الزمن والذاكرة في أفلام كمال الشيخ

د.وليد سيف 10 مايو 2022 كمال الشيخ الهارب من ظله

الكاتب : د.وليد سيف
من غرفة المونتاج وبعد تمكن شديد من الصنعة وإنجاز عشرات الأفلام لكبار مخرجي الأربعينيات بدأها كتلميذ للرائد السينمائي نيازي مصطفى، ينتقل كمال الشيخ إلى عالم الإخراج، حيث يدرك من يعملون فى حقل السينما أن غرفة المونتاج هى الغرفة الكاشفة لكل عيوب المادة المصورة، من مشكلات فى الضوء إلى ضعف فى التتابع والإيقاع، إلى عدم الإعداد للتواصل السليم بين اللقطات، وكلها عيوب يسعى المونتير لعلاجها فى حدود الممكن، ويظل دائما مشاركا للمخرج فى سخطه على ما تحقق أثناء التصوير مقارنة بما كان يجب أن يكون


الزمن والذاكرة فى أفلام كمال الشيخ

وفى خضم كل هذا يظل الهم الأساسيّ للمونتير هو علاج الزمن، أو التتابع الزمنى السليم للعمل، ليس بمعنى التعاقب الزمني الواقعي ولكن بمعنى أن يتحقق التواصل الزمني طبقا لمنطق العمل ورؤيته، وأن ينتصر الزمن القوي على الزمن الضعيف، أو اللحظات التى تستحق التمهل والتركيز لتتشبع منها العين وينتقل الإحساس بتأثيرها بقوة للمشاهد، فى مقابل تلك اللقطات أو المشاهد الهامشية أو الخبرية التى لا تستحق سوى أن يمر عليها مرور الكرام، فطبقا لجورج لوكاش، "إن الزمن هو صانع المفارقة اللاذعة العظيم".

قبل كمال الشيخ كانت معظم الأفلام المصرية تنتهج أساليب السرد التقليدي، فيتوالى سرد الحكاية طبقا لتتابعها الزمني، وكانت تلك الأفلام التى تتخللها مشاهد عودة إلى الماضي نادرة، وتتحقق عادة بأسلوب بدائي، وكان كمال الشيخ بحكم خبرته الطويلة وتعامله مع آلاف الأمتار من أشرطة الأفلام يدرك هذا العيب، ويدرك أن هناك وسائل أحدث يمكن من خلالها تحقيق صورة أفضل، ودون أن يقع أى تشتت للمشاهد أو خلل فى تتابع الصورة، فهل كان انشغال المونتير بفكرة الزمن والذاكرة، وضرورة ظهورهما على الشاشة بصورة سليمة ومؤثرة أحد دوافعه المهمة لولوج عالم الإخراج؟

من المؤكد أن كمال الشيخ كان يعمل على تطوير السيناريو بدأب وهذا فضلا عن مشاركته الفعلية فى كتابة السيناريو والقصة طبقا لما هو مدون فى عناوين عدد من أفلامه، ومنها المنزل رقم 13 وحياة أو موت وقلب يحترق وملاك وشيطان والشيطان الصغير، وهذا على الرغم من أن كتاب هذه الأفلام كانوا من أهم الكتاب فى هذا المجال، وفى قامة علي الزرقاني وصبري عزت مثلا، وهذا يؤكد أن كمال الشيخ كان حريصا على أن يضع بصماته ولمساته على الفيلم منذ مراحله الأولى، فهو ليس ذلك المخرج الذى يتسلم السيناريو ويتولى تحقيقه بوضع رؤيته الإخراجية دون أن يكون له دوره فى أفكار الفيلم الأساسية ومعالجته لموضوعه وصياغته المتكاملة على الورق.

بالتأكيد يغلب الطابع البوليسى أو المنحى التشويقي على أفلام كمال الشيخ ولهذا وصفه البعض بأنه هيتشكوك مصر، وهو الأمر الذى لم يثر سعادة كمال الشيخ، حيث كان الشائع عن هيتشكوك فى تلك الفترة انه أشهر مخرج لأفلام التشويق، وعلى اعتبار أنه كان يقدم أفلام هذا النوع من أجل الترفيه والتسلية فقط، ولم يكن قد تم رد الاعتبار للعبقرى هيتشكوك، بعد دراسات معمقة لأفلامه، كأعمال خلدتها قيمتها النفسية ودراستها القيمة لسلوك الإنسان ودوافعه، فمثلت دراسة استيطان دواخل النفس الإنسانية في السينما تاريخا وإرثا مهما في جميع الجوانب، وكان لرائد هذه المدرسة الانجليزية ألفرد هيتشكوك، الدور الأساسي والفاعل في إرساء قواعد هذه المدرسة، وبالتأكيد كان الاهتمام بالعنصر النفسي مهمًا عند كمال الشيخ أيضا، ولكن بتركيز شديد على فكرة تأثير الزمن والذاكرة على سلوك الإنسان بشكل خاص فى أفلامه الأولى، وعلى سلوك المجتمع ككل فى أفلامه اللاحقة ذات الطابع السياسي والاجتماعي النقدي.

المنزل رقم 13 والزمن القوي

استطاع كمال الشيخ مخرجا أن يدخل السينما من أوسع أبوابها، ومن خلال فيلمه الذي أصبح أحد روائع السينما المصرية، وهو المنزل رقم 13، بالتأكيد لم يكن الفيلم هو الأول من نوعه كفيلم تشويقي بوليسي يدور حول فك غموض جريمة قتل، فقد سبقه عدد من هذا النوع لأفلام لمخرجين من الجيل السابق ومن أبناء جيله أيضا
والحقيقة أن كمال الشيخ لم يتميز فى المنزل رقم 13 بفضل قدراته فى مشاهد المعارك والمطاردات، فالمعركة الوحيدة التى تدور قرب نهاية الفيلم بين البطل والمجرم معركة هزيلة وتتناسب مع كونها معركة بين طبيب ومهندس، كما أنه يمكنك أن تكتشف بسهولة ثغرات واضحة فى السيناريو وأهمها غياب الدافع الحقيقي وراء ارتكاب طبيب ناجح يعيش حياة مرفهة لسلسة من الجرائم بيده وبيد غيره، هذا فضلا عن مواقف يغلب عليها التلفيق، حين يستبدل الطبيب شريكته فى الجريمة بامرأة أخرى فى ثوان قليلة، ليخدع البطل ويصرفه عن الشك فيه، كما أن التتابع يعاني من انتقالات غير مبررة، مثل هروب المهندس من السجن، وهذا فضلا عن التزام الفيلم بكليشيهات السينما المصرية السائدة فى ذلك الوقت، مثل رقصة الكباريه الكاملة، وموسيقى "الساسبنس" الزاعقة.

ولكن الأهم من كل هذا أن كمال الشيخ استطاع بسيطرته على الإيقاع والزمن أن يصنع أسلوبية جديدة، فالطابع الغالب على أفلام التشويق قبله كان الإيقاع السريع العصبي والانتقالات الحادة المفاجئة، بينما اعتمد كمال الشيخ على اختيار الأزمنة القوية والمواقف المهمة والمؤثرة، ليترك لها المساحة الكافية، فهو يبدأ الفيلم بلقطات متصلة، وبإيقاع متمهل لسيارة تقطع الطريق فى الظلام حتى تصل أمام منزل رقمه 13، ليهبط سائقها دون أن نرى وجهه وبعد أن يخرج المسدس من التابلوه متوجها إلى العمارة، وهنا يثبت الكادر وتتوالى العناوين، فى أقوى وأقصر "أفان تيتر" عرفته أفلامنا فى ذلك الحين، وعلى عكس المألوف لا تنتقل الأحداث بعد الأفان تيتر إلى زمن آخر، بل تتواصل اللقطات من نفس المشهد السابق، وفى تتابع زمني تفصيلي لحركة نفس الشخص، حتى يقتحم غرفة رجل ويطلق عليه الرصاص ويرديه قتيلا، وهنا تتميع الرؤية بأسلوب فني تمهيدا لأول نقلة زمنية لمشهد آخر يبدأ برؤية متميعة أيضا، حتى تتضح الصورة لمنبه على "كومودينو" يرقد إلى جواره البطل، وحيث يترسخ الإيهام لدى المشاهد، هل ما سبق هو زمن حقيقى، أم أنه حلم البطل النائم.
ولكن حل اللغز فى المنزل رقم 13 لا يتأخر كثيرا عن المشاهد، فبالتحديد فى الدقيقة الثانية والعشرين من الفيلم سوف نعرف من المجرم ووقائع تدبير الجريمة وتنفيذها بالتفصيل، ولكن تظل اللعبة الحقيقية التى تجتذب المشاهد هى اللعب بالزمن التى يمارسها كمال الشيخ حتى يخفي السر عن البطل وعن العدالة لآخر لحظة، وبمشاهد فلاش باك كثيرة وكأنها تحث البطل على أن يبحث فى ذاكرته عن تلك اللحظات الساقطة بفعل التنويم المغناطيسي، ولم تكن السينما المصرية فى ذلك الوقت بتلك الجرأة فى اللعب بالزمن واستخدام الفلاش باك بهذه الغزارة، وهى اللعبة التى سيتفنن ويتميز بها كمال الشيخ فى الكثير من أفلامه اللاحقة.
يسيطر كمال الشيخ سيطرة تامة على الإيقاع ولا تمر سوى لحظات قليلة من الهدوء محسوبة بدقة وسرعان ما يعقبها ما يرفع التوتر من جديد للحظة الزمنية الفارقة والتى تصل إلى ذروتها بالقبض على البطل فى ليلة فرحه، ويعود كمال الشيخ إلى إيقاعه الهادئ المتمهل فى تحقيقات النيابة التفصيلية بدون انتقالات فى الزمان أو المكان، وهو ما يحققه أيضا بمهارة شديدة فى مشهد المرافعة الذى يمتد لخمس عشرة دقيقة، ولكن من خلال أكثر من أربعين لقطة وأكثر من ثماني زوايا مع توظيف محدود لحركة "الشاريوه"، ولكن المهم ألا تفلت لحظة زمنية قوية حتى ولو كان رد فعل لا يستغرق سوى ثوان قليلة على الشاشة ليرفع التوتر ويحقق التأثير المطلوب.
إن مهارة كمال الشيخ التى تتجلى فى هذا الفيلم تكمن فى هذه القدرة الفذة على التلاعب بالزمن، متى يلتزم بالسرد الزمني التقليدي، بأى مساحة وبأى قدر، ومتى يطلق لحظات الفلاش باك ملهمة ومضيئة ومؤثرة عندما تستدعيه الذاكرة واللحظة الدرامية، المهم فى كل الأحوال أن يظل الزمن قويا وحاضرا وقت اللزوم.

زمن الفيلم وزمن الأحداث

فى فيلمه الثالث "حياة أو موت" من إنتاج 1954 يخوض مغامرة جديدة وتحديا مع الزمن غير مسبوق ولا ملحوق حتى الآن فى السينما المصرية، إنه الحالة الوحيدة والنادرة بين أفلامنا التي تتفق فيها مدة عرض الفيلم مع زمن الأحداث، فكلاهما يقع فى إطار الساعة والنصف، وهو يبدأ بلقطة لساعة حائط فى الحادية عشرة والربع مع صوت الراوي يقول "ما أقصر اللحظات فى عمر الزمن وما أقصرها فى حياة الإنسان، إن حياتنا كهذه الساعة لا تعرف اللحظة الحاضرة ما تأتى به اللحظة القادمةأأأتى به اللحظة القادمة، ونحن لا نعرف متى تكف عن الدوران وما هى الحياة، إنها لغز، إنها حلم، نحن نخشاها ولكننا نتمسك بأهدابها، وما بين لحظة وأخرى تقع أحداث كبار، وتتوقف ساعة العمر فى قلوب البعض وتنبض فى قلوب الآخرين، نعم ما أقصر اللحظة فى عمر الزمن، وما أطولها فى حياة الإنسان، يأس أو رجاء، حياة أو موت".
ويتواصل صوت الراوي أيضا بعد العناوين مع لقطات تسجيلية من شوارع القاهرة متحدثا عن المدينة المزدحمة بالبشر فى يوم العيد ومتسائلا عن حياة ومصير شخص يسير بينهم وكأنه اختيار عشوائي، ولكن هذا الشخص على وجه التحديد هو الذي سوف نتابع أزمته طوال أحداث الفيلم.
فبعد مقدمة سريعة نتعرف فيها على مشكلة البطل وأزمته المادية بعد فقده لوظيفته وشجاره مع زوجته، التى تخرج للذهاب إلى أهلها تبدأ أزمته الصحية وحاجته للدواء الذى تذهب ابنته لشرائه، لتبدأ رحلة الطفلة للبحث عن دواء التركيب النادر بين أكثر من صيدلية متنقلة بين أحياء القاهرة، حتى تتمكن من العثور على الدواء ولكن بمجرد مغادرتها للصيدلية نكتشف الحقيقة الشهيرة " أن الدواء به سم قاتل"، ليتصاعد التوتر فى الأحداث لأقصى درجة، فبينما الفتاة فى طريقها للعودة يسعى الصيدلي بكل وسيلة للوصول إلى والدها قبلها، وهى فى طريقها من العتبة إلى مصر القديمة، لمنعه من تناول الدواء القاتل وهى الأحداث التى تستغرق معظم مساحة الفيلم الزمنية، حتى تنتهى الأحداث بتلك اللحظة الزمنية الفارقة، حين تأتى الزوجة التى اندفعت لإنقاذه بناء على نداء الإذاعة، لتلقي بزجاجة الدواء، وقد أوشك ان يتناولها، مع وصول الصيدلي وقائد الشرطة الذى ينهى الفيلم قائلا: "واجبنا يا هانم السهر على خدمة الجمهور".
لا يخلو الفيلم بالتأكيد من حس دعائي للنظام الذى يكرس كل جهوده ويسابق الزمن ويكرس العديد من إداراته وأفراده لإنقاذ مواطن بسيط من الموت، ليس هذا فحسب، بل إن كل المواطنين يظهرون كملائكة متعاطفين بشدة مع طفلة وأبيها الذى لا يعرفونه، ولكن كمال الشيخ يستطيع بسباقه الفنى مع الزمن وسيطرته التامة على ضبط الإيقاع بين مواقف اليأس والرجاء من أن يجعلك تتفاعل مع الفيلم وتفقد ذاكرتك وإحساسك بالواقع خلال زمن الفيلم الذى لا يمت بأى صلة للواقع سوى فى توثيقه النادر لأحياء القاهرة وشوارعها ووسائل مواصلاتها فى الخمسينيات.

"لن أعترف" والسر الخفى

فى بداية أحداث فيلم "لن أعترف" نتعرف على مشكلة فى هيئة البريد بسبب تأخر وصول الخطابات إلى المرسل إليه، وعبر عدة مشاهد سريعة فكهة نتعرف على الفارق الزمني الكبير بين تاريخ إرسال الخطابات وتاريخ وصولها، بما يترتب عليه من تأثير الزمن على المتلقي بعد وصول الخطاب بعد شهور أو سنوات، حتى نتعرف على الخطاب الذى يصل إلى أسرة البطل والبطلة بعد عدة شهور، كمفتاح للموضوع الرئيسي، ولكن البطلة تنساه فى ظل انشغالها بزوجها المسافر الذى سرعان ما يفاجئها بحضوره، فتفقد الوعى فى غمرة المفاجأة والفرحة بعودته، ولا تسترد وعيها إلا بعد حضن وقبلة من الزوج، لنتعرف على مدى حميمية العلاقة بين هذه الأسرة: الزوج والزوجة والابن الجميل وخاله الطيب الحنون الحاضر معهم دائما، وهى مشاهد تتحقق بعذوبة وإيقاع سلس وتركيز على المحبة ودفء الأسرة.
ولكن هذا التسلسل يقطعه توقف إجباري، ربما لحرص كمال الشيخ على مغازلة جمهور السينما، فيقدم رقصة اسبانيولى كاملة تعقبها رقصة سلو دانس بين البطل والبطلة، وأخيها وفتاته، ولكن وبعد مرور خمسة عشر دقيقة من الفيلم تتذكر الزوجة الجواب الموجه لزوجها وتقرؤه "لقد شاهدتك وأنت تقتل صراف المصنع وشاهدتك أيضا وأنت تعود بعد أن هربت بالأموال والأمارة الفلوس فى 2525 احتفظ لى بنصيبى وسنلتقى عند الدفع."
وتظل المواقف تتأرجح بين تشكك الزوجة فى تورط زوجها فى جريمة القتل وبين تصديقها له بأن الأمر لا يعدو دعابة، ويشاركها المشاهد نفس الشكوك خاصة حين يسترجع الزوج فى ثاني فلاش باك شهادة الرجل فى المحكمة، وكلماته الموحية له بعدها، التى لم ينتبه لها لحظتها التى تعنى التواطؤ والتهديد بأسلوب مستتر.
وفى تتابع يزيد الغموض تلجأ الزوجة لشقيقها ليعاونها فى الأمر فيذهب إلى الرجل ويعلم منه أنه لديه رقم السيارة التى نقلت النقود 2525 ويعقب المشهد بترتيب محكم أول ظهور لرقم السيارة حيث نتبين أنها تخص الشقيق وليس الزوج فى تذكير ملهم للمشاهد لحل اللغز، يعقبه مشهد حواري صريح يكشف فيه الشقيق لعشيقته وشريكته فى الجريمة كل شيء، وهكذا فتحديدا بعد مرور ساعة من الفيلم يصبح المشاهد عارفا من هو القاتل، ولكنه يظل يتابع الأحداث لكى تنجلي الحقيقة للزوجة وللعدالة، وتتعقد الأمور حين يقتل الشقيق الرجل وتتورط الزوجة كمتهمة فى ارتكاب الجريمة قبل اعتراف شقيقها الذى يسبقه كمال الشيخ بارتباط متزامن بين لقطتين: الشقيقة على فراش المرض فى المستشفى وهي على يمين الكادر تعقبها لقطة لشقيقها على شمال الكادر ينظر إلى اليمين وكأنه معها فى نفس المكان ثم يتسع الكادر لنراه يحتسي كأسا من الخمر ونكشف عن أنه فى بيته وهو يشعر بالألم بسبب شقيقته، ومن خلال هذا التزامن بين اللقطتين يحقق الشيخ التأثير المطلوب ويدعم دراما الفيلم بهذه الحالة الإنسانية المؤثرة.

"الليلة الأخيرة" والزمن الساقط من الذاكرة
يستهل فيلم الليلة الأخيرة أحداثه بعد العناوين مع صوت البطلة "النهاردة 5 أكتوبر سنة 42 يوم جديد فى حياتى، يمكن أسعد يوم فى حياتى، النهارده حتتنقل الدبلة من إيدى اليمين لإيدي الشمال، من نادية برهان صادق إلى حرم الملازم صلاح محرم .. صلاح قال لي إنه حيقوم من مرسى مطروح فى وش الفجر حيفضل معايا 24 ساعة على الأقل بس .. لكن معلش بكره الحرب تخلص ويريحونا من الغارات اللى نازلة ترف علينا ويرجع لي صلاح على طول".
ولكن سرعان ما تكتشف البطلة أنها تعيش فى مكان غير المكان وزمان غير الزمان، بل إنها تعاشر شاكر زوج أختها، الذى بدى عليه العجز، وإنها تحمل اسم أختها فوزية، ويشارك المشاهد البطلة حيرتها، هل فقدت الذاكرة؟ .. هل تعاني من مرض نفسي أم إنها نادية بالفعل؟، وأي الذاكرتين تلك التى فقدت: ذاكرة نادية أم فوزية؟
تنتهز نادية فرصة سفر شاكر إلى الإسكندرية فترافقه باحثة عن بيتها القديم .. تتشبع الصورة بعبق المكان وحيث تسعى البطلة لاسترجاع ذكرياتها هناك، واسترداد ذاكرتها عبر لقطات من خلال السيارة ولكن بإيقاع متمهل ومشبع، وحتى تتمكن من أن تلتقط الخيط الذى يصل بها إلى بيت خطيبها السابق، وعبر الحديقة تتابعها الكاميرا وهى تسير وسط الأشجار الكثيفة، وكأنها تبدد الهواجس التى أحاطت بها فى بحثها عن اليقين، يتصيد الشيخ اللحظة فتطول اللقطات فى لحظة حثها لخطيبها السابق على تذكرها، وبعد أن تيأس من ذلك يلاحقها الرجل فى طريق العودة ليجالسها فى مكان عام وحيث دخان السجائر يتصاعد ليغلف المكان برائحة الغموض، وليخبرها الرجل بأن نادية ماتت، وهو بالطبع موقف ملفق من السيناريو، فالشخص الذى يلتقى بإنسانة كان يحبها وعلى وشك خطبتها من 15 عامًا من الصعب أن يخطئ فى التعرف عليها.
وفى مشهد حادث سيارة تتعرض فيه البطلة لصدمة يتلاعب الشيخ بذاكرة المشاهد السينمائية الذي اعتاد ان تعود فيه الذاكرة للمريض إثر صدمة، ولكن هذا لا يحدث فهي مجرد حيلة فقط ليتصادف وجود طبيب صديق للعائلة تبدأ تحكي له مشكلتها ولكن الشيخ يختزل الزمن وينتقل بنا فى نفس المشهد إلى حوار لاحق لسرد الحكاية التى لسنا بحاجة لمعرفتها.
والفيلم مليء بالمشاهد الصامتة للبطلة التى تعرض انفعالاتها بالمواقف بأداء بارع لفاتن حمامة وبزوايا مختارة ومعبرة ومؤثرة للمخرج وبإضاءة تعبيرية محسوبة تصاحبها موسيقى مفعمة بمشاعر التيه والاضطراب والتى تصل إلى ذروتها فى مشهد إقدام البطلة على الانتحار
وفى لحظة مضيئة، ومن خلال حوار تسترجع فيه الماضى مع الطبيب تفكر نادية فى احتمال أن تكون فوزية هي التي ماتت، تنجلى هذه الحقيقة كمجرد احتمال أمام المشاهد فى الدقيقة 70، وتبدأ جلسات العلاج واسترجاع الذاكرة، ليظهر مشهد فلاش باك لليلة فقدها الذاكرة وفى انتقالة مؤثرة من سقوط القنبلة فى البيت في الماضي إلى صياح نادية وقيامها من على سرير المستشفى فى الحاضر، ليكتشف الطبيب أنها لم تفقد الذاكرة بل استعادتها.
ولكن الخطر يعود فى الحال حين يحاول الزوج قتلها والتخلص منها بإلقائها فى الحمام مغشيا عليها وإشعال الغاز، ولا يتعجل الشيخ وصول الطبيب وإنقاذها سريعا فهو يعرف أنه يقبض على الزمن القوي بقوة، حتى يتمكن الطبيب من إنقاذها فى آخر لحظة، ثم تأتي مكالمة للطبيب لا نعرف فيها محدثه ولكننا نشعر بقلقه ليخرج لنادية المستلقية فى التراس ويخبرها أن شاكر لقى مصرعه فى حادثة، ربما تكون هذه النهاية هى الأكثر تلفيقا فى الفيلم، ولكن المفاجأة ان نادية تصمم أن تظل فوزية لمصلحة ابنتها، وتطلب منه أن تظل نادية بينها وبينه، فيشرد الطبيب قليلا ويخرج علبة سجائره، ويناولها واحدة ويأخذ الأخرى ويدخنان معا فى أحد أغرب نهايات الفيلم المصرى وكأن السيجارة مهداة للمشاهد ليخرج عن توتره أخيرا، بعد أن أدرك أن نادية قررت أن تعيش زمنين.

الخائنة سر الماضي المختزن
يخوض كمال الشيخ فى فيلم الخائنة تحديا جديدا، فهو من الأفلام البوليسية النادرة التى لا تعتمد على كشف سر فى الماضي من خلال الفلاش باك الذي لا يلجأ إليه أبدا، ويستعيض عنه بفيلم تم تصويره بكاميرا هواة 8 مللي تنكشف فيه خيانة الزوجة دون أن يظهر شريكها، وهي ربما لأول مرة فى هذا النوع ينبني التوتر هنا على الإخفاء والمكالمات التليفونية الغامضة، والعلاقة التي تنشأ بين الزوجة ورجل غريب عبر إيماءات وتلميحات.
وتكاد بطولة الفيلم قياسا إلى نسبة لقطاته أن تنقسم إلى قسمين فى القسم الأول البطولة للبطلة في حالة قلقها وتوترها وغضبها وشكها من الزوج وترددها فى ارتكاب الخيانة .. تتابعها الكاميرا في لقطات طويلة ترصد حركاتها وإيماءاتها وصمتها الحزين والمتردد والغاضب، لتنتقل فى النصف الثانى إلى البطل الذى تتعالى شكوكه فى الزوجة ومسلكها حيث ترصد انفعاله وغضبه وثورته على كرامته ورجولته التى يشك فى جرحها، ولكن الشيخ يواصل فى هذا الفيلم لعبة إيهامه للمشاهد بتوجيه الاتهام إلى شخص معين عبر استخدام صوت عمر الحريرى فى المكالمات التليفونية، وتثبت الأحداث غير ذلك، ولكن المخرج يستخدم تاريخ الممثل فى ذاكرة المشاهد ليتلاعب به تماما كما يوظف ظهور عادل أدهم كأيقونة للشر فى ذهن المشاهد ليوحي بأنه هو المجرم، ولكن يثبت أيضا عكس ذلك.
وفى أحد أطول مشاهد الفيلم الذى لا يفوقه زمنيا سوى مشهد المرافعة الأخير ولكنه مشهد يربط بين موقفين، أولهما حديث الزوج عن قضية يتولاها تتداخل فيها مشاعره الشخصية بخيانة زوجته مع إحساسه بالشك فى موكلته التى كاد أن يحصل لها على البراءة، ويستكمل المشهد مع وصول زوجته وانصاتها لجزء من الحوار، وهو ما سيؤدي إلى تغيير كبير فى الأحداث ودوافع الشخصيات وأفعالها وردود أفعالها، إنه مشهد التحول الدرامي بامتياز، وبداية اللعبة القاتلة بين الزوج والزوجة، إنه مشهد الزمن القوي والمؤثر والجاثم على البطلين، بل وتعبيرات وانفعالات البطل المفعمة بالمرارة والاشمئزاز التى يتفنن محمود مرسى الممثل فى كبحها أمام الزوجة، دون أن تفقد ظلالها، والزوجة الغارقة فى الندم والغم والشعور بالخطيئة، والتى تحاول أن تداريها أمام الزوج بأداء استثنائي من نادية لطفى، بل إن مراجعة أداء كل الممثلين سوف تجدهم جميعا على وعى تام بحقيقة الشخصية وخلفيتها النفسية والتاريخية، دون أن تفضح حقيقتها، بمهارة كمال الشيخ فى التوجيه وتحقيق الحالة الفنية المطلوبة.
فى مشهد المرافعة الأخير يقدم المخرج المرافعة التفصيلية للخصم وهى تأتي فى غاية الأهمية لأنها تمثل النهاية للحبكة الموازية، حكاية موكلة البطل التى تدعى البراءة، وتنصب كل كلمات المرافعة التى تدينها وكأنها سهام توجه إلى البطل، ولا يتخللها سوى مشهد مستقبلي أو تخيلي يرى فيه البطل نفسه وهو يقتل زوجته، بالتوازي مع سرد المحامي لواقعة قتل الزوج لزوجته دفاعا عن شرفه، وعلى عكس المعتاد لا ينتهى الفيلم بحل اللغز، بل يظل شريك الزوجة فى الخيانة غامضا بعد انتحارها، وهو يواصل محاولاته الاتصال بها فى وجود من تشكك البطل فى أن أحدهما هو شريك الخائنة.

موروث الماضي المدمر
ربما يكون فيلم بئر الحرمان هو أكثر أفلام كمال الشيخ الذى يجتمع فيه الزمن والذاكرة مع الحالة النفسية بنفس القوة، فهناك زمن أو عالم مفعم بالحركة والسرعة والموسيقى الصاخبة تعيش فيه البطلة، ثم تنتقل إلى عالم آخر بطيء الحركة شديد الهدوء، ينتقل بنا المخرج بين العالمين من مجموعة مشاهد لأخرى، ولا يضبط كمال الشيخ الإيقاع الفيلمي بطول اللقطات وطبيعة الديكورات وأسلوب الإضاءة فقط، ولكن أيضا بإيقاع أداء الممثل الحركي والصوتي، والذي حققه الجميع بتميز شديد، ولكن سعاد حسني على وجه الخصوص تحققه بامتياز، وبقدرتها على ضبط حركة التطور التعبيري فى الأداء بدقة متناهية، وبتباين شديد بين الشخصيتين اللتين تلعبهما ناهد الرزينة الطيبة وميرفت الشريرة الماجنة، وبتفرقة واضحة بين الزمنين اللذين تعيشهما، وهو يصنع التشويق من خلال هذا التباين بين الزمنين أو العالمين، ليظل المشاهد يتساءل هل هما شبيهتان، أم أختان توأم متطابقتان فى الشكل متباعدتان فى الطباع
ولكن بعد مرور ثلاثين دقيقة بالضبط نتأكد تماما من أن الوجهين لشخصية واحدة، وذلك عبر مشهد تفصيلي طويل للبطلة وهي تدخل حجرتها من النافذة وتخلع ملابسها وتزيل ماكياجها وترتدى ملابس النوم لنرى الوجه الآخر لها وهي ترقد على سريرها، وتطفئ نور الأباجورة للنوم، ويبقى السؤال لماذا تفعل هكذا؟
وبعد مرور ساعة وعشر دقائق تقع لحظة التكشف الثاني حيث المواجهة بين الطبيب وميرفت التى تحاول إغواءه لإبعاده عن كشف سرها ومن ثم القضاء على وجودها، ولكنه يطلب منها أن تدعه يتفاهم مع ناهد، وعندما تسيء إلى ناهد يخبرها أنه سيصلح بينهما، ولكنها تخبره أن ناهد تسعى لقتلها بترددها عليه.
قبل نهاية الفيلم بعشر دقائق نأتى إلى أطول مشاهد الفيلم الذي يتخلله فلاش باك واحد حيث يتوصل الطبيب إلى سر الأزمة النفسية التى أدت بالبطلة إلى حالة الانفصام فى الشخصية ويحل كل الألغاز والأسرار ويجد تفسيرات محددة لها، ولكن سرعان ما يعود الخطر حين تهرب ناهد فى هيئة ميرفت من عيادة الطبيب، لتذهب إلى خطيبها لتواجهه بكل الحقيقة وأن لها شخصيتن حيث يهتم المخرج برد فعل الخطيب، فيترك له مساحات من الحركة والصمت ليتيح له الزمن الكافي للتطور الانفعالي من أثر ما يسمعه من اعترافات ناهد.
وينهى الشيخ الفيلم بأجواء ضبابية، حيث البطل يلاحق بخطوات غير متعجلة سيارة الأب وقد صحب ناهد والأم عائدين، وبذلك يعد بئر الحرمان من أفضل أفلام الدراما النفسية فى السينما المصرية، وخاصة فى كشفه بوضوح عن جوانب علمية تتعلق بمرض انفصام الشخصية وتفسر الكثير من أسراره، وفى تنقله بامتياز بين زمنين نفسيين وفى تعبيره القوي عن أثر ذكريات الماضي على نفس الشخصية.
نفس الأثر القوي للماضي سوف نجده فى فيلمه "شيء فى صدري" حيث تدور الأحداث حول حسين باشا شاكر الذي يسعى باستماتة للانتقام من زميله الرحل محمد أفندي فى صورة زوجته وأبنائه، وحيث يشكل الماضي حضورا قويا يعبر عنه كمال الشيخ باقتدار ودون الحاجة للعودة للماضى بلا ضرورة، ويطرح من خلاله هذا التهافت المجانى من رجل باع نفسه للسلطة وعاش طوال حياته حاقدا على الرجل الذي حافظ على مبادئه وعاش على الهامش حتى توفاه الله تاركا أسرته فى عوز وحاجة.
يسيطر الشيخ فى هذا الفيلم على الزمن من خلال الأحداث المتلاحقة والمواجهات القوية والحوار المضيء الكاشف عن عقد وأمراض الشخصية واعتمادا على أداء بارع من مجموعة الممثلين على رأسهم رشدى أباظة ربما فى أفضل وأنضج أدواره على الشاشة وبعد أن صنع منه الزمن ممثلا محترفا وقادرا على التعبير عن عمق الرواية وأبعد الشخصية الدفينة وأمراض الماضى التى لا شفاء منها رغم الجاه والنفوذ والسلطة.

نظرة على الماضي من أجل المستقبل
يعالج فيلم ميرامار رواية نجيب محفوظ بنفس الاسم، والرواية وإن كانت تدور فى الحاضر إلا أن حضور الماضى قوى جدا، ليس فقط عن ذكريات الإسكندرية الجميلة فى الزمن القديم، إسكندرية التعايش والمحبة بين مختلف الأطياف من مختلف الجنسيات والأصول والجذور .. إسكندرية الانفتاح على ثقافات العالم والشاطئ الأشهر والأقرب للغرب، ولكن الماضى يلوح أيضا وبقوة من حضور ثلاث من العجائز أولهم صاحبة البنسيون وثانيهم طلبة مرزوق العجوز المتصابي والساخر من حكم ما بعد ثورة يولية 52 بأداء بارع ولاذع من يوسف وهبى، وثالثهم عامر وجدي وهو الراوى الأساسى للأحداث والأكثر معرفة وحكمة بكونه كاتب ومفكر، وهو رغم رزانته وحرصه على عدم الانخراط فى حوارات جدلية إلا أنه وبالتأكيد ينتمى للوفديين وهو واحد من الذين كان قيام الثورة يعنى القضاء على مستقبلهم وحلمهم باستمرار الحياة الحزبية، من خلال الشخصيات الثلاثة ومن خلال انتصار الفيلم لهم ولوجهة نظرهم ينحاز الشيخ لهم بقوة ويدين غالبية الشخصيات الفاعلة الشابة.
وعلى الرغم من الجريمة التى ترتكب فى الأحداث وتشكل اللغز الأساسى فى مساحة كبيرة من الرواية، إلا أن الفيلم ينحيها جانبا ولا يسلط الضوء عليها إلا لمساحة محدودة من الأحداث، فكمال الشيخ لا ينشغل فى هذا الفيلم بجانب الإثارة والتشويق الذي تميز فيه إلى حد كبير، ولكنه هنا ينشغل فقط بتأمل الواقع ومتغيراته من خلال وجهة نظر الماضى متمثلا فى الشخصيات الأقوى والأكثر حضورا، والتى يتيح لها المساحة الزمنية الأهم والتأثير الأقوى والتعبير عن الحكمة حتى ولو كانت تصرفات بعضهم طائشة.
وربما يشكل فيلم ميرامار خروجا عن النوع الرئيسى لأفلام كمال الشيخ وأسلوبيته كثيرا، ولكنه يؤكد أكثر على اهتمامه بالزمن والذاكرة، وانتمائه لزمن قديم ينتقد حاضرا ويتحفظ على الكثير من أوضاعه وشروطه.
ويعد فيلم على من نطلق الرصاص أيضا أحد روائع أفلام كمال الشيخ، والذى حققه بالتعاون مع الكاتب رأفت الميهي، ويعود الشيخ فى هذا الفيلم إلى هوايته المفضلة فى التأكيد على تأثير الزمن، فالأحداث تبدأ باغتيال أحد كبار المسئولين على يد مهندس شاب تدهسه سيارة فور هروبه بعد الحادث، لتجمعه مع ضحيته سيارة إسعاف واحدة، ومع أضواء سيارة الإسعاف المتقطعة وصوت سارينتها تتوالى العناوين، لتبدأ بعدها الأحداث لتكشف لنا عن السر وراء الجريمة عبر مشاهد لا تكشف عن خلفيات الشخصية فقط، ولكن عن فساد سياسى وأزمة جيل يعجز عن التحقق فى ظل سياسات انفتاحية غير محسوبة، ولتصبح حكاية البطل وخطيبة صديقه أقرب إدانة لواقع سياسى رديء عانى منه المجتمع فى السبعينيات، ويصبح الفيلم أقرب لوثيقة حية وثابتة فى ذاكرة السينما والمشاهد عن كل عورات الانفتاح الاستهلاكى وما وازاها من فساد ورغبة شرسة فى الثراء بكل الأساليب على حساب مستقبل وطن وأجيال من الشباب.
وفى فيلم قاهر الظلام وهو آخر أفلام كمال الشيخ يتصدر العناوين وصف: - تصورات من أدب الخيال العلمى - وهو عن قصة لنهاد شريف أحد رواد هذا المجال وكتب له السيناريو والحوار أحمد عبد الوهاب، وهو يدور حول صحفى يبحث وراء اختفاء أحد أقاربه حتى يكتشف أنه قد تم اختطافه بواسطة أحد العلماء الذى قام بتجميده فى ثلاجة ليجرى عليه تجربة ليمكنه من العيش لفترة أطول.
وربما أثبتت التجارب العلمية الحديثة أن هذه الفكرة التى كانت تعد خيالا علميا فى الماضى أصبحت واقعا علميا فى الحاضر وبعد عقود من إنتاج الفيلم، ولكن معالجة الفيلم وتفاصيله العلمية تأتى بعيدة عن المنطق والمنهج العلمى السليم، وهي سبب رئيسى فى ضعف هذا النوع من الأفلام فى مجتمعات لا تعتد بالتفكير العلمى السليم بقدر ما تهدف إلى إثبات أمور تتعلق بقدراتنا وصحة تراثنا وهو ما يسعى الفيلم لإثباته عن صحة العقيدة الفرعونية وعن ارتباط العلم بالإيمان وهي فكرة كانت شائعة بقوة وقت إنتاج الفيلم.
وعلى مستوى اللغة السينمائية والحرفية يتراجع مستوى كمال الشيخ عن أعماله السابقة، ربما لما حققته السينما من تطور لم يستطع الشيخ فى سنواته الأخيرة أن يلاحقه، وربما يعد الفيلم ذاته تحديا من المخرج للزمن، الذي أمكنه أن ينتصر عليه كثيرا ولكنه ينهزم أمامه فى معركته الأخيرة وعلى الرغم من ضعف مستوى الفيلم مقارنة بأفلام الشيخ السابقة إلا أنه يظل دليلا مؤكدا على إصرار المخرج على ممارسة لعبة الزمن حتى آخر أفلامه.
وهكذا من تأمل عددًا من أهم أفلام كمال الشيخ نلاحظ هذا الانشغال الشديد بالزمن والذاكرة فى موضوعات أفلامه وعناوينها، ففيلمه الأخير يحمل عنوان قاهر الزمن وهو عن محاولة عالم لتجميد الإنسان وحفظه لجعله يتفادى مرور الزمن، أما فيلمه الأول الذى يحمل عنوان المنزل رقم 13، فإن أزمة بطله الرئيسية هى تذكر لحظات ساقطة من ذاكرته، تم خلالها تنويمه مغناطيسيا ودفعه لارتكاب جريمة، وبين الفيلم الأول والأخير تتكرر فكرة الزمن والذاكرة فى غالبية أعمال كمال الشيخ، وكأن الصراع مع الزمن والذاكرة هو موضوعه الأساسى والأثير، ومعالجتهما بالصورة الفنية السليمة هما شغله الشاغل، كما تعبر أعماله عن الإدراك الصحيح للعلاقة بين الزمن والذاكرة، فالذاكرة هى الحافظة للزمن، وهى التى يختزن فيها الذكريات السعيدة بما تشكله من طاقة إيجابية، والذكريات الحزينة والمؤلمة بما تخلفه من أمراض وأحقاد، كما أن سقوط هذه الذاكرة أو اختفاء أجزاء منها بإمكانه أن يفرض حالة من الغموض والتعاسة على الفرد
بالنسبة لتاركوفسكي الحياة اتصال وامتداد، تحضر فيها الأبعاد الثلاثية للزمن، الماضي، الحاضر والمستقبل. هنا يشتغل الفن ويتحرك الفنان، يعرف مجال عمل هذا الأخير "الفن لغة سامية تساعد الناس على تحقيق الاتصال فيما بينهم، وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم، كما تساعدهم على استيعاب أو تمثل تجارب الآخرين" من هذا التعريف تنبع مهمة الفنان، وهي أن "يوسع ويمدد مجاله في سبيل أن يعزز الاتصال، أن يساعد الناس على فهم بعضهم البعض على أرفع مستوى فكري وعاطفي وسيكولوجي وفلسفي". لكن ليكون مؤهلا لهذا المستوى من التواصل، يجب أن يدرك الفنان دوره كشخصية، وهنا يلعب الزمن دورا حاسما. فـ"الزمن شرط لوجود الأنا لدى الإنسان".
لا شك أن أحد المعضلات الأساسية التى تشغل المونتير أثناء عملهما هو الربط الزمنى بين المشاهد، وتهيئة ذاكرة المشاهد لتلقى تداخل الأزمنة بالوعى والاستيعاب اللازم وبالتأثير المطلوب، ولكن لم يكن كمال الشيخ أول ولا آخر مونتير ينتقل إلى عالم الإخراج فقد سبقه الكثيرون ومنهم نيازي مصطفى وصلاح أبو سيف كما لحقه آخرون كثيرون منهم إسماعيل مراد و خالد مرعى وسامح عبد العزيز، ولكن الانشغال الشديد بفكرة الزمن والذاكرة والسعى نحو التعبير عنهم ببلاغة إخراجية لم يكن بنفس قدرة كمال الشيخ، وربما يستلزم الأمر دراسة أخرى فى مجال علم نفس الإبداع للسبر فى أغوار كمال الشيخ، والتوصل إلى سر هذه العلاقة الحميمة التى كادت ألا تنفصل عنه فى غالبية أعماله.

أقرب للخيال البعيد تماما عن الواقع فى دولة من دول العالم الثالث فى أى مكان أو زمان














التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات