
- من فترة كان منتج عربى أنتج أغنية لنجاة الصغيرة، وقالوا إنها ستكون عالمية وتكتسح، وقتها قلت طالما الأغنية ليس وراءها جميل عزيز أو نصرى عبدالنور فستفشل، وبالفعل كانت الأغنية كنشيد وأذيعت مرتين أو ثلاثة ولم تذاع مرة أخرى رغم أنه تم تسجيلها فى أقوى استوديوهات فى العالم وصرف عليها المنتج العربى ملايين.
من الأصوات التى أراها ناجحة الآن صوت أنغام، وقد نجحت لأنها شاربة من عبدالحليم، وتعيد وتكرر وتسجل عدة مرات ثم تختار الأفضل مثل عبدالحليم.
<ما هى مواصفات مهندس الصوت الجيد؟
- أن يكون لدية أذن وإحساس وقدرة على التحليل.
<هل سجلت شرائط صوت لمسلسلات التليفزيون؟
- لم أحب المسلسلات أبدًا وعملت "مسلسلًا واحدًا" لا أذكر اسمه، ولم أكرر التجربة، لأن المسلسلات ليست فنًّا. وأنا أحب العمل فى الأفلام لأنها فن أستطيع من خلاله الإبداع وإبراز قدراتى على إدخال المتفرج داخل الشاشة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات