الكاتب : أماني صالح
كتبت: أماني صالح
الاقتباس من القضايا المتجددة ..تتعدد محاوره وتختلف مداخله، يستثير همم الباحثين والنقاد فتتحرك ذهابا وإيابا بين شاشات السينما و صفحات الكتب .. يتساءلون عن حدود العلاقة بين الوسيطين ويرصدون أشكال التفاعل بين السينما والأدب ..
وعلى قدر أهمية الاقتباس ، تتجدد الإصدارات في المكتبة السينمائية ومن أحدثها (الاقتباس من الأدب إلى السينما ..محطات في تاريخ مشترك ) لسلمى مبارك ووليد الخشاب ، الصادر عن دار المرايا في ٣٠٢ صفحة ويختلف عن غيره من الكتب السينمائية أنه يجمع بين المفاهيم النظرية والتطبيق في ١٢ مقالا ل ١٢ أستاذا وباحثا وناقدا مصريا وأجنبيا ، في تطوير لمجموعة من الأبحاث المقدمة لمؤتمر دولي - يحمل نفس عنوان الكتاب - نظمته شبكة آمون للباحثين في السينما والأدب و استضافته كلية الآداب جامعة القاهرة في نوفمبر ٢٠١٩ .
لذلك يقدم الكتاب الجديد والمفيد في موضوع متشعب وظاهرة مركبة، ينطلق من التاريخ المشترك الذي يجمع السينما والأدب ويهتم بمحطات التأثير المتبادل ويستشهد بنماذج تؤكد التفاعل وتدفع القارئ لتأمله لذلك نتصفح الكتاب - في السطور التالية - و ننقل لكم أهم أفكاره .
يتكون الكتاب من مقدمة ومقالين نظريين ثم 3 أقسام رئيسية أولها يربط الاقتباس بالحداثة ويركز على العبور بين الأنواع الفنية وثانيها ينظر إلى الاقتباس باعتباره انتقالا عابرا للثقافات من خلال تقديم الأعمال العالمية على الطريقة المصرية وثالثها يتوقف أمام اقتباس بعض أعمال نجيب محفوظ بقيمته الأدبية والسينمائية باعتباره مبدعا عابرا للوسائط .
الطريق والطريقة
نبدأ بالمقدمة التي اشترك في كتابتها د.سلمى مبارك أستاذة الأدب المقارن ود.وليد الخشاب أستاذ ومنسق الدراسات العربية كتلخيص موجز لعلاقة وطيدة الأركان بين السينما والأدب، تتوقف عند محطات بعينها وتؤسس وتصحح المفاهيم وفي مجموعها ترسم بانوراما لفصول الكتاب (طريقًا وطريقة ).
الطريق هو الاقتباس مُقَربا بين السينما والأدب في محطات ومُباعدا في أخرى والطريقة هي رصد التفاعل بينهما على أساس من الندية منذ البدايات المتقاربة فأول رواية مصرية حديثة هي (زينب) نشرها محمد حسين هيكل عام ١٩١٣ بينما جاء عرض أول فيلم روائي مصري قصير عام ١٩٢٣ (برسوم يبحث عن وظيفة) لمحمد بيومي والثابت أن رائدي السينما والأدب أرادا بخطوتيهما إرساء قواعد وطنية للفنون القادمة من الغرب وهكذا أصبح (زينب) أول لقاء مباشر بين السينما والأدب المصري في فيلم صامت عام ١٩٣٠ ولاحقا في نسخة ناطقة عام ١٩٥١ لنفس المخرج محمد كريم وبالطبع نجاح اللقاء الأول -رغم الملاحظات- أتبعه لقاءات متتالية أضافت للصناعة الوطنية الوليدة لتجعلها أكثر قوة بما يقرب من ٣٦٠ فيلما مستمدا من الأدب العربي والغربي بين ١٩٣٠ و٢٠١٩ .
إذًا نحن أمام ظاهرة محورية شكلت تاريخ الوسيطين لا يمكن فصلها عن تيار الحداثة الذي توجته دخول السينما مصر مبكرا وإثبات وجودها كصناعة وليست مجرد وسيلة ترفيه ومن هنا كانت الاستعانة بالأدب الغربي في بدايات الرحلة ضمانة لجذب الجمهور بتقديم قيمة جمالية ورسالة أخلاقية ..
وتطرح المقدمة عدة قضايا هامة حول المصطلح والطريقة ، باعتبار الاقتباس أكثر من مجرد نقل أو تعريب ، يفصل بين الترجمة والتأليف ويؤكد على مفهوم الانتقال الثقافي .
ومن محطة الاقتباس من الأدب الإنجليزي والفرنسي أو اختصار نصف الطريق بالأخذ مباشرة من الأفلام الأمريكية المنقولة عن الأدب العالمي وصولا لمحطة الأدب “الوطني “ كمصدر أساسي للأفلام المصرية بعد ثورة ١٩٥٢ لتقديم صورة “واقعية” للمجتمع الجديد بالاتجاه لروايات التيار الواقعي، وكأن الأدب يمنح الفيلم قيمة إضافية فنية وثقافية وبالتالي تعددت الانتاجات المأخوذة من روايات نجيب محفوظ ورفاقه ليبلغ عدد الأعمال المقتبسة بين عامي ١٩٦٣ و١٩٧٣ مائة فيلم!
وبذلك يكون الاقتباس مدخلا مهما لرصد فاعلية الواقعية من الأدب إلى السينما أو التليفزيون وكذلك القيم الاجتماعية والسياسية والجمالية للأفلام، وعندما ظهر التمرد على أشكال الكتابة الأدبية التقليدية وقيود السوق في السينما والميل إلى التجريب في الوسيطين ، سطعت الكتابة الجديدة مبشرة بأفول الاعتماد على الأدب في السينما كما ظهرت سينما المؤلف وعلى المستوى المحلي في أعقاب النكسة ظهر جيل جديد من الكُتاب وتمرد بعض الكبار و نشأت جماعة السينما الجديدة وبدت الأفكار متقاربة و الظروف متشابهة ، مما جعل بعض المخرجين ينجذب للأدب الجديد -رغم قلة الأعمال المقتبسة - لكنهم قدموا تجارب مغايرة مثل الطوق والأسورة ليحيى الطاهر عبد الله وقدمها خيري بشارة ١٩٨٦ ومالك الحزين لإبراهيم أصلان وقدمها داود عبد السيد عام ١٩٩١
واستمرت العلاقة بين السينما والأدب ..انفصال واتصال..انجذاب ونفور ومع بدايات الألفية الثانية انتبهت السينما للروايات “الأكثر مبيعا” لتقدمها في موجة أفلام انعكست على مزيد من الرواج الأدبي و النجاح في شباك التذاكر على حد سواء.
وبعد رصد محطات التفاعل توضح المقدمة المنظور الذي يتبناه الباحثون للاقتباس باعتباره
" مجموعة من التحولات المركبة تخترق النص والنوع والسياق وتعيد تشكيلها في رحلات ذهاب وعودة مستمرة بين الفنون المختلفة" إذ ظهرت النظريات السينمائية التي تنظر للاقتباس كعملية نقل وانتقال من نسق أدبي أداته الكلمة إلى نسق سينمائي يقوم على الصوت والصورة.
وهكذا تراجعت قضية "الإخلاص أو الأمانة للنص " عند نقد هـذه الأعمال بما أن الانتقال تتبعه عمليات تحولات ويؤدي إلى تأثيرات وهذا بالضبط ما تناقشه فصول الكتاب مؤكدة على الندية بين الأدب والسينما فليس بينهما الأفضل أو الأهم أو الأجمل بل سلسلة من التفاعلات والتأثيرات المتبادلة .
واللافت أن الكتاب كما يمنح السينما دور البطولة في موضوعاته لكنه يحافظ على حضور التليفزيون (أفراح القبة) والمسرح (الملك لير) في بعض المقالات كما يفتح الباب لرؤية “عالمية” للسينما المصرية من خلال مقالات لأساتذة وباحثين أجانب ..
و يحلل - ربما للمرة الأولى - الاقتباس من منظور اقتصادي وقانوني بجانب الرؤى الاجتماعية والسياسية والجمالية ،مراعيا التنوع بين الأفلام من البدايات (زينب نموذجا وأفلام المصنع في الأربعينيات) وصولا للواقعية الجديدة (أهل القمة وجنة الشياطين).
تجاور النظرية التطبيق مما يؤكد أن السينما والأدب أكثر من مجرد فنون ترفيهية بل ميادين واسعة للتحليل والاكتشاف تنتظر الباحثين من مختلف التخصصات .
سيرسو .. تحية عاشق
أول مقالات الكتاب تحية خاصة للبروفيسور الفرنسي ميشيل سيرسو أحد أهم الباحثين في موضوع الاقتباس في السينما المصرية من خلال نشر الصيغة المكتوبة للمحاضرة الختامية التي ألقاها في مؤتمر الاقتباس وترجمها د.وليد الخشاب.
يقدم سيرسو الاستنتاجات كما يطرح الأسئلة منوها بعدم تخلى السينما المصرية عن الأدب العربي الحاضر في اقتباسات قيس وليلى وألف ليلة وليلة منذ الثلاثينيات ولاحقا سيرة عنترة ويشير إلى حضور الرواية مع المسرح الغربي في الاقتباسات الأولى رغم الزعم بالثقافة المسرحية للمخرجين ويفسر الاعتماد على المسرح ربما برغبة المخرجين المصريين وهم في خضم ممارسة الفن الجديد (السينما) بالاستناد أو الانتساب إلى ممارسات ثقافية لها احترامها، وتضمن لهم المصداقية مثل المسرح ويسميه "الذرائع الثقافية أو الانتساب إلي الثقافة" وهو ما حدث في أوروبا بشكل أو بآخر ويجتهد في الإجابة عن لماذا أعمال كاتب أجنبي معين كانت أكثر جذبا عن غيره للسينما المصرية ؟ولماذا حظت الجوانب الميلودرامية في أعمال كبار الكتاب بهذا القدر من الاهتمام أو التضخيم على حساب الأبعاد السياسية أو الاجتماعية ؟ ويسجل أن الحب تحديدا هو الموضوع الأكثر تداولا في هذه الأفلام وانجذبت السينما لصور أدبية تقف بين النموذج الأصيل والصورة النمطية مثل المنتقم العادل والمرأة المغوية المهلكة وساحر النساء إلخ ويربطها سيرسو بالتلقي باعتبارها استجابة لاحتياجات جماهيرية تتفاعل مع هذه الشخصيات ذات النزعة الإنسانية .
رحلة ذهاب وعودة
المقال الثاني يصحبنا فيه البروفيسور جان كليدر في رحلة “نظرية”بين (الأدب والسينما ذهاب وعودة ) ترجمته د.هايدي زكي أستاذة المسرح والأدب المقارن ويطرح رؤيته للاقتباس كقراءة صانع الفيلم للعمل الأدبي لذلك اهتم بدراسة إعداد الأفلام وكيف يتعامل الفنانون مع النصوص معتمدا على الأرشيف أو الوثائق أو المقابلات مع المؤلف والسيناريست و المونتير والمخرج والمنتج، ويعتبرها طريقة حيوية تكسر قيود الأعراف النقدية لأن الاقتباس عملية إبداعية تتخذ من النص الأدبي الركيزة أو المادة وتستخدم مفردات السينما وهي عملية ذات اتجاهين بدليل اتجاه الكتاب المبدعين إلى السينما أو نشر المخرجين أفلامهم في نصوص أدبية (وليست مجرد سينايوهات) و يدعو للانتباه إلى الخصائص المتجددة في وجود فنانين متعددي المواهب يجمعون بين الكلمة والحركة والنتيجة تفاعلات وتبادلات تستحق الدراسة بمنظور غير تقليدي .
الاقتباس والنوع والحداثة
القسم الأول (الاقتباس - النوع - الحداثة) في 4 مقالات يتناول اقتباس النوع باعتباره عملية انتقال لقيم الحداثة وأيضا الإشكاليات المرتبطة بها ( الهوية مثلا).
زينب.. تجسيد الرواية و استعادة الفيلم المفقود
أول مقالات هذا القسم ٬ تناقش د.سلمى مبارك (اقتباس النوع في سردية الريف) بالعودة إلى (زينب) الفيلم التاسع في تاريخ السينما (١٩٣٠) عن رواية محمد حسين هيكل التي كتبها عام ١٩١٠) وأنتجته شركة وطنية (رمسيس فيلم لمؤسسها يوسف وهبي) كأول فيلم يتم تصويره وطبعه في استوديو مصر وبالتالي هو - بامتياز- عمل تأسيسي للصناعة المصرية موضوعا وتفاصيل..
ورغم عدم توافر نسخة الفيلم الصامت لكن أستاذة الأدب والفنون تستعيده من خلال الوثائق والمراجع وأهمها مذكرات المخرج محمد كريم ، مؤكدة أهميته كبداية لنوع سينمائي (سردية الريف) تُعَرِّفه بإنه "جعل من الفلاح وموطنه وقضاياه مادة للخيال وبطلا للحكاية سواء بالاقتباس من الأدب أو بأعمال مكتوبة مباشرة للسينما "، في ميدان الصراع بين القديم والحديث والمواجهة بين قيم القرية وإغراءات المدينة.
و تعتمد مفهوم المنظر لنشاهد العمل المفقود بدءا من الوصف وحتى التجسيد وعلاقته بالسرد فكان المنظر خلفية جمالية لقصة حب تتغلب فيها الرومانسية على الواقعية ولم يختلف الأمر كثيرا في الرواية التي اعتمدت الوصف الرومانسي تعبيرا عن حنين كاتب غائب عن الوطن يدرس بالخارج (وهو نفس حال مخرج الفيلم محمد كريم ) وبذلك تقاربت الرواية والفيلم معبرين عن سرد وطني يناقش التمزق بسبب الحداثة وكأن التقارب في ميلاد النوعين (السينما والأدب) وحد بين الصُناع وفرض السياق التاريخي تساؤلات مشابهة أثمرت ميلاد سردية الريف سينمائيا ومهد اقتباس المنظر لصورة سينمائية مبكرة أكدت لغة بصرية - أسوة بلغة الأدب - تتسع إمكاناتها لأكثر من مجرد نقل الحكاية .
المصنع ..المكان والإنسان
وتستمر تساؤلات الهوية والحداثة هذه المرة تنتقل من الريف إلى المصنع في مقال (استيراد صناعة الهوية : السينما والمصنع والحداثة العربية) ويتناول د.وليد الخشاب صورة المصنع -سينمائيا- في بواكير الأربعينيات٬ ملاحظا الاحتفاء بالآلة كدليل على الحداثة في مقابل القلق من الاضطرابات التي قد يسببها العمال في ظل بزوغ الحركة الشيوعية ويناقش كيف قدمت السينما صورة معينة للعامل ومحل عمله (الورشة أو المصنع) بالتطبيق على أفلام (الورشة ) 1940 لعزيزة أمير و بنت ذوات (1942) إخراج يوسف وهبي والبؤساء (1943) إخراج كمال سليم وينظر د. وليد للترجمة كإحدى تجليات الاقتباس التي تنقل الحداثة وبذلك يعتبر (البؤساء) من أقدم الاقتباسات التي تصور حياة العمال ولفت إلى مصادفة ترجمتها واقتباسها - وهي التي تركز على أحوال عمال النسيج - في الوقت الذي بدأت فيه صناعته تنهض في مصر و للرائد طلعت حرب يعود الفضل في إنشاء استوديو مصر.
وينقلنا - بسلاسة - بين الأفلام التي تتفق على الترحيب بالتحديث والتأكيد على الصعود الطبقي بفضله ولكنها تنحاز للرأسمالي صاحب المصنع على حساب تصوير العمال وقد يحيلنا هذا المقال عن المصنع إلى سابقه عن سردية الريف بسبب سؤال الهوية في ظل الحداثة وتبني الرأي أن الأرض تحظى بمكانة رمزية لم ينلها المصنع كأيقونة وطنية رغم دوره المباشر في الحداثة فاستمر مجاز الأرض يمثل الهوية (القومية) بينما المصنع بآلاته وورشه يقدم الهوية الحديثة .
باب مفتوح للمرأة والوطن
ومن المنظور النسوي تحلل د. هالة كمال أستاذة دراسات الجندر (باب لطيفة الزيات المفتوح) الرواية التي نشرتها لطيفة الزيات عام 1960 والفيلم الذي أخرجه بركات 1963 وشاركت مؤلفة العمل الروائي في السيناريو والحوار .
وتصف المنظور النسوي " بالعدسة الواعية بمفاهيم التجربة ومظاهر التمييز ضد النساء" وبالتالي لا يكتفي بالتحليل الأدبي لعناصر النص /الفيلم (مثل الأحداث والشخصيات ،الزمان والمكان واللغة) بل يهتم بوضع النساء في هذه العناصر وكأن المرأة هي البطل والموضوع ..
وتعرض بالتحليل أهم التغييرات الدالة التي أجراها الفيلم مثل مقدمة الأحداث بصوت الراوي الرجل كما زادت مساحة القصة العاطفية التي أظهرت البطل (الرجل ) كأنه "القائد الملهم" . بينما الرواية نص ثوري باقتدار، لذلك جاءت شخصية (ليلى) أكثر استقلالية وتعبيرا عن صراعات الطبقة الوسطى وتستدرك أن الفيلم حافظ على رسائل لطيفة الزيات سواء النقد الاجتماعي لوضع النساء أو الربط بين حرية المرأة والوطن و نقد القيم التقليدية والنماذج الأبوية للطبقة الوسطي وهي رسائل موجهة للجنسين فجاءت الصيغة المقتبسة قريبة من الأصل وتُرجِع ذلك أيضا لتوظيف حوار الرواية في الفيلم وقصر الفترة الزمنية بين العملين، فالفيلم استثمر جماهيرية الرواية وجاء معبرا عن لحظة سياسية فارقة من مد ثوري وكفاح وطني ومكاسب النضال النسوي بعد الثورة.
يوميات نائب وحكايات مَحْضر
رابع المقالات (بنية التحقيق قي يوميات نائب في الأرياف بين الرواية ١٩٣٧ والفيلم ١٩٦٩) لأستاذ القانون الإيطالي جان لوقا بارولين الذي انجذب لعالم الاقتباس من مدخل قانوني ويختار هذا العمل المتميز في شكله الفني (اليوميات) ويلفت لمفارقة الواقع والواقعية في العمل الذي أخرجه للسينما توفيق صالح وهو من رواد الواقعية ومع ذلك لجأ إلى نص متخيل ليعبر عن الواقع، وأدت واقعية الصورة لمزيد من المصداقية ورغم أن الرواية عن ممارسات قديمة في الريف المصري في الثلاثينيات إلا أن الصورة ساهمت في استدعائها للتعبير عما بعد الثورة بل ويصلح العملان للتعبير عن الوقت الحاضر أيضا .
يحلل بارولين تيمة المحضر باعتبارها لعبت دور البطولة في إجراءات التحقيق أحد خطوط الحبكة سواء من حيث المكان أو الخطوات أو الأشخاص مؤكدا على طابعه البيروقراطي .
ويختتم أن اهتمامه البحثي بالاقتباس من حيث طرحه لصورة إعمال القانون في السينما والأدب (والتليفزيون) باعتباره يشكل تصوراتنا وتوقعاتنا عن كيفية عمل الأجهزة القانونية خصوصا تلك التي لم نتعامل معها بشكل مباشر .
الاقتباس انتقال عبر ثقافي
في القسم الثاني ( الاقتباس انتقال عبر ثقافي ) يبحث في الاقتباس باعتباره انتقالا يعبر الثقافات كما ينتقل من وسيط الكتاب المطبوع إلى وسيط الفيلم المرئي (صوت وصورة)
وإذا كان الاقتباس عن الأدب العالمي، فهناك تحول ثقافي عندما يتغير السياق الغربي إلى المحلي بأسماء الشخصيات والظروف والأحداث .يناقش القسم ٤ أعمال عالمية فى ٤ دراسات ..
الكونت دي مونت كريستو المملوك الثائر!
أولها الكونت دي مونت كريستو وتجلياتها عند هنري بركات صاحب أمير الانتقام (1950) وأمير الدهاء (1964) ..وتحلل د.رنده صبري - أستاذة النقد الأدبي - عملية التمصير التي حدثت لرواية ( ألكسندر دوما) الشهيرة وما حدث فيها من استبدالات وتغييرات بالحذف أو الإضافة .. وتناقش إعادة التشكيل من حيث الشخصيات وتسلسل الأحداث والإطار الزمني والمكاني خصوصا وأن بركات قدم (أمير الإنتقام )قبل الثورة وكرر التجربة في أمير الدهاء في سياق تاريخي مختلف (بعد الثورة) وتقني (بالألوان) وفي الحالتين صنع خلفية ثقافية مصرية أرجعها إلى (عصر المماليك) وقدم رسالة سياسية وتلاحظ أن بركات في الحالتين اعترف بالاقتباس و لكنه أجرى عدة اختلافات : محتفظا بالمنظومة الرئيسية للشخصيات وركز على تيمة الظلم والانتقام - على مستوى البنية العميقة - وحافظ على تسلسل الأحداث بما يجعلها تميل أن الاقتباس اعتمد على ترجمة الرواية أو نسخة مختصرة منها وليس عن أفلام أجنبية مقتبسة عنها، كما وصّل للمشاهد روح الرواية في حوارات تحمل توقيع (دوما) إلى حد واضح وتتوقف أمام الرسالة السياسية التي تحولت من دعوة إصلاحية جريئة في عهد الملك (أمير الإنتقام) إلى دعاية للنظام القائم (الضباط الأحرار) في أمير الدهاء.
الملك لير هنا وهناك
المقال الثاني يقدم فيه الناقد عصام زكريا عرضا ثريا عن (الملك لير) في السينما العالمية والمصرية، ويعرج بنا حتى إلى المسرح والتليفزيون ويفرق بين التناول الغربي لمسرحية شكسبير متعدد الزوايا ومتعمق الأفكار عن المعالجات المصرية الضيقة والتي تختزل أعمال شكسبير عموما في تيمات درامية ناجحة ، وتفرغها من رسائلها السياسية والفلسفية مشيرا لمفارقة أن (الملك لير) ليست أسعد المسرحيات حظا من حيث التناول على المسرح المصري أو الشاشة مقارنة بأعماله الأخرى مثل (ترويض النمرة )و (روميو وجوليت) التي حظت بشعبية وشهرة ونجاح بين الجمهور وبدت أكثر ملاءمة لذوق المتفرج نظرا للبعد الميلودرامي فيها .
ويرى زكريا أن الملك لير على الطريقة المصرية تتحول إلى قصة عقوق الأبناء وجحودهم وعلى هذه الشاكلة قدمها فريد شوقي في أفلامه وتحمس لها الفخراني ليقدمها على المسرح (القومي) بإخراج أحمد عبد الحليم عام 2000 ثم الشاشة الصغيرة بنكهة صعيدية عام 2014 في مسلسل (دهشة ) تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج شادي الفخراني ثم عودة للمسرح (الخاص)في ٢٠١٩ إخراج تامر كرم .. وفي كل مرة اختلفت أعماق لير وزوايا مأساته لتتناسب مع التغيرات السياسية والاجتماعية (المتجددة والمتلاحقة بعد يناير ٢٠١١ ) التي شهدتها مصر فامتدت مأساة الملك العجوز إلى أبعاد سياسية مثل فساد السلطة المطلقة .
آنا كارنينا ..الحب وأفكار أخرى
ويذكرنا المقال الثالث بالمعالجة المصرية للأدب العالمي في (آنا كارنينا نموذجا) وفيه تعيد الناقدة دينا قابيل قراءة رواية (تولستوي) الذي تحولت لفيلم نهر الحب (١٩٦٠) لعز الدين ذو الفقار الذي جعل للنسخة المصرية خصوصيتها من حيث حيوية المشاهد وتمصير الرواية الروسية في سياق تاريخي اجتماعي محلي تدور أحداثه قبل ثورة ١٩٥٢ معتمدا على التقليدية والمحافظة التي تجمع المجتمعين كما يركز الفيلم (دون الرواية) على التفاوت الطبقي ويتناول -بجانب الحب كفكرة محورية - أفكار ثورية تبنتها الرواية مثل الطلاق وحرية المرأة والخروج عن المجتمع الأبوي وقيوده .
وتؤكد دينا أن الفيلم المصري التزم بخط الرواية الأساسي وإن جعل قهر الزوج لزوجته بسبب أنانيته وأفكاره الرجعية بينما أدانت الرواية المنظور الديني المتزمت والمنافق واكتملت ملامح التمصير بالإحالة للأسطورة القديمة (إيزيس وأوزوريس ) وترصد مفارقة أن كل محاولات إثارة التعاطف مع البطلة لم تتحقق ووقع الفيلم أسيرا لتوقعات الجمهور وعاقب البطلة رغم منحها مسوغات الغفران طوال أحداثه .
ثنائية الموت والحياة
وفي رابع المقالات (الوداع خارج المكان) تأخذنا د.داليا السجيني مدرس الأدب والفنون إلى اقتباس مصري نادر للواقعية السحرية من أمريكا اللاتينية وتحويل رواية الرجل الذي مات مرتين (١٩٥٩) للبرازيلي جورج أمادو إلى فيلم ينتمي للواقعية الجديدة هو جنة الشياطين (١٩٩٩) للمخرج أسامة فوزي والسيناريست مصطفى ذكري، الفيلم أبقى على البنية السردية وحافظ على الحكاية ليخرج الاقتباس -عن حق- انتقالا عابرا للثقافات وأيضا التيارات الفنية وتقدم تشريحا للأماكن السردية بين عالم الأموات والأحياء في ظل ثنائيات متقابلة.: الروح والجسد..الفرد والمجتمع.. الذكرى والأثر ..
محفوظ..عابر الوسائط إلى الخلود
آخر أقسام الكتاب بطله نجيب محفوظ الذي يعتبر أكثر الروائيين الذين اقتبست أعمالهم في السينما والتليفزيون ولعله من أكثرهم حظا في الدراسة والتحليل لكن هذا القسم يقدم لنا نجيب محفوظ عابر الوسائط من زوايا جديدة و أعمال أقل شهرة (وإن لا تقل إبداعا)
أفراح القبة.. مسلسل أحيا رواية
تلتفت د.دينا جلال - الباحثة في اقتصاديات الثقافة - إلى السوق بوصفه فضاء متبادلا بين النص والصورة في أفراح القبة لتحلل كيف أدى المسلسل التليفزيوني للمخرج محمد ياسين (٢٠١٦) إلى إحياء النص المكتوب (١٩٨١) وإعادة طبعه طبعات جديدة ووضع الرواية -الأقل شهرة ضمن أعمال محفوظ - في قائمة الأكثر مبيعا وكأنها تطرح الاقتباس من منظور اقتصادي أو كما تصف الأمر بلغة (اقتصاديات الصناعات الثقافية): حدث تنشيط للطلب على العمل الأدبي ٬لسبب يعود خارج سوق صناعة الكتاب وبتأثير مباشر من صناعة الصورة لاسيما وأن الناشر هو أيضا مشارك في إنتاج المسلسل ٫ وبرؤية فنية تشرح كيف يمهد النص لإنجاز الصورة و تخدمه الصورة بدورها وترصد الآثار اللاحقة على سوق الدراما التليفزيونية من نشاط ظاهرة الاقتباس في المواسم التالية، الظاهرة ونتائجها وتتساءل عن إمكانية تكرار التجربة.
أهل القمة.. الصعود هو الأساس
وفي البحث الأخير تقدم كاتبة هذه السطور قراءة جديدة لفيلم أهل القمة (١٩٨١) إخراج على بدرخان وكتب له السيناريو مع مصطفى محرم عن قصة نجيب محفوظ ضمن مجموعة (الحب فوق هضبة الهرم ) المنشورة عام ١٩٧٩ وتستند هذه القراءة على تحليل الصعود الذي قام عليه الفيلم والقصة رحلة ذات اتجاهين..صعود اللص إلى عالم الكبار وسقوط الضابط الشريف إلى قاع المجتمع و تراه الباحثة أكثر من مجرد تيمة رئيسية بل إطارا شاملا تحقق بتوظيف متصلات الزمان/المكان التي ارتبطت بعصر الانفتاح مثل سوق ليبيا والمدينة التجارية ( بورسعيد) والمدينة المتحولة (القاهرة) وغيرها..
وتشرح كيف تحقق الاقتباس -بنجاح- حيث تلاقى فيها العملان الأدبي والسينمائي في النقد الاجتماعي لفترة تحول بدأت في منتصف السبعينيات وما زالت آثارها موجودة حتى اليوم.
دعوة "للاقتباس "!
وفي ختام هذا العرض أعتقد أن أهمية الكتاب أنه يبتعد بنا عن منظور (الأمانة ) في نقل العمل التي تقيس العمل المقتبس (بالمازورة) أو تضعه على الميزان لنخرج إلى آفاق أوسع بتأمل ومناقشة التأثير والتأثر بين عملين أحدهما ينتمي لعالم الأدب والأخر لدنيا الفنون (سينما أو مسرح أو إذاعة أو مسلسل إلخ)، ويحتكم إلى معاييرها وليس مجرد تابع للعمل الأول أو ترديدا له وهو الأمر الذي يخفف بعض الضغوط (وربما الأحكام المسبقة ) التي يلاقيها من يتصدى لاقتباس الأعمال الأدبية (وخصوصا الشهيرة )، كما أن الجمع بين الأكاديميين والنقاد والباحثين في كتاب واحد موضوعه الاقتباس يؤكد أن ما يجمع المهتمين بالفنون أكثر مما يفرقهم ..فقط ينقصهم الإطار المشترك لمزيد من الفهم والتفاهم وليس أقدر من السينما والأدب على دعم هذا التقارب وعندما يحدث تحت قبة الجامعة في مؤتمر ثم يُوثق في كتاب فهذا هو الهدف المنشود .
وتزداد قيمة الكتاب أنه يتوجه - حسب اعتقادي - لثلاثة أنواع من القراء : أولهم الباحث المتخصص سواء في السينما أو الأدب ليرى التفاعلات بينها دون مجهر وثانيهم الباحث من مجال آخر إذ يحفزه الكتاب على استطلاع معالم مشتركة كامنة تنتظر الظهور أو يحثه على استكشاف نظريات علمية طرحها الكتاب وتطبيقها بعين مجاله على السينما والأدب، وثالثهم متذوق الفنون الذي شاهد أو قرأ هذه الأعمال أو لعله سمع بها أو ربما يحركه الفضول للبحث عنها وفي كل الأحوال إن بدأ (أو كرر) رحلة المشاهدة أو القراءة - بعد هذا الكتاب - أكاد أجزم أنها لن تشبه سابقتها من دونه..
واستعير من الكتاب أن القبس - في اللغة- شعلة النار/النور والاقتباس هو الأخذ منها ..
فهل أنت - قارئا أو باحثا أو فنانا - جاهز للاقتباس ؟