الكاتب : فاطمة نبيل
الحق أن هذا الاحتفاء النقدي الذي نجده اليوم في حق شيخ المخرجين "كمال الشيخ" لم يكن هو شكل القراءة السائدة لمسيرة أعمال كمال الشيخ التي بدأت عام 1952 بفيلم "المنزل رقم 13"، وانتهت عام 1987 بفيلم "قاهر الزمن
والمتتبع للكتابات النقدية التي تناولت الشيخ في خلال حياته المهنية يجد أن أكثرها جاء انطباعيًا غير مشغول إلا بكل الكلاشيهات التي رددها أحدهم، وساهم النقاد وقتها في ترسيخها عن أن كمال الشيخ هو هيتشكوك العرب، وهو اللقب الذي رفضه الشيخ ذاته مرارًا، معللًا رفضه بخلاف كبير بين أسلوبيته وأسلوبية هيتشكوك، وأن مطلقي هذا اللقب لم يقرأوا سينماه حق قراءتها، بل ولم يقرأوا سينما هيتشكوك أيضا.
وأما من تجاوزوا هذه الآراء المعلبة والمحفوظة، فقد انشغلوا بتقييم أداء ممثليه الذين هم من خيرة نجوم السينما المصرية بلا شك، لكن دون التطرق إلى دور هذا المخرج في توجيههم وكسر أفق التوقع عن أدائهم.
أو حتى حكي قصص أفلامه والانبهار بحبكتها البوليسية، أو موضوعها السياسي في مرحلة لاحقة، مع غياب كامل لتحليل لغته السينمائية كمخرج متفرد، وقليلة هي الكتابات التي حاولت تجاوز كل هذه العثرات.
في دراسة له نشرتها مجلة "الأهرام العربي" في أكتوبر 1997 تحت عنوان "كمال الشيخ من البوليسي إلى السياسي" يناقش الناقد الراحل علي أبو شادي أسلوبية كمال الشيخ واصفًا إياه أنه أحد المخرجين القلائل في السينما المصرية الذين يمكن أن نطلق عليهم "أصحاب الأسلوب"، حيث استطاع عبر مجموع أعماله، أن يحافظ على وحدة أفكاره، وطريقته في التعبير عنها، رغم تنوع وتعدد الموضوعات التي يتناولها، والمتابع لأفلامه يراه ينتهج أسلوبا سينمائيا يتميز بالرصانة والتكامل بين عناصر اللغة السينمائية وعلى الكلاسيكية في البناء .. والحركة، والتكوين، بالإضافة إلى تكثيف الجو العام، من خلال توظيف الإضاءة لخدمة الدراما .. والاستفادة الكاملة من تباين وتناقض الأبيض والأسود في أفلامه الأولى، كما يميل أسلوبه إلى البساطة والوضوح، فلا يسرف في استخدام حركة الكاميرا المركبة، وإنما يحدد زوايا الكاميرا .. وأحجام اللقطات، بما يوفر توصيل المعنى إلى المشاهد في يسر وسهولة رأى فيه البعض شبيها لفنان السينما الكبير "ألفريد هيتشكوك" لاعتماد كليهما على عنصري الإثارة والتشويق – وهو تماثل شكلي، ذلك لأن السينما عند هيتشكوك تعبير عن عالم متكامل فنيا وفكريا، يختلف - إلى حد كبير - عما يتردد في سينما كمال الشيخ من أصداء وأفكار .. فالتشويق كما هو معروف عنصر لازم لأسلوب السرد في السينما، أو في غيرها من فنون الدراما .. ولع به كمال الشيخ واكسبته خبرته في مجال المونتاج، وتأثره الواضح بأعمال هيتشكوك وفريتزلانج، قدرة على ضبط الإيقاع في أفلامه .. وتبدى ذلك في العلاقة الجدلية بين شريط الصوت والصورة، واستخدامه المقتصد لعنصر الحوار، الذي يخلو من الثرثرة، والموسيقى المعبرة وليس الموسيقى الوصفية المرسلة .. بل واستفادته الواعية من بلاغة الصمت لزيادة جرعات التوتر والترقب والإثارة .. وهي في مجملها ملامح وسمات الشكل البوليسي الذي اختاره الشيخ كإطار يصوغ من خلاله موضوعات أفلامه.
ويضيف أبو شادي في نفس الدراسة كان "حياة أو موت" وسيظل النموذج الأكثر اكتمالا للتعبير عن أسلوب كمال الشيخ ورؤيته للواقع والسينما، حين تتجلى به قدرته على إثارة نوازع الخوف والشفقة والهلع والترقب والتمني عند المشاهد، واستحواذه على تلك المشاعر تماما، ثم تفريغه لتلك الشحنة المكثفة في نهاية الفيلم، فيما يشبه عملية التطهر الأرسطي.
هذا الطرح الذي يختلف كلية عما قدمه الناقد سامي السلاموني ونشرته مجلة الإذاعة والتليفزيون عقب وفاة الشيخ في يناير 2004 حيث وصف السلاموني الشيخ بالمخرج المحدود فيقول "كمال الشيخ حقق منذ 1954 مستوى حرفيا متمكنا واختار لنفسه أسلوبا خاصا يعتمد على الحبكة البوليسية والإيقاع السريع الذي يستند فيه إلى حد كبير إلى خبرته القديمة بالمونتاج وعلى إحساسه بعنصر الزمن .. زمن الحدث الواقعي وزمن اللقطة نفسها الذي يتحقق من خلاله إيقاع الفيلم كله الذي نجح كمال الشيخ دائما في توظيفه دراميا طبقا لموضوعاته المفضلة القائمة أساسا على الحبكة والتشويق .. وهو ما نجح في استخدامه لتعويض أسلوبه الحرفي المحدود بالنسبة لعناصر الفيلم الأخرى والذي تجمد تقريبا عند عدد من القواعد أو القوالب المكررة بالنسبة لأفلامه كلها سواء في حركة الممثل أو الكاميرا أو الديكور
والإضاءة وحتى اختيار حجم الكادر الذي يغلب عليه دائما الحجم المتوسط .. بحيث يحقق أسلوب كمال الشيخ كمخرج نوعا من الرتابة العاقلة والمدروسة جيدا في إطار الحركة الكلاسيكية التي لم يحاول أن يجددها ويكسر قواعدها ويبتكر شيئا جديدا أو يجرب أو يغامر حتى وهو يقدم أفلاما قائمة أساسا على الإثارة.
ويضيف السلاموني في السياق ذاته على أن كمال الشيخ بدأ منذ "ميرامار" نوعا من المغامرة الفكرية .. بعد عجزه أو ربما رفضه للمغامرة السينمائية – أي في أسلوبه نفسه كمخرج – فهو يتوقف عند وضع خبرته التكنيكية في لون واحد قريب من الموضوعات البوليسية كان يقترب منها حتى وهو يخرج عملا مثل "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وحاول في مرحلة جديدة أن يعالج قضايا أكثر موضوعية وأكثر ارتباطا بحياتنا أيضا.
ويتساءل السلاموني عن نقطة التحول في سينما كمال الشيخ والتي لا يدري إن كانت مفاجئة تماما نتيجة لنوع من اليقظة الواعية سياسيا كتلك التي حدثت لأبطال فيلمه "غروب وشروق" أو أن بذورها كانت مختزنة في أعماق الفنان حتى فجرتها ظروف بلادنا عقب هزيمة 1967، أو أن هذا التغيير في منهج كمال الشيخ الفكري مرتبط فقط بالنصوص التي يعالجها .. بمعنى أن دور الصدفة هنا يصبح أكبر من دور الاختيار ولكن أليس قبول الشيخ نفسه لهذه النصوص نوعا من الاختيار يعكس موقفا جديدا مسئولا!
أما الناقد كمال رمزي فيفند هذا الطرح في كتابه "كمال الشيخ .. نصف قرن من الإبداع" والصادر عن المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2002 فيقول إن أفلام كمال الشيخ – حتى أكثرها تشويقا وإثارة – لا تعتمد على الصراع الخارجي أو العنف بقدر ما تلجأ إلى الصراع الداخلي المستقر والمواجهات العقلية وتصادم الإرادات، وغالبا ما يكون الصراع فكريا معنويا ونفسيا قبل أن يكون جسمانيا.
وفي كتابه "سينما الإنسان" (قراءة في حياة وأعمال كمال الشيخ وآخرين) والصادر عن منشورات وزارة الثقافة السورية، يشرّح الناقد اللبناني إبراهيم العريس سينما كمال الشيخ قائلا إذا حاولنا اليوم أن نعطي مفاتيح محددة لفهم سينما كمال الشيخ، فإن هذه المفاتيح تتكون من ثلاثة: عنصر التشويق، والبعد النفسي الأخلاقي، والبعد السياسي الجتماعي.
ولئن كان هذا الكلام شديد العمومية ويمكن له أن ينطبق على معظم الأفلام السينمائية فإنه لدى كمال الشيخ يتخذ بعدا تحديديا واضحا، وإن كان الفصل بين عنصر وآخر غير ممكن تحديده بدقة بين مرحلة وأخرى، بحيث يمكن القول أن تلك المرحلة انطبعت بالبعد التشويقي وتلك بالبعد النفسي أو السياسي .. بالأحرى يمكن القول بأن العناصر تبدو متداخلة بل وفي داخل كل فيلم من الأفلام، مع تقسيم عام يسيطر فيه البعد الاجتماعي / النفسي على أفلام الخمسينيات، فيما يسيطر العنصر الاجتماعي / السياسي على أفلام الستينيات والسبعينيات.
وفي دراسة نشرتها صحيفة الوسط للعريس تحت عنوان "رحلة في حياة ألفريد هيتشكوك العرب" يتناول إبراهيم العريس علاقة الممثل بالمكان عند كمال الشيخ محللا فيقول إذا كان يوسف شاهين سخّر فن الممثل وقوة إبداعه لخدمة لغته السينمائية، وجعل للكاميرا المكان الأول في اهتماماته، وإذا كان المكان والموضوع لعبا لدى صلاح أبو سيف الدور الأول، وإذا كان توفيق صالح عرف كيف يقدم توازنا بين الاشتغال على الممثل والعمل على الحبكة والموضوع، فإن ما ميز سينما كمال الشيخ هو تلك المكانة الأساسية التي أعطاها للممثل، وليس غريبا هذا الأمر بالطبع على سينما يقول صاحبها إنها تركز على الإنسان وتجعل للبعد السيكولوجي مكانة رئيسية في سياق العمل.
ويضيف العريس حسب محاورات له أجراها مع الشيخ إنني أنطلق دائما أنطلق دائما، يقول كمال الشيخ، من مبدأ أن ثمة أمرين يراهما المتفرج على الشاشة، ويصنعان الشريط الذي يدور أمامه، المكان والممثل علما بأن الممثل هو على الدوام أهم من المكان، بل إن المكان لم يوجد إلا من خلال تحركه، ومصدر أهمية المكان يتأتى من إنه الحيز الضروري لتحرك الممثل.