كيف تكررت الحبكة وتفرد الفيلم؟

أماني صالح 10 مايو 2022 كمال الشيخ الهارب من ظله

الكاتب : أماني صالح
ابتعد عن المشاهد الساخنة والأداء المفتعل إلى الضرورة الدرامية والانتصار للتشويق في فيلم ١٩٦٥: اقتباس لنص الورداني يحول الانتقام المتحضر إلى جدلية المحامي القاضي. تماسك في السرد للمحنك عبدالحي أديب .. حوار موسى صبري مزج القانون بالدراما ... كاميرا وحيد فريد وظفت الضوء والظلال للتعبير عن الحالة النفسية وديكور عباس حلمي يسطع في الوقت المناسب أداء محمود مرسي الهادئ الواعي تعبير عن مدرسة كمال الشيخ في التمثيل عقاب الخيانة حاضر .. والنهاية أخلاقية .. نابعة من المخرج وليس الجمهور


قراءة عن “الخائنة" في سينما كمال الشيخ
.. كيف تكررت الحبكة وتفرد الفيلم؟



قديما اعتقد الكاتب الفرنسي جورج بولتي (١٨٦٧-١٩٤٦) أن جميع القصص تندرج ضمن واحدة أو أكثر من ٣٦ حبكة شرحها، ومن القصص إلى الأفلام تبارى البعض في التصنيف باعتبار أن خلطة "بولتي" تعّرف الموضوع الذي تقوم عليه قصص هذه الأفلام، ومن ضمن الحبكات "الخيانة الزوجية" و"جرائم نتيجة الخيانة الزوجية"، وتختلف الأولى بالتركيز على فعل الخيانة نفسه، ووضع القصة أمام الجمهور ليتعاطف مع أحد أطرافها: مع المخدوع أو العاشق حسب مسار القصة .. بينما الحبكة الثانية تجعل من الخيانة محركًا للجريمة .. قد تكون الجريمة التخلص من الطرف الزائد في العلاقة أو الثأر من الخائنة (١)

الخيانة على طريقة الشيخ: الخروج من "الكليشيه"

في السينما المصرية تكرر موضوع الخيانة وتعددت الأفلام إلى درجة "الكليشيه " الذي يحفظه المشاهد: تتضمن مشاهد غرف النوم بكثير من الدلع من الزوجة الخائنة أو الشهوة من الزوج الخائن وأداءات تمثيلية زاعقة من الطرف المخدوع وفي أفلام المخرج الكبير كمال الشيخ (١٩١٩-٢٠٠٤) - موضوع هذا العدد - نلاحظ وجود حبكتي "الخيانة الزوجية" و"جرائم نتيجة الخيانة الزوجية" بشكل لا نظنه من قبيل المصادفة والأسباب كثيرة:
فهي – أولًا - حبكة مغرية يستخدمها الشيخ ببصمته المميزة التي تخرج عن "الكليشيه" فلا مشاهد ساخنة مبالغ فيها ولا أداء تمثيلي عالي النبرة .. وثانيًا: الشيخ مسئول عن قصص أفلامه وإن لم يظهر اسمه صراحة إلا نادرًا لكنه يعلن تدخله بالرأي في السيناريو مع ترك العيش لخبازه "أنا أعتبر أن كتابة السيناريو هي أشق مرحلة في الفيلم وأنا أشارك فيها مشاركة كاملة لأني في النهاية أريد أن أصل إلى المصداقية فهناك أسباب منطقية تؤدي إلى نتائج مقنعة والمناقشة بيني وبين كاتب السيناريو منذ بداية العمل حتى نهايته تصل بالفيلم إلى هذه المصداقية" (٢)
وثالثًا لأن الشيخ صاحب مبدأ أنه لا يخرج سوى ما يتحمس له٬ كل ما سبق يجعلنا نعتقد أن تكرار الحبكة المعتمدة على الخيانة أو الزوجة الخائنة - على وجه الخصوص - في كثير من أفلامه لا يخلو من قصد ..
والعبرة هنا ليست بالتكرار ولكن بتميز طريقة تقديم حبكة الخيانة الزوجية في أفلام كمال الشيخ، إذ تحمل المَشاهد من التلميح أكثر من التصريح ومن المحسوس أكثر من الملموس ودون تشابه الأفلام لتؤكد مهارة المخرج وتميز سينماه ولا نبالغ إن قلنا إن علامته الفنية المسجلة تتأكد في قدرته على استخراج الجديد من حبكة تقليدية واستخدام الخائنة سواء كانت بطلة في العمل أو دور مساعد بذكاء يجعلها أقرب للضرورة الدرامية ..

الخيانة وعلامات الاستفهام
كانت الخيانة جزءًا من سينما التشويق التي ميزت كمال الشيخ واختارها لوصف أسلوبه عوضًا عن الإثارة، يقول في حواره مع الناقد أحمد رأفت بهجت "مدلول إثارة أرفضه لأنني لا أريد إثارة غرائز المتفرج .. أنا أبسط من ذلك .. ومفهوم التشويق يعني بالنسبة لي شد انتباه المتفرج إلى الحدث المعروض أمامه من اللحظات الأولى حتى كلمة النهاية وموضوعاتي غالبا ما أضعها في شكل تساؤل أو بحث عن مجهول سواء بالنسبة للمتفرج أو البطل الذي يتعاطف معه المتفرج، وفي رأيي أن هذا هو الشكل الأمثل بالنسبة للسينما عموما حيث إن الإنسان يسعى دائما للكشف عن المجهول وربما كانت هذه الطاقة في الإنسان من الأسباب الرئيسة لتقدم الجنس البشري"(٣)
إذن يتحرك مخرجنا من منطقة التشويق الذي يجذب المشاهد ويثير غريزة حب الاستطلاع عنده ليتعرف على حكاية الفيلم، مغلفا سينماه بعلامات الاستفهام سواء طرحها المشاهد طوال الأحداث أو انشغل بها البطل وانشغلنا معه وبه .. لذا عندما تظهر وتتكرر حبكة الخيانة الزوجية تكون مليئة بالأسئلة مما يلائم نوع التشويق: قد نتساءل عن الأسباب التي دفعت الزوجة للخيانة وهل الزوج ضحية أم يشاركها المسئولية؟ تراقب عيوننا شكل الخيانة ويبدأ العقل في إصدار الأحكام (هل هي شروع في خيانة (كما في غروب وشروق) أم خيانة مزدوجة تصل لدرجة الانقلاب على الصديق والزج به للسجن والزواج من زوجته (اللص والكلاب)؟ هل لجأت الزوجة إلى الخيانة بطيش (غروب وشروق) أم بدافع من كرامة (الخائنة) أم لعل الخيانة مؤامرة من الكارهين للسعادة الزوجية والزوجة بريئة تستحق التعاطف والإنصاف (سيدة القصر)؟ وقد تكون الخيانة قبل الزواج (أثناء الخطوبة) وبسبب المرض النفسي مثل (بئر الحرمان).
تتطور القصص بالآثار المترتبة على الخيانة: فقد تكون الخائنة محركة لجريمة للتخلص من الزوج تدبرها الحسناء وتوقع فيها موظف التأمين العاشق (من أجل امرأة) أو تمثل خيانتها سببا لعقدة راسخة في حياة البطل (وثالثهم الشيطان) وحتى نصل لدرجة مختلفة من الخائنة التي تخون الوطن قبل الحبيب أو بعده (الصعود إلى الهاوية)
هذه التساؤلات تجعل المشاهد لا يكتفي بمراقبة الأحداث على الشاشة إنما يتورط بالتعاطف أو الاستنكار، تلازمه الأسئلة حتى كلمة النهاية تقوده لسؤال مهم عن مصير الخائنة وعقابها ..
نلاحظ أن الشيخ في أفلامه وإن يعرض لنا أسباب أو مبررات الخيانة بشكل يدعو للفهم (ليس التعاطف) يتمسك بالعقاب الدرامي للخائنة لدرجة القتل على يد عشيقها بعد تخلصه من إغرائها (من أجل امرأة) وإذا كانت البطلة مدفوعة إلى فعل الخيانة، يصر على التطهير باعترافها وندمها دون أن يمنحها النهاية السعيدة وإن اصطدم برغبة الجمهور وكانت بطلته محبوبتهم كسعاد حسني، يترك النهاية مفتوحة: فعلها في (غروب وشروق) فرغم اعتراف عصام (رشدي أباظة) بحبه لمديحة التي كادت تخون زوجها معه وتسببت في قتله عبر رجال والدها رئيس البوليس السياسي، ينتهي الفيلم بها وحيدة وسط دموعها وفي (بئر الحرمان) كان أمام مأزق أخلاقي فالبطلة وإن كانت مريضة لكنها كانت متعددة العلاقات هل يسامحها البطل بسعة أفق من الصعب تصديقها أم يرفضها تماما بحكم التقاليد الشرقية؟ تصرف الشيخ على طريقته: صور النهايتين وعرضهما على جمهور العرض الخاص، فلما لاحظ الانقسام اختار نهاية ثالثة باعترافها للبطل ورجوعها مع والديها - سبب معاناتها النفسية - والبطل يرقب المشهد ثم ينطلق في نفس الاتجاه تاركا الباب مواربا لعودته، وهو الحد الذي ربما اعتبره الشيخ يوازن بين قناعته ورغبة الجمهور (٤)
وعندما يحمل الفيلم عنوان (الخائنة) يصل الشيخ إلى سقف عقاب الخيانة وهو الموت ولكن هذه المرة بالانتحار وليس بالقتل على يد الزوج وبقدر ما انتقد النقاد هذه النهاية إلا أن الشيخ كان رده واضحًا:
"هذه النهاية ليست من صنع الجمهور البرجوازي كما يمكن أن تقول ولكنها من صنعي أنا أساسا لأني أؤمن بكل ما تمثله هذه النهاية إيمانا عميقا " (٥)
مما يؤكد أنه يتحرك من مبدأ أخلاقي يدين الخيانة مهما ظهرت على الشاشة، ولنفس المبدأ لا يهتم باستعراض الخيانة في مشاهد حسية قدر اهتمامه بالتحليل النفسي والاجتماعي بل والقانوني لفعل الخيانة كما في فيلمه (الخائنة) الذي سنتناوله بالتحليل في السطور القادمة، باعتباره حالة كاشفة عن حبكة الخيانة الزوجية في سينما كمال الشيخ.

بعد الليلة الأخيرة

عُرض فيلم الخائنة للمرة الأولي في ١٥ /١١ /١٩٦٥ وكان العمل التالي بعد فيلم الليلة الأخيرة (١٩٦٣) الذي حقق نجاحًا فنيًا كبيًرا تُوج بجوائز أحسن مخرج وممثلة (فاتن حمامة) وممثل (محمود مرسي)
ومثل مصر في مهرجان كان، أحبه مخرجه والجمهور وكان بحق نموذجًا مثاليًا لسينما كمال الشيخ وعنوانها التشويق والغموض، والخائنة يبدو خطوة تالية منطقية بعد الليلة الأخيرة فالفيلمان يستندان على علاقات زوجية غير عادية تحتوي على سر أو لغز وشخصية البطلة في الفيلمين، تعاني أزمة نفسية مما يجعل للطبيب النفسي دورًا في الأحداث، والأهم أن طريقة السرد المختلفة تصنع كل الفرق في جودة وتميز الفيلمين ولا ننسى أن الفيلمين قدما للسينما المصرية بطلًا مختلفًا عن مقاييس "الجان" التقليدية وممثلًا جبارًا يجبرك على تجاوز لون العينين الزرقاوين إلى عمق النظرات ودقة التعبيرات وهو محمود مرسي، والذي عبر عن مدرسة كمال الشيخ في التمثيل حيث الانفعالات الداخلية أهم من الصراخ والنحيب.

الخائنة.. القصة والفيلم

استغرق الإعداد للخائنة وقتًا طويلًا ليكون عودة قوية، وكانت البداية بقصة قرأها كمال الشيخ للصحفي والكاتب إبراهيم الورداني وموضوعها الخيانة الزوجية.
والحقيقة أنه لا توجد معلومات مفصلة عن قصة "الخائنة" حتى وجدنا حديثًا لكمال الشيخ يضع الفيلم ضمن أفلامه المقتبسة عن أصل أدبي .. مما قادنا للبحث عن قصص إبراهيم الورداني الذي تراوحت مشاركاته في السينما بين القصة والسيناريو والحوار وكان من الصعب التوصل لعنوان القصة الأصلية، الذي عادةً يتم تغييره لأسباب سينمائية، فالحقيقة العارية للمخرج عاطف سالم تقوم على قصة للكاتب نفسه اسمها القفص .. وبشيء من التوفيق وصلنا لمجموعة "المؤلف والنساء" ضمن سلسلة الكتاب الماسي وتاريخ إيداع النسخة التي عثرنا عليها بدار الكتب يعود لسنة ١٩٦٦ بينما النشر يعود لتاريخ أسبق (غير معروف) والقصة الأولى من ١٨ قصة عنوانها "الخيانة "ونظن أنها القصة المأخوذ عنها الفيلم وشهدت كثيرًا من التغيير بواسطة المخرج وكاتب السيناريو ... طور الفيلم فكرة القصة النابعة من تساؤل "أنت ماذا تفعل؟" يطرحه صديق مسكون بوساوس خيانة زوجته على رسام شاهد – بالفعل - زوجته تخونه فأصدر عليها حكم الإعدام ينفذه في الخائنة والعشيق بعد ضبطهما متلبسين، ثم يمر أمامه شريط حياته معها وقصة الحب حتى فعل الخيانة .. تطارد مسامعه كلمة الشرف كزوج شرقي مخدوع قبل أن يقرر التخلص من الخائنة بالطلاق "ثأر! انتقام! شرف! ألا يكون هذا وهمًا وجهلًا! بلى! وهم وجهل، وإلا فمن أكون الآن في وقفتي؟ من أكون أكثر من وحش في غابة؟ لماذا لا أقتلها بما يلائم عصري؟ نعم يكفي أن أطلقها فأنجو"
ولما يهدأ لقراره "المتعقل" يأتي عقاب القدر بوقوع الخائنة من الدور الخامس "نزلت عظمًا ولحمًا ودمًا وبقية من حياة! هذا هو القدر! هذا هو القدر! إنه صاحب الشأن، إنه المتصرف، إنها أملاكه وأحواله ولا عجب .. جمعت عزالي هادئا .. وخرجت أتنفس الهواء الطلق من جديد!" (٦)
تنتصر القصة للانتقام "المتحضر" بعيدا عن الدم الحامي المعتاد لكنها في الوقت نفسه ترى أن الموت هو العقاب المستحق للخيانة .. أما الفيلم فأخذ جوهر الفكرة: التساؤل عن رد الفعل تجاه الخيانة والعقاب بيد القدر، صانعاً منها حياة أخرى مليئة بالتفاصيل على الشاشة .. الرسام أصبح محاميا، والسؤال أصبح دراما كاملة مبنية على المادة ٢٣٧ من قانون العقوبات التي تخفف العقوبة من جناية إلى جنحة على الزوج عندما يفاجئ زوجته في حالة تلبس بالخيانة ويرتكب جريمته في الحال ويسائل الفيلم المادة القانونية بشروطها ونفسيات أطرافها فبطلنا أحمد سلام (محمود مرسي) محام ناجح يطالب بالحق المدني (التعويض) لزوجة علية شكري (ليلى طاهر) ضبطها الزوج وعشيقها وأطلق عليهما الرصاص ليموت العشيق وتنجو الزوجة وتزعم أن الجريمة كلها من بنات أفكار الزوج السكير .. يصدقها المحامي الذي لا يقبل قضاياه إلا عن اقتناع (أنا مش محامي أتعاب) قبل أن يفقد قناعته عندما يكتشف أن زوجته إلهام (نادية لطفي) تخونه ويتعاطف مع الزوج الجاني ويفكر كيف يتصرف وهو رجل القانون في الموقفين: القضية التي اقترب من كسبها وحياته الزوجية التي طالها الخطر.
قصة محبوكة في أحداثها بسيناريو للمحنك عبد الحي أديب واستعان بموسى صبري، وهو كاتب صحفي دارس للقانون ليكتب له الحوار الذي ضم إشارات ذكية من روح القصة القصيرة وتفسيرات قانونية تزيد أزمة الزوج تعقيدا ..

الطريق إلى التفرد

يقوم فيلمنا إذن على حبكتي (الخيانة الزوجية) و(الجريمة بسبب الخيانة الزوجية)، الأولى في حالة البطل المحامي وزوجته، والثانية في حالة القضية التي يترافع عنها ولكن الفيلم مهتم بقصة البطل أكثر من القصة الفرعية حتى تتداخل القصتان قبيل النهاية بتوحد البطل المغدور مع الزوج الجاني .. كيف صور الفيلم هذه الحبكة المزدوجة؟ وكيف تميز إلى حد يقترب من التفرد ويخرج من الكليشيهات؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال في عدة نقاط نبدأها بمقولة كمال الشيخ عن الخائنة:
"أي قصة يمكن أن تروى بأكثر من طريقة وأنا أفضل دائما أن تروى عندي بغموض ورغم أن الفيلم يتناول قضية عامة هي الأخطار التي قد تتعرض لها الأسرة إذا كان الزوج يعطي وقته كله لعمله إلا أنني أرويها بنفس طريقتي في الغموض" (٧)

١- مقدمة جاذبة كاشفة

يشد الشيخ المتفرجين إلى مقاعدهم مبكًرا بدءًا من المقدمة التي صممها مهيب بفطنة بتجميع عدد من لقطات الفيلم لتُلّمح وتشرح إطار القصة (رنات تليفون متتالية .. نظرات زائغة من نادية لطفي (الزوجة) التي يصفها الفيلم في عنوانه بالخائنة ولكنها ليست كذلك على طول المقدمة .. نراها أيضا معتزة بنفسها ثم مبتسمة ثم ملولة فمعجبة بجسدها الأنثوي أمام المرآة .. أصابع مترددة على جرس الباب .. وعيون حائرة تصادق الأرق .. رحلة صيد .. مسدس يخرج من مكمنه .. شريط سينمائي يدور كالفيلم الذي نوشك على مشاهدته، وتنتهي المقدمة بأسوار تخرج منها خائنة أخرى "ليلى طاهر" (صاحبة القضية)
تركز المقدمة على عناصر ستلعب دورا هاما في الأحداث: التليفون أداة الإغواء إلي الخيانة حيث الشريك الذي لا نعرف سوى صوته - آلة العرض السينمائي التي ستكون بمثابة التوثيق للخيانة لتي يكتشفها الزوج بالمصادفة خلال الفيلم الذي صورته الزوجة - رحلة الصيد (مكان اكتشاف الخيانة) - المسدس (رد الفعل المبدئي للزوج)
يحدث كل هذا التشويق ونحن بعد في المقدمة .. إلى هذا الحد كان فيلمنا محكمًا وغنيًا بالتفاصيل ..








٢- رسم الشخصيات

يجيد كمال الشيخ التعريف بشخصياته فعندما يقدم لنا البطل للمرة الأولى في المحكمة نلاحظ مشيته الواثقة وفي مرافعته يؤكد موقفه المبدئي من قتل الزوج للزوجة الخائنة (القانون لم يقل أبدًا لأمثال هذا الزوج المريض .. اقتلوا.. أطلقوا الرصاص .. كونوا سفاحين في مجتمع متحضر إذا أصابتكم نوبة من الشك) ونعرف من الجمهور الحاضر للجلسة "ما خسرش قضية في حياته .. والمستشارين بيحترموه ما ياخدش قضية إلا إذا كان واثق منها"، كل هذا يرسم شخصية البطل الجادة، ومن البداية تبدو لنا العلاقة بين الزوجين حميمة، ولكن متوترة فمن خلال مكالمة تليفون تؤكد أن العمل هو أول أولويات البطل "أنت دايما تحرجني كده يا أحمد" وينوه الناقد يوسف شريف رزق الله (٨) بذكاء المخرج في تقديم الشخصيات الأخرى من خلال الفيلم الذي صورته الزوجة وتعليق الزوجين عليه فعرفنا العلاقة بين الدكتور عادل (عادل أدهم) وزوجته واكتئاب زميله المحامي شاكر الدمنهوري (عمر الحريري) وغيرة الزوج من ابن الخالة يوسف (يوسف شعبان) فضلا عن علاقة الاحترام التي تربطه بأستاذه المستشار فخري (حسين رياض) بقليل من الحوار وكثير من الفعل الدرامي تشكلت الأحداث وتتابعت ..







٣- الديكور المناسب في الوقت المناسب

يرسم لنا ديكور عباس حلمي الطبقة الوسطى الميسورة التي ينتمى لها الزوجان من خلال الشقة ذات الدورين التي تطل على النيل ويتضح لنا من الحوار أن الزوج مكافح وطموح وأن الزوجة ربما من أسرة غنية .. وجود غرفتي نوم أشار إلى ثقافة هذه الطبقة وساهم في توضيح المسافة بين الزوجين وحتى عندما تجمعهما غرفة واحدة كانت عناصر الديكور جزءا مهما في التعبير عن العلاقة .. فكان مثلا ظهر السرير كأنه سور أو حاجز بين البطلين بعد الخيانة ..
وتأتي دقة كمال الشيخ من تركيزه على التفاصيل الصحيحة في الوقت المناسب فمثلا بندقية الصيد مكانها بجوار شاشة العرض السينمائي داخل غرفة المكتب من بداية الفيلم وكذلك تمثال الثور الهائج بجوار مقاعد المشاهدة لكنها تُظهر نفسها للمشاهد بشكل واضح وكأنها تعلق على الأحداث أو تعبر عن مشاعر البطل بعد اكتشافه الخيانة وتفكيره في القتل.






٤- تماسك السرد

في سيناريو الفيلم الذي استغرقت كتابته ١٨ شهرا يبدو التماسك في السرد .. بعد تقديم الشخصيات يركز على أزمة البطلة، شعورها بالوحدة في ظل انشغال الزوج الذي لا يبدو في أزمة باستثناء ما يخص قضاياه، وبالذات قضية الخائنة .. والتماسك في السرد لا يكون بالكتابة أو الحوار فقط بل حتى بحركة الكاميرا للخبير وحيد فريد مدير التصوير .. لا تقدم لنا الكاميرا لقطات زائدة .. كل لقطة تخدم البناء السردي فمثلا تظهر الزوجة دائما في فعاليات محاطة بالرجال، تظهر لنا الكاميرا وجوهًا لا نتبينها غير الشخصيات التي نعرفها لتضعها في دائرة الشك عند فعل الخيانة، بينما يشك المشاهد كالبطل نحو الشخصيات الأساسية كشريك محتمل للخيانة، الكاميرا أن الخائن - صاحب الصوت في التليفون - هو أي شخص من المحيطين للزوجين، يعرفهما جيدا لدرجة انتهاز الفرصة لتغذية هواجس الزوجة والإيقاع بينهما وإقناعها بخيانته المزعومة مع موكلته.

٥- موسيقى التشويق

من المعروف عن كمال الشيخ ذائقته الموسيقية وكثيرا ما يختار بنفسه الموسيقى التصويرية لأفلامه من الموسيقى الأجنبية خصوصا الأمريكية التي يراها الأنسب للتشويق والغموض وهو ما حدث في الخائنة ونفذه الشيخ بنجاح رغم انتقادات البعض بأن الفيلم يستحق موسيقى خاصة به لكن اختياراته كانت في موقعها خصوصًا في إثارة التوتر الدرامي عندما ذهبت الزوجة لشقة صاحب التليفون وتباينت الموسيقى في المرتين فمن الحدة إلى النعومة بعد تراجع الزوجة تعطي للمشاهدين أملًا تأخذه منهم الصورة التي أظهرت نزولها على السلم الحلزوني الموحي بحالة الحيرة قبل السقوط، بينما في المرة الثانية عندما تحدث الخيانة، تمهد الموسيقى للحدث بصوت أكثر صخبا أما مشهد الخيانة نفسه فلا نراه يكتفي الشيخ بمجاز تكسير لأمواج على الصخور كتعبير عن الفعل الجنسي (الخيانة) وفي الوقت نفسه يستخدمه للانتقال إلى رحلة البطل مع موكلته للإسكندرية وكأن الاستخدام المونتاجي يجدد من المجاز الشائع ..

٦-التوازن بين البطلين

يبدو "الخائنة" فيلما متوازنا بشكل يدعو للإعجاب، فصحيح أن أزمة البطلة كانت المحرك للخيانة ولكن بعد حدوثها، تدخل في الاعتبار أزمة البطل تبدأ بشعوره بابتعاد الزوجة ثم الشك وحتى اكتشاف الخيانة ولا نفقد الاهتمام بالبطلة التي تحولت من أزمة الوحدة والهواجس نحو الزوج إلى تأنيب الضمير بسبب خيانتها ..
وفي إطار التوازن لدينا رحلتان حاسمتان: رحلة الإسكندرية للبطل مع موكلته التي تغير من صورة البطل على الشاشة ٬كنا نراه دومًا بإضاءة خاصة وهو يمارس عمله بالمحاماة ٬أيا كان المكان كانت الإضاءة توحي بأنه "يعمل في النور" بعد الرحلة يأتي مشهد الظلام وتتزايد الظلال على صورته مع مشاعر الشك التي تنتابه نحو موكلته والأهم زوجته ..
والرحلة الثانية بعدها مباشرة رحلة الصيد للفيوم حيث الزوجة تخرج من سلطة الزوج وهو يحاول استعادتها قبل اكتشاف الخيانة ..
يستمر التوازن حتى في استخدام زاوية الكاميرا الذاتية يستخدمها المخرج للمرة الأولى ليعبر عن مشاعر بطلته التي تذهب إلى المحكمة لترى بنفسها العلاقة بين الزوج والموكلة وكنا من قبل أمام كاميرا موضوعية تتفرج مثلنا على الأحداث قبل أن تتحرك الكاميرا دون هدى ثم تستقر وتقترب من علية (ليلي طاهر) ب"كلوز أب" يضعها تحت مجهر الزوجة لتحسم أمر الخيانة بالنفي.

وبتوازن وربما عدالة تظهر الزاوية الذاتية من جديد هذه المرة بعد اكتشاف الزوج للخيانة وإقامته لحفل بمنزل، هنا نرى الأمور بعينه هو التي تبحث عن الزوجة وتظل ترصدها في تحركاتها بين المودعين وتركز عليهم بلقطة متوسطة تظهر الكثير.

ويمتد التوازن كما يشير كمال رمزي إلى الاهتمام بالشخصيات الثانوية مثل البطلين وتأثيرها في الأحداث (٩) ويكفي أن نشير أن السبب في كشف الخيانة طفل رحلة الصيد الذي ظهر في مشهدين فقط في الفيلم ليحقق جملة حوارية عابرة قالها شخصية ثانوية أخرى (الخواجة ماركو): "حتى البيبي يعرف يصور فيلم!"

٧-التوفيق في خلق "الجو"

اعتبر الشيخ الخائنة من أفضل أفلامه في مرحلة الستينات "أعتقد أنني وفقت في خلق الجو العام إلى حد بعيد" (١٠)
"خلق الجو" يعتبر تعبيرًا موجزًا عن عملية كبيرة استغرقت شهورًا وكان نتيجتها ١١٢ دقيقة هي زمن الفيلم فمثلا استغرقت معاينة أماكن التصوير شهرين ورغم أن التصوير أغلبه في أماكن مغلقة لكنه أجاد اختيار مكانه المفتوح "الفيوم" وبالتعاون مع مدير تصوير قدير مثل وحيد فريد استغل حالة الضباب لإظهار حيرة الزوج وشكوكه وكان تشابك الأشجار حول بحيرة قارون مكانًا ممتازًا للتعبير عن تعقد الحياة الزوجية أولًا ثم لفعل الخيانة المصور ...
ثم إن كاميرا وحيد فريد التي قدمت الزوجة بكثير من الإظلام وقليل من الضوء عقب فعل الخيانة، لم تخص الزوج بالضوء ففي رأي الفيلم هو مسئول عما وصلت إليه الزوجة وعندما شاهد الزوج الفيلم - دليل الخيانة - رأينا الظلال تتركز على مقدمة رأسه لتظهر وجهه مظلما من فوق العينين دليل على الأفكار السوداء التي اجتاحت عقله، ويلجأ الشيخ لموسيقى متوترة تتفاعل مع صوت حركة دوران الشريط السينمائي لتعبر عن ازدحام هذه الأفكار"السوداء" والمشاعر "المظلمة" لدى البطل ..
أما فيما يخص الزوجة فقدم لنا الفيلم الخلفية النفسية المفقودة إما بالإيحاء عبر مشاهد الوحدة على سريرها أو نظرتها للمرآة المقسومة أو بعبارات موجزة وكاشفة على لسان الطبيب النفسي عن عقدة الإهمال أو البحث عن الكرامة المهدرة ليقدم الفيلم التحليل النفسي لزوجة خائنة محبة وليست خائنة بالفطرة أو تتحين الفرصة على طريقة الكليشيه.

أعتقد أن ما بناه السيناريو وأوضحته الصورة وحافظ على إيقاعه مونتاج سعيد الشيخ هو المقصود بالجو الذي نجح كمال الشيخ في خلقه في "الخائنة" بدءًا من حالة الشك حتى وقوع الخيانة وبيان الفرق بين مشاعر الزوج والزوجة.

٨ - اللعب مع الُمشاهد

إذا كان الشيخ هو رائد سينما التشويق فهو يخوض لعبة مع مشاهده في سينما علامات الاستفهام التي يجيدها فقد قطعنا شوطًا في طريق "خانت ليه؟" ربما لم يصل بنا لدرجة الإقناع بالتعاطف مع البطلة في ظل أخلاقيات وثقافة تستنكر الخيانة خصوصًا من الزوجة لكن الفيلم يستميل المشاهد بجعله سابقا للزوج بخطوة، يعرف الخيانة قبله لكنه مثله مثل الزوج لا يعرف "مع مين" ..
يرسم الفيلم الشكوك تجاه شخصيتين رئيسيتين الصديق المحامي (عمر الحريري) وابن الخالة (يوسف شعبان) مستغلا ما يبدو من لا مبالاة الأول نحو المبادىء عموما (عبثية بيكيت) وتقرب الثاني من الزوجة خصوصا ..
تتصاعد اللعبة بزيارة المستشار فخري (حسين رياض) حاملا خبرا للزوج "الخبر اللي حقولهولك دلوقتي يمكن يكون أخطر خبر في حياتك" وهذه اللحظة التي تأتي بعد اكتشاف الزوج للخيانة حاسمة في لعبة التوقعات التي يغري بها الفيلم المشاهد .. فالآن تتوحد الخيانتان: خيانة علية شكري (القضية) وخيانة إلهام (الزوجة) وبينما يتكلم البطل عن الخائنة القضية، وحده المشاهد يعرف أنه يقصد قضيته هو، ومع التحول الكبير في شخصية البطل من محام يحكمه المنطق إلى مجرد زوج يحركه الغضب٬ تدور مناظرة تضع مادة ٢٣٧ فوق ميزان العدالة يكون فيها الزوج هو المدعي" القانون غلط ..الزوجة الخاينة تستحق القتل لأنها جرثومة .. أكبر فساد يهدد المجتمع" والمستشار هو المحامي عن سلطة القانون كبديل عن شريعة الغاب .. وهنا المشاهد يجد نفسه الحَكم .. هل يوافق على منطق المستشار أم يشارك البطل الرأي؟
لا حياد في المشاهدة لأنه حتى المخرج يمرر رأيه بينما يستمر اللعب على التزاوج بين القضيتين، فعندما يمثل الزوج ضبط النفس في محاولة لحل لغز الخيانة تقدم لنا الكاميرا وجهة نظر تفسيرية للمخرج تظهر الزوج في كادر مائل من زاوية سفلية قبل أن يعتدل في لقطة متوسطة وكأن المخرج يقول لنا: هذا الوضع بأكمله ليس بصحيح وأن الزوج غاضبا أو كاتما للغضب هو بضخامته بمثابة وحش يستعد للإطلاق وليس بصدفة اقتحامه لغرفة نوم الزوجة وكأنه الكابوس يطاردها.
لا يستسهل الشيخ في التوحد المبكر بين بطلنا والزوج الجاني في القضية فيبدأ بشرود البطل وسيطرة محامي الزوج على الكادر بمرافعته اليائسة والمتعاطفة قبل أن تتحول الكاميرا من الزوج الحبيس إلى المحامي الطليق وتدريجيا نرى الجريمة تتمثل في مخيلته وهو فاعلها ..
مشهد مقتصد ومتدرج ليجدد فيه كمال الشيخ من كليشيه التوحد مع الجاني الذي رأيناه من قبل في أفلام أخرى


٩- ممثلون متفوقون في مدرسة الشيخ:
عنصر التمثيل من عناصر التميز في هذا الفيلم ٬يقول كمال الشيخ " النجم والنجمة ليسا مجرد أشخاص يؤدون حوارا ولكنهما مبدعان يضيفان للحوار الأحاسيس والانفعالات مما يجعل الأداء صادقا وفي هذا المجال لا أنكر أنني انبهرت بأداء الممثلين في أفلامي"(١١)
وعندما اختار محمود مرسي في أول أدواره كبطل ٬أدرك مرسي التحدي في الدور "أنا شايف أنه دور مقنع .. فهو بيحصل كل يوم .. ياما فيه أزواج طموحين بيشغلهم عملهم عن حياتهم في البيت وتترتب على كده مآسي كتير والمفروض أننا قدام مأساة من النوع ده" (١٢)
فشخصيته جادة لكنها ليست متجهمة .. محبة لكنها طموحة .. عصرية لكن بها صفات الرجل الشرقي من غيرة وسيطرة وربما أنانية .. أمسك مرسي بتفاصيل الشخصية وخرج من الأداء العصبي للزوج المخدوع لنبرة هادئة من الخارج تخفي غليانا بالداخل .. لأنه يؤدي دورًا لمحام، حافظ مرسي على مخارج الألفاظ ٬ التريث في العبارات مع تنوع نبرات ودرجات الصوت مع تلوينه بالتعبير في كل الأحوال وكانت نظرات مرسي شديدة التأثير تحمل الحب والغضب .. تنكسر بسبب جرح الخيانة وتتقد بالتحدي لكشف الشريك ..
انبهر النقاد بأداء مرسي حتى اعتبره سمير فريد هدية إلى السينما العربية "قدم درسا عمليا في التمثيل وفي الأداء وفي الإلقاء وفي التعبير والإشارة .. بل وفي كل حركة وإيماءة صدرت عنه طوال العرض فالأسلوب الذي يؤدي به محمود مرسي جديد تماما على التمثيل السينمائي العربي، تخيل أى ممثل آخر ولو من ممثلينا الكبار يمثل دور زوج يكتشف خيانة زوجته ستراه ينفعل ويرغي و يزبد وربما سالت دموعه أنهارا وتشنج وجهه .. هذه الانفعالات الجياشة في الأداء وتلك الميلودراما القائمة في الإلقاء اختفت عندما قام بهذا الدور محمود مرسي " (١٣)

والحقيقة أنه بجانب موهبة مرسي وفهمه للشخصية فالمخرج نفسه كمال الشيخ يرفض الأداء المسرحي في التمثيل ويعتمد البساطة والصدق مُركزًا على ردود الفعل الصامتة ومتجنبًا الصراخ لدرجة وصف شخصياته دوما بالعاقلة، لذلك كان اللقاء بينهما ناجحا وقال عنه الشيخ "فنان عظيم دون شك وهو نجم بكل ما تعنيه هذه الكلمة وأضعه على قمة الأداء الدرامي في مصر والوطن العربي كله " (١٤)
أما نادية لطفي (الخائنة البطلة) فقدمت أداءً مميزًا مليئًا بالانفعالات تعبر عنها في صمت وعدم راحة في جلستها الوحيدة في الظلام في الغربة بنجاح لا يقل عن تعبيرات وجهها أثناء الاعتراف للطبيب النفسي، لأن شخصيتها لم تكن نمطية فالخيانة هنا ليست عن حب للشريك وكراهية للزوج بل هي العكس تماما لذلك رسمت الحدود بين شخصيتها والخائنة الثانوية (علية شكري) لدينا نفس الكبرياء، ولكن عيون إلهام كانت تحمل دوما الحب للزوج حتى بعد الخيانة بعكس قسوة نظرات (علية شكري ) ليلى طاهر فهي لا تتسم ببراءة الوجه التي تثير التعاطف ولا بالفتنة الزائدة التي تثير الريبة بل مفتاح الأداء كان كبرياء الأنثى الذي يحتمل أن تكون خائنة كما يراها الكثيرون أو فاضلة كما ظن بها المحامي أول الأمر.

١٠-النهاية بين الجدلية والتعبير

تكتسب النهاية أهمية مضاعفة فهى أولًا تراوغ المشاهد بعدم الإجابة عن السؤال المهم "من هو شريك الخيانة؟" عندما يرن جرس التليفون من جديد عقب انتحار البطلة ليرفع الزوج السماعة ويظهر صوت الخائن وندرك معه أن الصديقين اللذين كاد أن يقتلهما لا علاقة لهما بالخيانة ..
ويعطي تكوين الصورة (بعيدا عن التمثيل المتمكن) قوة إيحاء هائلة نرى الجريدة وعليها عنوان "الحكم في قضية علية شكري، وصورة الزوج الحبيس غير واضحة وظل سماعة التليفون ينعكس على اسم علية شكري فيكاد أن يحجبه، وبذلك يكون صوت التليفون هو بالفعل الحكم في قضية البطل!


وفي المشهد الختامي يلجأ بطلنا وقد خسر زوجته ولم يهدأ شكه إلى النافذة، يستغل الشيخ انقسام النافذة إلى "درفتين" ليستخدمها كإطارين .. إطار يوضح ماذا يحدث في بقية القصة (موت الزوجة .. فشل الطبيب .. حسرة الصديقين) بينما "الدرفة" الثانية يملأها الزوج بنظرات الانكسار والألم قبل أن تحتل كلمة النهاية الدرفة الأولى وبجوارها الزوج وحيدا نادما.
نتحدث هنا عن النهاية بالصورة الفنية ومع الاتفاق على جودة الفيلم لجمع الشيخ بين المزيجين المتناقضين: الحس الفني والتجاري والمحلية مع الانفتاح على العالم " (١٥) لكن النهاية من الناحية الدرامية كانت مثارًا لاعتراض النقاد، مثلًا كتب أحدهم يسخر من استخدام المشهد المحفوظ في السينما بمونولوج تلقيه الزوجة تعترف بالخيانة وتطلب السماح قبل أن تلفظ أنفاسها (١٦) ووصف الفيلم سمير فريد بالصنعة المحكمة مع رفض الواقع "الشكل مجرد حبكة والموضوع مشكلة ساذجة وما يدعم ذلك أن الحل جاء مثل كل الحلول المثالية عن طريق إلغاء المشكلة ذاتها "(١٧) واعتبره ناقد آخر "عودة للمعادلة التقليدية التي تقول بضرورة الجزاء للمخطئ" (١٨) ويعلق الشيخ: "نهاية هذا الفيلم توضح أن جمهور الفيلم العربي يريد أن يخرج من الفيلم وكل تساؤل مردود عليه، ولكن ظل هناك تساؤل تعمدنا أن نتركه دون توضيح حتى يعمق فكرة الفيلم، فقد كانت هناك شخصية لم تظهر طوال الفيلم ،إنما كان يسمع صوتها من خلال تليفون والجمهور كان يريد أن يعرف من هو هذا الشخص من خلال شخصيات الفيلم، والذي يدور صراعه حول قضية الخيانة ليس مع شخص معين وإنما مع أي رجل ولو كنا أشرنا أو بيّنا هذه الشخصية لانقلب الفيلم للبحث عن المجرم ولأصبح فيلما بوليسيا "(١٩)
وأعتقد أن الشيخ استخدم هذه النهاية للسبب الفني ليحافظ على فيلمه كدراما اجتماعية وليست بوليسية، ويدفع مشاهده للتفكير في أسباب الخيانة (النفسية والاجتماعية) أكثر من الفاعل، وهناك أيضا السبب الأخلاقي الذي أشرنا إليه من قبل عندما أكد إيمانه بالنهاية، خرج الشيخ عن الكليشيه بقتل الزوج للخائنة متفقا مع روح قصة الورداني لكنه حول كلمة "القدر" إلى قرار الزوجة محققا التطهير مثل التراجيديا اليونانية وهو أمر يتفق في رأيي مع توجه الفيلم بعدم تشجيع الخيانة ومع شخصية البطلة القائمة على الندية والمساواة.
وأخيرا نؤكد أن فيلم الخائنة عمل متميز في وقته وحتى بعد مرور أكثر من ٥٠ سنة على إنتاجه، عبر عن أفكار عصره من التحرر والمساواة بين الجنسين وانفتاح الذهن ووضعها في اختبار صعب وهو الخيانة
كما طرح أفكارًا فلسفية كالعبثية والوجودية وغيرها من التيارات التي ميزت حقبة الستينيات وأكدت ثقافة جيل لتحتفظ بها السينما طازجة قابلة لإثارة النقاش والجدل حتى الآن وكذلك تعبر عن أفكار مخرج كان يقرأ كثيرا ويتكلم قليلا .. يختار التشويق أسلوبا وشكلا ويبدع في كل الأنواع وإن وقع أحيانا في أسر الكليشيهات لديه رصيد أكبر من التجديد مع الإتقان.


المراجع والهوامش:

١- هدى جعفر - مقال "إحكي يا سبيلبرغ": حبكات الدراما الـ ٣٦ والسينما - ترجمة وإعداد - موقع عين على السينما برئاسة تحرير أمير العمري - منشور بتاريخ الخميس ١٧ مارس ٢٠١٦
٢- أميرة الجوهري - حوار مع المخرج - ضمن نشرة تكريمه في المهرجان القومي للسينما -ملف كمال الشيخ - مركز الثقافة السينمائية
٣- أحمد رأفت بهجت - حوار مع كمال الشيخ حول رحلة ٤٠ سنة سينما - مجلة الفنون العدد الأول ١٠-١٠-١٩٧٩
٤- محمد عبد الله - حوار مع المخرج في نشرة نادي السينما - السنة الثامنة - بتاريخ ٣٠-٧-١٩٧٥
٥- سمير فريد - حوار مع كمال الشيخ - نموذج من جيل العصاميين - نشرة أخبار تصدر عن مركز التنسيق العربي للسينما والتليفزيون بيروت لبنان - العدد ١٠٦/١٠٧-١٠ نوفمبر ١٩٧١
٦- إبراهيم الورداني - قصة الخيانة مجموعة المؤلف والنساء - الكتاب الماسي.
٧- عبد النور خليل - حوار مع كمال الشيخ ضمن باب وراء الكاميرا - أرشيف فيلم (الخائنة) بالمركز الكاثوليكي
٨ - من تقرير الناقد يوسف شريف رزق الله عن الفيلم للمركز الكاثوليكي
٩- كمال رمزي - لا ينتمي لأحد بقدر ما ينتمي لنفسه - مجلة مسار كانون الثاني ٢٠٠٤
١٠- سمير فريد - حوار مع كمال الشيخ - مرجع سابق
١١- محمد الدسوقي - مخرج الإثارة والغموض والتشويق (٣) حوار مع المخرج - مجلة فن ١١-١٢-١٩٩٥
١٢-عبد النور خليل - حوار مع محمود مرسي ضمن باب وراء الكاميرا - أرشيف فيلم (الخائنة) بالمركز الكاثوليكي
١٣- سمير فريد - مقال عن فيلم الخائنة تحت عنوان "موهبة عظيمة" -أرشيف الفيلم بالمركز الكاثوليكي
١٤- أحمد شوقي - الخائنة نموذجا، لالتقاء المتناقضات في سينما كمال الشيخ - مجلة أبيض وأسود - عدد رقم ٣٥ -نوفمبر ٢٠١٤
١٥- مونولوج الوفاة تقليد قديم في أفلامنا الجديدة - ملف فيلم الخائنة - المركز الكاثوليكي
١٦- سمير فريد - سينما ٦٥
١٧- مقال الخائنة - الكاتب غير معروف - أرشيف الفيلم بالمركز الكاثوليكي
١٨- محمد عبد الله - حوار مع المخرج في نشرة نادي السينما - مرجع سابق
١٩- كمال رمزي - كمال الشيخ نصف قرن من الإبداع - صندوق التنمية الثقافية (كتاب تكريمي ضمن المهرجان القومي للسينما المصرية)
٢٠-جوزيف ٠م . بوجز- فن الفرجة على الأفلام ترجمة وداد عبد الله - الكتاب السينمائي - الهيئة العامة للكتاب -١٩٩٥
٢١- محمود عبد الشكور- كيف تشاهد فيلما سينمائيا - نهضة مصر - ٢٠١٨













التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات