مرثية أمير العمرى.. لعصر نادى السينما

عزة ابراهيم 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : عزة ابراهيم


عزة إبراهيم
حينما توليت إدارة نادى السينما فى نهاية 2020 سألت نفسى ما الذى يمكننى أن أضيفه لهذا النادى العريق الذى تعلمت فيه أبجدية مشاهدة الأفلام وتحليلها بطريقة توسع رؤيتنا تتعمق محبتنا لفن السينما ووعينا بها. كيف سأضع بصمتى الخاصة وأخطو ولو خطوة واحدة للأمام بعروض النادى وجمهوره. إلى أن وقع فى يدى هذا الكتاب المدهش لأمير العمرى "عصر نادى السينما"، فأنار الماضى والحاضر أمام عيونى لأرى توثيقاً لتجربة شديدة الأهمية وجهداً كبيراً بذله صناع الثقافة السينمائية فى صياغة التفاعلات داخل نادى سينما القاهرة الذى إستمر نحو ستة وعشرين عاماً من 1968 : 1993 وفيه نما ونضج وعى أجيال على الفهم العميق للفن السابع، ونقلوا للقادمين من بعدهم أصول فن الرؤية ومحبة الأفلام والتفاعل معها بشكل يتجاوز متعة المشاهدة إلى التمعن فيما تتيحه السينما من جسور خيالية وممكنة تجعل العالم الواسع أكثر تواصلاً والبشر أكثر قرباً. للأسف الشديد انتهى عصر نادى السينما - كما يشير العمرى مع نهاية الثمانينات - وكتابه هذا محاولة لاستعادة طعم السينما فى نادى السينما الذى كان بمثابة المدرسة الكبيرة التى تعلم فيها كثيرون معنى السينما، ويظهر حزنه وأسفه على النهاية الدرامية له.
فى الكتاب يمكنك أن ترى كيف كان مرتادو نوادى السينما يسعون إلى التمكن من فك شفرة الأفلام وتفريغ أحشائها لمعرفة أسرار بنائها ورؤى مخرجيها وملامح أساليبهم والفارق بين مخرج وآخر ومدرسة وأخرى وواقع وآخر ومخيلة وأخرى، وكيف تعبر السينما عن واقعها الذى أفرزها وما الذى يريد صناع الأفلام أن يهمسوا به للبشر أو يحرضوهم عليه فى كل مكان وزمان. وكيف أن هذه النوادى هى أفضل معلم يمكن الجمهور من فك شفرة الصورة ويساعده على أن يتهجى أبجدية السينما ويقرأ مفردات لغتها ولغة المخرجين واختلافاتهم، ويتعرف على هؤلاء الذين يسيرون على قواعد هذه اللغة وعلى أولئك الذين يحطمونها حينما تصبح تقليدية وراكدة، ليبتكروا لغة جديدة تخصهم وتتجاوز كل ما أصبح راسخاً وتسعى للوصول للسينما المختلفة والخالصة.
أصبحت أحلم بنادى سينما يقدم الثقافة السينمائية بهذا الشكل الذى تم تقديمه بالفعل ولا يكتفى بعرض الأفلام بل يناقشها بجديه ويلهب مخيلة أعضاء النادى ليذهبوا للبحث والتنقيب والمراجعة حول ما يشاهدونه، فى محاولة لأن نعيش مثل أسلافنا رواد نوادى السينما على ما نشاهده، ليصبح الجدار الأبيض بلورتنا السحرية وحائطنا الصد الذى نحتمى به من القبح الذى شوه الذائقة الفنية، وقبلها السينما المصرية فباتت تنتج للاستهلاك الإجبارى فى الأعياد أفلاماً بلا معنى ولا مستوى وتدمر وتمرض ذائقة أجيال لم تتح لها فرصة وجود أندية تنمى أحاسيسها ووعيها وفهمها للسينما بشكل ممتع فنياً وعميق فكرياً.
أعرف بالطبع أننى لا أخترع العجلة فقد تم اختراعها بالفعل لكننى أطمح فى أن تظل دائرة وأن أكون قادرة على بذل كل جهد مستطاع لتظل شاشة نادى سينما الجزويت تجذب وتبصر الأجيال الجديدة بسحر السينما وتحفز شغفهم وتصحح رؤيتهم للفن، ليكتشفوا بأنفسهم إمكانيات السينما وما يمكن أن تضيفه لنا من فهم وتطور وتعديل فى وجهات نظرنا للحياة ولمحيطنا الإنسانى ولا أبالغ حينما أقول إنها تعيد صياغتنا وعلاجنا من ضيق الأفق والجهل بالآخرين من خلال توقفها أمام الظواهر السينمائية والشخصيات والتجارب الفريدة التى تتنوع أمامنا على الشاشة بتنوع المخرجين الواقفين خلف الكاميرا ليبثوا فيها من أرواحهم لأرواحنا ومخيلاتنا سحراً بلا نهاية.
ومن الطريف أن يشير العمرى فى الكتاب إلى أن أول نادى تردد عليه قبل التحاقه بعضوية نادى القاهرة هو نادى السينما بمدرسة الجزويت ويقول إنه كان يقدم الأفلام وقتها شاب يدعى عبد المنعم عبد المجيد كان من هواة السينما ولم يكن ناقداً بالمعنى المعروف. ويرصد الكتاب الأجواء الساخنة واختلافات أعضاء نادى سينما القاهرة فى الرأى والتوجهات وصراعات الأجيال واتهام النقاد الجدد للقدامى باحتكارهم لمساحات النشر، وهو ما عكسته النشرة التى أصدرها النادى والتى أشرف عليها النقاد: أحمد الحضرى وسامى السلامونى وسمير فريد، وكتب فيها: يوسف شريف رزق الله وهاشم النحاس وفتحى فرج ورفيق الصبان وصبحى شفيق وفايز غالى ومحمود على، وناقشوا فيها الكثير من القضايا وأرسوا مفاهيم كمعنى الهواة والمحترفين، وهل الاحتراف ميزة فى حد ذاته، وهل الهواية تقلل من شأن صاحبها وهكذا. ويتناول الكتاب كيف ازدادت الأجواء توتراً وشحناً وتفاقمت الأوضاع فى ظل هذا المناخ العام المحموم فى بعض الأوقات إلى حد أن يتبادل الأعضاء الاتهامات بالإرهاب والفاشية والاحتكار والشللية.
ويؤكد العمرى أنه فى ظل هذة الأجواء كانت نشرة نادى السينما هى المنبر الوحيد البديل أمام شباب النقاد الذين خرجوا من عباءة النادى الذى حرك خيالهم ووعيهم فى اتجاة التعامل المنهجى مع السينما كفن يستحق أن يكون له نقاده المتخصصون. ومن أجل ذلك واصل النادى بحثه عن تقديم أشكال سينمائية جديدة ومتحررة ليقدمها. وفى سبيل ذلك يذكر العمرى أن النادى عرض الكثير من الأفلام التى تهجو المجتمع الرأسمالى، والأفلام السياسية الهامة، وأعقب هذه العروض مناقشات جادة اختلفت فيها وجهات النظر فى جو مفعم بالحيوية والرأى والرأى الآخر. فمثلاً يذكر العمرى الخلاف حول فيلم "بيان الفراولة" لستيوارت هاجمان الذى دافع البعض عنه وعن ضرورة عرضه واعتبره بعض أبناء هذا الجيل فيلما ملهماً، بينما هاجمه آخرون مثل رفيق الصبان الذى اتخذ منه موقفاً وصفه العمرى بأنه موقف رجعي حينما قال الصبان إنه لا يستطيع التعاطف مع الطلاب فى الفيلم لأنه لا يفهم كمتفرج عادى ماذا يريدون، بل إنه على العكس يقف منهم موقفاً عدائياً عندما يحكم بشكل مجرد على بعض تصرفاتهم. ويشير الكتاب إلى أنه رغم أن الفيلم قد حصل على جائزة لجنة التحكيم فى مهرجان كان عام 1970 فقد تم منع عرضه فى مصر بسبب اعتراض الرقابة، وهو ما جعل الناقد سمير فريد يدين الرقابة والمدافعين عن منع عرض الأفلام ويصف ذلك بالفضيحة والعار.
كذلك يشير الكتاب إلى عرض النادى لأفلام مهمة مثل قضية ماتيه لفرانشيسكو روزى، وطيور كبيرة وطيور صغيرة لبازولينى، والطبقة العاملة تذهب إلى الجنة، وزد، وذكريات التخلف، والملعونون، واستراتيجية العنكبوت. ويعتبر أن حقبة السبعينيات هى عصر نادى السينما الحقيقى فقد كانت هذه الحقبة - كما يصفها - هى حقبة الأفلام السياسية، ولم يكن النقاد يفرضون آراؤهم أو يسقطونها على الأفلام حينما يناقشونها مع جمهور النادى بل كان صناع السينما أنفسهم هم من يختارون ويقدمون آراءهم وأفلامهم التى تهدف للعب دور فى التغيير الاجتماعى أو السياسى.
ويوضح العمرى كيف عكس النادى بعروضه ما كان يجرى من أحداث فى العالم من حوله قائلاً: إنه فى فترة الحرب الباردة مثلاً أصبح نادى السينما منبراً لعرض أفلام الموجة الجديدة فى سينما أوروبا الشرقية التى استخدمت الرموز ولجأت للتاريخ فى نقدها للحزب الشيوعى والهيمنة البيروقراطية فى المجتمع الشمولى وبحثها عن أشكال سينمائية جديدة. وفى فترة تالية توقف النادى كذلك أمام جيل سينمائى نيويورك الذى ظهر بعد أفول عصر الاستوديو ونهاية احتكار شركات هوليوود السبع للإنتاج السينمائى فعرض أفلام آرثر بن وبوب رافلسون وفرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزى وسبيلبرج. كذلك قدم النادى فى عروضه الأفلام المصرية السياسية وأهمها زائر الفجر لممدوح شكرى، وهو الفيلم الذى تم منعه بعد عرضه فى نادى السينما ولم يسمح له بالعرض إلا بعد عامين من إنتاجه، وبعد حذف لقطات منه. وبعد رحيل جمال عبد الناصر وتولى السادات الحكم لم يتحمل دعوة الفيلم القوية إلى التغيير فقامت الرقابة بمنع عرضه مرة أخرى.
ويتوقف العمرى أمام فيلم "ليل وقضبان" لأشرف فهمى وينتقد نفسه ويعترف بأنه فى فترة اوائل السبعينيات كان متاثراً بالفكر النقدى الاجتماعى وأن هذا انعكس على موقفه من الفيلم فأخضعه لمفاهيمه الأيديولوجية وللتحليل الطبقى حينما كتب نقداً له فأغفل تميز الفيلم وكان قاسياً عليه وعلى صناعه أشرف فهمى ومصطفى محرم اللذين كانا يتطلعان لتجديد السينما ضمن جماعة السينما الجديدة. وبنفس الروح يراجع العمرى موقفه من نقده القديم لصلاح أبو سيف ومحسن زايد وفيلمهما "حمام الملاطيلى"، فقد كتب وقتها أنه كان يتوقع منهما عملاً ناضجاً يتخذ موقفاً مما كان سائداً بعد هزيمة يونيو 1967 لكنه رأى أن المعالجة فى الفيلم تكشف عن خواء فكرى وقصور شديد فى فهم طبيعة القضية وأبعادها، فشخصيات الفيلم سطحية ومزيفة ولا تمس أبعاداً حقيقية. لكن الآن وبعد كل هذة السنوات يراجع موقفه ويؤكد أنه ظلم الفيلمين.
ويواصل العمرى حديثه عن كيف عكست نشرة نادى السينما ومقالات كتابها عنفوان وجرأة نقد أبناء جيله حتى للأفلام التى رأوها عظيمة مثل "المومياء" الذى رأى فى حينه أنه فيلم عظيم كتجربة بصرية ودرامية مدهشة وشديدة الخصوصية لكنه اعتبره نوعاً من الترف الأرستقراطى تماماً مثل فن الأوبرا، وأنه كان يرى وقتها أن السينما بحاجة أكثر إلى أفلام مثل "زائر الفجر ".
ويصل الكتاب إلى عام 1974 وما شهده من مناقشات صاخبة وساخنة، ويسميه عام الرصاصة لأنه شهد إنتاج فيلمين كتبهما رأفت الميهى يستخدمان هذة الكلمة وهما "الرصاصة لا تزال فى جيبى" ثم "على من نطلق الرصاص"، الأول للمخرج حسام الدين مصطفى الذى لم يعرضه نادى السينما لكنه كان شاهداً على الجدل المثار حوله خاصة حينما كتب يوسف شريف رزق الله تفريغاً كاملاً للندوة التى ناقشت الفيلم بعد عرضه فى مهرجان قرطاج ونشرها فى نشرة نادى السينما، وكشفت عن غضب النقاد الشباب من هذا الفيلم، ومن كاتب السيناريو رأفت الميهى الذى كان يعد من البارزين فى جماعة السينما الجديدة وهو ما دفعه فى عام 1975 لكتابة سيناريو فيلم "على من نطلق الرصاص" الذى أخرجه كمال الشيخ، واعتبره الميهى نوعاً من التكفير عن كتابته للرصاصة لا تزال فى جيبى، وكأن الميهى يرد على نفسه!!
ويشير العمرى مرة أخرى إلى نادى سينما الجزويت ومعجزة استمراره حتى الآن ويقول إنه شاهد فيلم "رجل وامرأة" لكلود ليلوش لأول مرة فى نادى سينما الجزويت ولم يعرضه نادى سينما القاهرة، وأن الجمهور المصرى اهتم به بعد حصوله على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبى وتقديمه فى عروض تجارية بمصر.
يبقى أن الكتاب حافل بالتاريخ النابض والحكايات ذات الدلالات على عصر نادى السينما، والشخصيات البارزة التى كانت جزءًا من تاريخ السينما فى ذلك الوقت، وفيه درجة عالية من الانتقاد الواضح والحاد والمستقيم لأشخاص وسياسات كان لها أثرها على الثقافة السينمائية، وفيه أيضاً درجة كبيرة من النقد الذاتى، ودروس مهمة يؤكد عليها العمرى بالنسبة لشباب النقاد وأهمها أن يكونوا أنفسهم لا صدى لأحد وألا يقتبسوا من أى فيلسوف أو أديب أو فنان قرأوا له، وعليهم فقط أن يهضموا كل ما استطاعوا قراءته وأن يعبروا عن رؤيتهم الخاصة وأفكارهم الشخصية التى هضمت كل الفلسفات والمعارف من دون أى محاولة لاستعراض العضلات أو تكبير الذات تحت مسمى الطرق الأكاديمية. الكتاب شديد الثراء فى المعلومات التاريخية ويعيد إحياء عصر مهم من عصور نوادى السينما التى نتمنى أن تنتشر وتصل لكل مكان، فالسينما أداة تغيير مدهشة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات