الكاتب : حسام فهمي
شاهد على جيل جديد من النقاد
حسام فهمى
"كنتُ فى انتظار البيان السينمائى عن جيل الثورة.. أيَّدتُ الثورة دون تحفُّظات، لكنِّى قلتُ إنها ليست ثورتى؛ لأننى أنتمى إلى جيل الستينيات. كانت ثورتى فى ١٩٦٨، وليس فى ٢٠١١. وليس من حقى إلا التأييد والمساندة لثورة الأجيال التالية من جيل السبعينيات، إلى جيل العَقد الأول من القرن الميلادى الجديد. لا يُعقَل أن يجثمَ جيلٌ واحدٌ على أنفاس أربعة أجيال".
بهذه الكلمات التى كتبها سمير فريد فى أعقاب يناير ٢٠١١، يمكننا التعريف بسياق الفن المصرى والنقد الفنى المصرى الذى وجدنا أنفسنا فيه كجيلٍ جديدٍ بدأ الكتابةَ فى أعقاب يناير.
مرَّت أيامٌ بعد يناير، بما فيها من عشوائيةٍ، تركَت البابَ مفتوحا لشبابٍ جُدُد، وصحافةٍ إلكترونيةٍ جديدة. شعر صنَّاع الفن المصرى حينها أيضا بقليلٍ من عدم الأمان، ودفقة هائلة من الحرية، فشاركوا فى صناعة أفلام لم تَمُر على رقابة، ولم تستأذِن أحدا فى تصوير مَشاهِدها.
مرَّت سنوات يناير سريعا، وعاد الاستقرار والهدوء الثقيل؛ لكن هؤلاء المتسلِّلين من الصحفيين الجُدُد كانوا قد وجدوا ضالَّتهم فى عددٍ من المواقع التى شاركوا فى انطلاقتها. ومن بين هؤلاء الصحفيين، كان هذا الجيل الجديد جدًّا من النقَّاد.
مَن هؤلاء؟ أين نكتب؟ وهل يمكن أن يغيِّر هذا الجيل من صناعة الفن فى مصر؟ هذا هو ما نحاول معكم اليوم فتح النقاش حوله.
الإنترنت أو لماذا نحن هنا؟
العامل المشترك الأوَّل لنقَّاد هذا الجيل، هو أنهم كتَّاب ومدوِّنون على الإنترنت. تعرَّفنا على الحياة هنا، كتبنا على مدوَّناتنا الشخصية هنا، وشاهدنا الأفلام من كلِّ بقاع العالم هنا. الأفلام كان معظمها مُقَرْصَنا بالطبع!
لدينا صديقٌ ما يكرِّس وقته لمواقع (التورنت Torrent)، يُحمِّل كافَّة الأفلام التى تحلم بها، ثم يَدُور (الهارد) دورته بين الأصدقاء. أحد هؤلاء الأصدقاء لا يكتفى بالمشاهدة العشوائية، لكنه يصبح مهووسا بتتبُّع تفاصيل الصنعة والقراءة عنها، كما يهتمُّ بالتحليل النقدى لِمَا يُشاهده. هذا الصديق مع الوقت يبدأ الكتابة، ثم مع الممارسة يبدأ فى تكوين أسلوبه، ثم يجتذب ما يكتبه بعضَ القراء، ثم يجد طريقه إلى أحد المواقع الجديدة المُهتمَّة بنشر مقالات عن النقد الفنى. هذا الصديق هو نحن.
سينما (زاوية) كان لها دورٌ كبيرٌ بالطبع. بانوراما الفيلم الأوروبى التى وفَّرت تجربة مشاهدة أفلام مختلفة عن أفلام التيار الرئيسى المصرى أو الهوليوودى، كما وفَّرت أيضا مكانا للنقاش، وللقاء محبِّى السينما. مهرجان القاهرة كان له دور مكمِّل. ولحسن الحظ كانت دورة سمير فريد فى عام ٢٠١٤ إحدى أهم لحظات هذا الجيل. نوادى السينما فى الجزويت وفى كل مكان فى مصر كانت ملتقيات لكى يتعرَّف هذا الجيل على بعضه البعض.
لكن الإنترنت ظلَّ هو البيت، ومكان اللقاء والتعرُّف والتجربة الأولى.
التحرُّر من كليشيهات الصنعة
إذا كان الإنترنت هو العامل المشترك الأول لهذا الجيل، فالسِّمَة الأولى لكتاباتنا أنها مُتحرِّرة من كليشيهات صنعة النقد الفنى الذى وجدنا عليه الأجيال السابقة. لم يَعُد الأمر مرهونا بعَلاقاتك بصنَّاع الفن المصرى (بالنجوم بشكل خاص)، كما لم يَعُدْ من الضرورى التواجد بشكل حصرى فى القاهرة. حرَّرَتنا الكتابة الإلكترونية أيضا من تحمُّل سخافات المسئولين عن الصحافة الورقية من غير المهتمين بالفن، الذين لا يعرفون عنه سوى أخبار الفضائح أو فساتين النجمات.
لم يَعُد الشكل الكليشيهى للناقد الفنى معبِّرا عنا؛ صورة الشخص المقعَّر الذى يحاول أن يضفى أهمية خاصة على ما يقول، أو يكتسب شهرةً من خلال مدح مبالغ فيه أو ذم دون معنى لممثل أو مؤلف أو مخرج مصرى. سيطرت علينا فى البداية رغبةٌ هائلةٌ فى اكتشاف عالم السينما خارج مصر، وربما أيضا بعيدا عن هوليوود، واختطفَنا هذا بالتأكيد من متابعة السينما المصرية، خصوصا أننا عاصرنا أحدَ أفقر عصورها.
سيطرة الأجنبى على العربى
إحدى سِمَات كتابات هذا الجيل هى سيطرة المحتوى النقدى عن السينما غير العربية بشكل ملحوظ تماما. الموسم السنوى الأهم لكتابات هذا الجيل هو بانوراما الفيلم الأوروبى التى تنظمها شركة أفلام مصر العالمية وسينما زاوية مؤخرا؛ البانوراما التى تجمع أبرز إنتاجات العام الأجنبية. الموسم الأخر هو موسم جوائز الأوسكار والجولدن جلوب. هكذا يمكنك خلال هذين الموسم متابعة عدد كبير من المقالات والمراجعات النقدية لكافَّة الأفلام المعروضة والمرشَّحة تقريبا من كتَّاب هذا الجيل.
على سبيل المثال، نجد فى موقع (إضاءات)، الذى شهد كتابات العديد من نقَّاد هذا الجيل الجديد، ملفا خاصا بعنوان (بعيدا عن هوليوود).
على جانب آخر، فقد بدأت الكتابات النقدية عن التراث السينمائى المصرى فى الظهور من خلال هذا الجيل، وبشكل خاص من خلال مجلة (الفيلم)، سواء من خلال العدد الشهير الخاص بإعادة اكتشاف يوسف شاهين، أو بأعداد كمال الشيخ: السينما المستقلة، والسينما التشكيلية، وفن الصورة.
لغة خاصَّة
ما يمكن ملاحظته فى كتابات هذا الجيل أيضا هو ظهور لغة خاصَّة تُمَيِّزه عن جيل نقَّاد الصحف الورقية. لغة أسهل وأبسط وتخلو بشكل كبير من الزخرفة اللغوية فى غير محلِّها. لغة عملية للغاية؛ لأنها أيضا تمتلئ بإحالات نثرية وشعرية لاقتباسات من فنون وصنوف أخرى من الأدب.
أحمد عزت على سبيل المثال - وهو أحد أفضل كتَّاب هذا الجيل - يكتب بلغةٍ تبدو فى بعض الأحيان نثرية، كما يقتبس دائما من علم النفس، وهو ما يتَّسق مع كونه طبيبا نفسيا. رحمة الحدَّاد - وهى ناقدة مميَّزة أيضا من هذا الجيل - تُحيل دائما إلى التراكيب البصرية، وتقتبس عادةً من لوحات الفن التشكيلى، وهو ما يتَّسِق أيضا مع كونها فنَّانة ورسَّامة.
هذه اللغة الخاصَّة، الممتعة والبسيطة فى آن واحد، ساهم فى نضجها بشكل كبير النشر الإليكترونى المستمر والمنتظم، والذى يصطدِم مباشرةً بالقارئ وتعليقاته التى تَصِل إلى الكاتب بشكل حَرْفى، فلا مجال للتحذلق ولا للادِّعاء.
الفيلم والدبلومة والجمعية
قد تكون كل الملاحظات السابقة صحيحة، لكنها لا تكفى لاعتبار هذه المجموعة من الكتَّاب كجيل جديد من النقَّاد؛ فالشيء الوحيد الذى يَسمح لنا بإعلان أن هناك جيلا جديدا من المبدعين أو الكتَّاب أو النقَّاد هو أن تكون هذه المجموعةُ مرتبطةً ببعضها، وأن يؤثر أفرادُها بشكلٍ ما فى بعضهم البعض، ويؤدِّى هذا التأثير إلى تطوُّرٍ فى إنتاجِهم، وسِمَاتٍ واضحةٍ فى محتواهم الإبداعى. وهذا ما يُمكِننا تطبيقه بشكل مكتمل على هذا الجيل.
اجتمع هذا الجيل أكثر من مرة، إحداها بلا شك عبر مجلة (الفيلم) التى وفَّرت مساحة مخصَّصة للكتابة النقدية لكتَّاب هذا الجيل قبل أى جريدة أو مجلة ورقية مصرية. يرجع هذا إلى اهتمام رئيس التحرير سامح سامى ورئيس التحرير التنفيذى حسن شعراوى بالوصول إلى كُتَّابٍ موهوبين جُدُد، دونَ النظر إلى عَلاقات شخصية أو أساليب نمطية فى اختيار المشارَكات.
المرَّة الأخرى التى اجتمع فيها هذا الجيل كانت من خلال دبلومة النقد السينمائى، التى وفَّرت مساحةً للدراسة الأكاديمية لعدد كبير من كتَّاب هذا الجيل. والطريف أن سامح سامى رئيس تحرير مجلة (الفيلم) كان واحدا من طلَّاب هذه الدبلومة. الدبلومة قدَّمت لنا أيضا مجموعة من أفضل كتَّاب هذا الجيل: (محمد عوض وأحمد سامى وعلياء طلعت ومها فجال وآية طنطاوى وأندرو محسن)، وغيرهم.
المرة الثالثة التى جمعت كتَّاب هذا الجيل كانت من خلال جمعية نقَّاد السينما المصريين، التى بدأت تدريجيا فى فتح أبوابها مجدَّدا من خلال دبلومة لأساسيات النقد، ثم عدد من ورش العمل، ثم فتح الباب لاستقبال عضويات جديدة؛ هنا ظهر تواصل بين هذا الجيل الجديد وجيل سابق، نذكر منه: (رامى عبد الرازق وأحمد شوقى ورشا حسنى).
ماذا بعد؟
نطرح معكم هذا السؤال لأن قرَّاء مجلة (الفيلم) هم إمَّا أفراد فى هذا الجيل، أو مؤثِّرون فيه بشكل مباشر. على أحد الجوانب، هناك ما يدعو للتفاؤل، لوجود عدد من المنصَّات الصحفية التى تساعد هذا الجيل الجديد على نشر كتاباته النقدية. أُشرِف شخصيا على إحدى هذه المنصَّات، كما يُشرِف عددٌ من أفراد هذا الجيل على منصَّات أخرى، يُضَاف إلى ذلك وصولُ عددٍ من أفراد هذا الجيل، وهم محبُّون لفن السينما قبل أن يكونوا نقَّادا، إلى مواقعَ مؤثرةٍ فى عدد من أهم المهرجانات السينمائية المصرية. أندرو محسن قائم بأعمال المدير الفنى فى مهرجان القاهرة. رشا حسنى ومحمد طارق ورحمة الحداد ومحمد عوض وعلياء طلعت فى فريق عمل المهرجان. الوضع شبيه بذلك بالنسبة للأخ الأصغر (مهرجان الجونة).
على جانب آخر، هناك من يحاول الانتقال بشكل تدريجى إلى مجال صناعة السينما، لنقل أفكاره بشكل خاص عبر إطار السينما المستقلَّة. لكننا على جانب آخر نعود إلى مربع الصفر، بسبب منظومة الإنتاج والعرض السينمائى فى مصر، التى لا تسمح - بشكلها الحالى - بتأثير حقيقى للجمهور، وبالتالى يبدو هذا الجيل من النقَّاد كمن يؤذِّن فى مالطا! تبدو كتاباتنا على الأقل حاليا غير مؤثرة بشكل مباشر فى صنَّاع السينما والدراما المصريين، الذين يستمر غالبيتهم فى إنتاجات رديئة للغاية، غير معبِّرة عن المصريين، وغير معبِّرة بشكل أكيد عن جيل ما بعد يناير.
فى مهرجان برلين عام 2020، وهو آخر مهرجان يُقام بشكل حقيقى ومكتمل ومفتوح للجمهور فى عصر ما قبل كورونا، التقيت بالمخرجة المصرية هالة لطفى، وهى ناقدة فنية سابقة، وصانعة سينما حاليا. سألتُها عن حال السينما المصرية، فأجابت: "اسأل الدولة".