الكاتب : ابتهال يونس. ترجمة لطفي السيد منصور
هل يمكن اعتبار الفيلم الجيد أنه الأكثر تأثيراً على عواطفك وأفكارك؟ أم هو الفيلم الصادق في مشاعر شخصياته وأدواته السينمائية؟ أم هو الفيلم الذي يمكن أن تشاهده في كل مرة من زاوية مختلفة وتتلقاه على مستويات وطبقات مختلفة؟
أصعب شيء في الكتابة عن فيلم، من وجهة نظري، هو أن تكتب عن فيلم تحبه، الكتابة عن الفيلم السيئ أسهل بكثير، ليس لأن الإشارة إلى مواطن الضعف أسهل وحسب، ولكن المسافة بينك وبين الفيلم المتواضع تسمح لك أن تفكر بشكل أفضل، حتى محاولاتك لأن تكون موضوعي تجاهه، تفتح عليك أبواب مختلفة لتلقيه وقراءته وإعذاره، أما في حالة الفيلم الجيد الذي أعجبك، فأنت بحاجة لخلق هذه المسافة، لكي ترى بوضوح ويمكنك حينها أن تكتب عنه بحق، بعيداً عن عبارات الإطراء والحفاوة، التي لا تفيد على الإطلاق، لا تفيد المشاهد ولا تفيد صانع الفيلم.
لذلك سأحاول في هذا المقال أن أخلق هذه المسافة، بيني وبين الفيلم، لأتمكن من الكتابة عنه كعمل سينمائي جاد، قضى فيه أبطاله خلف وأمام الكاميرا 4 سنوات من التصوير والمونتاج ورفع الأثقال وآمال الفوز وإحباطات الهزيمة، عمل يحمل أوجها مختلفة وثرية للقراءة والتساؤل والاشتباك.
عن التطور
تظهر أسماء/زبيبة بطلة الفيلم وزميلاتها في بداية الفيلم بملابس عشوائية ملونة تليق بأطفال في مقتبل المراهقة، ملابس تنم عن عفوية وهواية، ألوان زاهية وطفولية، حتى في إحدى المسابقات التي تشارك فيها زبيبة والتي تتسم ببعض الجدية، ترتدي تي شيرت عليه صورة شخصية باباي الكرتونية. وهذا أمر طبيعي في هذه المرحلة العمرية حتى وإن كانت في إطار منافسة رياضية جادة.
لكن في نفس الوقت، تقف عصمت - اللاعبة الأولمبية الأكبر سناً - وسط حلبة التدريب البدائية، مرتدية تي شيرت أديداس من لون واحد، كإحدى علامات الاحتراف وفارق السن بينها وبين اللاعبات الأصغر، الجميع يحترم عصمت، وهي بدورها تعطي نصائحها للناشئات من حولها، ليس لكونها مدربتهن "الرسمية"، لكن كصديقة تشاركهن هذه الساحة وهذا الطموح الجماعي، يظهر من كل حركاتها وملابسها أنها الأكثر خبرة وتمرس، ويظهر من نظرات زبيبة وزميلاتها المراهقات افتتان فطري بشخصية عصمت، وحتى برباط المعصم الذي ترتديه على يدها، والذي ينال إعجاب زبيبة في أحد مشاهد الفيلم وتعبر لها عن ذلك الإعجاب، ونفهم من خلفه إعجاب زبيبة بشخصية وقوة عصمت نفسها.
يتحرك الفيلم ويتابع زبيبة في التدريبات مع كابتن رمضان، وفي البطولات المختلفة، عام يمرّ بعد عام، تتغير ملابس زبيبة إلى أن تصل إلى اللحظة التي تظهر فيها بتي شيرت أديداس رمادي خالي من الرسوم، ندرك أن زبيبة لم تعد زبيبة التي بدأت الفيلم، لقد تطورت زبيبة من الطفولة والهواية إلى لاعبة محترفة، إلى فتاة كبيرة ذات خبرة، ولا أقصد بالتأكيد الإشارة إلى الملابس باعتبارها رموزاً، بل باعتبارها شواهد حقيقية من الحياة ذاتها للتعبير عن رحلة تطور الشخصية، بكل ما يصاحب ذلك من تغيرات.
هذا التطور في هذا الفيلم وفي غيره من الأفلام، الروائية أو التسجيلية، هو أحد أوجه الجمال في السينما، التسجيلية تحديداً، لأنه يطوي الزمن ويكثفه، ويتركك كمشاهد وسط احتمالات واسعة للتأويل والتأثر العاطفي، تذكرت أثناء المشاهدة سلسلة أفلام "UP" التسجيلية، التي كرس لها مايكل أبتد Michael Apted حياته منذ الستينيات، ليرصد حياة مجموعة متفرقة من الأطفال في مدرسة ابتدائية إنجليزية، وكل سبع سنوات يعيد المخرج التصوير مع نفس الشخصيات لمراقبة تطورها، حتى آخر فيلم نفذه في عام 2019، خرجت 9 أفلام مخصصة بالكامل لمراقبة التطور والتغير على شخصيات الفيلم كل سبع سنوات.
في "عاش يا كابتن" يتطور الملعب كذلك من ساحة مفتوحة على الشارع من كل ناحية بلا أسوار، لأسوار مرتجلة من الطوب والحديد والمشمع غير المتناسق على يد كابتن رمضان ولاعباته، من أرض صفراء قاحلة إلى بستان أخضر صغير ترويه زبيبة قرب نهاية الفيلم، تتطور زبيبة من طفلة إلى مراهقة أكثر جدية، تتطور معها هيئتها وملابسها وتتخلى عن نظارتها السميكة وتزيد الأوزان التي ترفعها وتزيد البطولات التي تشارك فيها.
عن الجسم والالتحام
أدعي أن هذا هو أكثر فيلم مصري شاهدته (روائي أو تسجيلي) فيه كل هذا القدر من الأحضان والبوس والتهاني والربت على الظهر، والتوبيخ بالوخز في الكتف والتواصل الجسدي بشكل عام، عشرات الإشارات والالتحامات الجسدية التي تستخدمها شخصيات الفيلم بعفوية تامة للتعبير عن نفسها وعن علاقتها بالآخرين، وفي فيلم عن رياضة رفع الأثقال، تجد نفسك مضطراً إلى الانتباه إلى حركات الجسم والتركيز معه أكثر مما اعتدت ربما، في عالم رفع الأثقال كما ستعرف، "أهم حاجة الوزن!" هو الذي يحدد الفئة التي ستنافس معها، الأكل أكثر من اللازم يعني زيادة في الوزن، الأكل أقل من اللازم قد يؤثر على طاقتك، للجسد في الفيلم حساسية بالغة التوازن بالجرامات، وفي أحد المشاهد تعبر زبيبة عن ارتباكها "يعني آكل ولا ما آكلش؟"، ومن بعدها تكتسب مشاهدتك لزبيبة وهي تأكل، بعدًا آخر، ومعنىً إضافيّا مكتسبا.
في أحد مشاهد الفيلم المتكررة، تقدم زبيبة على رفع وزن كبير، تنقسم الرفعة إلى مرحلتين، في المرحلة الأولى ترفع الثقل عن الأرض فوق رأسها، وفي لحظة حرجة في كل مرة يندفع الثقل قليلاً خلف رأسها في جزء من الثانية، إن تمكنت من ضبط الأثقال فوق رأسها فسيمكنها أن تكمل المرحلة الثانية من الرفع بنجاح، وإن تأرجح الثقل إلى الخلف قليلاً ستفشل، في كل مرة تقدم زبيبة على رفع الثقل، تكاد تشعر معها بهذا التوتر والألم، بأصابعك تضغط على البار الوهمي في يديك حتى لا تفشل محاولتها، أذنك مع تعليمات كابتن رمضان من خارج الكادر، وقلبك معلق بذلك الثقل المتأرجح فوق رأسها، وعندما يهوي الثقل خلفها معلناً فشلها في أحد المحاولات، وتسمع توبيخ كابتن رمضان لها، لا يسع قلبك كل هذه المشاعر المختلطة من الشفقة والحب والتشجيع، تظل على أطراف أصابع قلبك حتى موعد المحاولة التالية، تراقب زبيبة ورمضان، وتراقب أمل وعصمت وأخريات لا تعرف أسمائهن لكنك تكاد تعتقد أنك تعرفهم بالفعل، تراقبهم وهم بقلوبهم بالكامل مع زبيبة، رفع الأثقال لعبة فردية، لكن في هذه اللحظة لا يمكن أن تصدق أنها لعبة فردية، إنها لحظة جماعية نادرة، وفي لقطة قصيرة للغاية في مكان آخر من الفيلم، تمسك عصمت بيد زبيبة نحو الحلبة، ليست بأهم لقطة في الفيلم، لكنها لقطة تمتزج فيها طبقات الفيلم، عن تطور الشخصيات من الطفولة والمراهقة إلى الكبر، من تي شيرتات باباي الطفولية لتي شيرتات أديداس ذات اللون الواحد، عن الالتحام والتواصل الإنساني بالجسد والمشاعر، عن الحب ووحدة الأمل والهدف والصداقة والإعجاب بأبطال مراهقتنا وطيبتهم في دعمنا، عن لحظات المدينة الفاضلة التي تكاد تلمسها بيدك في عالم الحلبة.
لعل البعد الجسماني للأفلام هو أحد أكثر الأبعاد التي يتم تجاهلها في النقد، على الأقل فيما أقرأ، ولكنه من أهم الأبعاد التي تشكل علاقتنا بالأفلام، وهنا أتحدث عن الجسم وليس الصورة، عن الكتلة وموقعها من الفراغ حولها، عن شعورنا بالسقوط والاصطدام والقفز، عن قدرة الكاميرا على نقل الشعور بالجسد لكي نضحك (كما نفعل في الأفلام الكوميديا عندما يتعثر تشابلن أو يقفز باستر كيتون) أو لكي نندهش (كلما شاهدنا جاكي شان وهو يركل ويرقص ويتشاجر في نفس الوقت بجسمه)، أو لكي نتحمس ويرتفع الأدرينالين في أجسامنا (كما يفعل كيانو ريف - جون ويك)، أو لكي نتأثر عندما تدلك عصمت كتفي زبيبة بقوة.
لكن في فيلم تسجيلي، في "عاش يا كابتن"، لا يوجد حماية أو ضمان بأن البطل سيفوز أو يخسر أو يصاب في كل محاولة، وكون الفيلم نفسه قائما على رياضة في تحدٍّ مباشر مع كتلة الإنسان ووزنه واتزانه تحت عشرات الكيلوجرامات من الحديد، تجد قلبك وجسمك معاً على المحك في كل مرة تهم إحدى البطلات برفع البار من على الأرض، وفي طبقة أعمق من التلقي، يأخذ الفيلم معنىً آخر في كل مرة تعبر إحدى الشخصيات لشخصية أخرى عن حبها أو دعمها أو تشجيعها أو عتابها، بالربت على الرأس أو الاحتضان أو السير يداً بيد أو الوغز في الكتف كتعبير عن العتاب.
عن الاختفاء والظهور والغياب
"عاش يا كابتن" فيلم تسجيلي مبني على شخصيات عميقة وآسرة وحاضرة بقوة أمام الكاميرا، كابتن رمضان بجديته في التمرين ودعابته وعاطفته وتلقائيته، شخص قد لا تقابل مثله في حياتك أبداً، وزبيبة بملامحها الفتية وعينيها المختبئتين خلف النظارة، حتى الشخصيات العابرة التي لا نعلم أسماءها مثل الفتاة الصغيرة التي نشاهدها منذ يومها الأول في التمرين، وهي تجاهد لكي ترفع البار فارغاً من على الأرض ونتابعها لاحقاً، شخصيات ثرية في مكان ثري مليء بالحركة والأصوات والمشاعر.
كل هذا الثراء يشعرك وكأن الفيلم لم يحتج إلى مخرج أو مصور أو مونتير، هذه الشخصيات ثرية كفاية لأن تصورها بأي طريقة وسيخرج في النهاية فيلم جميل ورائع، وهذا - بخلاف كونه اعتقادا ساذجا - فهو مجحف لشخصيات الفيلم ولفريق عمله على السواء.
لا يمكن اختزال حياة أي شخص في فيلم، ما تراه في "عاش يا كابتن" هو فيلم بني على وجهة نظر ومشاعر محددة يحاول الفيلم التعبير عنها، ولكي تحصل في النهاية على "فيلم" حقيقي وليس مجموعة من اللقطات المشتتة والأفكار المبتورة والمشاعر المتضاربة، فلا بد أن كل تفاصيل صناعة الفيلم قد تم التفكير فيها وإتقانها، ومهما كان كابتن رمضان شخصية ساحرة ونادرة على سبيل المثال، فتصويره والافتتان به وتجميع لقطات من حياته لا يكفي ليخلق فيلماً جيداً.
لماذا لا نشاهد زبيبة خارج الساحة أو قاعات المسابقات؟ لماذا لا نشاهدها في المنزل أو المدرسة؟ لأن الفيلم ببساطة في اعتقادي ليس عن زبيبة، الفيلم عن هذه العلاقات التي نشأت في هذه الساحة، بكل ما يحمله ذلك المكان من مشاعر وطموحات ومصاعب، عن علاقات الأقران ومن هم أكبر منهم ومن هم أصغر، وعلاقة المدرب والمتدربين، وعلاقات الأخوة والصداقة والأمومة والأبوة، عن الوافدين الجدد والراحلين القدامى، عن الحركة ككتلة بشرية واحدة مليئة بالتفرد والتركيب والأصالة والصدق والمشاعر، من ساحة الإسكندرية إلى بورسعيد إلى صالات المسابقات، هذا التحديد في نظري، يتطلب أيضاً قدرة كبيرة على استبعاد ما لا يعبر عن تلك الخطوط الدرامية، حتى وإن كانت خطوط ولقطات مهمة وساحرة وذكية ومؤثرة، لكن لا بد من استبعادها لكي يكتمل البناء السلس للخطوط الأساسية التي يركز عليها الفيلم، وترجمة ذلك التركيز والاستبعاد، هو طاقة الفيلم العاطفية وقدرته على التأثير، التي تجعل الإجابة على سؤال "لماذا لا نشاهد زبيبة خارج الساحة أو المسابقات؟" إجابة بديهية وواضحة من وجهة نظري.
هل جوهر الفيلم هو تشريح شخصية زبيبة أو كابتن رمضان؟ هل جوهر الفيلم هو الخطاب النسوي عن قوة البنت وقدرتها على التحدي والنجاح؟ هل يتحدث الفيلم عن الفقر وقلة الإمكانيات وعلاقتها بالرياضة والطموح؟ هل يتبع رحلة زبيبة من الساحة الشعبية إلى الأولمبياد؟ في اعتقادي أن الفيلم لا يتحدث عن أي من ذلك على الرغم من حضور كل تلك الخطوط الدرامية بشكل أو بآخر، لكنها ليست جوهر الفيلم باختيار صانعيه، ولأنه لا يوجد فيلم يمكنه أن يعبر عن الكون بأكمله، فالفيلم يتابع خطوط ومشاعر بعينها، يعرفها ويطاردها، ويتقن التعبير عنها، ويتقن كذلك استبعاد ما لا يفيدها. وإذا تأثرت أثناء المشاهدة كما تأثرت أنا طوال الفيلم، فذلك حصيلة ذلك التراكم والبناء على جوهر الفيلم الأساسي، وتجنب واستبعاد خطوط أخرى لا تمثل الفيلم.
كل هذه اللحظات التي توحدت معها عاطفياً، أعتبرها تدليلاً على مونتاج حاسم في اختياره واستبعاده لكل خط درامي أو فكرة أو لقطة من خارج ذلك السياق، هذا البناء المتصاعد – على سبيل المثال - لشخصية نهلة رمضان داخل الفيلم، وغيرها من الشخصيات والخطوط التي ذكرتها، من تطور والتحام جسدي وطرح نسوي وغيرها، ما كان ليؤتي ثماره إلا بمونتاج متوازن بين التمهيد والتصاعد، وتوزيع الاهتمام على خطوط الفيلم الدرامية الأساسية والفرعية بما يضمن استمرار المشاهد في المتابعة والتأثر معها، والتركيز فيها دون ما سواها.
حتى نهلة رمضان التي غابت معظم الفيلم عن تلك الكتلة الواحدة، ظلت حاضرة بسيرتها طوال الفيلم، كأنها جزء غائب حاضر وسط هذه المجموعة، كأسطورة يتطلع إليها الجميع، البطلة التي أسمع عنها منذ مراهقتي أنا شخصياً، تسمع عنها في الفيلم ولا تراها، لدرجة أن جائزة كابتن رمضان في حدى المرات كانت "هغنيلك الأغنية اللي كنت بغنيها لنهلة"، قد يكون العالم انتهى من نهلة كأكبر طموح رياضي لم يكتمل، لكنها وسط هذه الكتلة البشرية "بطلة العالم"، الأسطورة وصاحبة الأغنية والإرث، بطلة الأولمبياد وابنة كابتن رمضان قبل ذلك كله، وعندما تظهر نهلة للمرة الأولى في الفيلم، تتحول كل المشاعر وذكرياتي القصيرة داخل الفيلم إلى لحظة مناسبة لتنطلق دموعي في السينما بلا توقف، كأنك جزء من تلك الكتلة البشرية العظيمة ولو لبضع دقائق.
لا تشعر بوجود المخرجة والمصور في الفيلم، ليس لأنهم غائبون، ولكن لأنهم – في اعتقادي - كانوا أصحاب وجود مريح في هذا المكان، هذه الراحة هي ترجمة لحزمة من أخلاقيات ومهارات صناعة الفيلم التسجيلي، وحصيلة إجابات لمئات - بل وآلاف - الأسئلة الصغيرة والكبيرة اليومية على مدار سنوات صناعة ومونتاج الفيلم، وقرار واع بالاختفاء عن الظهور، وليس غياباً.
كيف نصور الناس والمكان؟ ما موقفنا من هذا العالم وهذه الرياضة؟ هل نحبهم؟ ننتفع من معاناتهم وإنجازاتهم؟ نشاركهم إياها؟ كيف لا نختزل حياتهم في رواية واحدة مناسبة لمواقفنا من الحياة؟ بل كيف نعبر عن المساحة المشتركة بيننا وبينهم؟ كيف لا نصبح غريبين عنهم على الرغم من اختلافاتنا؟ كيف لا يصبح الفيلم نفسه غريباً عنهم وعن ثقافتهم؟ وكيف يظل في نفس الوقت مألوفاً لنا ولثقافتنا؟
هذا الاختفاء أيضاً هو حصيلة اختيارات تقنية كذلك، تتيح لأصحاب المكان وزائريهم أن يكونوا على طبيعتهم، ولا أقول أن تكون الكاميرا مخفية، بل على العكس، الكاميرا يستحيل أن تكون مخفية في الفيلم، الزوايا والأماكن والقرب من الأشخاص وجودة الصورة تدل بالضرورة على أن الكاميرا كانت ظاهرة، لكن راحة من هم أمام الكاميرا ومن خلفها معاً، واطمئنانهم سوياً في هذه المساحة، وتبسيط نموذج التصوير، هو الذي جعل وجود الكاميرا مخفياً، على الرغم من ظهورها ووجودها مادياً.
يستمر دور الكاميرا كذلك في تتبع تلقائية الشخصيات التي أمامها والتي لا يمكن التنبؤ بمسارها، ولا يمكن عقد نقاش بين المخرجة والمصور لاختيار المسار واللحظة والشخصية الأنسب والأهم للفيلم في كل لقطة، مما يتطلب مصوراً - مخرجاً في نفس الوقت، ليتمكن بغريزة المخرج من فهم الفيلم والمشهد والتحرك بناءً على ذلك الفهم، ويزداد الأمر تعقيداً مع أخذ ظروف التصوير في الاعتبار، بين قاعات غير مضاءة جيداً، إلى ساحة مفتوحة على الشارع المشمس نهاراً والمظلم ليلاً، وأعترف أنني تفاجأت عندما عرفت أن الكاميرا الأساسية التي صور بها معظم الفيلم هي كاميرا 5D Mark III، لأن صورة الفيلم لا تجذب انتباهك في أي وقت لعيبٍ ظاهرٍ فيها أو لقصور تعبيري أو جمالي، على الرغم من ظرف التصوير الصعب، وعلى الرغم من قدم الكاميرا النسبي ومحدودية نطاقها الديناميكي وحساسيتها للضوء.
عن النسوية
قد لا أحمل أنا شخصياً تنميطات تمييزية تجاه رياضة رفع الأثقال كرياضة لا تنسجم مع "الأنوثة" و"الطفولة"، لكن لا يمكنني أن أتجاهل وجود هذه التنميطات، وأنني شخصياً قد أكون تبنيتها في مرحلة مبكرة من حياتي متأثراً ببيئتي والثقافة السائدة حولي، ومن داخل الفيلم، يمكنك أن ترى ذلك التنميط والتمييز بين دعابات سمجة يلقيها بعض الأطفال حول حلبة التدريب، أو نظرات متشككة من المارة، وإن كان الفيلم لا يقف على هذه الصور والتنميطات والتمييز، كنوع من الانسجام مع شخصيات الفيلم، التي تجاوزت هي بنفسها ذلك التنميط والسطحية بنضج وشجاعة وتجاهل نابع من ثقة وقوة معنوية وجسدية واعتبارها بديهيات لا تحتاج إلى تنبيه أو توضيح.
في إحدى لحظات الفيلم، تقترب زميلات زبيبة منها ويلبسونها الميدالية تلو الأخرى حول رقبتها، بطولات ومراكز متنوعة فازت بها زبيبة، وبصوت خفيض ومحرج تعرب زبيبة عن قلقها على "الكحكة" في شعرها من أن تفسدها الميداليات، لحظة كهذه، والفيلم مليء بهذه اللحظات، تعيد التأكيد عليك أنك تشاهد إنسانة، وليس موضوعاً للدراسة، أو خطاباً تحفيزياً عن الرياضة والانتصار والطموح والتغلب على الصعاب، أو حتى عن النسوية و"إنك تقدري ومفيش حاجة تقدر توقفك"، لحظة رقيقة كتلك، تنسف هذا الجهل وهذه السطحية والتنميط والتمييز، ليس لأنها تخلق صورة بلاغية سطحية أخرى بدورها تختصر الأنوثة في الاهتمام بالشعر، ولكن لأنها تنقل مشاعر حقيقية وصادقة ورقيقة وغير متوقعة ومركبة وناضجة، تساعدك على تخيل عالم سويّ متفرد، بعيداً عن التصورات السطحية والجمل الخطابية والتنميط والتنميط المضاد.
والأهم من ذلك الموقف البسيط، أن الفيلم بأكمله تكثيف لذلك التصور المركب والناضج عن العالم، بتنوعه وإنسانيته في تعريفه لما هو "راجل" وما هو "ست"، أو كما يصفه كابتن رمضان ببلاغة في عبارته "أنا بت وانت ولد، أنتي شايفه حاجة ناعمة في الاتنين؟"، قد لا تفهم معنى العبارة بدقة، لكن الفيلم نفسه هو تصور ذلك العالم المرتبك – بالمعنى الإيجابي للارتباك - في تحديد ما هو "راجل" وما هو "ست"، لاعبون ولاعبات ومدربون ومدربات جميعاً في مساحة واحدة، "أنا بت وانت ولد، أنتي شايفة حاجة ناعمة في الاتنين؟".
عن السينما التسجيلية
يكاد يمر العام والعامان، دون أن تنتج السينما المستقلة أو البديلة فيلماً واحداً، روائيا أو تسجيليا، ووسط عدد متزايد في العقدين الأخيرين من الأفلام التسجيلية الذاتية، تمر مزيد من السنوات دون فيلم تسجيلي غير ذاتي، وليس هذا إنجازاً في حد ذاته، لكنه يستحق على الأقل أن نمنحه الحق في الاشتباك الحقيقي معه، كعمل سينمائي جاد، بالنقد والكتابة والنقاش كنوع من تقدير الإنتاجات النادرة التي تصل بنجاح إلى شاشات السينما.