الكاتب : د.ياسر منجي
مقدمة:
منذ أقدم عهوده، مارس العقل البشري ضروبًا من الفكر التركيبي، في مقاربته لعدد كبير من الأفكار المتعلقة بالقيم العاطفية والشعورية، غير عابئ بالتناول الاعتيادي لكل قيمة شعورية باعتبارها نظامًا منغلقًا على ذاته؛ بل على العكس من ذلك، إذ يؤكد التراث البصري والأدبي العالمي أن العقل البشري قد ذهب بعيدًا منذ القدم في سبيل إبداع أنساق شتى من العلاقات، إلى درجة المزج أحيانًا بين المتناقضات والأضداد، وتوليفها داخل مركبات جدلية ثنائية.
وربما لم تشهد الصياغات البصرية لتنويعات الجدليات الثنائية المذكورة تحققها الدلالي الأقصى في أيٍ من الرموز البصرية، بقدر ما شهدته من خلال حضور صورة الجسد الأنثوي، داخل سياقات تركيبية مكرسة لتجسيد فكرة الأضداد المتلازمة/ المتفاعلة؛ بَرَزَت فيها الأنثى بوصفها قطبًا مفجرًا لتداعيات شتى من علاقات النقائض مثل (الحب – الكراهية)، مما أدى إلى تكريس نموذج "الأنثى المهلكة"Femme Fatale ، الذي ظل حاضرًا في تاريخ الفن الحديث، مشتبكًا بأفكار متمحورة حول قيمة الأنوثة المتصلة باشتقاقات من قيمتَي الحب والكراهية.
ومن خلال تحليل الحضور الأنثوي الوارد في بعض الأعمال التشكيلية، التي استلهمت بعضًا من أشهر النصوص الأدبية في التراث العالمي، يتبين ارتباط فكرة الحب بفكرة الهلاك على المستويين الجسدي والروحي لدى عدد من الفنانين متبايني الخطابات البصرية.
وتتجلى فكرة الكراهية من خلال نموذج "الأنثى المهلكة" على نحو يؤكد مسألة التنوع الموضوعي المشار إليها سلفًا؛ في تركيبات معقدة تختلط فيها فكرتي الحب بالكراهية على نحو واضح، مع تحميلها أحيانًا بمضامين فلسفية أو دينية.
كذلك فقد رسخت فكرة اختتام علاقات الحب الجارف بنهايات فاجعة في تراث عدد كبير من الثقافات، مما أدى إلى تجلي إشكالية ارتباط علاقات الحب بتدمير شخوص المحبين – أحدهما أو كلاهما – في النتاج الأدبي والبصري العالمي، في تنويعات فلسفية وصياغات شكلية بالغة الثراء؛ استلهمت الأسطورة والتاريخ والمسرح العالمي والكتاب المقدس.
الطاقة التدميرية للأنثى المشتهاة:
اعتمدت الصياغات البصرية لتنويعات الجدليات الثنائية سابقة الذكر على استحضار صورة الجسد الأنثوي، باعتباره ثيمة بصرية عميقة الغور، يمكن من خلالها تجسيد ارتباط طاقة الشهوة الجنسية بطاقة الفناء التدميرية، وارتباط المتعة بالألم وارتباط الشغف بالنفور؛ تلك العلاقات الخلافية التي ظلت محورًا لعديد من الاجتهادات الصياغية منذ بزوغ فجر الفنون في الحضارات القديمة وحتى الآن، وهي الصياغات التي ارتبطت فيها الأنثى بتداعيات شتى من علاقات النقائض (اللذة – الألم)، (الحياة – الموت)، (الحب – الكراهية)، وهو ما أدى إلى تدشين أحد المفاهيم شديدة الخصوصية المتمحورة حول فكرة الأنوثة، والمتمثل فيما يسمى بنموذج "الأنثى المهلكة" والتي يطلق عليها الفرنسيون Femme Fatale / المرأة المهلكة / الأنثى المميتة؛ وهو النموذج الذي كشفت عنه نظرية "يونج" النقاب من خلال طرحها لفرضية "الأنيما"(1) The Anima التي تشرح أساس هذه الرؤية الشهوية/السوداوية الملتبسة للمرأة. فيلاحظ أن عددًا كبيرًا من كيانات الشر الغيبية قد صورتها الحضارات القديمة على هيئة أنثوية؛ حيث صورت الشيطانة الرافدية "لابارتو" على شكل أنثى ولود ترضع كلبًا أو خنزيرًا، وهي الصورة التي تأكدت على نحو أكثر وضوحًا في مُشخَّصات مواطنتها الشيطانة "ليليث"(2)، تلك التي ارتبطت لديها مفاتن الجسد الأنثوي ومسراته بالقدرة على إحداث الأذى وإنتاج الهلاك في رابطة غير مُنفَصِمة. كما صورت الإلهة المصرية القديمة "سخمت" (الجبارة) بجسد أنثى آدمية بضة ورأس لبؤة. وكذلك اعتمد الإغريق تنويعات الجسد الأنثوي وأعضائه لتشكيل الصور الرامزة لكيانات الشر الأسطورية مثل "الجورجونات" و"هيكاتي" و"سفنكس"، وهو نفسه الفكر الصياغي الذي تسبب في ظهور منحوتات الإلهة "كالي" الهندية على هيئة أنثوية شوهاء وإن لم تخل من مسحة شهوية بوصفها عشيقة كونية كبرى.
شيطانة القفار البابلية "ليليث"، نحت بارز على الحجر، بلاد الرافدين، 1950ق.م.
ولم يتوقف الطرح عند حدود الأعمال الفنية المنتمية لعصور قديمة؛ وإنما مارس استمرارًا يشهد عليه تاريخ الفن الأوربي، حيث وجد صداه لاحقًا في كثرة من الأعمال الجرافيكية الأوربية المنتمية لفترة العصور الوسطى، والتي عالجت موضوعات تتصل بفكرة الشيطان وكائنات الأذى؛ فأصبحت الأنثى قاسمًا مشتركًا في عديد من هذه الأعمال للتشخيص البصري المعبر عن كيانات الشياطين/ الغواية/الخطيئة/المروق/الأذى، من طريق الاستدراج العاطفي.
والنظرية السائدة حاليًا في الدراسات الأثرية والميثولوجية ترى أن العبادات كانت في بدايتها متجهة نحو إلهات إناث خلال عصور ما قبل التاريخ حول العالم، ثم بزغت عبادة الإله الذكر مرتبطة بأساطير هزيمته – باعتباره تجسيدًا للخير والنظام – لشيطانة كبرى ترمز للشر والفوضى البدئية، فمن الممكن طبقًا لهذا الرأي أن تكون صور الشيطانات الإناث في الفنون قد نتجت كأثر للعبادات الأمومية القديمة، حين تم تشويهها بصعود نجم الديانات الذكرية. وربما يكون تصوير الشياطين بأثداء أنثوية في الأعمال المتأثرة بالصبغة المسيحية ذو جذور تمتد لإحدى هؤلاء الإلهات القديمات، وهي "عشتار"(3) أو "عشتروت"، التي تميزت بمنحوتاتها الممسكة بثدييها، بل إنها استمرت في المعتقدات العربية الجاهلية لتظهر في شخصية الإلهة "العزى"(4).
وفي هذا السياق الأخير يُلاحَظ أن ظهور الساحرات أو الشيطانات في الأعمال الفنية الأوربية يتكئ على تراث حضاري قديم، ربما يكون أظهر مثال بصري له هو تشخيص "الإيرينات"(5)، اللاتي عالجهن الفنان الفرنسي"جوستاف دوريه" Gustave Dore (1832- 1883م) في أحد أعماله المستلهمة لوصف "دانتي" لهن في "الكوميديا الإلهية" ككائنات مسوخية، متماهية تمامًا مع التخيلات المسيحية لشخصية الشيطان؛ غير أن "دوريه" لم يسِر حرفيًا في عمله على المرجعية النصية للكوميديا، فعمد إلى صياغة الأجساد الأنثوية المكتملة على صورة أقرب للشهوانية، متكئًا على تراث الجدليات الثنوية المذكورة.
جوستاف دوريه، الإيرينات الثلاث، من مجموعة الكوميديا الإلهية، حفر على الخشب عرضي المقطع، فرنسا، القرن التاسع عشر.
وكما أعلنت التوراة مسؤولية "حواء" عن سقوط "آدم"، واعتبارها المتسبب الرئيس في الهلاك الروحي بحدوث "الخطيئة الأصلية" The Original Sin استجابة منها للشيطان، كذلك أعلن "سفر الرؤيا" ارتباط أحداث الهلاك النهائي في
ألبرشت ديورر، عاهرة بابل، من مجموعة سفر الرؤيا، حفر على الخشب عرضي المقطع، ألمانيا، 1498 م.
نهاية الزمان بعلاقة دنسة تنشأ بين الشيطان، في صورة وحش متعدد الرؤوس، وبين امرأة ساقطة كريهة مستوجبة لبُغض الأتقياء؛ هي تجسيد أنثوي لمدينة "بابل"(6) وهو ما استلهمه الفنان الألماني "ألبرشت ديورر" Albrecht Durer (1471- 1528م) ضمن مجموعته التي عالج فيها مشاهد "سفر الرؤيا".
وتتطور العلاقة الجدلية السابقة إلى فكرة ملتبسة قائمة على مركزية الدافع الجنسي في تشخيص جسد الأنثى كمصدر أساسي لخبرتين عاطفيتين متضادتين؛ هما البهجة القائمة على مسرات فعل الحب، والألم المنبثق من فعل الاعتداء، الأمر الذي يجد تبريرًا تاريخيًا له، بالنظر إلى ربط بعض الثقافات والشروح الدينية بين اللذة، المتحصلة من الفعل الجنسي، والموت الناتج عن الإغراق في المباهج الدنيوية، وهي الفكرة التي قد تشهد حضورًا مثيلًا بتأثير بعض حالات الخلل النفسي؛ تلك الحالات التي يرزح فيها المريض تحت تسلط فكرة اعتبار أي نوع من أنواع الاتصال بالنساء - سواء كان مشروعًا أم لا - من قبيل الشر المطلق المؤدى إلى الإيذاء والتدمير. وهو ما يؤدي إلى حضور الأنثى بوصفها كيانًا متناقضًا، مسببًا للذة والألم/ الجنس والهلاك، كيانًا مرغوبًا ومرهوبًا في ذات الوقت، فهو كيان يمثل هدفًا للاشتهاء بالنظر إلى ما يجسده من مسرات تفرضها الفطرة البشرية، غير أنه – وبذات القدر من الشدة – يمثل خطرًا واجب الاتقاء، بالنظر إلى إلحاح الفكرة العصابية المستقرة في اللاوعي المريض، فيتحد القبول والنفور في نفس المريض تجاه هدف العلاقة (الأنثى)، ويصير موضوع (الحب بالإمكان) مثيرًا شرطيًا لموضوع (الكراهية بالضرورة)، مما يؤدي لإخفاق مستمر في العلاقات العاطفية.
وربما لم يتجسد موضوع "الأنثى المهلكة" بشروطه التشكيلية المثالية – وفقًا لاستراتيجيات الخلل النفسي المشار إليها سلفًا – بقدر ما تجسد في أعمال الفنان النرويجي "إدفار مونك" Edvard Munch (1863 – 1944)، وهي الشروط التي تجد تبريرًا في طفولة الفنان؛ حيث نشأ "مونك" ليجد أبًا طبيبًا مهووسًا دينيًا وفى منتهى التزمت، يؤمن بالقسوة في عقاب الأبناء، ويرى أن الأطفال لابد وأن ينغرس فيهم الوعي بأفكار المرض، والموت، والفقر، وكراهة المسرات والمتع، وأن الدنيا ما هي إلا استعداد للموت. لذلك كان يصطحبه في زياراته الطبية لأحياء "كريستيانا" – "أوسلو" حاليًا - الفقيرة، ومما زاد من تعاسة طفولته أنه حرم من أمه وهو مازال بسن الخامسة، إذ ماتت في مصح فقير وتبعتها أخته الكبرى، ولذلك فقد كتب في مذكراته: "المرض، الجنون والموت كانوا هم الملائكة السود الذين اعتنوا بي إبان طفولتي". وفى شبابه تطورت نظرته الواعية ومشاعره تجاه المرأة بتأثير مجتمع آخر، إذ انضم في عام 1884 عضوًا في جماعة الفنانين البوهيميين في كريستيانا، حيث أطلعوه على أفكارهم التقدمية بشأن الدين والحرية الجنسية، فباتت الأنثى همزة الوصل المشتركة بين خبرة (الكراهية) للمسرات، التي زرعتها في طويته ظروف النشأة، وخبرة (الحب) المرتبط بخبرات شهوانية، متحصلة من تجارب صدر الشباب، وهو ما شهد انفجاراته القصوى خلال فترة المرض؛ فقد عانى "مونك" في عام 1908 من خلل نفسي وعقلي خطير، نتيجة للإفراط في تناول الكحول والإرهاق في العمل والإخفاق العاطفي. غير أنه، من جهة أخرى، كان "مونك" على وعى بأن الخلل النفسي جزء من عبقريته؛ إلى الحد الذي دفعه للكتابة قائلا: "لن أتخلص من مرضى، إذ يوجد الكثير مما أدين به له في فني".
وقد بدت محصلة هذه التركيبة النفسية المشوشة في معالجة "مونك" لفكرة "الأنثى المهلكة" في أكثر من عمل؛ منها عمله (الهاربي)(7)Harpy الذي بلور وساوسه المرضية حول فعل الحب في تكوين يعكس تجذرًا لفكرة الانسحاق العاطفي. فالمساحة العليا من العمل، بالإضافة لجانبَيه، قد احتلتها كتلة سوداء تقترب من نصف مساحة العمل، توحي بمدى هيمنة القوة الغاشمة للكيان الأنثوي المجنح على جسد الرجل المهيض خلال فعل الحب، في ترجمة بصرية مباشرة للعلاقات العاطفية الجهيضة التي قاسى "مونك" هزائمها. وقد خرج "مونك" قليلاً عن وصف التراث الإغريقي لكيان "الهاربي"، ليضيف للرأس البشري الجذع الأنثوي العلوي، بما يشمله من نهدين يؤكدان عامل الغواية الجنسية، وليقترب بذلك من السمات الشكلية للشيطانة "ليليث" ذات الأجنحة والأقدام الريشية وجسد الأنثى المثيرة.
إدفارد مونك، الهاربي، طباعة مسطحة، النرويج، 1894 م.
كما لجأ "مونك" إلى فكرة تراثية أخرى ليعبر بها عن مشاعره نحو تسلط الأنثى على الرجل في العلاقات العاطفية، وهى فكرة مصاص الدماء(8) Vampire، حيث تمكن من تجسيد قسوة فعل الاختراق الجسدي للضحية من قبل مصاصة الدماء؛ فأتت المساحة السوداء لجناحيها متسمة بمظهر خشن، يزداد حدة باقترابه من جثة الضحية، لتحوطها في خطوط موجهة نحو الصدر، وظِلٌّ أسود يغلف الساقين والرأس. كما عكس التكوين الرأسي لمصاصة الدماء مدى هيمنتها المتسلطة على الوضع الأفقي المستسلم للرجل، في التحام جنسي مباشر يؤكده إغماض عينيها في نشوة واضحة، ترسخ جدلية "السادو/مازوخية"، التي يرتبط فيها انبثاق اللذة لدى كل من طرفي العلاقة بوجوب حدوث فعل الأذى، صدورًا من أحدهما واتجاهًا نحو الآخر.
إدفارد مونك، مصاصة الدماء، حفر جاف، النرويج، 1894 م.
وتستمر تجليات نموذج "الأنثى المهلكة" في تاريخ الفن الحديث، من خلال اشتباكه بأفكار "الخطيئة" و"الاضطراب العقلي" و"قوى العماء البدئي"؛ باعتبارها أفكارًا متمحورة حول قيمة الأنوثة، في بُعدها المتصل بجوانب مشتقة من قيمتَي الحب والكراهية، وهو ما طرحته أعمال عدد من الفنانين الأوربيين؛ من بينهم الفنان الإنجليزي "جون كوليير" John Collier (1850- 1934)، والذي خطا في تصويره لشيطانة القفار "ليليث" خطوة أبعد من مجرد الاتكاء على السمات التي سبق وأن ألصقتها بها كل من الأسطورة الرافدية والشروح التلمودية؛ إذ طابق "كوليير" ما بين شخصيتي "ليليث" و"حواء"، مضفيًا بعدًا مسيحيًا واضحًا، فيما يتصل بقضية الخطيئة الأصلية المؤدية لطرد الجنس البشري خارج نعيم الفردوس، جريرة السقوط بالأكل من ثمرة العشق المحرمة، ونشوء علاقة ثلاثية الأطراف من التباغض والتناحر فيما بين الرجل والمرأة والثعبان/الشيطان، وفقًا لما قضى به الرب(9)؛ فنشأت العداوة والكراهية بين الثعبان ونسل المرأة، وصارت العلاقة ملتبسة بين الرجل والمرأة في مزيج من الاشتياق الفطري الغريزي والتسلط والنزاع.
صور العمل الحالي "ليليث" واقفة - تليها خلفية شجرية تومئ للفردوس المفقود - منتشية بملامح تنم عن استمتاع شبقي واضح، يشي بخوض تجربة جنسية مع الثعبان - الكائن الكريه لدى معظم ثقافات العالم - والذي التحم بها ليصيرا كيانًا واحدًا يجمع فيه الحضور الأنثوي بين المرغوب والمرهوب/المحبوب والكريه.
جون كوليير، ليليث، تصوير زيتي على القماش، إنجلترا، 1892م.
الحضور النصي للجدلية واستلهاماته التشكيلية:
من خلال تحليل الحضور الأنثوي الوارد في بعض الأعمال التشكيلية، التي استلهمت بعضًا من أشهر النصوص الأدبية في التراث العالمي، يتبين بجلاء ارتباط فكرة الحب بفكرة الهلاك على المستويين الجسدي والروحي، وهو ما ظل ثابتًا في تناول الفنانين لصورة الأنثى المهلكة، على الرغم من تنوع وتباين الخطابات البصرية التي يصدر عنها كل منهم بفعل اختلاف مذاهبهم الفنية وانتمائهم إلى حقب زمنية متباعدة، الأمر الذي توفره شواهد متعددة لمعالجات تتمحور حول موضوع "عاقبة الحب المحرم"؛ والذي تعتبر كلا من قصتي "باولو وفرانتشيسكا"(10) Paulo & Francesca - التي ساقها "دانتي" Dante Alighieri (1265- 1321) في الطبقة الثانية من الجحيم في الكوميديا الإلهية - ومثيلتها في الأقاصيص الجرمانية "تريستان وإيزولدة"(11) Tristan & Isolde أشهر قصتين نمطيتين للموضوع المذكور؛ وهما القصتان اللتان تطرحان صياغتين مأساويتين لفكرة الدمار الروحي، الناجم عن تجربة حب تنتهك سلطان الأعراف والأخلاقيات بتحريض الغواية الأنثوية.
يبدو تأثير قصة "باولو وفرانتشيسكا" على الفنان الإنجليزي "دانتي جابرييل روسيتي" Dante Gabriel Rossetti (1828- 1882)، الذي انشغل في صياغته للموضوع بالجانب التصميمي؛ حيث يعمد إلى تقسيم المشهد إلى ثلاثية أفقية، على غرار لوحات المذابح الكنسية ذات المصاريع، يحتل المشهد الأوسط فيها شخصيتي "دانتي" ومرشده الشاعر الروماني "فرجيل"، يتأملان في أسى واضح عذاب الحبيبين الآثمين المتعانقين خلال طيرانهما الأبدي تحت أمطار من النيران في المشهد الأيمن، بينما يجسد المشهد الأيسر طرفًا من الماضي الذي كان سببًا في استحقاقهما العذاب؛ حيث يَمثلان خلال حياتهما الدنيوية وهما يتبادلان القبلات المحرمة التي خرقا من خلالها رباط الزواج المقدس الذي كان يربط "فرانتشيسكا" بأخ "باولو" الشقيق.
دانتي جابرييل روسيتي، باولو وفرانتشيسكا، ألوان مائية على الورق، إنجلترا، 1855م.
في المقابل يأتي النظير الجرماني "تريستان وإيزولدة" ليحقق حضورًا مماثلًا في صياغتين لمدرستين فنيتين مختلفتين؛ تتجسد أولاهما من خلال عمل للفنان البلجيكي "جان ديلفيل" Jean Delville (1867- 1953) الذي جسد من خلاله مشهد إشراق الوعي، الذي تلتحم فيه لحظة الاتحاد الأبدي للحبيبين – بتأثير جرعة الحب السحرية – بلحظة هلاكهما جسديًا ومغادرتهما دنيا الأعراف الصارمة التي تدين علاقتهما وتُأثِّمها لصالح حقوق الملك الزوج، فصار الإشراق الروحي – تبعا لديلفيل – قرينا للموت الجسدي في جدلية لا تنفصم عراها، تفجرها علاقة الحب الآثم بإغواء متعمد - تناول الشراب السحري - لتنويعة شديدة الخصوصية (إيزولدة) على نموذج الأنثى المهلكة، التي تعلن انتصارها برفع كأس الغواية التي تنبجس منها هالة النور معلنة انتصار الحب و لو كان محرمًا.
جان ديلفيل، تريستان وإيزولدة، رسم بالأحبار والطباشير على الورق، بلجيكا، 1887م.
ومن الرمزي في طرح "دلفيل" إلى السريالي في الطرح المميز لأسلوب الفنان الإسباني "سلفادور دالي" Salvador Dali (1904- 1989)، والذي تناول الفكرة مضفيا عليها حسًا من "الشخصنة الذاتية"، ذلك الطابع المميز النابع من التركيبة الشخصية المعروفة للفنان "دالي"، والتي انطوت على قسط وافر من مُركَّب الافتتان بالذات والتمحور حول الأنا؛ حيث يُسقط "دالي" قصة "تريستان وإيزولدة" بمحمولاتها المعقدة على تجربته الحياتية الشخصية وقصة حبه المعقدة لزوجته وملهمته "جالا" Gala Dali (1894- 1982)؛ تلك القصة التي كانت تمثل بدورها إحدى أشهر الجدليات النفسية والاجتماعية على مستوى السِيَر الذاتية في تاريخ الفن التشكيلي، والتي تطابقت في بعض أحداثها مع الخط الدرامي الأساسي لقصة "تريستان وإيزولدة"؛ من حيث حضور فكرة الحبيبين المنتهكين لقوانين مؤسسة الزواج(12). ففيما عدا ملاحظة العباءتين المستمدتين من طراز العصور الوسطى، لا يتمكن المتلقي من تحديد سمات نمطية شكلية أو مكانية، بل وحتى حركية، من شأنها أن تعينه على الجزم بكون بطلي العمل هما "تريستان وإيزولدة"؛ بل على العكس فقد كرست الصياغة التشريحية – خاصة في الرأس الأنثوي – حضور "دالي" و"جالا" - التي كانت بطلا أساسيا في كثير من أعمال "دالي" - ذلك الحضور الذي أكدته العناصر الثانوية المميزة لأعمال "دالي"؛ كالبيضة والعكاز الشهير مزدوج الرأس الذي أورده في كثير من أعماله الشهيرة، وهما – العكاز والبيضة – من العناصر التي ارتبطت لدى "دالي" بشخصه وبزوجته؛ فكأن العمل هنا يدشن نوعا من التقمص الذي يتماهى فيه الواقعي بالروائي، لتصير علاقة ("تريستان"- "إيزولدة") جدلية مكافئة لعلاقة الحب وفق النموذج ("دالي"- "جالا").
سلفادور دالي، تريستان وإيزولدة، تصوير زيتي على القماش، أسبانيا، 1944م.
الكراهية من طريق الحب بإيعاز الأنثى المهلكة:
تتجلى فكرة الكراهية من خلال نموذج "الأنثى المهلكة" على نحو يؤكد مسألة التنوع الموضوعي المشار إليها سلفا؛ ففي سياق معالجة موضوع الاغتيال المبني على التنافس النسوي في مجتمع الحريم الشرقي بفعل الغيرة، يبلور الفنان الفرنسي "فرناند كورمون" Fernand Cormon (1845- 1924) حبكة مشهدية حافلة بالدلالات التي تبرز معها الأنثى ككيان مركب قابل لاجتماع الأضداد؛ فالأنثى الغيورة التي تنافح عن مكانتها لدى حبيبٍ تنافسها فيه أخرى، لا تتورع عن الذهاب إلى أبعد مدى للحفاظ على مكانتها، حتى لو استدعى الأمر إهلاك الغريمة وإزاحتها عن طريق التصفية الجسدية. وطبقًا لهذا المفهوم، يتحول الحب – حال امتزاجه بدواعي حفظ أسبقية الأنا – إلى طاقة عمياء، قابلة لاستدعاء نقيضها (الكراهية) لدرجة إزهاق الروح. وبتأمل العناصر البصرية الواردة ضمن نسيج العمل، تتضح قصدية إظهار الغريمتين عاريتين بهدف إعلاء فكرة الصراع الغريزي الدائر بين أنثيين مخلصتين لكيانهما الفطري، دونما إقامة وزن لمقتضيات التحضر، فالصراع هنا معلن إلى درجة العري، والكراهية راسخة في أصل الفطرة. كما تبدو النزعة الاستعمارية الاستعلائية واضحة حين يجسد الفنان ضحيته في شخص امرأة بيضاء أوربية الملامح، مدخرًا طاقة الكراهية للغريمة السمراء شرقية الملامح، وكأنه ترسيخ بصري لفكرة الشرق الهمجي المستوجب لدرء شروره بالاستعمار (نُفِّذ العمل عام 1874م خلال فترة ازدهار المستعمرات الفرنسية في الشرق). ثم تأتي الحركة الزاحفة الدالة من الغريمة باتجاه جثة غريمتها، وكأنها بسبيلها للعق جرحها الدامي في تَشَفٍّ تنضح به تعبيرات وجهها، وهي حركة أفعوانية يظهر معها جسد القاتلة كأفعى ضخمة تستعيد رمزيات الثعبان في تراث الخطيئة، وهو ما أكده الفنان بوضعه مشخصًا صغيرًا لتنين أفعواني ملتف على نفسه أسفل يمين العمل. أما الرجل/الذكر - محرك الصراع ومفجر الكراهية - فقد مارس كلًا من الحضور والغياب بنفس القدر في العمل؛ حيث لم يظهر بوصفه السيد الذي تصطرع الحريم على الحظوة لديه في دهاليز قصره، أي بوصفه موضوعًا للحب، بل ظهر الذكر العبد/القاتل المأجور بديلًا عنه، مدججا بالسلاح ومستعرضًا بضاعته الدموية (بوصفه الأداة الحاصدة لمحصول الكراهية).
فرناند كورمون، الغيرة، تصوير زيتي على قماش، فرنسا، 1874م.
النهايات الفاجعة للمحبين:
رسخت فكرة اختتام علاقات الحب الجارف بنهايات فاجعة في تراث عدد كبير من الثقافات، مما أدى إلى تجلي إشكالية ارتباط علاقات الحب – سواء المتبادل أو من طرف واحد – بتدمير شخوص المحبين – أحدهما أو كلاهما – في النتاج الأدبي والبصري العالمي في تنويعات فلسفية وصياغات شكلية شديدة الثراء.
في هذا السياق تأتي النهاية الفاجعة الشهيرة للعاشقة "كليوباترا" Cleopatra؛ تلك التي كانت فتنتها الأنثوية سببًا في اشتعال التناحر بين قادة روما العظام وجر الوبال على الإمبراطورية بأسرها، والتي اختتمت قصتي حبها الشهيرتين بالمصائر الدامية التي انتهى إليها حبيبيها الكبيرين "قيصر" و"أنطونيو"، لتكون أساسًا لإلهام الفنان الفرنسي "جان أندري ريزن" Jean Andre Rixens(1846- 1924)، فينتقي من القصة لحظة شديد الدلالة؛ تلك التي رقدت فيها العاشقة كجثة هامدة نتيجة انتحارها اليائس، لتذوق الأنثى المهلكة ما سبق وأن جرعته لمحبيها، مُركزًا في صياغته التشكيلية على إبراز عريها الكامل - الشق الشهواني الملازم للأنثى المهلكة - لتأكيد فتنة الجسد المتضمنة في جدلية "الجنس- الموت".
جان أندري ريزن، موت كليوباترا، تصوير زيتي على قماش، هولندا، 1874م.
ويتمكن الفنان الفرنسي "لوسيان ليفي دورمي" Lucien Levy-Dhurmer (1865- 1953) في صياغته الذكية لعمله "سالومي" من نزع القناع عن الجانب العاطفي لدى إحدى أشهر الإناث المهلكات؛ فمن خلال تبني منظور الرؤية المقربة، يظهر للمتلقي مشهد تبدو من خلاله من كانت سببًا في هلاك صاحب الصوت الصارخ في البرية، وهي تسيل رقة وقد انكبت على شفتي الحبيب الشهيد تقبلهما، فإذا بإغماضة عينه المستسلمة للموت تبدو وكأنها إغماضة الاستجابة لقبلة العاشقة المهلكة، فكأنما كانت النهاية الفاجعة للمعمدان سببًا في تطهر راقصة الغلالات السبع من شطرها الشهواني وانبعاث كيانها الروحاني مع الأشعة المنبجسة من رأس الحبيب.
لوسيان ليفي دورمي، سالومي، تصوير بالباستيل على الورق، فرنسا، 1896م.
وعن طريق التصميم الواعي للإضاءة، يتمكن الفنان الألماني "هاينريش هوفمان" Heinrich Hofmann (1824- 1911) من إبراز الرموز الكامنة بمشهد لحظة القتل في عمله المستلهَم من مسرحية "عطيل وديدمونة"؛ حيث يبالغ في تركيز بؤرة الإضاءة على جسد "ديدمونة"، ليُعلي بذلك من رمزية بياض البشرة/الروح البريئة/الحب المتسامي، في مقابل تراكم القِيَم الظلية الداكنة حول "عطيل" وفي ملابسه، للتأكيد على رمزية اللون الأسود/الغيرة العمياء/الحب الجسدي، مشددًا على الدلالة القضيبية للسيف، الذي بدا في ميله على خصر "عطيل" كامتداد لعضوه المنتصب حال اقترابه من مخدع الحبيبة. وبوعي رمزي عميق، يضيف الفنان حلية خشبية لسرير "ديدمونة" أقصى اليمين، يتطابق شكلها تمامًا مع سمات طائر "الهاربي" الأسطوري، كتنويعة من تنويعات الأنثى المهلكة تنذر بالفجيعة المرتقبة، وكأنما يتبنى النظرة التي ترى في فاجعة قتل "ديدمونة" على يد "عطيل" تحريرًا للنفس العليا من ربقة النفس الحسية/السوداء.
هاينريش هوفمان، عطيل يقتل ديدمونة، طباعة مسطحة من الحجر(ليثوغراف)، ألمانيا، 1839م.
ومن خلال تقنية "الإشراق في العتمة"/"كياروسكورو"(43) Chiaroscuro التي ميزت أعمال الفنان الهولندي "رمبرانت" Rembrandt (1606- 1669)، تأتي صياغة "شمشون" لتعكس مقدرة تصميمية فذة لدى "رمبرانت"، مكنته من طرح ذروة توترات مشهد فَقء عين "شمشون" من خلال التكوين الحركي المضطرب الذي سيطرت العلاقات المثلثية على خطوطه - كالمثلث المتكون من هبوط الخط الواصل بين مقيدي "شمشون" وصعود خط جذع "دليلة"، والمثلثات البادية في تكوين حامل الرمح، ومثلث باب الخيمة - وهو تكوين معقد يعبر تصادم الخطوط متعاكسة الاتجاه به عن صراع كامن في بنية العمل، والذي يُفضي تتبع اتجاهاته الخطية إلى الانتهاء بيد "دليلة"/الحبيبة المهلكة، ممسكة بشعر "شمشون" وهي تتأمل تقلصات أصابع قدميه من فرط الألم.
رمبرانت، فقأ عيني شمشون، تصوير زيتي على قماش، هولندا، 1636م.
تَجَلّيات سينمائية:
في المقابل، لم يَعدَم الوسيط السينمائي حضور مفهوم الأنثى المهلكة، في تَجَلّياتٍ شَتّى، من خلال معالَجات قارَبَت هذا المفهوم من زوايا متعددة، وإن كان أغلبُها قد حَصَر نموذج الأنثى المهلكة في سياق الإغواء. ويمكن فهم هذا الحصر – أو بالأحرى التنميط السينمائي – بالنظر إلى الفارق التاريخي بينه، وبين سائر الوسائط البصرية والأدبية الأقدم منه زمنيًا، كفنون النحت، والتصوير، والرسم، فضلًا عن بقية القوالب النَصّية الأدبية، والتي قَيَّض لها قِدَمُ عهدها تراكماً تاريخيًا أفضى إلى تعقيد مضامينها، مقارنةً بنظائرها السينمائية، وبالذات فيما يتصل بالمستويات الروحية والفلسفية لهذا المفهوم.
غير أن الأمثلة التي يمكن انتخابُها في هذا المقام – على قِلّة عددها – تمثل نماذج جديرةً بالتأمل والتحليل، في سياق استدعاء الوسيط السينمائي لمفهوم الأنثى المهلكة، وهو ما يمكن الإشارة إلى بعض أهم تَجَلّياته من خلال النماذج التالية:
فيلم "الملاك الأزرق" Der blaue Engel، وهو فيلم ألماني من إنتاج عام ١٩٣٠، وهو الفيلم المسؤول عن تكريس النجمة "مارلين ديتريش" Marlene" Dietrich (1901 – 1992) كأيقونة من أيقونات الإغواء في تاريخ السينما العالمية.
تدور الثيمة الرئيسة للفيلم حول فكرة نجاح إحدى فتيات الإغراء في إغواء مُعَلّم عُرِفَ عنه الاتزان والاستقامة، مما يؤدي إلى تحويل مجرى حياته تحويلًا جارفًا يؤدي لتدمير سمعته، وتحوله إلى أضحوكة لأهل البلدة، بعد إذ كان محلًا لثقتهم.
وقد استُلهِمَت هذه الحبكة لاحقًا في عدد كبير من الأعمال السينمائية والدرامية والمسرحية، بتنويعاتٍ متعددة، ركزت أغلبها على استثمار التناقض بين نموذج الفتاة المُغوية، التي تَعي مقاصدها جيدًا وتحقق مآربها دون أن يطرف لها جفن، وبين نموذج المعلم الكهل الرصين، الذي يسعى، تحت وطأة سِحر غواية مباغتة، لتعويض ما حُرِمَه خلال سنوات طوال من مسرات عاطفية وحسيّة، وهو ما يذكرنا بنموذج "دكتور فاوست" Faust في رائعة "جوتة" الشهيرة.
أما فيلم "جيلدا" Gilda، وهو فيلم أمريكي من إنتاج عام ١٩٤٦، فقد طَوَّر النموذج السابق، من خلال إضاءة بُعد نفسي أعمق، يتمثل في الصراع الداخلي الذي تمر به الشخصية الرئيسة، والتي جسدتها النجمة "ريتا هيوارث" Rita Hayworth (1918 – 1987)، بين اقترانها برجل عصابات متنفّذ، قادر على إشباع مطامحها الجامحة، وبين عاطفتها القديمة المركزة على شخص مقامر ضالع في حياة الظلام. والفيلم بذلك يمثل نقلة للمفهوم الإغوائي للأنثى المهلكة، صوب شريحة اجتماعية أمريكية حَظِيَت بشهرة إعلامية خلال عقدَي الثلاثينيات والأربعينيات، وهي الشريحة التي أفرزها ارتباط بعض رموز الجريمة المنظمة مع عدد من نجوم الاستعراض ورجال المال والسياسة، على أثر تداعيات "الكساد العظيم" Great Depression.
أما فيلم "غريزة أساسية" Basic Instinct، وهو فيلم أمريكي من إنتاج عام ١٩٩٢، بطولة "شارون ستون" Sharon Stone و"مايكل دوجلاس" Michael Douglas، فيتوغل بالمفهوم إلى مستوىً نفسيٍّ أكثر تعقيدًا؛ من خلال شخصية قاتلة متسلسلة، تمتزج جرائمها بعلاقات جنسية، بما يُفضي لإنشاء علاقة معقدة بينها وبين محقق الشرطة المكلف باستقصاء جرائمها. وبرغم بعض الانتقادات التي تَلَقّاها الفيلم، جرّاء الجرأة الشديدة للعديد من المشاهد الرئيسة الواردة به، فقد تمكن صناع الفيلم، وفي مقدمتهم البطلة "شارون ستون"، من استثمار هذا الطابع الحسّي الجامح في إبراز الجوانب النفسية المأزومة والمُرَكّبة لأبطال القصة.
وفي نَسَقٍ مُوازٍ، يأتي فيلم Femme Fatale – الذي يتخذ من اصطلاح "الأنثى المُهلكة" عنوانًا مباشرًا له – وهو فيلم فرنسي من إنتاج عام ٢٠٠٢، بطولة "أنطونيو بانديراس" Antonio Banderas. وبرغم اتخاذه من عالم الجريمة مصدرًا لإضفاء التشويق على سياق الأحداث، فيمكن القول، بصفةٍ عامة، بأن الخط الأساسي للأحداث المتعلقة بتنَامي شخصية البطلة، يستمد تناقضاته بشكلٍ ملحوظ من فكرة حتمية القَدَر، والتي نجد جذورها في الميثولوجيا الإغريقية، وما ارتبط بها من كلاسيكيات مسرحية؛ حيث الماضي الذي يطارد صاحبه بإلحاحٍ صارم دون هوادة. وبالإضافة لما سبق، يعمد صناع الفيلم لتوظيف أثر الحلم في تعديل مسارات الأحداث، على نحوٍ يُفضي إلى إضفاء شيء من المنطقية على التحولات الناجمة عنها.
هوامش وتعليقات وإحالات:
(1) في العصور الوسطى – قبل أن يتبين علماء وظائف الأعضاء أنه بسبب بناءنا الغُدَدي نحتوي على عناصر مذكرة ومؤنثة بداخل كل منا – قيل إنه: بداخل كل رجل امرأة يحملها في نفسه. هذا هو العنصر المؤنث في كل ذكر والذي أطلقت عليه اسم "الأنيما"، هذا الجانب النسوي هو أساسًا مركب أصغر من العلاقات بالوسط المحيط خاصة بالنساء، والذي يبقى خفيًا عن الآخرين حتى عن الشخص نفسه. والأنيما هي تشخيص لكل النوازع المؤنثة في البناء النفسي للشخص مثل المشاعر الغامضة، والمشاعر التنبؤية، والحدس، وحب النفس، والشعور بالطبيعة، وأخيرًا وليس آخرًا علاقته باللاشعور.. وكقاعدة فإن طبيعة الأنيما بكل شخص تتحدد عن طريق علاقته بأمه. فإن كانت سلبًا جاءت الأنيما بصورة مشوشة، ومشاعر إحباط، وعدم أمان، وعدم ثقة، وحساسية مفرطة... هذا النوع من المشاعر يسبب الجمود، الخوف من الأمراض، ومن الوهن، ومن الحوادث، وتنزع الحياة بكاملها نحو الحزن.. مثل هذه المشاعر السوداوية قد تدفع حتى للانتحار حيث تتحول الأنيما في هذه الحالة إلى شيطان للموت. والفرنسيون يسمون مثل هذه الأنيما بالأنثى المهلكة، راجع:
Carl Jung, Man and his symbols, Bantam Doubleday Dell Publishing Group, Inc, New York, 1968, p. p31, 177,178
(2) ليليث Lilith: يعنى اسمها (إلهة العاصفة) أو (شيطانة الليل) ... طبقًا للأسطورة التلمودية فقد تم خلق "ليليث" في نفس الوقت الذي خلق فيه آدم. وأنها رفضت أن تضطجع معه لظنها أنها تساويه منزلة، ومن ثم فقد هربت إلى الصحراء حيث أقامت علاقات جنسية مع شياطين لتصبح بالتالي أمًا لعدد كبير منهم... وأنها تجوب العالم بحثًا عن الأطفال الغير محصنين بالتعاويذ الدينية لتقتلهم عقابًا على خطايا آبائهم، حيث تقتلهم بأن تبتسم في وجوههم... وقد تأصلت "ليليث" في الميثولوجيا السومرية كشيطانة للقفار حيث ترتبط في ذلك بالشيطانة البابلية "ليليتو" التي تفتك بالرجال.
(3) كوكب الزهرة (عشتر): هي أهم إلهة في سومر وكان السومريون يسمونها "أنينا"ً Innina... وهي أخت "أريشكيجيل" إلهة العالم السفلى... وهي إلهة الحب واللذة حين تكون إلهة المساء... ولكنها إلهة الحرب والقتل حين تكون إلهة الصباح.
(4) كانت العزى أعظم الأصنام عند قريش... كانت بوادٍ من "نخلة" الشامية يقال له "حراض"... وكانت قريش قد حمت لها شِعبًا من واد حراض يقال له "سقام" يضاهون به حرم الكعبة... ويقال إنها سَمُرة (السَمُرة واحدة السمُر وهو ضرب من شجر الطلح).. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إليها فهدم البيت وأحرق السمرة.... و... اسم "كوكبتا" (مؤنث كوكب) وهو اسم اعتاد السريان واليهود إطلاقه على كوكب الزهرة... إن العزى هي المقصودة حين يقال إن العرب يعبدون الزهرة أو نجم الصباح.
(5) إلهات الانتقام الثلاث أو "الإيرينات الثلاث" اللاتي كان من ألقابهن "كلبات الجحيم" و"بنات الليل الأبدي"، فإذا وقعت جريمة تواجدن في مكانها بلمح البصر وقد تحول شعرهن إلى أفاع وتسلحن بالمشاعل والسياط، فيطاردن المجرم حتى يطُلنه ويرسلنه إلى الجحيم حتى يتابعن مهمتهن في تعذيبه هناك كمساعدات ليبرسفونى إلهة العالم الأسفل.
(6) فَمَضَى بِي بِالرُّوحِ إِلَى بَرِّيَّةٍ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً جَالِسَةً عَلَى وَحْشٍ قِرْمِزِيٍّ مَمْلُوءٍ أَسْمَاءَ تَجْدِيفٍ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ. وَالْمَرْأَةُ كَانَتْ مُتَسَرْبِلَةً بِأُرْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وَمُتَحَلِّيَةً بِذَهَبٍ وَحِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَمَعَهَا كَأْسٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِهَا مَمْلُوَّةٌ رَجَاسَاتٍ وَنَجَاسَاتِ زِنَاهَا، وَعَلَى جَبْهَتِهَا اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «سِرٌّ. بَابِلُ الْعَظِيمَةُ أُمُّ الزَّوَانِي وَرَجَاسَاتِ الأَرْضِ». وَرَأَيْتُ الْمَرْأَةَ سَكْرَى مِنْ دَمِ الْقِدِّيسِينَ وَمِنْ دَمِ شُهَدَاءِ يَسُوعَ. فَتَعَجَّبْتُ لَمَّا رَأَيْتُهَا تَعَجُّبًا عَظِيمًا! رؤيا يوحنا اللاهوتي 17 / 3: 6 (14)
(7) طبقًا للميثولوجيا القديمة كانت مخلوقات الهاربي Harpies وحوشًا مجنحة لها وجوه النساء وأجساد الطيور الجارحة.. إلا أن إيقونوغرافية العصور الوسطى جعلت منها تجسيدًا للموت. ثم أصبحت الهاربي نظيرًا للمرأة التي تهلك الرجال بواسطة علاقات جنسية.
(8) مصاصو الدماء هم عبارة عن جثث، لا هم بالأحياء ولا بالأموات يقال إنهم يخرجون من قبورهم ليلًا لامتصاص دماء ضحاياهم الأحياء الذين سرعان ما يتحولون بدورهم إلى مصاصي دماء. الموطن الأسطوري لمصاص الدماء هو شرق أوربا تحديدًا في رومانيا. ومن هناك بمقاطعة "ترنسيلفانيا" Transylvania استلهم الأديب "برام ستوكر" Bram Stoker الإنجليزي روايته المشهورة عن "دراكولا" Dracula . وقد اعتقد الإغريق والرومان من بعدهم في وجود نوع من مصاصي الدماء الإناث باسم "اللاميا" Lamia التي تغوى الرجال لتمتص دمائهم. تفسيرات أخرى لمصاص الدماء تتمثل في حالات العودة من الموت (حيث يستيقظ الإنسان من إغماءة ليجد نفسه في القبر وقد دفن خطأ، فيصارع للخروج مما يصيبه بجروح دامية)، أو في شكل المتسولين الذين يسكنون المقابر ويجوبونها ليلا. أو تفسيرات لشكل علاقات الأحياء بذويهم الموتى، أو علاقات الناس بآخرين من مستهلكي الطاقة والطفيليين، فضلا عن التفسير الجنسي وعلاقات التسلط. وترتبط الدماء أيضا بعلاقة عميقة بالفعل الجنسي، وقد وضح "فرويد" أن الوسواس القهري يرتبط دائما برغبات جنسية. وقد استلهم "ستوكر" قصته من شخصية تاريخية؛ هي شخصية "فلاد تيبيس" Vlad Tepes، أي "فلاد المخوزق"، الذي حكم "والاشيا" Walachia باسم "فلاد الخامس" في القرن الخامس عشر – وهي الآن جزء من رومانيا – والذي كان يوقع باسم "دراكولا" بمعنى ابن التنين أو ابن الشيطان. وكان والده يسمى "دراكول" Dracul لوجود رمز التنين على دروعه الحربية، وكان "فلاد" ذا نزعة دموية محبا للقتل مسرفا فيه.
(9) فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ. وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ». وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ». وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». سفر التكوين، الإصحاح الثالث، 14:19.
(10) إحدى الأقاصيص الواردة في سياق "الكوميديا الإلهية"؛ حيث يصور "دانتي" هبوب زوبعة دوامية تجرف أجسادًا آدمية تعسة في الطبقة الثانية من الجحيم، يتبين فيها عناقٌ بين رجل وامرأة متشبثَين أحدهما بالآخر، مما يستفزه لاستبيان أمرهما؛ فتقص عليه المرأة كيف أنها عشقت أخ زوجها وكيف أن الزوج المغدور قد اكتشف أمرهما فانتقم بقتلها على نحو مهين ولحق بها الأخ العاشق. والغريب أن "دانتي" يدرج الزوج القاتل في عداد المعذبين بتهمة إزهاق النفوس، ويضفي على العاشقين مسحة من التعاطف حين يربطهما في مصير مشترك يوحد بينهما للأبد.
(11) دراما موسيقية استلهمها الموسيقي الألماني الشهير "ريتشارد فاجنر" Richard Wagner (1813- 1883) من النص الروائي "تريستان" الذي أبدعه الأديب الألماني "جوتفريد فون ستراسبورج" Gottfried von Strassburg (توفي حوالي 1210م)، والذي اعتبر واحدًا من أشهر عيون الأدب الألماني في فترة العصور الوسطى. وتحكي الدراما قصة الفارس البطل "تريستان" الذي أرسل في مهمة رسمية إلى أيرلندا لإحضار الجميلة "إيزولدة" كيما تكون عروسًا لعمه الملك "مارك"، غير أن الغرام يوحد بين الشابين خلال رحلة العودة البحرية، مما يجعلهما فريستين ممزقتين بين لوعة العشق وحقوق الزوج. وتتطور الأحداث إلى ذروتها حين تحتسي "إيزولدة" مع حبيبها مشروبًا سحريًا كانت أمها قد أعدتها سلفًا بغرض التوحيد بينها وزوجها الملك، مما يؤدي إلى اقتران الحبيبين الشابين برباط لا ينفصم إلا بموتهما الذي أتى على نحو فواجعي في نهاية القصة.
(12) كانت "جالا" – واسمها الأصلي "إيلينا إيفانوفنا دياكونوفا" Elena Ivanovna Diakonova – فتاة روسية الأصل، عملت معلمة لبعض الوقت قبل أن تحترف مهنة النموذج الفني لدى عديد من الفنانين، تزوجت من الشاعر السريالي الشهير "بول إيلوار" Paul Eluard عام 1917. وخلال زيارة الزوجين لمرسم "دالي" عام 1929، وقع الأخير في غرام المرأة المتزوجة، لتتطور العلاقة فيما بينهما إلى تحريض على هجران الزوج المخدوع ليتزوجها "دالي" عام 1934. راجع: J. Navarro Arisa, Gala Dali: Los Secretos de una musa, El Pais Semanal, Madrid, 1994.
(43) لفظ إيطالي يعني حرفيا "الجلاء في العتمة"، اعتمد كمصطلح فني للدلالة على مجموعة الحيل البصرية التي يعتمدها الفنانون التشكيليون لإعطاء الإيهام بوجود البعد الثالث للأجسام، من خلال التأكيد على عامل التضاد الظلي بين الأماكن المضيئة والأماكن المعتمة من العمل. وهي تقنية شائعة الاستخدام لدي فناني الحفر والطباعة (الجرافيك التقليدي)، كما اشتهر بعض الفنانين بغلبة هذه التقنية على أعمالهم مثل: "كارافاجيو"، "جورج ديلاتور"، "رمبرانت"، و"جويا".