الكاتب : عادل موسي
اللقاء الأول
المرة الأولى التى التقيت فيها الأستاذ الكبير أنطون ألبير كان فى العام 2005م، عندما كنت أستعد لبدء مشروع (توثيق التراث النوبي) داخل مكتبة الإسكندرية، كنا فى ذلك الوقت نخطط لعمل مؤتمر كبير ندعو فيه كل المهتمين بالتراث النوبي، وإلى جانب هذا المؤتمر رغبت بشدة أن يكون هناك معرض صور فوتوغرافية للنوبة قبل التهجير، فى ذلك الوقت ظهر أمامنا اسم (أنطون ألبير) عرفت أنه قام بمهمة من جريدة الأهرام لتصوير منطقة النوبة قبل الغرق، وأثناء عملية فتح المياه لملء البحيرة، ثم قام بزيارة النوبة بعد ذلك فى قرى االتهجير، ووثقت كاميرته المراحل الثلاث، التقى به مسئولون من مكتبة الاسكندرية واتفقوا على عمل المعرض، ودخلت مجموعته الكاملة للطباعة، وعند تلك المرحلة ذهبت إلى معمل التصوير لمراجعة الصور، كنت عاشقاً للتصوير وأمارسه كهواية محببة إلى نفسي.
وفى معمل عنتر فى باب اللوق، التقيت البرنس أنطون ألبير.. لقب البرنس هو تحديداً ما شعرت أنه يناسب هذا الشخص ذا الملامح الارستقراطية والحركة الهادئة والصوت الرخيم، كان كأنه أمير ينتمى إلى حقبة زمنية راقية، وفى الوقت نفسه تشعر أنه ابن بلد يعرف ععنأعماق مصر ولغة شوارعها أكثر مما تعرف.. بعد قليل ظهرت الصور الفوتوغرافي، وكنت قد رأيت نماذج منها قبل أن ألتقيه، كنت مبهورًا بدقة التفاصيل، واهتمامه الشديد بكل ما يحدث حوله، لم يصور البيوت والناس فقط، بل صور النبات والجبال والحيوانات، صور النيل مع الناس، واستقل طائرة هليكوبتر ليصور النيل من أعلى وهو يغطى المنازل والقرى؛ لتكون عدسته هى اللقطة الأخيرة قبل اختفائها للأبد، أمام عظمة هذه الصور، رأيت أن طباعتها يجب ألا تحمل أى شائبة، وأن تظهر بشكل يوضح روعة هذه اللقطات، لذلك انشغلت عن الحضور وانكببت على الصور أراجعها بدقة، وأطلب إعادة صورة رأيت بها نقطة سوداء ظهرت بالخطأ مع الطباعة، أو أخرى لم تكن طباعتها بجودة الصورة نفسها، والتى كنت أراجع الفيلم الخاص بها على جهاز خاص، كنت منشغلاً بالمراجعة الدقيقة ولم أنتبه أن أنطون ألبير كان يراقبنى مبتسماً، لم أنتبه إلى ذلك إلا عندما تنبه أيمن خوري المصور الفنان والذي كان مديرمديراًا لى ولمشروعات التراث بمكتبة الإسكندرية، فابتسم بدوره وقال له: (عادل مش هيسيب تفصيلة تعدى، اطمئن على الصور)، انتبهت وقتها إليهم واقترب أنطون من، وأخذ يحدثنى عن هذه الصور، وأنه كان يصور ما حوله ولم تتح له الفرصة ليعرف اين هو أو ماذا يصور، وقتها طمأنته أنه قد حان الوقت لنعرف كل تفاصيل هذه الصور.. لم يكن هذا الأمر له علاقة بالمعرض، فقد رأيت أن مجموعة أنطون ألبير، يجب أن تحفظ فى كتاب يوثقها، وبالفعل عرضت الأمر على أيمن خوري الذي بدوره عرضه على رئيسه الدكتور فتحي صالح مدير مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي سابقاً، وهو رئيسها الشرفى الآن، كان الرجل محبًا للفن والعلم فأنشأ هذا المركز الذي أصبح بعد إنشاء مكتبة الإسكندرية جزءًا من المكتبة وإحدى إإدااتها، ورأى فتحى صالح أن إصدار مثل هذا الكتاب هو أمر مهم بالفعل، فالتقى بأنطون ألبير، وبدأنا رحلة اخرى بعد إقامتنا للمؤتمر، وإعجاب الناس الشديد بالمعرض، فصرحنا لهم أننا بصدد عمل كتاب يضم هذه المجموعة الرائعة، قمنا بفك رموز الصور ومعرفة وتحديد أماكنها، وما يدور فيها من طقوس أو عادات اجتماعية خاصة بالحياة النوبية، والتي قام أنطون ألبير بتوثيقها دون أن يعرف بطبيعة الحال ما الطقس الذي التقطته عدسته فى تلك اللحظة، وتولى التعريف بالصور اثنان من كبار المختصين بالتراث النوبي، وقد عاصروا النوبة القديمة، الأول كان الدكتور مصطفى عبد القادر، والثاني هو الشاعر الراحل محيى الدين صالح الذي قام بعمل تعليقات الصور وارتبط بعلاقة صداقة مع أنطون ألبير.
منذ هذا الوقت وأنا أهتم بمقابلة الأستاذ أنطون فزرته فى مكتبه بالأهرام أكثر من مرة، أولها كان للتسجيل معه مع أيمن خوري، وكنت أسعد للغاية بالحديث إليه، ولأنه البرنس أنطون ألبير فلم ينس ابدا إرسال تهنئة لى بالمناسبات الدينية الإسلامية المختلفة، وانشغلت عنه فترة، ومر عيد الاضحى ولم يرسل ولأول مرة التهنئة كعادته، لأتصل وأسأل عنه، وإذا بى أعرف أنه قد توفاه الله، كان وقع الخبر ثقيلاً على مسمعي، ليس فقط لارتباطي بهذه الشخصية الساحرة، ولكنى دائما ما أحزن على فقدان شخصيات مثل أنطون ، فأنا أعتبرهم كنوزًا تمتلكها مصر، ليس لإبداعهم فقط، بل لطباعهم السامية وتصرفاتهم المملوءة بالأخلاق والحكمة فى زمن فقدنا فيه هذه القيم، وذلك الفقد حدث لرحيل أنطون وجيله الراقي.
من هو أنطون ألبير؟
ولد أنطون ألبير فى مدينة السويس العريقة عام 1930م، مدينة السويس الهادئة المحبة للفن، فتجد بها كازينو الكبانون وشارع النمسا بمحاله الانيقة التي تضاهي المحال الأوروبية، والحدائق المنتشرة بالمدينة واستوديو ملاك الشهير، وسط هذه البيئة ولد أنطون واتجه منذ صغره للتصوير عندما وجد كاميرا قديمة كانت لوالده منذ العام 1920م، ويحكى أنطون أن هذه الكاميرا كانت تعتبر ثورة فى التصوير وقتها، حيث إنها أول كاميرا محمولة، فقد كانت الكاميرات قبلها كبيرة وتوضع على ثلاث قوائم ولا تجعل المصور حرًا فى التنقل، وساعدت أنطون ألبير هذه الكاميرا التي بدأ بها التصوير وهو فى عمر 13 سنة، وانتقلت أسرته من السويس إلى دمنهور بسبب عمل والده الجديد هناك، وفى دمنهور بدأ أنطون العمل كمدرس فى مدرسة النهضة الابتدائية فى عام 1950م، ولم يترك هوايته فى التصوير بل كان يراسل الصحف ويرسل إليها الصور والأخبار، ونشرت له عدة صحف ومنها الأهرام التي التزم معها بعد ذلك بالمراسلة حتى أصبح مراسلاً صحفياً للجريدة من دمنهور فى عام 1952م، وبعد سبع سنوات فى هذا العمل انتقل أنطون للعمل بجريدة الأهرام بشكل رسمى في مقر الجريدة بالمبنى القديم بشارع محمد مظلوم بمنطقة باب اللوق القريب من منطقة عابدين، وهناك عمل مع رئيس قسم التصوير المصور المحترف (ارشاك مصرف) الرجل الذي ولد بورسعيد، وكان عاشقًا لمصر، وجاب العالم كله بكاميرته، واقترب من رجال السياسة والفن حتى إنه كان صديقا للرئيس جمال عبد الناصر، واعتقد أن أنطون البير تأثر كثيرًا بهذا الرجل حتى من شكل حياته وعلاقاته.
فى ذلك الوقت كان الكاتب الصحفي الكبير (محمد حسنين هيكل) رئيسا لجريدة الأهرام وكان يكتب مقالا اسبوعيًا بعنوان (بصراحة)، والتى كان يصاحبها صورة معبرة عن المقال، فاختار هيكل الشاب أنطون ألبير لتكون صوره مصاحبة لمقالته الأسبوعية، ومنذ هذا التاريخ انطلق أنطون البير وأصبح معروفا بين المصورين والقراء.
خطاب الانفصال
الاجواء السياسية بمصر فى العام 1961 لم تكن جيدة فهناك انقلاب عسكري حدث فى سوريا على الجمهورية العربية المتحدة التى تضم مصر وسوريا، حدث على إثرها انفصال مصر عن سوريا، وفى يوم 29 من سبتمبر في العام نفسه ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابًا بميدان الجمهورية أعلن من خلاله هذا الانفصال، بعد وحدة دامت ثلاث سنوات، وخرجت الجماهير الغفيرة لتحضر الخطاب كما خرج ايضًا أنطون ألبير بعدسته ليسجل كل لقطة تحدث حوله، وانتهى الخطاب وأحاطت الجماهير بعبد الناصر وكانت عدسة أنطون ألبير فى انتظارهم، والتقط يومها صورًا عديدة صورت مشاعر الجموع الكبيرة وتأثرهم بخطاب جمال عبد الناصر، وكان هيكل ينشر مقاله الأسبوعى يوم الجمعة، فقرر بعد أن رأى صور أنطون ألبير ألا ينشر مقاله فى الجمعة التالية على أن يُنشر بدلاً منه عدد من صور أنطون ألبير التي التقطها أثناء إلقاء الخطاب، لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تلتقط عدسة انطون سياسيا او رئيسا؛ فقد صور من قبل محمد نجيب فى أثناء زيارته لعدة أماكن ومحافظات، ولكن فترة عبد الناصر كانت ثرية بالأحداث التي جعلت متابعة الشعب لها لصيقة، فبرز اسم أنطون ألبير أكثر فأكثر.
أنطون فى النوبة
أنطون ألبير من الذين أجادوا تصوير وتوثيق جوانب عديدة من الحياة في النوبة قبل التهجير وأثناءها وبعدها، كما سجل بالكاميرا مشروع السد العالي في مراحل إنشائه، وكذلك نقل معبدي أبي سنبل ، بالإضافة إلى بعض المشاهد لبعثات التنقيب عن الآثار، وكذلك تتبع مراحل غرق أراضي النوبة بعد أن هجرها أهلها، وقد جاء على لسان أنطون ألبير نفسه فى مقدمة كتابه (النوبة عبر عصرين) والذي كنت محظوظا لأننى أول من تلقى هذه المقدمه من أنطون ألبير حيث قال (حين اعلن عن مشروع اقامة السد العالي عام 1960 وكان لا بد من تهجير سكان النوبة الى الشمال، كوم أمبو - مركز ناصر- وإسنا لأن بلاد النوبة جميعها ستتحول إلى أكبر بحيرة صناعية في العالم ويصل منسويها الى 187متراً، ومع إعلان بدء مشروع اقامة السد العالي جاءتني الفرصة لزيارة المنطقة ،ومن خلال هذه الخلفية لواقع المنطقة ومدى ما سيتسبب عنها من تغير كامل لمعالمها ، وبدأ تسجيلي لاحداثها وبدأت جولتي الأولى في زيارة بلاد النوبة لمعايشة اهلها و واقع الحياة فيها . في عنيبة وابريم وأدندان وتوشكا وأبو سمبل؛ حيث كنت اتجول ما بين بواخر البوستة التي تبحر من أسوان الى وادي حلفا حدودنا مع السودان، واستئجار مركب شراعي يجول بي نهرا بين قراها أو او عن طريق الركائب داخل أراضيها، ولمدة خمسة عشر يوما سجلت هذا الواقع، وأيضا قمت بتغطية ما تقوم به بعض بعثات الآثار الأجنبية التي تواجدت في المنطقة بتسجيل كل آثارها قبل غرقها وكانت المراحل الأخيرة قد تمت في نقل معبد فيلة وبعض المعابد الصغير المتبقية.
وجاء موعد تنفيذ مشروع السد العالي في يناير 1960 حين تم أول تفجير لتحويل مجرى نهر النيل والذي نقيم له احتفال عالمي. وقام الرئيس السوري شكري القوتلي رئيس جمهورية سوريا نيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر بإعلان أول تفجير للمجرى الجديد وكانت الوحدة بين مصر وسوريا ما زالت قائمة في هذا الوقت، ومنذ هذه اللحظة بدأ الاستعداد لتهجير أهل النوبة إلى مدنهم الجديدة في كوم أمبو (مركز ناصر) وإسنا بعيدا عن أرض الأجداد، وأقيم لها احتفالات شعبية كبيرة، وبدأ مع التهجير تنفيذ رفع معبد أبو سمبل من مكانه إلى أعلى الجبل بعد تقطيعه إلى أجزاء، ويتم تجميعه من جديد قبل ان تغمره مياه النيل، وقد ساهمت هيئة اليونسكو بمشروع نقله. وأثناء ذلك بدأت مدن وقرى النوبة القديمة ونخيلها التي اشتهرت بها فى الاختفاء تحت مياه بحيرة ناصر.
وأثناء تجميع معبد أبوسمبل كان مشروع السد العالي قد بدأ على قدم وساق وكان لا بد من تحويل مجرى النهر، وقد أقيم لهذه المناسبة احتفالاً عالمياً قام فيه الرئيس جمال عبد الناصر وضيوفه الرئيس الروسي خروشوف وعبد السلام عارف رئيس العراق وبعض كبار الضيوف الذين دعوا الى هذا الاحتفال العالمي، والذين توافدوا لزيارة موقع السد العالي أثناء التنفيذ كثيرا من رؤساء الدول وكان في مقدمتهم الرئيس شوا نلاي رئيس الصين وغيره . لم أكن أدرك أنه مع تغطيتي لهذا الموقع التاريخي وظروفه المختلفة ومتابعتي له بين الحين والحين أن تتجمع لدي صور كل هذه الأحداث. وهنا كان لزاما على تاريخيا أن أجمع هذه الصور والذي جاء منها هذا التوثيق التاريخي لهذه المنطقة المهمة من أرض مصر والتي تغيرت معالمها جغرافيًا).
النكسة
في 1 يونيو 1967م تم تكليف أنطون ألبير ومعه أربعة صحفيين آخرين من الأهرام ومن مؤسسات صحفية أخرى وذلك للذهاب إلى سيناء وتغطية استعدادات الجيش للحرب .. كان من هؤلاء الخمسة هم الكاتب أنيس منصور، والمحرر العسكري محمد حسين شعبان من الجمهورية، ورئيس قسم التصوير بجريدة الأخبار أحمد يوسف، ومن الأهرام كان أنطون ألبير وصلاح حداد، الحقيقة أن قصة مغامرة أنطون ألبير المصحوبة بالمخاطر أحببنا التعرف عليها بتفاصيلها وتوثيق هذا الموضوع، فقمت مع أيمن خوري بحمل كاميرا فيديو والتوجه إلى جريدة الأهرام حيث مكتب أنطون ألبير فى ذلك الوقت، المكتب صغير ويحتوي على عدد كبير من الصور الخاص بعمالقة الأدب والصحافة والفن، وكانت لقطات التقطها ألبير وقام أصحابها بالتوقيع عليها، وجدته فى مكتبه كما أراه دائما انيقا مرتبا.. برنس حقيقي، اعتدل البرنس أنطون ألبير فى جلسته وابتدأ فى سرد الواقعة (الشئون المعنوية بالقوات المسلحة طلبوا من الصحف ندب مجموعة من الصحفيين والمصورين لتغطية تحركات قواتنا فى سيناء بعد أن قرروا أن تتجمع القوات هناك، وأن نقوم بتغطية هذه الأحداث على أمل النصر والدخول بعد ذلك إلى تل أبيب، وبالفعل قمنا بالتوجه إلى سيناء فى 1 يونيو 1967م، وبدأنا في تغطية الأحداث الجارية وتحركات القوات، وظللنا على هذا الحال حتى يوم 4 يوليو حيث توجهنا إلى العريش والتقينا قائد القوات المتقدمه، الذي طلب منا البقاء لديه حتى اليوم التالي وذلك انتظارا لوصول قوات كويتية كانت قادمة للمشاركة فى الحرب بالمواقع المتقدمة، وكان مطلوبا مننا اصطحابهم إلى منطقة رفح حيث سيكون تمركزهم، وعندما وصل القطار الذي يقل القوات الكويتية في 5 يونيو طلب القائد منا أن نركب معهم ولكننا اعتذرنا عن ذلك حيث فضلنا أن نذهب الى موقعهم بسيارتنا، ولم يمانع القائد وبالفعل انطلقنا بالسيارة، وفى الطريق شاهدنا عدة طائرات ميراج غريبة عن الطائرات المصرية وتعجبنا لذلك، وكنا نشاهد على مسافة بعيدة للغاية أدخنة متصاعدة كثيفة، عرفنا بعد ذلك أنها فى منطقة الزيتية بمحافظة السويس بعدما ضرب طيران العدو الاسرائيلى خزانات البنزين الخاصة بقواتنا المسلحة، كان معنا جهاز راديو صغير وقمنا على الفور بتشغيله واستمعنا إلى إذاعة صوت العرب لنتعرف على حقيقة ما يجرى حولنا، كانت النشرات الإخبارية المتلاحقة تذيع أننا نتعرض لمناوشات من الطيران الإسرائيلى، ثم بعد ذلك عرفنا أن قواتنا أسقطت عددا كبيرا من طائرات العدو، كنا نرى مواقع مشتعلة يتصاعد منها الدخان، يحدث ذلك من حولنا، وتخيلنا بناء على ما يتم إذاعته أن هذه الحرائق هى طائرات تم إسقاطها، فنركض سريعا لتسجيل الحدث لنفاجأ أن ما تم ضربه هى المدفعية المصرية التى ضربتها الطائرات الإسرائيلية، فوقعنا فى تناقضات غريبة وتوقعات مرعبة وضعتنا فى حالة نفسية سيئة، فعدنا سريعا إلى العريش حيث فوجئنا بما هو أصعب، زحفت قوات العدو الاسرائيلى على مدينة العريش وحاصرتها، وظللنا بداخلها نعاني ما يعانيه أهالي العريش بسبب الظروف السيئة نتيجة الحصار، إضافة إلى وضعنا كصحفيين فيما لو تم القبض علينا، بعد الحصار اقتحمت قوات العدو المدينة وبدأت فى السيطرة عليها، دخل سرب من السيارات المصفحة والمدفعية التى أخذت تضرب بشكل عشوائي فى كل مكان، كنا فى ذلك الوقت نقيم بفندق فى الميدان، والذي تعرض للضرب والقصف فاختبأنا جميعا حتى هدأت الهجمات لنجد الفندق وقد تم تدمير اكثره، فحملنا حقائبنا وخرجنا هاربين الى أحد المنازل؛ حيث استقبلنا صاحب المنزل بترحاب واختبأنا عنده، بعد ذلك طلب منا صاحب المنزل تخبئة معدات التصوير والتخلص منها فى هذا الوقت، وبالفعل قمنا بتخبئتها فى بئر قريبة من منزل الرجل الذي استضافنا عنده، بعد قليل اقتحمت قوات العدو منازل السكان وطلبوا إخراج جميع الرجال من المنازل، فخرجنا معهم وبعد التفتيش وسرقة متعلقاتنا الشخصية من ساعات وخواتم ونقود، طلبوا أن نحمل جميعا مناديل بيضاء ونلوح بها فى إشارة لاستسلامنا وفعلنا بالطبع ولم يكن لنا حيلة أمام هذه القوة الغاشمة، وقاموا بتصويرنا بكاميرا التليفزيون الاسرائيلى التى كانت تذيع هذه الأحداث لإظهار استسلام المدينة، بعد أن فرغوا من ذلك تركونا فعدنا إلى المنزل، بعد قليل حضر الينا موظف السجل المدني بالمدينة وسئل عنا وكان يعلم أننا صحفيون، طلب منا بطاقاتنا وقال لنا إذا عرفت إسرائيل أنكم صحفيون فقد يستفيدون منكم، لذلك يجب تغيير هذه البطاقات فورا وقبل أن يقبض عليكم، وبالفعل قام الرجل بإصدارات بطاقات جديدة تحمل صفة مدرس، وقد لقّنا قصة توضح سبب وجودنا فى العريش، وهو أننا قادمون للمشاركة فى متابعة امتحانات الثانوية العامة بالمدينة، بالفعل أخذنا البطاقات ووضعناها بجيوبنا، وفى المساء قامت قوة إسرائيلية جديدة باقتحام المنازل وتفتيشها، كانت هذه المرة مصحوبة بيهود من اليمن ولبنان ومن يتحدثون العربية ممن ينتمون إلى المخابرات الإسرائيلية، من اقتحم منزلنا كانوا من يهود اليمن ولبنان، سُئلنا عن سبب وجودنا فسردنا لهم القصة الوهمية، وبعدها رأوا بطاقاتنا، ثم تركونا ومضوا، بعد أن خرجوا نظرنا إلى بعضنا البعض بتعجب حيث أدركنا ان البطاقات لها أرقام مسلسلة فمثلا بطاقة تحمل رقم واحد والأخرى اثنين والثالثة ثلاثة وهكذا حتى البطاقة الخامسة، رغم انه كل بطاقة منها مسجلة بمكان مختلف، فأحدهم فى البحيرة والاخرى فى كفر الشيخ وأخرى بالقاهرة ثم الإسكندرية وهكذا، فكيف لم تنتبه المخابرات الإسرائيلية لهذا الخطأ، وظلننا طوال الليل وحتى الصباح فى خوف أن يكونوا أدركوا هذا الأمر وسيتم القبض علينا بعد ذلك، لكن الحقيقة التى ان المخابرات الاسرائيلة لم تكن كما كنا نتخيلها، وأنها بالفعل ليست بتلك الذكاء، بعد ذلك بقينا فى أوضاع سيئة بالعريش مع المقاومة الشعبية لمدة ستة وعشرين يوماً، وفى أثنائها كنا نزور المستشفى العام بالعريش، كنا بالطبع نأخذ الطرق الداخلية والتى كانت مليئة بالمجندين المصريين المصابين والقتلى، وكانت المستشفى فى حالة سيئة، ولا يمتلك ما يساعده على تضميد جراح المصابين وإسعافهم، وكنا نلتقى بطبيب مصري وقف بشجاعة كبيرة لمحاولة إنقاذ أرواح من يصابون جراء القصف أو إطلاق الرصاص عليهم من العدو الإسرائيلى، وفى يوم طلب منا الطبيب أن نسلم أنفسنا إلى المخابرات الإسرائيلية؛ حيث إنهم يفتقدون حاليا للسلاح والعتاد لذلك يقومون بتسليم المجندين المصريين إلى الصليب الأحمر رغبة فى إخلاء المدينة ليستطيعوا السيطرة عليها بعتادهم وسلاحهم القليل، وقد اتخذوا من المستشفى مقرا لاستسلام المجندين، بالفعل عزمنا على تسليم أنفسنا وفعلنا ذلك، واخبرناهم أننا مجندون بالجيش المصري، فحجزونا مع الكثير من المجندين فى المستشفى، ثم حملونا فى سيارات نقل استولوا عليها من القوات المصرية، وتكدسنا فى الخلف تماما كالمواشى، وقد كانوا قد قرروا موعد الترحيل، وانطلقنا إلى طريق القنطرة شرق؛ حيث من المفترض أن يتم تسليمنا، ولكن فى الطريق حادت السيارات إلى طريق آخر فظننا انهم سيكررون ما فعلوه فى دير ياسين عندما قاموا بتصفية الاسرى وقتلوهم أبشع قتله، لكن بعد قليل عادت السيارات الى طريق العريش واتجهوا الى القنطرة شرق، فى القنطرة كان الصليب الأحمر يقوم بمتابعة عملية تسليم المحتجزين وضمان سلامتهم، وقبل تسليمنا للصليب الأحمر قام العدو الاسرائيلى بتفتيش الجميع واستولوا على ممتلكات من كان لا يزال يمتلك شيئا معه مثل دبلة زواجه أو هدية صغيرة من أسرته، لم يتركوا لنا شيئا، ما جعل دموعى تنهار بعد كل هذه المعاناة هو الإهانة التى شعرت بها وهم يبادلوننا بالخضراوات، كان المجند المصري بالنسبة لهم يساوي حبتى بطيخ او بعض العنب، عدنا إلى وطننا وبداخلنا غصة وشعور بالمهانة ظل يصاحبني حتى شهدت انتصار قواتنا المسلحة فى 1973م)، وبالفعل كان أنطون ألبير يحمل سلاحه – الكاميرا – فى حرب 73 ليسجل انتصار الجيش المصري على قوات العدو الاسرائيلى، وهنا شعر انطون أن ثأره قد تحقق، وظل يقف مقاتلاً بعدسته فى ساحة المعركة بكل جدية وقوة، حتى إنه حصل على الجائزة الأولى لأحسن مصور صحفي لحرب أكتوبر73.
أم كلثوم والهرم
ارتبط أنطون ألبير بعلاقة صداقة مع كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وكانت الست تحب أن تطمئن الى أن أنطون بجوارها ويصورها، وتركته يصور حتى تجولها مع زوجها فى المصيف، وفي أحد اللقاءات بين أنطون ألبير وكوكب الشرق تبادلا خلالها أطراف الحديث، أسرت الست إلى أنطون أنها لم تزر الأهرامات فى حياتها، دهش أنطون ألبير من هذا الأمر فكيف لأم كلثوم وهى رمز كبير لمصر، لم تزر الأهرامات حتى الآن؟ استنكر أنطون ألبير هذا الأمر بشدة وقال لها (بكرة الصبح اعدى عليكى بالعربية ونروح الهرم) وقد وافقت ام كلثوم على هذا العرض، وبالفعل فى الصباح الباكر كان أنطون ألبير آتيا إليها بسيارة كاديلاك مكشوفة عند باب فيلتها الشهيرة بشارع ابو الفدا في منطقة الزمالك والتى بناها لها المهندس على لبيب جبر، وخرجت ام كلثوم لاستقبال أنطون ألبير، واتجهت معه على الفور الى منطقة الأهرام، وشعر انطون بفرحة أم كلثوم الشديدة بهذه الرحلة وكأنه يصطحب طفلة صغيرة، حتى إنها طلبت منه فى الطريق أن يقف أمام منزل ريفى حيث كانت منطقة الاهرام لا تزال تتمتع بطبيعة الريف الجميلة، وبالفعل نزلت ام كلثوم وسلمت على أهل المنزل، وأتصور دهشة اصحاب المنزل البسطاء وهم يجدون الست ام كلثوم تزورهم بل وتقوم بإطعام المواشي ومساعدتهم، فظهر حنينها لماضيها الريفي، ولم ينس أنطون ألبير بالطبع أنه المصور الذي لا تفوته تلك اللقطات، فأسرع بإخراج كاميرته والتقط صورة للست وهى تطعم إحدى المواشى أمام المنزل الريفى بالهرم، واستكملا بعد ذلك رحلتهما واتجها إلى الأهرامات، وأسرع مسئول آثار منطقة الهرم فى ذلك الوقت الكاتب الكبير (كمال الملاخ) باستقبال الضيفين، كانت أم كلثوم تنظر الى الهرم بتمعن شديد، ويعلم الله إحساسها فى ذلك الوقت وهى أمام الأهرامات الثلاثة، وقد اعتبرها الكثيرون أنها الهرم الرابع، ومن أمام ابو الهول حارس الأهرامات استطاع أنطون ألبير التقاط عدة لقطات تاريخية لوجه أم كلثوم إلى جانب أبو الهول، ولم تنقطع ام كلثوم بعد ذلك عن زيارة منطقة الأهرامات حتى إنها قامت بالغناء في مسرح الصوت والضوء تحت سفح الهرم.
ثورات وحروب
هذا البرنس الذي أعرفه لم يكن من الرجال المحبين للعمل فى الاجواء الهادئة رغم ما يوحى به مظهره الراقى الهادئ، فقد انغمس أنطون ألبير حرفيا فى العمل الشاق الصعب، وأصبح يتصدر للذهاب إلى المواقع الساخنة، فور حدوث ثورة أو حرب فى الوطن العربي او القارة الافريقية او الاوروبية، فأسرع انطون لتصوير احداث الثورة اليمنية والتي اندلعت فى اليمن عام 1962م واستمرت حتى العام 1970م، وأسفرت عن حرب أهلية خطيرة، وفى وسط تلك الأجواء كان البير المصري يجول بكاميرته لتصوير بشاعة تلك الحرب وينقل الصورة التي لا تكذب إلى الجمهور المصري ليطلعه على هذه الأجواء الساخنة التي تهمه كعربي.
وفي فلسطين تابع الانتفاضة منذ بدايتها وصعد نجمه بين طلقات رصاص العدو الصهيونى والقنابل والانفجارات، فكان دائما ما يتواجد ويسرع لتوثيقها بعدستها، حتى إن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات التقى به فكانت لقطة فوتوغرافية لم يكن أنطون خلفها، بل كان أمامها واقفا مع عرفات.
وفى عام 1970م هرع أنطون ألبير إلى سوريا لتسجيل وتوثيق أحداث انقلاب البعث، حيث استطاع وزير الدفاع السوري حينئذاً حافظ الأسد ومعه رئيس الأركان مصطفى طلاس ومعهم الكثير من الظباط الموالين إلى الأسد من القيام بحركة انقلابية تمكن بعدها حافظ الأسد من تولى رئاسة سوريا، وعرفت هذه الحركة بالحركة التصحيحية، ومن سوريا إلى لبنان حيث الحرب الأهلية الطائفية الطاحنة، تنقل أنطون ألبير غير عابئ أن يكون فى مناطق مسيحية أو مسلمة، فهو يقوم بواجبه، وفى أجواء غاية فى الصعوبة كاد خلالها أن يفقد حياته أكثر من مرة، كان أنطون ألبير يقوم بواجبه كجندي لدى صاحبة الجلالة (الصحافة)، ومن حرب أهلية الى انقلاب عسكري إلى ثورة شعبية تنقل أنطون ألبير بسلاحه الذي كان عبارة عن كاميرا تقوم بتخليد تلك اللحظات المهمة.
اللقاء الأخير
لم أنس آخر لقاء بينى وبين أنطون ألبير مطلقا، ليس فقط لأنه الأخير ولكن لأنه الأغرب بالنسبة الى شخصية أنطون ألبير التي أعرفها، كان لقائي به مصادفة فقد كنت أتجول مع أسرتي فى أحد المولات الكبيرة وفى أحد الممرات التي وضع بها مقاعد خشبية للاستراحة كان أنطون ألبير يجلس فى واحدة منها، كان المكان خاليا تقريبا من البشر، فقد كانت جولتنا فى الصباح وهذه الأماكن تستقبل أغلب زوارها مساء، كان أنطون يجلس وحيدا شاردا نظره معلق إلى الأعلى، ظهر لى متأملاً بعينيه التى كانت أداته.
(استاذ انطون! إزيك .. بتعمل إيه هنا)؟
هكذا سألته بدهشة كانت بداخلى ليس بسبب وجوده بمول يبعد عن منزله دقائق قليلة ولكن لأنى وللمرة الأولى أراه جالسا شاردا لا يفعل شيئا، عندما رآني لانت ملامحه وابتسم وحاول أن يقوم إلى ليسلم، وحاولت أنا أن أمنعه من القيام، لكن البرنس أنطون لا يستطيع ان يتحدث مع أشخاص واقفين أمامه وهو جالس، خاصة وزوجتى معي، فأمسك يدى وربّت عليها وقام واقفا أمامنا ليسلم على زوجتى أولاً بالطبع ثم على، تبادلنا يومها الحديث وكان صوته يبدو منهكا يخرج بصعوبة، لم أعرف يومها سبب جلوسه فى هذا المكان ولم أحب أن اضيق عليه بسؤالى مرة أخرى، بالنسبة لرجل لم يهدأ يوما فى التجوال والحركة والتقاط الصور، أن تجده فى مكان لا يبعد عن منزله سوى مسافة بسيطة ليس بأمر مستغرب، ودعته بعد حديثنا وتركته ليستكمل جلسته ويعود إلى شروده، بعد مرور أشهر قليلة استقبلنا عيد الأضحى، وللمرة الأولى لم تصلنى رسالة التهنئة المعتادة بالعيد من ألبير، تعجبت لذلك وعندما سئلت عنه علمت بنبأ رحيله، فعرفت يومها أنني التقيته فى أيامه الأخيره، حيث كان يجول فى الأماكن متأملاً لها قبل أن يغادر هذا العالم فى 11 يوليو 2012م، رحل صاحب تاريخ كبير وطويل، رحل من كان عبد الناصر يحب عدسته والسادات ومبارك الذي جعله مصوره الخاص من عام 89 وحتى العام91، رصدت عدسته طه حسين مع زوجته، وجلس توفيق الحكيم على عجلة رياضية أمامه ليصوره، وكذلك فعل إحسان عبد القدوس، استسلم لعدسته صاحب نوبل الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يترك مكتبه الذي يبعد خطوات عن مكتب زميله بالأهرام أنطون ألبير ليجلس معه ويتبادلوا الأحاديث، دخل منزل يوسف وهبي، وكان لصيقا بفريد شوقي، اقترب من الشيخ الشعراوي الذي كان يتركه يلتقط ما يشاء فى جلسات الشعراوي الخاصة ومع أصدقائه كالباقوري وغيرهم، وجلس مع البابا شنودة الذي تركه أيضاً ليصوره، جلس فى بروفة عبد الحليم حافظ مع عبد الوهاب وصورهما وكان عبد الحليم يكره التصوير فى البروفات ويمنعها بشدة، لكنه ترك أنطون ألبير! قابل الفيلسوف الكبير سارتر وصوره، وكانوا جميعا يحبون أن يقف أنطون نفسه معهم لتسجل العدسة لقاءه بهم، الأب الروحي (مارلون براندوا) وفاتن حمامة وفيروز والرحباني وزكريا أحمد ويوسف شاهين وشادية وسعاد حسني ونجلاء فتحي ويسرا، وغيرهم الكثير ممن عانقتهم عدسة أنطون ألبير فى أماكنهم الخاصة، أعتقد ان البرنس أنطون ألبير لم يكن ليصلح ان يكون مصورا ينتظر القادة والفنانين ليخرجوا إليه، فكانوا يعرفون قدره ويدخلونه هو إليهم، التقط أنطون ألبير أهم اللقطات التى اندهشنا لها أو أضحكتنا، فهو من قام بتصوير تلك السيارة التى كانت مستقرة على أحد سلالم كوبري الزمالك بعد أن هبطت الدرج بسبب سكر صاحبها، وهو من كان يقوم بتصوير المصطافين على الشواطئ، والجالسين فى المقاهي، كان أنطون مصور الحرب والسلام.
في النهاية حملت أنا كاميرتى وقمت بتصوير انطون البير للذكرى، وعند صدور كتابه (النوبة عبر عصرين) سلمته بنفسي النسخة الأولى، فابتسم لى وطلب أن أخذه منه كتذكار بعد ان كتب لى بداخلها كلمة (لمن كان له الدور الهام في انجاز هذا الكتاب والذي خرج إلى النور بجهدك وعنايتك .. أنطون ألبير 2008م).. واليوم أقول لأنطون ألبير لمن كان له الدور المهم فى تسجيل لحظات تاريخية مهمة فى مصر والوطن العربي، والذى لولاه هو وأمثاله من العظماء ما عرفنا معنى أن الكاميرا سلاح يضاهى أسلحة العالم قوة.. شكرًا لك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جدول الصور