"بئر الحرمان"‪..‬ بين القصة والسينما

سامح فتحي 10 مايو 2022 كمال الشيخ الهارب من ظله

الكاتب : سامح فتحي
في هذا العام تمر الذكرى الخمسون على إنتاج فيلم من أهم أفلام السينما المصرية وهو فيلم "بئر الحرمان" 1969 من إخراج كمال الشيخ، وأعد القصة للسينما نجيب محفوظ عن قصة إحسان عبد القدوس، وسيناريو وحوار يوسف فرنسيس، ومن تمثيل سعاد حسني، ونور الشريف، ومريم فخر الدين، ومحمود المليجي، وصلاح نظمي، وعبد الرحمن ابو زهرة، ومحيي إسماعيل.



وقد صدرت مجموعة "بئر الحرمان"، عن الشركة العربية، في عام 1962، وتضم المجموعة ست قصص قصيرة بعنوان: "بئر الحرمان"، و"سقوط العقل"، و"الكلمة الناقصة"، و"الخطوة الثانية"، و"عريس لأختي"، و "البحث عن الخيانة ".
وكلها قصص قصيرة يرويها إحسان على لسان طبيب نفسي يُظهِر من خلالها: "قصص الإنسانية عندما تتعرى من ثيابها، و ترفع عن وجهها القناع .. القناع الذي يفرضه علينا المجتمع .. ثم تبدو النفس البشرية كما هي .. غابة كثيفة موحشة .. تنتصب فيها أشجار مفزعة .. شجرة الخوف، وشجرة الأنانية، وشجرة الحقد، وشجرة الحيرة ... و... و... وتحت أقدام الأشجار زهور رقيقة تحاول عبثًا أن تصل إلى نور الشمس، زهرة الحب... وزهرة الأمومة... وزهرة التعاون الاجتماعي... و... و...، عملي هو أن أجوس خلال هذه الغابة، وفي يدي مصباح خافت الضوء، لأكتشف أشجارها المفزعة، وهضابها، وبراكينها .. وأحرص على ألا أطأ بقدمي إحدى هذه الزهور الرقيقة، بل أحنو عليها وأتعهدها حتى تشب وتصل إلى نور الشمس.
وتتناول القصة الأولى "بئر الحرمان" مرض ناهد فخر الدين التي عمرها 27 عامًا، ومتزوجة منذ عامين وسعيدة تماما مع زوجها، لكنها كانت تشعر بأشياء غريبة في حياتها، مثل أن تجد واحدًا من فساتينها ممزقا من جهة معينة دون أن تدري سببا لذلك، أو تجد على جسدها أثر ارتطام بشيء دون أن تتذكر سبب ذلك، أو لا تتذكر حقيقة إن كانت خرجت من المنزل أو لم تخرج، وهنا بدأ الطبيب يحلل شخصيتها ليصل إلى مرضها، وبدأت تحكي له بعض الأسرار، منها أنها تورطت مع حبيبها في لقاء جنسي جعلها لم تعد عذراء، وقد وعدها بالزواج لكنه سافر دون وداعها، فروت قصتها لسائقها الخاص سليمان الذي استغل ذلك وصار يعاشرها جنسيا تحت خوفها من أن يفضحها، وبعد زوجها صارت لسليمان ولزوجها، وبعد مدة زمنية عاد حبيبها من الخارج فاتصل بها وهددها بفضحها إن لم تحضر إليه، فذهبت إليه وأصبحت لثلاثة رجال: زوجها وسليمان وهشام.
فبدأ الطبيب يحلل ويكتشف أن هذه العلاقات الجنسية لم تنبع من شذوذ جنسي، ولكنها نابعة من عقدة نفسية شديدة ظهرت واضحة عندما فوجئ الطبيب بزيارة ناهد له وهي ترتدي ملابس فاضحة، وتضع أصباغ العاهرات على وجهها، فعلم أنها مصابة بازدواج في الشخصية، وأفاقها من شخصيتها تلك، وشعرت بالخجل الشديد، وتعجبت من صورتها تلك، واستدعى سليمان السائق فأخبره أنه أقام معها علاقة أول مرة عندما رآها وهي ترتدي ملابس فاضحة وتقف بميدان العتبة تتحدث مع رجل، فتشاجر مع الرجل وفوجئ بها تطلب منه الذهاب بالسيارة إلى طريق الفيوم، وفيه عرضت نفسها بشدة عليه حتى لبى لها مطلبها، وبعد ذلك كان يراها تركب معه دون أن تتذكر ذلك الموضوع، فأراد أن يعاشرها فرفضت فذكرها بما كان منها معه فاستسلمت، ففهم الطبيب طبيعة مرضها، وجلس مع والدها وجعله يعترف له بكل شيء، حيث اعترف أن ناهد ليست ابنته، وأنه عندما تزوج والدتها اعترفت له في ليلة الدخلة أنها حامل في شهرين، فعاقبها بأن تركها ولم يعاشرها طوال عمر ناهد، وعامل ناهد على أنها ابنته، لكنها كانت قد سمعت وهي صغيرة أنها ابنة حرام، وشعرت أن والدها ليس والدها، وأحست أن أمها تعاني من بعد والدها وتبكي دائمًا، فصارت عقدتها أن تكون مشتهاة من الرجال، وخرجت عقدتها في صورة شخصية ثانية تستمتع بعلاقتها الجنسية مع الرجال؛ لتكون معوّضةً ما تعانيه أمها، وبعدما اكتشفت عقدتها شفيت منها .
وقد كتب إحسان عبد القدوس مجوعته القصصية "بئر الحرمان" في وقت قد ذاع فيه التحليل النفسي لفرويد، وجاءت قصته الأولى التي حملت عنوان المجموعة في براعة كبيرة، تدل على مدى فهم إحسان لمفردات التحليل النفسي مثل الشيزوفرينيا، أو ازدواج الشخصية، والشذوذ الجنسي، وطبعاً كعادة التحليل النفسي الفرويدي، ترد أصل العقدة إلى الطفولة وإلى الغريزة الجنسية، فاستطاع إحسان أن يرسم بطلته بصدق ودقة، فهي زوجة تعاني ازدواجًا حادًا في الشخصية، فهي تغدو امرأة بريئة، عادية، طيبة الخلق، في أحوال صحوها، ولكنها تنقلب إلى نقيضها في الأحوال التي تسيطر فيها أدغال اللاوعي، فتتحول الشخصية إلى نقيضها، حاملة مظهرًا مضادًا، كما رسم إحسان ملامح سريعة للطبيب النفسي جعلته نموذجا للطبيب الحاذق الذكي الحريص على علاج مرضاه، والجاد في حياته المحافظ على شرف مهنته .
ويتناول الفيلم قصة نفسية تظهر الفتاة ناهد "سعاد حسني" المخطوبة لشاب "نور الشريف" تحبه ويبادلها ذلك الحب، ووالدها "صلاح نظمي" يعمل بالقانون وله شأنه في المجتمع، أما ولدتها "مريم فخر الدين" فربة منزل برغبة الأب، ورغم السعادة التي تظهر على ناهد إلا أنها تعانى مشكلة خطيرة بدأت معها منذ الصغر، تلك المشكلة تتلخص في هجر والدها لأمها في الفراش، حيث تنام ناهد مع أمها على فراش واحد منذ صغر ناهد، وينام والدها في حجرة خاصة به لازمته دائما، حيث إن الأب اتخذ هذا القرار عندما شعر بخيانة زوجته العاطفية بعد الزواج، ورغم توجه عاطفة الأم كلها تجاه الأب إلا أنه لم يغفر تفكيرها في غيره، فكانت ناهد تخشى من أن تصبح مثل أمها مهجورة من الرجال لذا نمت فيها هذه العقدة وجعلتها تعيش شخصية أخرى هي شخصية "ميرفت"، التي تنطلق ليلا كفتاة ليل لتقيم علاقات كثيرة مع الرجال وعندما تستيقظ صباحًا لا تشعر بما فعلته ليلًا ،وتحلم أحلامًا غريبة، وتشعر بأمراض عضوية مثل الصداع الدائم، فتتجه إلى طبيب نفسي "محمود المليجي" وتحكى له عما تشعر وتحس، هنا تبدأ مرحلة العلاج، ويستطيع الطبيب بعد عدة جلسات أن يكتشف مرضها ويسيطر عليه ويواجهها بحقيقته وهى مرتدية زى ميرفت، حتى تفيق مما تعاني وتشفى من مرضها، لكن خطيبها الذي يعلم كل ذلك لا يغفر لها مرضها، في حين أن الطبيب يصارح الوالدين بالجناية التي سبباها لناهد، فيبدآن معها بداية جديدة تحوطها بالعناية والعطف والرعاية ومظاهر الحب التي افتقدتها في حياتها .
تميز كمال الشيخ بالقدرة على إخراج أعمال فنية تتخذ من المرض النفسي إطاراً لها، فتضع المشاهد في دائرة علم النفس بما تحويه هذه الدائرة من أمراض وطرق علاج وطبيعة مرض غريبة، تظهر في سلوكيات يشاهدها الجمهور بكل دهشة مع ما تثيره في نفوسهم من تشويق وإثارة ينبعان في الأساس من تلك الأزمة النفسية المعالجة التي تظهر من خلال شخصية تبدو للجميع طبيعية بل وفى مكانة مرموقة أحيانًا؛ مما يجعلها تحاط بالوقار والاحترام ولا يتوقع المخالط لها - فضلاً عن المشاهد - أن تكون واقعة تحت أي سلوك مرض نفسي يؤدى إلى مواقف شاذة بعيدة كل البعد عن طبيعة الشخصية الظاهرة للعيان.
وكان "بئر الحرمان" معبراً أتم تعبير عن هذه النوعية من الأعمال النفسية، ولأن الفيلم يعتمد في الأساس على الظاهرة النفسية ومعايشة الجمهور لها وتقبلها لدى المشاهدين، مع معرفة تأثيرها عليهم وإمكانية تقبل أثرها في المجتمع، لذلك فقد اتخذ كمال الشيخ موقفًا غريبًا وجديدًا في نهاية العمل، فقد قرر مع المنتج رمسيس نجيب أن يدعو الصحفيين والنقاد ليحددوا بأنفسهم ويختاروا النهاية المناسبة للفيلم، وقد عرض عليهم نهايتين له الأولى: أن تذهب الفتاة إلى خطيبها بعد أن تعرف حقيقة مرضها وتصارحه بمرضها الخطير وتصرفاتها الشاذة، ويفاجأ الخطيب بذلك المرض ولا يرد عليها، فتترك له دبلة الخطوبة وتذهب لتنتحر لكنه ينقذها في آخر لحظة من الانتحار، وينتهي الفيلم نهاية سعيدة، أما النهاية الثانية: فهي أن تذهب الفتاة إلى خطيبها بعد أن تعرف حقيقة مرضها، وتعترف له بكل شيء، ويذهل الخطيب ولا يرد، فتترك له دبلة الخطوبة وتتركه دون أن تدرى ماذا تفعل وأين تذهب، لكنها تلتقي بالأب والأم بعد أن عرفا الحقيقة من الطبيب، وتخلع الأم معطفها لتغطى به جسد ابنتها العاري، ويعودان معها للبيت، ويبدو أن حياة جديدة سوف تبدأ، وهى النهاية التي اختارها النقاد ونفذها المخرج مع الإيحاء بعودة خطيبها.
ولا أدل على روعة إخراج كمال الشيخ لتلك النوعية من الأفلام من تعليق حسام الدين مصطفى المخرج الشهير على فيلم "الليلة الأخيرة"، وهو من نوعية الفيلم النفسي التي برع فيها كمال الشيخ، فهو يقول عنه: "وأفضل ما في إخراج كمال الشيخ هو أنه لم يشعرني مطلقا بأنني أتفرج على فيلم أخرجه مخرج، كان الإخراج طبيعيا جدًا، ومتقنًا جدًا، بحيث نسيت نفسي تمامًا في أحداث الرواية، وتابعتها بشغف تام، فلم أتوقف كمخرج سينمائي لأبحث وأدقق في عمل زميل لي. وكمال الشيخ سيد هذا اللون من الأفلام التي تشوق الجمهور".
وقد تألقت سعاد حسني في أداء الدور بكل مهارة وفهم للمرض النفسي المصيب للشخصية، فكانت بالفعل هي ناهد الفتاة الرقيقة الخجول، وهي في الوقت ذاته ميرفت الفتاة التي تنطلق ليلا تحت تأثير عقدتها النفسية فتمضي عابثة ماجنة. وأدى نور الشريف دوره في حدود المرسوم والمطلوب منه، بينما استطاع محمود المليجي باقتدار وقدرة عالية - كررها كثيرا - أن يؤدي دور الطبيب النفسي المدرك والواعي لأبعاد الأمراض النفسية وكيفية علاجها.
وقد نقل كاتب السيناريو طبيعة شخصية البطلة في قصة إحسان دون أن ينقل تفصيلات القصة، بل أبدع هو في بعض التفصيلات، فكانت ناهد بالقصة متزوجة بالفعل لكنها بالفيلم كانت مخطوبة فقط، وقد ورد بالقصة أن ناهد كانت تحب شابا هو هشام الذي أفقدها عذريتها وسافر؛ مما جعل السائق سليمان يستغل ذلك في معاشرتها الجنسية، وهذا لم يرد بالفيلم الذي أراد كاتب السيناريو أن يركز على عقدتها الأصلية التي سببها لها ابتعاد والدها عن أمها دون الخوض في أسباب أخرى مثل فقدها لعذريتها عن طريق حبيبها، وقد حاول سليمان بالفيلم اغتصابها بسبب أنها هي التي دعته إليها وهي في شخصية ميرفت، وعندما كانت في شخصية ناهد أراد اغتصابها فرفضت، وأسرعت للطبيب تحكي له، بينما بالقصة استسلمت له وكان سبب الاستسلام في الأساس خوفها من أن يفضحها بسبب لقائه الجنسي معها، وبسبب معرفته عن فقدها لعذريتها على يد حبيبها. ولم يكن لسليمان لقاء مع الطبيب النفسي بينما كان ذلك سببًا أساسيًا من أسباب شفائها بالقصة، ولم تَرَ أمها في القصة شخصيتها الجنسية أو شخصية ميرفت بينما في الفيلم رأت الأم هذه الشخصية، ولم تكن ناهد في الفيلم ابنة زنا ولكنها كانت تعاني من مشكلة والدها الذي غضب من أمها غيرة عليها من قريب لها كان سيتزوجها قبله، فظن أنها لا زالت على علاقة عاطفية معه، فطردها من المنزل، ولم يسمح لها بالدخول سوى بسبب مرض ناهد، وقرر أن يهجرها تماما، بينما في القصة كانت ناهد ابنة زنا، وعلم بذلك الزوج فعاقب أمها بتركها دون لقاء جنسي مدى عمر ناهد، ولم يظهر كاتب السيناريو شخصية ذلك هاشم الحبيب في الفيلم حيث إنه بالقصة قد عاد وصارت ناهد تلتقي به جنسيا مع زوجها وسليمان، كما لم تظهر علاقات ناهد المتعددة بالرجال المختلفين غير زوجها وسليمان وهشام في القصة، لكنها ظهرت واضحة بالفيلم، ولم تظهر الحيل التي كانت تقوم بها ناهد لتتحول للشخصية الثانية بالقصة وظهر ذلك بالفيلم، وبعد شفاء ناهد بالقصة لم يذكر الكاتب شيئا، لكن بالفيلم بعد شفائها اعترفت لخطيبها الذي لم يبادر للوقوف بجوارها، فتركت له دبلة الخطوبة وارتمت في أحضان أمها حيث شعرت الأم مع الأب بما سبباه لها من مأساة، وانطلق خطيبها خلفها في إشارة إلى رغبته في إعادة علاقته بها.

******************

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات