الكاتب : أمل ممدوح
صور شابلن وواين وبونويل
أيقونات عصر الصمت
"لا توجد فقط الكاميرا والممثل، فبينهما توجد اللقطة التي يتم بناؤها وتشكيلها كلوحة"
هذا ما يراه المخرج الروسي "سيرجي آيزنشتاين" من يعد الأب الروحي لفن المونتاج فتجسيد الحياة عبر السينماتوجراف أي الصورة المتحركة للسينما ليس ذلك النقل الجامد أو الميت لشيء حي، ليس ذلك النقل أو المحاكاة السلبية، بل تجسيد يحمل فلسفة تستخدم الصورة بمفرداتها التعبيرية، سواء الإضاءة أو التكوين أو الحركة واللون وأحجام اللقطات وزواياها فالصورة السينمائية المؤلفة عبر لقطاتها المنفردة قادرة على الإخبار بتفاصيل قد يطول شرحها لغويا أو الإلماح بما خلف القصة أو يعتمل داخل نفوس شخصيات صامتة لم تبح فتكون قادرة على إيصال دلالات وأفكار أكثر عمقا مما تبديها مكونات الصورة بحد ذاتها عاكسة وجهة نظر ذاتية أو موضوعية، تساعد المشاهد في الفهم والتحليل وتبين ما غمض قصدا في الحوار أو تعمق الإحساس بتأثير ما، فهي لا تروي القصة فقط بل ما وراءها من مغزى وأفكار.
يقول جيل دولوز في كتابه "الصورة الحركة أو فلسفة الصورة": "من الممكن مقارنة المؤلفين السينمائيين الكبار ليس فقط مع الرسامين والمهندسين المعماريين والموسيقيين بل أيضا مع المفكرين، فقد فكروا من خلال الصورة ـ الحركة والصورة ـ الزمن بدلا من أن يفكروا من خلال المفاهيم والتصورات".
هذا التفكير من خلال الصورة ومفرداتها التعبيرية حين يجمع بين الجمالية والإيحاء التعبيري القوي لهو أقرب ما يكون لمعنى التشكيل في اللوحة الفنية، ذاك الذي يعتمد على تأثير الضوء وتوزيع الكتل دلاليا وإيقاعيا بشكل كاشف دلاليا وجماليا معا، وربما أفضل ما يوضح ذلك السينما الصامتة باعتمادها على التعبير البصري المجازي في غياب الحوار، وفي هذه الدراسة نختار ثلاثة نماذج لأفلام صامتة من المرحلة المبكرة للسينما باتجاهات وأساليب مختلفة تتراوح أساليبها بصريا.
شابلن .. الكلاسيكية الحيوية والأزمنة الحديثة
في أفلام شارلي شابلن النجم الأشهر للسينما الصامتة أو "شارلو" ذلك المتشرد البائس المضحك كما عرف في أفلامه الصامتة كما اختار لا كما اضطر، حيث ظل متمسكا بها رغم ظهور الصوت في السينما ويراها أكثر عالمية وفنية وتعبيرا، كان شابلن يكتب ويخرج ويلحن
معظم أفلامه، متمسكا بشخصية الصعلوك المتشرد في كوميديا تقدم مواضيع اجتماعية وسياسية مختلفة، بأسلوب ينتمي للسرد التقليدي المنطقي لكنه مفعم بخلق وتجدد حيوي.
في فيلمه الهام "الأزمنة الحديثة "1936 ومدته 89 دقيقة، يسخر من العصر الحديث .. عصر الآلة وينتقده بذكاء شديد، يؤدي فيه دور عامل في أحد المصانع مقدما نقدا للرأسمالية والآلية التي تلتهم روح الإنسان الحديث، وتذيبها ليكون مجرد ترس منتج.
صورة الفيلم تخبر الكثير، فعلاقات تكويناتها تتلاحم تماما مع جسد السيناريو ومع الحركة لتروي بوضوح مغزى الفيلم في ارتباط عضوي بالسرد، بدءا من اللقطة الأولى التي نرى فيها قطيعا من الخرفان يتدافعون بنفس الاتجاه ثم تتلوها لقطة لعدد من الناس متلاصقين من الزحام مندفعين خارجين من مترو الأنفاق بنفس الزاوية المرتفعة التي تتيح إظهار أعداد أكبر، لتأتي لقطة تالية نجد فيها أناسا يعبرون الطريق مسرعين بشكل جماعي نحو مصنع تبدو آلاته الضخمة ظاهرة في إعلان قوي عن نفسه وسطوته من خلال مدخنته لحرق الوقود ودخانها اللائح في السماء، في المصنع تبدو الآلات ضخمة يتضاءل بجانبها العمال، لتهيمن عليهم بصريا ومكانيا مع سطوتها على سلوكهم الإنساني، ففي الجزء الأول من الفيلم بدت الصورة في أوج تحالفها مع السياق بالتناغم مع حركة شابلن، هذا العامل الضئيل الذي يمسك آلة لربط "الصواميل" والتروس الحديدية على سير متحرك، يتواجد العامل لكن السطوة للآلة تقود حركة العامل حتى يتطبع بها وبحركته عليها كأنما مسخ إنسانيا لآلة، أكدت الصورة الحالة السيمترية الآلية للحركة لتعود تؤكده تمكنها منه بإظهار أزرار فستان امرأة بشكل يشبه صواميل الآلة، ليركض العامل وراء المرأة لا كرجل وراء امرأة بل كعامل وراء آلة يتعامل مع تروسها، وسط الصمت تبرع هذه الاستعارات وتكون حركة شابلن ومهارته الأدائية جزءا أصيلا في الصورة، حينما نجد حركة جسده تكتسب حركة الآلة التي يعمل عليها وإن كان بعيدا عنها، فرغم الاستغناء عن الحوار والديكورات الواقعية البسيطة والشكل التقليدي للسرد إلا أن الصورة مع حركة شابلن الماهرة العميقة جعلت التقليدي مبتكرا.
روبرت واين و"كاليجاري" التعبيرية الألمانية
في حوالي عام 1910 وفي أعقاب العالمية الأولى وهزيمة الإمبريالية الألمانية وما صاحبها من ويلات الحرب وآثارها النفسية، نشأت التعبيرية كحركة طليعية في ميونيخ بألمانيا، والتي تعتبر رد فعل أيضا ضد المدرستين التأثيرية والطبيعية السائدتين وقتها خاصة في الفن التشكيلي، فتمتاز بالتعبير عن المشاعر والحالات الذهنية وإبراز الشحنة العاطفية النفسية داخل نفس الفنان تجاه العالم، فلا تنتهج التعبيرية نهج التصوير الطبيعي أو المحاكاة الأرسطية، بل تصور العالم من خلال الحالات النفسية العاطفية والذهنية التي يثيرها في النفوس بتراجيدية تناسب تأثير الأزمات والقلق الناتج عنها بما يتبع ذلك من تشويه قصدي للأشكال وتكثيف لوني، تشمل الفن التشكيلي خاصة وفنون الصورة من مسرح وسينما وكذلك الأدب والهندسة وفي السينما تصدرت ألمانيا هذا الاتجاه الذي يكاد ينحصر بها في ذلك الوقت، وكان الفيلم الأهم لهذا الاتجاه، الفيلم الصامت الأول في ألمانيا والشهير للمخرج الألماني "روبرت واين" عام 1920"كابينة د. كاليجاري The cabinet of Dr. Caligari" ومدته 67 دقيقة سيناريو روبرت واين كذلك، وهو فيلم رعب من أفلام الجريمة يدور حول الدكتور كاليجاري الشخصية الغامضة غريبة الأطوار، الذي يقدم عروضا للتنويم المغناطيسي يستعين فيها بشخص يسمي "سيزار" منوم مغناطيسيا طوال عمره يبوح بأسرار الناس ونبوءات تتحقق لتحدث في المدينة سلسلة من أحداث القتل الغامضة التي يتتبعها فرانسيس زائر عروض كاليجاري إثر مقتل صديقه آلان إثر نبوءة لسيزار، ليبدأ تشككه فيه وتتبعه.
صورة الفيلم وديكوراته غير واقعية، فهي فقط موحية تجريدية وبمعنى أدق تعبيرية، لا توحي فقط بالأماكن بل بوجهة النظر فيها كما الحال مع الأشخاص في ملابسهم ومكياجهم فالمدينة عبر عنها بلوحة ورقية تعبر عن مبان مخروطية متزاحمة، بقية الأماكن مصنوعة من الورق بأشكال مدببة وخطوط حادة، بتشويه شبحي يضفي غموضا، حتى المقاعد تبدو طويلة مع خطوط تعبر عن أشجار جرداء وحالة من الشحوب وخطوط ثلاثة على كف د. كاليجاري تضفي عليها تأثيرا مخلبيا، أماكن تواجد د. كاليجاري عادة أكثر إظلاما وحادة الخطوط والأشكال، مع مكياج يوحي بالخبث والشر لـ د. كاليجاري، هذا الرجل المسن البدين، وهيئة شبحية لخادمه "سيزار" كمصاصي الدماء والزومبي فيما بعد، حيث بشرته شديدة الشحوب مع هالات سوداء سميكة وشفاه قاتمة، بينما يبدو هناك عالم آخر هو عالم الصديقين آلان وفرانسيس والفتاة التي يحبانها، يبدو أكثر سطوعا، وأكثر طبيعية في مكياج الوجوه، تظهر الفتاة الرامزة للبراءة والنقاء والتي يسعى الأنقياء لنيل حبها بينما الأشرار ككاليجاري وسيزار لاختطافها؛ في ثياب بيضاء، وتبدو أماكن تواجدها أكثر سطوعا بأشكال تميل للدائرية والانسيابية لا الخطوط الحادة، مع تواجد واضح للون الأبيض وإحساس بالبراح لا الضيق كما في مشاهد كاليجاري، ليحمل الفيلم بأسلوب جديد على زمنه رؤية تصلح أن تعمم على العالم الذي يحاصر فيه الشر الخير والجمال.
لويس بونويل وسيريالية الكلب الأندلسي
يعد الفيلم الصامت"كلب أندلسي An Andalusian Dog" عام 1929 للمخرج الأسباني المكسيكي الهام "لويس بونويل" من أهم الأفلام السيريالية في السينما، بل الفيلم الرائد لها؛ هذا المذهب الذي شمل الفن والأدب ويظل من أصداء تأثيرات الحرب العالمية الأولى والذي تأسس على يد الفنان الفرنسي أندريه بريتون عام 1929 بالاعتماد بشكل أساسي على نظريات فرويد في التحليل النفسي، فيقوم على فكرة التعبير عن الواقع من خلال صورته في اللاوعي والأحلام أو انعاكاساته عليهما، والسيريالية حركة تعني حرفيا "ما فوق الواقع" بما تعنيه من بوح نفسي حر، الفيلم مدته 17 دقيقة وهو أول أفلام لويس بونويل، وقد كتبه مع الفنان التشكيلي الأسباني سلفادور دالي فنان السيريالية الأشهر بوحي من حلمين لكل منهما ثائرين به على نزعات الفن الطليعي الشكلاني.
الفيلم مجموعة من المشاهد التي تبدو بلا رابط منطقي مع نقلات زمنية مفاجئة غير منطقية منها ما يعود بالزمن سبع سنوات وسط حدث ما زال يكتمل أمامنا، الشخصيات بلا أسماء، متنوعوا النوع والمهن، فهناك امرأة ورجال ومخنث ورجال دين وغيرهم، في افتتاحية الفيلم التي تعد أهم مشاهده بصريا والذي صاغها دالي تشكيليا، يظهر رجل "لويس بونويل" يسن موسا حتى يدخل الشرفة فنرى قمرا في السماء وسط غيوم، فيشق الرجل عين امرأة بالمشرط بحركة تماهي وتوازي حركة سير السحب فوق القمر، لنفاجأ بعين المرأة أنها عين حصان، نجد في لقطة أخرى يد رجل يثقبها النمل وأخرى مقطوعة أمام رجل مخنث لا يلبث أن يسقط من الدراجة ميتا، نرى امرأة تضع أحمر شفاه ليصبح فم الرجل الذي ينظر إليها أحمرا، ونرى رجلا يتحرش بالمرأة فيعلق بحبال آلتين من البيانو فوقهما حمير ميتة ويربط بهما بحبلين رجلي دين، مشاهد كالأحلام تبدو عبثية غير متسقة وليست لها رمزية منطقية، بل مرجعية رمزية في علم النفس التحليلي دون ترابط، هذا مع موسيقى أندلسية لفاجنر في أوبرا"تريستان وإيزولدا"، تعد كل علاقة الفيلم بكلمة أندلسي، بينما لا وجود للكلب إلا في العنوان أو كرمز للرجل .. فالتفسيرات المحددة لن تصلح لتلقي هذا الفيلم النموذجي سيرياليا.