الكاتب : عادل موسي
معركة قادش.. في مملكة السينما
(اجعلوه يبدوا ملكًا كي أشاهد جماله وأنا ما زلت حيًا)
كانت هذه الكلمات الصادرة من الملك سيتى الأول والد رمسيس الثاني بمثابة أمر لرجاله كي يتم وضع التيجان على جبهة ولده رمسيس وهو ما حدث ليصبح رمسيس ملكاً شرفياً أثناء حياة والده، واستتبع ذلك بالطبع تزويجه وإتاحة المجال ليكون له بيت خاص ومحظيات يقيمون فيه كانت أولى زوجات رمسيس هي (نفرتاري) تلك الجميلة الذكية صاحبة الشخصية القوية التي ملكت قلب رمسيس حتى إنه أطلق عليها اسم (أجمل جميلات القصر)، وأصبح لرمسيس العديد من الأبناء من زوجاته العديدات ليزهو بهم ويسعد قلب الجد الفرعون سيتى الأول، حتى إن رمسيس عندما كان يقود حملات لتأديب بعض المعارضين والخارجين فى أنحاء البلد، كان يصطحب أبناءه الذين لم يبلغ عمر أكبرهم سوى الخمس سنوات، كما عرفنا من النصوص الجدارية التي نقشت على معابده.
معركة قادش والتي سنتعرض لتفاصيلها لاحقاً، قد سُجلت بثماني روايات منفصلة، وبعدة مواقع، فنجدها في معابد الكرنك والرامسيوم والأقصر وأبيدوس، كما سُجلت رواية موجزة بمعبد أبو سمبل، وفي معبد الأقصر الذي تم تشييده في عهد ملوك الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، قام رمسيس الثاني بإضافة الفناء المفتوح والصرح والمسلتين، ونجد على المسلة تصويرا لانتصاراته الحربية وتأديبه لأعدائه، وكانت صور معركة قادش على سطح البرج الذي يرتفع إلى 24 مترا (79 قدماً)، وكذلك فى الجناح الغربي والشرقي، أما معبد الرمسيوم الذي يعد تحفة معمارية فقد نقش بالنص والصورة على واجهته الداخلية تفاصيل معركة قادش، كذلك نجد فى المعابد الأخرى التي وثقت لهذه المعركة.
فن التصوير الجداري
يعتبر هذا الفن واحدا من فروع الفن التشكيلى وأقدمها على الإطلاق، فقد استخدمها الإنسان البدائي الأول قبل حتى أن يعرف الكتابة أو حتى يتمكن من بناء منزل فصور رسوماته على جدران الكهوف وسقوفها ليسجل لنا أحداثه اليومية الهامة كحياته مع أسرته ورحلات الصيد، وكان الفنان البدائي الأول يلاحظ انبعاجات الصخور وتشكيلها فكان يستخدم هذا الأمر لصالحه، فعندما يرى تكويناً صخرياً يشبه حدبة حيوان ما فكان يخطط حوله شكل الحيوان ليجعل تكاملا بين الرسم وتكوين الصخور فيقترب كثيراً من شكل الحيوان فى الواقع، وقد استخدم في التلوين الأتربة الملونة والعظام المتفحمة والشحوم، وفي مصر القديمة كانت الكتابة الفرعونية القديمة (الخط الهيروغليفي) سبباً فى انتشار فن الرسوم الجدارية، فمعروف أن اللغة المصرية القديمة عبارة عن رسومات لأشكال حيوانية أو آدمية أو حتى هندسية مما ساعد على انتشار وتطوير فن الرسم بشكل عام، وكانت هناك مدرستان للرسوم الجدارية بمصر القديمة المدرسة الفنية الأولى كانت تقوم بعملية تجهيز السطح المراد النقش عليه وإعداده وتنعيمه بإزالة الزوائد، ثم يقوم الفنان المصري بالرسم عليه باستخدام المداد الأحمر أو الأسود وبعدها يبدأ في عملية الحفر إما بارزاً أو غائراً حسب طلب صاحب العمل، وبعد ذلك يتم إظهار التفاصيل التي تبرز المنظر وتلون، أما المدرسة الفنية الثانية فكانت تضع طبقة من الجص الأبيض وخاصة إذا كانت الحوائط من الطوب اللبن أو الأحجار الرديئة لتغطية العيوب الموجودة بها ثم ترسم بالألوان المختلفة، واستخدم الفنان المصري القديم للحفاظ على ألوانه التي يضعها حية، أسلوب يدعى (التمبرا) فكان الفنان يقوم بإذابة الأكسيد او اللون الخام المراد التلوين به في زلال البيض كوسيط حامل للألوان ثم يستخدمه بشكل مباشر على السطح، ويتم استخدام زلال البيض كمادة شفافة لا تؤثر على درجة اللون ولا تتفاعل معها، كما أنها عندما تتصلب تصبح جزءا من الحجر ويصعب سقوطها من تلقاء نفسها.
رمسيس الثاني وقادش
في حوالى العام 1280 ق.م، وبعد ما يقرب من الثلاث سنوات على إشراك رمسيس للحكم مع والده، توفي الملك سيتى وتوج رمسيس ملكاً رسمياً على البلاد، كان أول ما واجهه رمسيس من تحد، هو هجوم الشرادنة (شعوب البحر) القادمين من جزيرة سردينيا ثاني أكبر جزيرة على البحر الأبيض المتوسط، حيث قاموا بالهجوم على الدلتا وتصدى لهم رمسيس وانتصر عليهم وأسر منهم عدداً كبيراً، كان التحدى الثاني الذي واجهه رمسيس هو أن الأراضي التي كان والده سيتى الأول مسيطراً عليها بدأت فى الخروج من تحت سيطرته، فهناك ممالك أمورو في ساحل البحر الأبيض المتوسط بمحاذاة سلسلة جبال طبيعية تقع بين سوريا ولبنان وكانت أهم ممالك أمورو (مملكة أوجاريت) قد خرجت بمحض إرادتها عن السيطرة المصرية وانضمت إلى مملكة الحيثيين، كذلك فعل أمير مدينة قادش الذي اتجه إلى الملك الحيثي ففقدت مصر بذلك الساحل الأموري وقادش، كان رمسيس يرغب في اعادة هذه المدن مرة أخرى إلى السيادة المصرية، واحتاج الأمر إلى تجهيز الجيش وبناء اقتصاد قوى يستطيع تحمل تكلفة حرب بهذه الضخامة على عدو قوي.
كان رمسيس يدرك جيداً أنه من المستحيل السيطرة على قادش دون استعادة الساحل الأموري أولاً لذلك بعث بحملة إلى مملكة (أوجاريت) فاستقبلها ملكها وقائد أمورو (بنتشينا) الذي وضح لهم أنه لم يفقد ولاءه للملك سيتى الأول وأنه على العهد دائماً معهم، فتم تنصيبه مرة أخرى قائداً للساحل الأموري ولكن هذه المرة تحت السيادة المصرية، بعد ذلك قام رمسيس بتجهز جيشه وتقسيمه إلى أربعة فيالق عسكرية كبيرة كل منها باسم أحد الأرباب المصريين الكبار وقد اختير أفراد كل فيلق من مكان عبادة هذه الاَلهة، فمن طيبة جاء فيلق (آمون) ومن منف ومصر الوسطى جاء فيلق (بتاح) ومن عين شمس جاء فيلق (رع) ومن برعمسيس جاء فيلق (ست)، وكان عدد الجنود بكل فرقة خمسة آلاف جندي.
كانت خطة رمسيس أن يجعل مسافة 6 ساعات بين كل فيلق وآخر، والخدعة أن الفيلق الأول عندما يهاجم قادش ويظن الحيثيون أن هذا العدد هو كل قوام الجيش المصري يهاجم الفيلق الثاني ثم الثالث ثم الرابع، لم يعتمد على ذلك فقط، فقد قام بتجنيد إجباري لمرتزقة من فلسطين ولبنان أسماهم شباب (الناعرونا)، كانت الأمور تجري على ما يرام وقاد رمسيس حملته العسكرية الكبيرة، واتجه بهم إلى نهر الكلب بالقرب من بيروت الآن، وعندما علم ملك الحيثيين (مواتاللى) لم يعجبه الأمر فقام بالاستعداد لضرب الملك رمسيس وجيشه ضربة قاضية، كان جيش الحيثيين يفوق الجيش المصري حيث كان عددهم سبعة وثلاثين ألفاً من الجنود الأشداء، واحتموا جميعاً بمنطقة قادش القديمة التي جرت فيها معركة قادش الأولى بقيادة تحتمس الثالث وهى تقع خلف مدينة قادش الجديدة المحصنة والتي يستهدفها الفرعون رمسيس، كانت خيوط المعركة الكبرى قد بدأت في الظهور.
قادش تلك السينما القديمة
تم تعريف السينما على أنها تقنية وفن عرض لقطات تصويرية بطريقة سريعة ومتتالية لخلق طابع حركي، وهناك علم مدروس وراء لقطات التصوير السينمائي المميزة، وقد يرسل صانع الفيلم بهذه الكادرات التي يأخذها بكاميرته رسائل إلى المتفرج تحمل دلالات رمزية أو نفسية تظهر من خلال هذه الكادرات، فإذا كنت على دراية جيدة باللقطات المناسبة وزوايا التصوير التي تساعدك على ايصال رسالتك فهنا أنت تصنع فيلمك الذي سيترك لدى الجمهور انطباعاً جيداً عن مهارتك الكبيرة في هذا المجال، وقد ترتبط هذه الصناعة فى أذهان الكثيرين باختراع تقنية التصوير السينمائي المعتمد على الكاميرا وشريط الفيلم المعتاد، من يعتقد هذا الأمر فهو بالطبع لم يقف أمام جدارية قادش، هذه الجدارية التي شكلت حدثاً كبيراً منقوشاً على الجدار بحرفية شديدة وكأنه شريط سينمائي مطبوع على الجدار، كل مشهد فيه مدروس بدقة وبمقارنة سريعة بين جداريات قادش والتقنيات السينمائية نجد التطابق الكبير مع اختلاف واحد هو الأداة المستخدمة، فى السينما استخدمنا الكاميرا، وفى قادش استخدمنا الجدار، نجد مثلاً اللقطة الرئيسية التي تحدد العناصر الهامة فى المشهد كالشخصيات الرئيسية وموقع الأحداث، وتسمح باللقطات القريبة Close up أو اللقطات المتوسطة medium shot، وهناك أيضاً مشاهد للبطل الرئيسي رمسيس الثاني بلقطة واسعة Long shot حيث يظهر البطل كاملاً وما يفعله من حركة في بيئته المحيطة فنراه منفصلاً عن المشهد العام للمعركة ويظهر إما على عربته ممسكاً بسيفه (الخاباش) وهو سيف يجمع بين أوصاف السيف المقوس والمستقيم، أو ممسكاً بالقوس ويطلق سهماً سيذهب خارج الكادر المنقوش على الجدار، أو نجده واقفاً ممسكاً ببعض الحيثيين ويقوم بضربهم، أو جالساً على مقعد الحكم ويقف بين يديه أتباعه يقدمون له فروض الطاعة والولاء، هناك كادرات تصور التقاء الجيشين وظهور الجيش المصري متغلباً عليهم بأنه يرفع بيده عالياً لنتوقع نزوله على الجيش الحيثي الذي يركع جنوده أمامهم، لاحظوا تلك الرسائل التي يتضمنها كل مشهد، بكاميرا التصوير السينمائي يتم تصوير بعض هذه الكادرات غالباً باستخدام كاميرات ذات زوايا واسعة، استعاض عنها الفنان المصري القديم بحرفية النقش على الجدار بتكنيك معين تاركاً لأحاسيسنا تلمس هذه الكادرات التي كان يقصدها ببراعة شديدة، حيث يقوم بدور المخرج أو مدير التصوير في أيامنا هذه.
إنها تفاصيل مدهشة ظهرت منقوشة على جدران المعابد بشكل دقيق، وكأنها سيناريو تفصيلى بمفهومنا الآن، هذه التفاصيل نادراً ما تتوفر لنا أمام حدث قد وقع منذ فترة سحيقة للغاية، ولكن الحقيقة أن رمسيس كان مهتماً بالتسجيل والتدوين إلى الحد الذي وصل به أن يمثل مشاهد الحرب وتفاصيل كثيرة تمت قبل هذه الموقعة وبعدها، حتى إنه كان يسجل أسماء أعوانه في تلك الحرب.
جداريات معركة قادش
تلك الرسوم الجدارية التي خلدت هذه المعركة تميزت بتفاصيلها الكثيرة، وعنصر الحركة والسرد غير المعتمد على تسلسل منطقي فالمصري القديم لم يكن يهتم كثيراً بالتسلسل الزمني للأحداث عند روايته للحدث، كما أن اللوحات المصرية تظهر دائماً بمنظر جانبي، ورؤية لا تعتمد على المنظور(البعد الثالث) فهى ذات بعدين فقط، فيظهر الإنسان والحيوان برؤية جانبية، كما أنه كان يقوم بتقطيع سطح الصورة إلى عدد من الحقول الأفقية المتتالية في سيناريو بديع كان الهدف منه إظهار قوة الفرعون أمام خصومه وبطشه بأعدائه، وبالإضافة إلى تلك التفاصيل الكثيرة التي تروي لنا معركة قادش، نجد أن الفنان المصري اهتم بعنصر الحركة والتكرار والثبات في التكوينات المتعددة والمتنوعة المرسومة على الجدران.
وفي الجدارية يظهر رمسيس الثاني وهو يضرب الأعداء، وجنوده يتسلقون السلالم لاقتحام قلعة قادش، ولم تفقد هذه الرسومات حيويتها على الرغم من ميل المدرسة المصرية القديمة فى التصوير إلى التسطيح، فالحقيقة الواقعية أكثر الحاحاً من الصورة البصرية، فالفنان يعرف بالتأكيد أن هناك ذراعين، وعلى الرغم من أنه لا يستطيع أن يرى الذراع الأخرى من جانب واحد، فقد أظهرها اعتماداً على الحقيقة وليس الواقع، وهو ما يعد تجريداً لم نر فيه أي إزعاج حيث إن الفنان استطاع التوحيد بين الجزأين.
أيضاً كان الفنان المصري يمثل الأشكال القريبة من النظر بنفس أحجام الأشكال البعيدة عن النظر، وكان يغير في أحجام الأشكال البشرية وفقا لمنزلة الشخصية الاجتماعية ودورها المهيمن، فنجد رمسيس الثاني فى جداريات قادش يظهر بحجم كبير، مقارنة مع باقي الجنود وهو أمر يحرص الفنان المصري عليه عندما يقوم برسم الفراعنة والآلهة، حتى إنه يترك لهم مساحة كبيرة، وبالتأكيد لم تكن هذه النسب اختياراً حراً للفنان بل كان يتبع قانونا تقليديا للنسب يلتزم به جميع الفنانين، بالتأكيد كانت هذه النقوش الرائعة والتي هي بالمناسبة قد خلت من عنصر التلوين، صُورت برشاقة وثقة تنم عن مهارة عالية ووعي تام بالغرض التعبيري أو الرمزي.
بقى أن نعرف أن من أشهر المشاهد التي نتذكرها جميعاً لمعركة قادش هى صورة رمسيس الثاني وهو يلقى بسهامه من فوق عجلته الحربية التي ينطلق بها حصانان رشيقان، ونرى من حوله جثث القتلى من الحيثيين أعدائه، وهذا المشهد الذي انطبع ليس على الجداريات فقط بل في أذهاننا يدل على قوة تأثير التصوير المعتمد على الحركة والإثارة فى تصوير هذه المعركة، أما لماذا نشعر جميعاً أن هذا المشهد تحديداً مألوفاً لنا، فلأنه ببساطة مطبوع على أوراق النقد التي نتداولها اليوم.
المصادر
• تاريخ مصر القديمة من افوال الدولة الوسطي إلى نهاية الاسرات - زكية يوسف طبوزاده
• مصر الفراعنه - الن جاردنر ترجمة نجيب ميخائيل
• تاريخ مصر القديم – د.عبد الحليم نور الدين
• موسوعة سليم حسن – ج2، ج3
• حروب رمسيس الثاني وتسخير بني اسرائيل – د.رشدى البدراوي