الكاتب : وفاء السعيد
* قصة «نجاتي» بها جانب من الفيلم الذي لم أصنعه عن أبي
* أحاول الابتعاد عن الحلول السهلة وعدم السقوط في فخ التكرار
* الفيلم الذي لا يدهش المتفرج لماذا صُنع؟
في سياق عرضه في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، عُرض فيلم "تأتون من بعيد" للمخرجة المصرية مؤسسة مهرجان سينما المرأة أمل رمسيس، والذي كان قد حصد الجائزة الكبرى في مهرجان تطوان السينمائي، وجائزة التانيت الفضي في أيام قرطاج السينمائية، ومؤخرًا حصل على جائزة لجنة اتحاد نقاد السينما الإفريقية، كما حصد جائزة النقاد "الفيبريسي" والتي تقدم لأول مره ضمن مهرجان الإسماعيلية.
الفيلم يحقق نجاحًا كبيرًا، وأهم ما يميزه فكرته غير التقليدية بالرغم من كون المخرجة مصرية، وموضوع الفيلم عن مشاركة العرب في الحرب الأهلية الإسبانية بجانب الجمهوريين، يمنح هذه الفكرة "طزاجة" لم تكن مطروقة من قبل .. الفيلم يروي قصة أسرة فلسطينية منكوبة بالحروب وعاشت في خضم الأحداث السياسية الكبرى أحداثًا جسام.
أسرة المناضل اليساري نجاتي صدقي الذي بسبب خياراته السياسية، وانحيازاته، وإيمانه بالأممية وبالمسئولية تجاه قضايا رفاقه في صراعهم التاريخي ضد الفاشية، دفع ثمنًا غاليًا من التئام شمل عائلته التي مزقتها بدايةً اشتراكه في الحرب الأهلية الإسبانية بجانب الجمهوريين، ثم الشتات الفلسطيني والتهجير بعد النكبة وحرب 48، واعتقال زوجته التي كانت رفيقته في الكفاح السياسي، واضطرت الأسرة، ترك الابنة الكبرى "دولت" (دوليا، دوليشكا، أو ابنة الرفيق سعدي الاسم الحركي لوالدها كما كانوا يطلقون عليها) التي اتخذت أسماءً جديدة وهويات جديدة، فتم ترحيلها إلى روسيا لتعيش حياتها غريبة في ملجأ إيفانوفو، وتحتجز هناك حتى بعد الصفاء النسبي للأجواء وخلوها من سحب الحرب القاتمة، ومحاولات الأسرة لاستعادتها باءت بالفشل، ثم يعيش جزءٌ من الأسرة في لبنان، وتزورهم دوليشكا زيارات متقطعة تشعر فيها بالتمزق بين هويتين، عربية وروسية، تجعلها في حالة من القلق الدائم، فتقوم الحرب الأهلية اللبنانية وتضطر الأسرة للترحال من جديد والسفر إلى أثينا، حيث تكمل هند الأخت الصغرى حياتها، بينما الابن الأوسط سعيد يهاجر إلى البرازيل، والنتيجة أخوة غرباء، لا يتحدثون لغة واحدة، بهويات متعددة، لا يجمعهم سوى أشلاء ذكريات متناثرة يحاولون القبض عليها والإمساك بها خشية انفلاتها وتحللها، ويسيرون رغم كل ما خاضوه متحدّين قانون الزمن وتقلباته في آخر الفيلم ويقول لهم سعيد نحن الثلاثة أبناء صدقي، وكأن هذا هو الانتماء الوحيد الذي يجمعهم أنهم أبناء هذه الأسرة التي خاضت غمار كل هذه الأحداث.
الفيلم وثيقة إنسانية جمالية قبل أن تكون سياسية، عن جدلية التأثير والتأثر التي تخلفها آلة الحرب بين البشر وبين السياسة، كيف تشكل مصائرهم، ويشكلونها هم بخياراتهم، وهو أيضًا إعادة مساءلة لفكرة الهُوية والقومية الوطنية والانتماء، في بناء محكم يجمع بين الماضي والحاضر، يربط الأزمنة والأمكنة في جديلة محكمة تجعل من مدريد وفلسطين ولبنان وبغداد تنويعات على نغمة واحدة من النضال ضد مشروع فاشي ممتد لم يسقط برحيل بعض رموزه بل يظهر بأوجه عدة، ويربط التاريخ بسؤال الآن وهنا، وهو إعادة اعتبار للتاريخ الشفهي والذاكرة الفردية ودورها في حكي التاريخ من قِبل الأشخاص الذين عاشوه، والذين يشكلون بذاكرتهم الجمعية أرشيفات حيّة بوسعها أن تتحدى سلطة احتكار الرواية التاريخية التي تحبسها السلطة في أدراج مؤسساتها والحصول عليها عسير ومكلف، وتتحدى امتلاك رواية واحدة للتاريخ هي رواية المنتصر. لدينا تساؤلات عديدة بشأن هذا الفيلم الجدلي، فكان لمجلة الفيلم مع مخرجته هذا الحوار:
اروِي لنا حكايتك مع الفكرة وتطورها حتى وصلت للفيلم النهائي، كيف عثرتِ على هذا الموضوع؟
- كنت أدرس سينما في مدريد، بالمصادفة وجدت مقالة تتحدث عن دور العرب في الحرب الأهلية الإسبانية، لكن ضد الفاشية ضد فرانكو، وكانت كل المعلومات المعروفة أو المتاحة حتى ذلك الوقت عن دور العرب المغاربة الذين أتى بهم فرانكو من أجل الانقلاب العسكري الذي قام به على الديموقراطية، أو ضد الحكومة الجمهورية في إسبانيا، فكانت تلك هي المرة الأولى التي أقرأ فيها أن هناك مشاركة للعرب في الجانب الآخر، لفتني الموضوع دون أن أفكر في البداية أنه سيكون فيلمًا، ربما فكرت أن يكون موضوعًا لفيلم لطيف لكن لم يكن لديّ شيئٌ واضحٌ في البداية، اتصلت بكاتب المقال، اكتشفت بالصدفة أنه كان لديه معلومات عن الموضوع؛ لأنه كان يقوم ببحث في موضوع مختلف تمامًا، كان عمره في ذلك الوقت يناهز الخامسة والثمانين عامًا، اعتبر أنني كنت الوحيدة في ذلك الوقت المهتمة بالموضوع، فأعطاني كل الأوراق والوثائق التي عثر عليها، وبعض أسماء من الناس الذين عرف عنهم مشاركتهم في الحرب الأهلية، ومن هذه اللحظة بدأت رحلة بحث طويل، فكرت إنه يصلح أن يكون موضوعًا لفيلم، لكني في نفس الوقت لم أكن أريد أن أصنع فيلمًا تقليديًا عن الحرب الأهلية الإسبانية بالطريقة التقليدية التقريرية التليفزيونية، كنت أبحث أكثر عن قصص شخصية، وكان في هذه الفترة ما بين 2002 – 2003 المشاركون في الحرب تقريبًا الباقون منهم لديهم 95 عامًا، ففكرت أنه لابد من العثور على شخص من الجيل الثاني، وأجريت بحثًا طويلًا عن الموضوع ليس من أجل الفيلم أو بغرض نشره لأنه كتب كثيرًا عن هذه الحرب ولكن لنفسي لكي أفهم الموضوع، وبدأت أشدّ من الخيط لأرى إلى أين سيصل بي.
في 2007 تحدثت إلى أشخاص كثيرين حتى اتصل بي أحدهم، أخبرني أن ثمة كتابًا صادرًا في إسبانيا عن العرب الرّحالة ويحتوي فصلًا عن شخص اسمه "نجاتي صدقي"، وهو فلسطيني، لكن ورد في الكتاب باعتباره أحد الرّحالة العرب في الجزء من حياته الذي ذهب فيه إلى برشلونة، ولم يكن الحديث عنه كونه مناضلًا .. اتصلت بالكاتبة، طبعًا قرأت هذا الفصل بعناية ووجدته مهمًا جدًا؛ لأنه يعتبر أول شيء كتب عن شخص من العرب ذهب هناك يحكي تجربته، لا أعتقد أن أحدًا كتب من قبل عن هذه التجربة، أظن أنه كُتب وكانت منسوبة لنجاتي صدقي لكنها نشرت تحت اسم شخص آخر.
هل هذه الأجزاء من المذكرات التي كانت تقرؤها ابنته هند بداخل الفيلم؟
- نعم هي، عن رحلته لبرشلونة ومدريد، لكن مذكراته بها أشياء كثيرة وليس فقط هذا الجزء، لكن مؤلفة الكتاب لم تكن ترجمت سوى الجزء الخاص برحلته لبرشلونة ومدريد، وقالت لي الكاتبة إن ابنة نجاتي تعيش في أثينا ويمكنك الاتصال بها لتعطيكِ الكتاب كله، اتصلت بـ"هند" – إحدى شخصيات الفيلم – وأرسلت لي على مدريد مذكرات نجاتي صدقي، وعندما قرأتها وشعرت أن هنا يوجد موضوع كبير؛ ليس فقط لأنه شارك في الحرب الأهلية الإسبانية، طبعًا لديه ذاكرة خصبة جدًا، كنت لأول مرة أقرأ تجربة عربيّ شارك بهذه التفاصيل الغنية عما صنعه في برشلونة في الشارع الفلاني وهكذا، كان مفصلًا كثيرًا، فقررت أن أصنع فيلمي عنه، علمت طبعًا أنه توفي عام 1979 فلم تكن لدي فرصة وجوده في الفيلم فذهب إلى هند ابنته، وعرفت هناك باقي قصة العائلة التي لم أكن أتوقعها، وهي قصة أكبر بكثير من المشاركة في الحرب، هي بالفعل تبدأ بالحرب الأهلية الإسبانية لكن لا تنتهي هناك، فشعرت أن الموضوع كبير ولابد أن يكون هناك بحث أكثر و شغل كبير على المادة والأرشيف والذاكرة، وبالتالي بدأت لكن كما حكيت في ندوة الفيلم في الإسماعيلية لم يكن أحد يهتم بالحرب الأهلية الإسبانية ولا العرب ا لمشاركين بها.
في رأيكِ لماذا؟، هل حاولتِ مخاطبة جهات من داخل إسبانيا لدعم إنتاج فيلم هو عنهم، أو يحكي جزءًا من تاريخهم، فلماذا لم يكونوا مهتمين؟
- طبعًا حاولت، لكن من جهات الإنتاج لم يهتم أحد، كأنه موضوع ليس "موضة"، حتى برغم أنه مثلًا في إسبانيا في 2003 عندما تولى الاشتراكيون الحكم صدر قانونٌ باسم "قانون استعادة الذاكرة التاريخية"، صدر بالأصل كي تبدأ سلسلة من الأبحاث؛ لأن فرانكو قد عاد للسلطة مرة أخرى، فكانت هناك حالة من حالات الصمت، وليس من حق أحد أن يتحدث عن هذا الموضوع، فرانكو ذهب وبدأت مرحلة ما من التحول، بدأ يكون هناك شكل من أشكال الديموقراطية، هم يعتبرونها ديموقراطية، لكن كان اليمين في السلطة بعد أن ذهب اليمين وأتى الاشتراكيون قرروا أن يضعوا قانونًا لاستعادة الذاكرة التاريخية. وأن الجمهوريين الذين لم يكونوا قادرين على الكلام قبل ذلك تتاح لهم فرصة الحديث، وأن يعاد فتح ملف الحرب الأهلية ونرى ماذا حدث في التاريخ، لكن في النهاية اكتشفنا أيضًا أنه حدثت حالة من التسوية السياسية لينتهي هذا القانون بأن يقف على مجرد فتح المقابر الجماعية، إنه من حق الأهالي ممن لديهم شك أن أحدًا من ذويهم مدفون في هذه المقبرة أو تلك ويتقدم للحكومة بشكل رسمي لاستعادة الرفات كانوا يفتحونها له، لكن لم يكن هناك أي نوع من أنواع الأبحاث أو الدراسات أو حتى الميزانيات التي يتم توجيهها من قبل الحكومة الاشتراكية من أجل أن يكون هناك فعلًا مراجعة حقيقية لما حدث في الحرب، وهذا كشف لي أكثر أن الموضوع انتهى ولم يكن أحد مهتمًا، وأعتقد أيضًا أن هناك صورة عن مشاركة المغاربة في الحرب إلى جانب فرانكو، وهي صورة لا تسبب الخسارة لأي طرف لا يخسر فيها سوى المغاربة حقيقةً. فليس من الأولويات أن يقدموا صورة أخرى عن العرب، وحتى في إسبانيا أن تعيدي فتح الموضوع والحديث عمّا حدث فعلًا بشكل حقيقي ومفتوح وميزانيات تتوجه حتى يقال ما فعل الجمهوريون وما لم يفعلوه، فهذا لم يحدث فلن يدعموني لأتحدث عن العرب ومشاركتهم ضد فرانكو فيقولون أهلا وسهلا بكِ، كل هذه الفترة مازالت فترة مسكوتًا عنها ولا يريدون الحكي بشأنها، وهذا نوع من المساومة بين الأطراف السياسية لا تتحدثون أنتم ولا نتحدث نحن، وبعد ذلك كنت أعيش في إسبانيا ثم عدت إلى القاهرة وقامت ثورة يناير، انشغلت بها، وصنعت فيلمين في النص "ممنوع" و"أثر الفراشة" أيضًا شاركوا في مهرجانات كثيرة، فانشغلت في هذه الفترة وفكرت أن أنحي موضوع الفيلم جانبًا لأنه عن ، وواضح أنه ليس مهمًا بالنسبة لأحد فتحه.
كنتِ ناشطةً في الثورة ومصرية، ما سر انجذابك الشديد لهذا الموضوع أن يكون مشروع عمرك الممتد، وتستمرين فيه لسنوات .. 10 سنوات؟
- امتد لأنه لم يكن هناك إنتاج، كان من الممكن إنهاؤه أسرع لو كانت هناك جهة دعمت ما كان قد استمر لعشر سنوات، هو استمر كل هذه المدة لضيق ذات اليد لا أكثر، وفي المرحلة الأولى بحثت ولم أجد دعمًا، فقلت لنفسي حسنًا ليس هناك فائدة يبدو أن الموضوع لا يهم أحدًا، وكان من الممكن أن يستمر الحال كذلك، ما أعاد تحريك الموضوع مرة أخرى هو اتصال هند في 2015 أخبرتني أن أختها "دولت" التي لم أكن صورت معها من قبل بدأت تعاني من تداعٍ وضعف في الذاكرة، فإذا كنت مهتمة فعلًا بالفيلم عليّ الذهاب فورًا، فكنت مسافرة وأنا شاعرة بأني وعدت العائلة أن أحكي حكايتهم، فلابد من الذهاب حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف تحديدًا ماذا سوف أصنع بالمادة، حتى قابلت دولت وشعرت أن هذه السيدة هي التي صنعت الفيلم بمعنى معين، فبعد أن عدت من الرحلة الأولى مع دولت شعرت أنه لابد من استكمال الفيلم، حتى إنني بدأت العمل على المونتاج وأنا أعلم أن الفيلم لم يكن قد انتهى بعد، لكن لكي تكون لديّ مادة أبحث بها عن تمويل بطرق مختلفة تظهر أن الفيلم لن يروي قصة الحرب بالطريقة التاريخية الكلاسيكية، وأن هناك أشياء كثيرة تجريدية، وفي هذه اللحظة الناسُ الذين لم يكونوا مهتمين بدعم الفيلم في البداية، لا أعتقد أنهم اهتموا به أكثر فيما بعد لأنه تاريخي، ولكن بسبب الجزء التجريبي لأن الجزء السينمائي به شد انتباههم أكثر، ففكرت باللعب على الجزء السينمائي أكثر؛ لأني لم أكن أنوي صنع الفيلم بالطريقة الكلاسيكية فلماذا لا أعمل على المونتاج بالطريقة التي كنت أتخيلها منذ البداية، طبعًا جزء منه الذي قمت بتصويره بمجرد ما حصلت على قدر من التمويل يساعدني على استكمال الفيلم ومونتاجه ليست أموالًا كثيرةً طبعًا، مقارنة بميزانيات أفلام أخرى مصنوعة بكاميرات صغيرة، وفي القاهرة وليس فيها سفر وانتقالات، في هذا الفيلم سافرنا عدة عواصم وجلبنا أناسًا من البرازيل والتصوير ، وعشر سنوات، ودفعنا حقوق الأرشيف.
هل كان لديكِ دافع شخصي لالتقاط هذه الفكرة تحديدًا وتتبع تاريخ أسرة المناضل الشيوعي نجاتي صدقي كونك ابنة لمناضل يساري الأستاذ لبيب رمسيس وأحد أهم من حاولوا التأريخ لليسار المصري وتعرض لتجربة السجن عدة مرات والملاحقة والاعتقال، هل وجدتِ قواسم مشتركة وظلالًا بين قصتك الشخصية وقصة أسرة نجاتي؟
- نعم، والدي دخل السجن لكن لا يجوز المقارنة بين والدي وبين نجاتي صدقي لأن الأخير حدثت له مصيبة كبيرة، نعم الاثنان انتميا إلى اليسار لكن ليس بالضرورة أن تكون تجربتهما متشابهة، لكن يمكن، أنا شعرت أن هناك بشرًا يريدون الدفاع عن مبادئهم بحرية ويريدون أن يكونوا أحرارًا بغض النظر هم محسوبون على أي تيار، وفي النهاية هم يدفعون الثمن ولا يشعرون بأنفسهم أنهم ضحايا بقدر ما يعتبرون أنهم اختاروا، وهذا ما كان يذكرني بأبي بهذا المعنى شعرت أن قصة نجاتي بها قدر من الفيلم الذي لم أصنعه عن أبي، لكن قصة نجاتي ذهبت في اتجاه أبعد بكثير، فمثلًا نحن كعائلة لم نعش حروبًا وتجربة الشتات والارتحال، عشنا طيلة حياتنا في القاهرة، جزء الحروب مهم، وأنا أعتبر نفسي شخصًا واعيًا سياسيًا بما يحدث حوله، وإلا ما كنت تناولت الموضوع بهذه الطريقة وأنا أجلس في بيتي أشاهد أفلامًا عاطفية، أكيد يهمني العالم، وتجربة الثورة في مصر شكلت فارقًا معي، ربما إذا كنت صنعت الفيلم قبل الثورة ما كان ليخرج بنفس الطريقة، وبالفعل أي فنان أو مبدع أو كاتب سيروي القصة وهو محمل بتاريخه الشخصي وبخلفياته وانحيازاته الشخصية، لكن في حالتي أعتقد أن الموضوع يهمني لأنني كنت أريد أيضًا أن أقول إن في هذه الفترة كان هناك حركة سياسية قوية، وحركة شيوعية قوية في الوطن العربي، وأن هناك أشخاصًا ذهبوا وهم معتقدين أن الصراع الأممي مهم ويفرق كثيرًا مع قضايانا، فكل هذه القضايا تهمني بالطبع، وتشكل جزءًا من أفكاري، ربما شخص آخر وجد هذه العائلة كان سيركز على أبعاد شخصية أو إنسانية في القصة أكثر أو وجد لها بعدًا آخر، لكن الجزء السياسي والتاريخي مهتمة أساسًا به، فكرة الفيلم أتت من السياسي بالأساس، وقصة دولت والأسرة جاءت في وقت متأخر، ومن هنا نجد كيف أن المسار السياسي للأحداث يؤثر على حياة الأشخاص، لكن أيضًا الأشخاص بخياراتهم هم جزء من المسار السياسي ويؤثرون فيه، مثل قضية سوريا كلنا نتفق على بشاعة الحرب والدمار الذي تخلفه من ورائها، لكن احكوا لنا ماذا حدث؟! للبشر أيضًا خيارات، لماذا هم موجودون في هذا المعسكر وليس في المعسكر الآخر، فالألم لا يجوز أن يكون الجزء الوحيد من الرواية، الصهاينة سيقولون نحن تألمنا، الجميع تألم، لكن هناك سياق سياسي وتاريخي لألم البشر، وحتى لا يتكرر الألم مرة أخرى، فمجرد ذكر أن الحرب سيئة هذا لا يكفي لأنها ستتكرر مرة أخرى.
هناك اتجاه في دراسات أكاديمية في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية أصبحت تعطي أهمية كبرى للتاريخ الشفهي وحكْي التاريخ من أسفل من خلال وجهة نظر البشر الذين عاشوه والتنقيب في ذكرياتهم بدلًا من امتلاك رواية سلطوية للتاريخ من وجهة نظر النخب والأحزاب والسلطة تختزل التاريخ في المؤسسات أو أهم الأحداث التاريخية، هل تعتبرين فيلمك ينتمي لهذا الفكر الذي يعيد الاعتبار للذاكرة الفردية ويعترف بدورها في رواية التاريخ، وهذا ما أثّر على شكل السرد وابتعاد فيلمك عن الرواية الكلاسيكية لتاريخ الحرب الأهلية في إسبانيا؟
- لم أكن أريد بالطبع الحكْي بالشكل الكلاسيكي كما ذكرت، وعرض عليّ في البداية في وقت بحثي عن الإنتاج من قناة RT الفرنسية إنتاج الفيلم لكني لم أكن أريد التقيد بصيغة معينة format هذه القنوات، كنت أريد أن صنع الفيلم بطريقتي الخاصة، ورفضت التقيد بدعم أي جهة تفرض صيغًا أو شروطًا؛ لأنه في كل الأعمال التي نشاهدها أتساءل ما مدى إسهام المخرج في فيلمه بعد أن خضع لشروط إنتاجية من الجهة الداعمة أو المهرجان الفلاني المتقدم له .. فكان من الممكن عمل فيلم تاريخي تسجيلي عادي لكني كنت أبحث عن قصة شخصية، فبالطبع عندي قرار واعٍ للاختيار، ومن حظي أن القصة التي وجدتها تتحدث أيضًا عن الشتات الفلسطيني وعن قصة أكبر بكثير من الذي كنت أبحث عنه، فكانت مفاجأة بالنسبة لي، وشعرت أنه مكافأة لصبري ومع أسرة نجاتي، أولاده، خُلِقت بيننا صلة شخصية وثقة شديدة، ولم يتدخلوا أبدًا في طريقة صنع الفيلم، وهند ترسل لي يوميًا مقالات كتبت عن الفيلم وتعبر لي عن سعادتها البالغة أنه أخيرًا تم الاعتراف بدور نجاتي صدقي، فهم كانوا على ثقة بدون أن يشاهدوا أي شيء في الفيلم إلا بعد انتهائه أنني سأحكي القصة بأمانة بغض النظر عن الجزء السياسي الذي ليس لهم علاقة به ووجود هذه العائلة فرق في حياتي.
كان تصرفًا أخلاقيًا منكِ عدم التركيز على ذكر هوية الأم اليهودية، كان من الممكن أن تروجي للفيلم بهذه المعلومة لكنك لم تفعلي وهذا جزء من الثقة والأمانة التي تحدثتِ عنها ..
- طبعًا كنتُ واعية وأنا أقدم على منح إنتاجية عدم ذكر هذه المعلومة، ولا في صيغة التقديم فالجهات الداعمة لا تعرف أي شيء عن هذه المعلومة أو حصلت بسببها على دعم وذلك احترامًا لخيارات الأسرة؛ لأنهم كانوا مترددين في ذكر المعلومة وفي النهاية وافقوا، لكن إذا ذكرناها فسنضعها في حجمها، لماذا يكون هناك تركيز عليها أكبر من حجمه؟ وهذا احترامًا مني لهم. وكنت أريدها مفاجأة للمشاهد ليروا في نهاية الفيلم وبشكل عابر أنها سيدة يهودية لكنها اعتبرت نفسها فلسطينية وارتبطت بالنضال الفلسطيني، ودخلت السجن بسبب القضية، وأنها سيدة لديها موقف من البداية، وعندما حدثت النكبة خرجت من فلسطين مهجّرة مثلهم.
في نفس سياق مهرجان الإسماعيلية عرض فيلم آخر "إخوان النازي" في شكل تقريري كلاسيكي، ويتحدث عن فكرة مشابهة ولكن بوثائق تاريخية عن تجنيد الإخوان المسلمين وانضمامهم للحرب في صفوف النازي، تسبب ذلك في جدال واسع في كواليس المهرجان وأثار مناقشات عديدة رغم أن المعد والمخرجة لديهم وثائق وأوراق يقولون إنها تثبت صدق روايتهم، ولكن الجمهور تفاعل مع فيلمك أكثر رغم اعتماده على تاريخ شخصي، فإلى أي مدى يكون صدق الرواية التاريخية الشفهية وتماسكها؟ إلى أي مدى يصدق الجمهور هذه الرواية؟، قد تكون المذكرات منسوبة لهذا الشخص بشكل ما أيضًا إذا مضينا في فكرة التشكيك في الوثيقة، لكن الجمهور تجنب كل ذلك مع فيلمكِ وساروا مع القصة الإنسانية دون جدال كبير حول صدقها من عدمه، ما تعليقك؟
- أنا لم أشاهد الفيلم الآخر، لا أستطيع التعليق عليه، لكن ما يخص فكرة الصدق، حكْي التاريخ الشفهي أو حتى الإتيان بوثيقة لا يعني ذلك صدق الحكاية المروية بالضرورة، ولكن لدى المتفرج عقل وتفكير يستطيع من خلاله أن يحلل مدى صدق الشخص الذي يروي القصة ودموعه وتأثره أثناء الحكي، لا يمكن أن يكون كل ذلك مختلقًا!، وهذا شيء تشعرين به في داخلك أن هذا الشخص لا يكذب، وفي هذا إعادة اعتبار للتاريخ الشفهي، كأن الوثيقة هي التي تعطي المصداقية للتاريخ وهذا غير حقيقي، مليون وثيقة اليوم مخفية وفعلًا ظهورها سيكشف أشياء لا نعرفها والسلطات التي تملك هذه الأرشيفات تخفيها، فماذا نفعل؟ ما نشاهده يروي لنا جزءًا من الحقيقة ولكن غير مسموح لنا الحديث إلا بوثيقة فماذا نفعل؟ نجلس لا نتحدث ولا نحكي؟ عندما تكون دقيقة الأرشيف ب1500 يورو، هذا معناه أنه ليس من حق أحد الحديث عن التاريخ إلا بوثيقة، وإلا يعتبرونك كاذبة، تريدين الوثائق ادفعي هذه المبالغ الطائلة، حسنًا لن أدفع وهذا التاريخ ملكي أنا ويخصني أنا ومن حقي أن أرويه بالطريقة التي أريدها، ليس هناك صورة للقصف وقت النكبة، تخفون هذه الوثائق ولا تخرجونها لي ليس لديّ مشكلة، لديّ صور لقصف مدريد وسأستعملها، نحن لدينا ذاكرة تاريخية والبشر عاشوا أحداثًا، وهم مَنْ عاشوا التاريخ وسنستخدم الصور كما نريد.
صورتِ في كم مدينة؟
- صورنا في إسبانيا: برشلونة ومدريد وقرطبة، وصورنا في أثينا، وفي روسيا: موسكو وإيفانوفو، وبيروت.
وهذا ساهم في ارتفاع التكلفة الإنتاجية للفيلم طبعا، ما الصعوبات الإنتاجية الأخرى التي واجهت مشروعك؟
- طبعا سفر وتجهيز ناس وكاميرات، لكن جزءًا من الأموال التي حصلنا عليها غطى تكملة الفيلم، هناك أشياء أخرى مثل عملنا داخل الفيلم اعتبرناه مجانًا وظل كذلك، لكن على الأقل وجهنا المال لشراء المواد الأرشيفية لتمكننا من العرض ليس فقط في التلفزيون ولكن أقصد جودة المادة والصورة، فدفعنا الأرشيف والمونتاج والمكن والاستديوهات وتصحيح الألوان والسفر لأكثر من بلد، وهكذا ..
كيف كنتِ انتقائية للمواد الأرشيفية، وما حكم اختيارك لهذه المواد دون غيرها؟
طبعا لأني لسنوات أعمل على البحث فأعرف المادة فإذا شاهدت مثلا فيديو لقصف مدريد، وهناك نسختان موجودتان في مكانين مختلفين، تشاهدين الاثنين وتختارين الأقوى، ما يهزكِ أكثر اعتمد في هذه الأشياء، أنني أضع نفسي مكان المشاهد، وما يقشعر له بدني هو بالنسبة لي الأقوى الذي يثير تأثري وتحركي، إذا شاهدت صورة وأجد أنها لا تحركني بالنسبة لي لا أستعملها، لابد من أن تحركني أولًا، أوقات كثيرة أشاهد أفلامًا مملة فأقول لنفسي ياربِ، كيف يتحمل المخرج مشاهدة فيلمه، المحك الرئيسي هو ما يهز مشاعري ويجعلني أفكر، فإذا فعلت بي الصورة هكذا لابد أن تفعل ذلك بالآخرين نفس التأثير، وطوال الوقت كنت أريد العمل على المونتاج بطريقة غير مكررة لأن هناك أعمالًا تناولت الحرب الأهلية الإسبانية وربما تجدين صور مكررة، فاستبعدت المكرر في أعمال أخرى.
استخدام الصورة والحكي البصري لديكِ بالفعل متميز جدًا، وكان موظفًا كجزء أساسي في طريقة سردك للفيلم على مستوى الأفكار كأنك تقدمين رسائل بالصورة، فمثلًا في وقت ما شعرنا أنكِ أردتِ إعطاء فكرة أن كل المدن وقت القصف تتشابه، وأوجه البشر الفارين من المدن المنكوبة متشابهة عندما مزجتِ بين المشاهد الأرشيفية لقصف مدريد وحديثك عن نكبة فلسطين 48، ووضعتِ صورًا من مدريد لرواية حدث في فلسطين ،كما أن التباين البصري والصوتي بين صوت ريم تنشد نشيد الأممية بينما في الخلفية مشاهد الأبنية التي كانت مقرات للثوار تحولت شركات رأسمالية لماركات عالمية، فهل كانت طريقة متعمدة للحكي؟
- ذلك لأني درست "مونتاج" في إسبانيا ضمن دراستي للإخراج سنة كاملة من ثلاث سنوات، فأفهم ماذا يعني المونتاج وعملت مونتيرة، ولأني شاهدت أفلامًا كثيرة ربما، كلما أريد فعل شيء سهل أتذكر رؤيته في مكان آخر، فأبعد عنه، أنا أبدأ دائمًا بالأشياء التي لا أريد فعلها، وهذا ما يدفعك للتفكير في أشياء جديدة طوال الوقت ليس مسألة تجريبية فحسب، لكن فكرة الاندهاش أيضًا مهمة وأنتِ تشاهدين أي فيلم، الفيلم الذي لا يدهش المتفرج لماذا صنع؟ إذا لم يدهشك على المعنى الإنساني، السياسي، الجمالي، هناك شيء لابد أن يحركك، فطوال الوقت أحاول الابتعاد عن الحلول السهلة وعدم السقوط في فخ التكرار لما رأيته سابقًا في أعمل أخرى أو أشعر أنه تكرر استخدامه، وربما هذا سبب أن الفيلم أيضًا أخذ مني وقتًا طويلًا في المونتاج.
فيما يخص الصور، أترك فرصة للمشاهد يتأمل الصورة، مشاهد مدريد وضعت على حدث النكبة حتى إذا لم أملك صورة أو فيديو للنكبة هذا حدث تم، وهناك صور أخرى تعطي مرجعية لشكل البشر وقت حدوث نكبات وقصف لمدنهم، وأترك فرصة للمشاهد للشك في الصورة، لا أريد أن أضع له صورة وأقول له هذه إسبانيا، هذا يفقدني التفاعل مع الجمهور، أريد له التفكير في احتمالية مشاهدته لمثل هذه الصور مرة سابقة لقصف مدريد وأنها تكررت مع نكبة فلسطين، وهي أقوى صور في قصف مدريد. فيتساءل هل هذه غلطة في الشريط أو تكتشفين أنها في مدريد، وشاهدتيها بالفعل في موضع آخر من الفيلم فلماذا وضعتها؟، كذلك نشيد الأممية على مشاهد من الأبنية الحالية التي كانت قديمًا وقت الحرب مقرات للحزب الشيوعي والثوار تحولت إلى شركات رأسمالية، أريد أيضًا القول إن الناس تمر حاليًا بجوار هذه الأبنية كل يوم وهم لا يعرفون عن تاريخها شيئًا، ليستمر المشاهد في حالة يقظة وحوار مع الفيلم، فهناك تحليل للصورة وشكل جدلي من العلاقة بين الفيلم والمشاهد.