الكاتب : محمد حمزة
ڤينوس على مذبح العلمانية
"نَجِّنِى يا ربِّ من الموت الأبدى فى ذلك اليوم المخيف
عندما تتزعزع السَّماوات والأرض
عندما تأتى لتُدين العالمَ بالنار...
أرتعد وأرتعد حتى يُحكَم علينا والغضب الآتى
عندما تتزعزع السماوات والأرض...
فى ذلك اليوم... يوم غضب ومصيبة وبؤس... يوم مرارة عظيمة
عندما تأتى لتُدين العالمَ بالنار...
استرِحْ وامنَحْهُم أبدا يا ربِّ وليُشرِق عليهم نورُك للأبد".
عن رواية الرعب القوطية (لقاء صحفى مع مصاص دماء) للكاتبة الأمريكية (آن رايس)، التى نُشِرَت فى عام ١٩٧٦، استنادا إلى قصة قصيرة كتبتها رايس عام ١٩٦٨.
محور الرواية يدور حول مصاص الدماء (لويس دى بوينت دو لاك)، الذى يروى قصة حياته لمراسل صحفى.
تم إصدار فيلم بنفس الاسم عام ١٩٩٤، من بطولة (براد بيت) و(توم كروز) وإخراج (نيل جوردان).
يبدأ جوردان الفيلم بتلك البكائية التى ألَّفَها راهبٌ مجهولٌ، وتمَّ اكتشافها فى دير فلورين بالنمسا، ووضع لها اللحنَ الموسيقارُ النمساوىُّ (أنطوان بروكنر) عام ١٨٥٤.
"نجِّنى يا ربِّ من الموت الأبدى فى ذلك اليوم المخيف" افتتاحية صلاة لراهبٍ قضى عمره فى حياة النُّسْك، ولكن ما زال الشعور بالذنب والشك يراوده بعدم قبوله فى ذلك اليوم المخيف (كما يَصِفه)؛ يوم الدينونة.
اختيارُ (نيل جوردان) لتلك الصلاة أو البكائية التى ألَّفَها (بروكنر) كافتتاحيةٍ للفيلم، غريبٌ بعض الشيء. ما عَلاقة صلاة راهب يشعر بالذنب، بفيلم تدور أحداثه عن مصاص دماء يَروِى قصته؟ وما الذى يجعل راهبا قضى معظمَ حياتِه مُنعزِلا داخلَ دَيْرٍ نَاءٍ، يشعر بكل ذلك الخوف من عدم قبوله من قِبَلِ الرب؟
فى مشهدٍ ليلىٍّ طويلٍ بدون قطع، يستعرض (جوردان) شوارع مدينة سان فرانسيسكو التى تموج فيها كل أطياف البشر؛ هنود وآسيويون وعرب وأمريكان، ومشرَّدون وعمَّال وفتيات ليل ورجال أعمال؛ وكأن هذه المدينة تمتلك يوم الدينونة الخاص بها. قيامة ليلية تَحدُث كل يوم؛ كلٌّ منهم يَهيم فى اتجاه، ومنهم من ينظر مباشرةً نحو الكاميرا... ينظر إليك.
داخلَ غرفةٍ صغيرةٍ فى فندق متواضع، نرى فى المقدمة صحفيا يقوم بإعداد أداة التسجيل الخاصة به، وفى الخلفية (لويس) بطل الفيلم، يتأكد من أن الصحفى لديه ما يكفى من شرائط كاسيت لتسجيل ذلك اللقاء؛ لأنه سيقصُّ عليه حكاية المائتى عام.
الحكاية فى عُجالة تبدأ ببطل الفيلم (لويس) ابن الأربعة والعشرين عاما، يتجوَّل فوق جواده فى المزرعة التى يمتلِكها ومَن عليها، بعد أن أصبحَت حياته بلا معنى، لفِقدانه زوجتَه أثناء وضعها لمولودها الأول، وكل تلك الثروة التى يمتلكها أصبحت لا تساوى شيئا، فيُدمِن الشراب، ويُبدِّد ثروته فى القمار ومرافقة العاهرات وافتعال المشاجرات فى الحانات، رغبةً منه فى إنهاء حياته بصورة عبثية. أثناء إحدى تلك المشاجرات، يشاهده (ليستات) بإعجاب، وينوى فعلَ شيءٍ ما.
فى إحدى الليالى، يتبعه (ليستات) أثناء عودته للمنزل برفقة عاهرة كانت تُخطِّط بدورها هى والقوَّاد الذى تعمل لديه لقتله والاستيلاء على ما معه من نقود. وهنا يتدخَّل (ليستات)، ويقضِى على القوَّاد والعاهرة بلا أىِّ مجهود، ويقترب من (لويس) نصف الواعى من أثر الخمر مُنْقَضا عليه، ويمتصُّ دماءَه قائلا: "هل ما زلتَ تريد الموت أم اكْتَفَيْتَ؟".
يُعَلِّق (لويس) على نهاية طريق الحياة وبداية طريق الموت، ممدَّدا فى فراشه خائر القوى. يظهر (ليستات) مرةً أخرى من اللامكان، مُطَمْئِنا (لويس) المرتجف، قائلا: "جئتُ استجابةً لصلاتك"، مُستطرِدا: "الحياة أصبحت بلا معنى... النبيذ لا طعم له... الطعام يُمرضك. لا فائدة من كل ذلك. ماذا لو أعدتَ تلك المعانى كلها مرةً أخرى لحياتك. حياة جديدة تستمر للأبد. الموت والآلام والمرض لا يمكنهم الاقتراب منك مرةً أخرى".
يبدو أن (أحدهم) استرق السمع لصلوات (لويس)؛ لأن ما يبدو جَلِيا أن (ليستات) - تأكيدا - ليس الربَّ المنشودَ فى تلك الصلاة (صلاة لويس من أجل الخلاص، أو صلاة الراهب فى البكائية التى بدأ بها المخرجُ الفيلمَ)، أو ربما كان مخرج الفيلم (نيل جوردان) يريد قول شيء آخر!
حياة الظلال والقفز فوق جثث الموتى كلَّ ليلةٍ لا تبدو لى أنها من أفعالِ الربِّ المنشودِ فى تلك البكائية، التى - ولسببٍ مهم - افتتح بها المخرج فيلمه المليء بالمناورات ليقول شيئا ما.
"أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِى وَادِى ظِلِّ الْمَوْتِ لَا أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِى. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِى".
(سفر المزامير ٢٣:٤)
(ليستات) مُفْسِد خطة الرب فى اختبار الإيمان الشهير، أم مُرْشِد (لويس) فى طريقه لعبور وادى ظل الموت؟
(ليستات) يُرشِد (لويس) فى طريق الظلال، فى بداية الرحلة نحو المجهول. يتردَّد (لويس) بعض الشيء، لكن أحيانا تكون أسوأ الاختيارات أفضل بديل مُتَاح. فى بداية الانطلاق نحو العالم المظلم، يكتشف (لويس) أن حياة الظلام تتطلَّب منه القفز على جُثث الأحياء كلَّ ليلةٍ من أجل الاستمرار، بما تَحمِله حياة الظلام من معنى، وكما هو معتادٌ وشهيرٌ عن حياة مصاصى الدماء، بعدم القدرة على مواجهة ضوء الشمس. وفى المقابل يعيش حياةً أبديةً بلا موت جسدى.
وهنا تبدأ المشكلة الأولى فى الظهور، وهى شعور (لويس) بالذنب؛ لأنه يقتات على دماء الأبرياء وغير الأبرياء كل ليلة. ويبدأ (ليستات) فى تبرير موقفه، وأنه لا داعى للشعور بالذنب؛ كونهما استثنائيَّيْن، ولا تُطبَّق عليهما القواعد التى تُطبَّق على عامَّة الناس، وأنه يجب التخلُّص من هذا التفكير الساذج المتمثَّل فى شعوره بالذنب. يرفض (لويس) هذا المنطق الذى يراه ناقصا، والذى يتجلَّى فى محاوراتهم الدائمة، ويلفِظ هذه الحياة المليئة بالمشاعر المتناقضة.
يهرب (لويس) من (ليستات) ليقتات على دماء الحيوانات، كابِحا رغبته إلى أدنى حد يمكِّنه من الحياة؛ إلا أن (ليستات) يحوم حوله طوال الوقت مؤكِّدا أن قوته ستخور قريبا مع أول اختبار حقيقى.
ينتشر الطاعون فى المدينة، ويهرب الناس من المركز إلى الأطراف، هربا من الوباء، ويتجه (لويس) إلى قلب المدينة هاربا من (ليستات)، فى إشارة رمزية إلى كونه هو أيضا الوباء. وأثناء تَجواله بين المنازل المليئة بالموتى، يُصادِف منزلا ما تزال تدبُّ فيه الحياة.
فتاةٌ صغيرةٌ فى الثانية عشرة من عمرها، تُمسِك بيد أمها التى قضى عليها الطاعون، لا تعرف ماذا تفعل. لا أحد، لا مفر. يتعاطف (لويس) مع هذه الطفلة البريئة؛ وحينما تراه، تستنجد به فى ذلك المشهد اليائس، وتحتضنه، ولكن تتغلَّب عليه رغبته المظلمة، ويبدأ فى سلبها حياتَها بشكل غريزى، وهنا أيضا يظهر (ليستات) من اللامكان كعادته، مُذَكِّرا (لويس) بأن ذلك هو أولُ اختبارٍ حقيقىٍّ له، وقد فشل فيه. هذه هى حقيقته التى يُنكِرها دَوما.
بعد أن تعرَّى (لويس) أمام نفسه من قِبَل (ليستات)، هام على وجهه، ولم يَجِد مَفَرا سوى العودة مرةً أخرى إلى (ليستات)، الذى يحاول بدوره مراوغة (لويس) وتهدئته قليلا، ويخبره أنه أحضر له هدية؛ حيث قام بضم الطفلة الصغيرة (كلاوديا) إلى ذلك الفريق المظلم. وفى إشارة غريبة، نجد (ليستات) يستعرض كيف سيصبحون أسرة سعيدة، وأن الخلافات ستهدأ بينهما بانضمام (كلاوديا) إلى حياتهما المليئة بالمشاكل، وأنه سوف يكون المعلِّم الحازم القادر على تدريبها على كل شيء، وأن (لويس) المُفعَم بالمشاعر يمكن أن يكون عَونا لها فى مشاعرها المضطربة!
يعيش الثلاثة معا فى المنزل نفسه، كأسرة سعيدة، كما كان يردِّد (ليستات) دائما. ثلاثون عاما مرَّت، وجسد الطفلة كما هو، لا تتقدَّم فى العمر بطبيعة الحال.
حينما ترى (كلاوديا) جسدَ امرأة عارية، تتأمَّله طويلا، وتُخبر (ليستات) أنها لن تكون مثل تلك المرأة يوما ما؛ لأنها ستظل حبيسةً بذلك الجسد للأبد. تبدأ المشاحنات مع (ليستات)؛ لأنه السبب فى هذا المصير المؤلم؛ أن تظل طفلةً مدى الحياة، وتُحرَم من تحوُّلاتها الطبيعية. يقف (لويس) عاجزا أمام المشاحنات، إلا أن (كلاوديا) تبدأ فى التفكير فى التخلُّص من (ليستات)، باعتباره رمزا للشر الأبدى فى عالمهم الصغير. وتُدبِّر لقتله وإنهاء حياته بما يتمشَّى مع القواعد الاستثنائية التى يُمكِن من خلالها قتل مصاص دماء. يغضب (لويس) من فكرة التخلُّص من (ليستات) بهذه الطريقة، إلا أن (كلاوديا) تقنعه أنه العائق فى طريقهم وكان يجب التخلُّص منه.
يبدأ (لويس) فى البحث عن آخرين ينتمون إلى العالم المظلم نفسه، وتبدأ رحلته فى البحث حول العالم حتى يسأم ويستقر فى باريس فاقدا كل أمل، إلى أن يجده (آرماند)، وهو مصاص دماء يُدير مسرحا لعروض مصاصى الدماء، فيدعوه إلى الحضور ومشاهدة العرض المسرحى، ويخبره ألَّا ينسى إحضار الطفلة الصغيرة (كلاوديا).
ويبدو العرض المسرحى مثل طقوس تضحية أقرب منه إلى عمل درامى. يستعرض (آرماند) على الخشبة طقس التضحية بأنثى متجرِّدة من ملابسها، أمام الجمهور، بينما هى تبكى وتترجَّاه ألَّا يقتلها، لكنه يطمئنها ويقنعها أن موتها أفضل لها. وفى مشهد حميم يعانقها، ويخبرها أن من الأفضل عدم المقاومة، ويدعو مجموعةً من المتَّشِحين بالسواد إلى التهامها بلا أى مقاومة منها.
بعد انتهاء العرض، يجتمع كل من (لويس) و(آرماند) على انفراد، ويخبره الأخير برغبته فى أن ينضمَّ إلى هذا المجتمع الصغير من مصاصى الدماء، لكى يستطيعوا مواجهة المجتمع الذى يتقدَّم بسرعة تفوق الأيام الماضية، وأنه يحتاج إلى شخص مثله لا يزال يمتلك جزءا من مشاعره، وإن كانت تلك المشاعر هى مشاعر الذنب، إلا أنه عليه التخلُّص من الفتاة الصغيرة (كلاوديا) لأنها ستكون عائقا فى طريقه أو طريقهم جميعا، وأنه يعلم بمقتل (ليستات)؛ بل إنه يعرف (ليستات) نفسه؛ فهو يَعتبر نفسه أقدم مصاص دماء ما زال على قيد الحياة، والمقابل الوحيد هو التضحية بتلك الفتاة الصغيرة والتخلُّص منها.
تخبره (كلاوديا) أنها تعلم حقيقة ما يجرِى، وأنها لم تستطِع الهروب من ذلك الجسد الصغير، ولذا هى على الأقل تريد أن تكون برفقة أنثى، وتطلب منه أن يهَبَها أنثى كما فعل معه (ليستات)؛ وحينها ستختفى من حياته للأبد. يوافق (لويس)، ويمنحها ما طلبت، ولكنَّ أتباعا لـ (آرماند) هَمَجا يتدخَّلون ويختطفون (لويس) و(كلاوديا) لتنفيذ حكم الإعدام فيهما لقتلهما مصاصَ دماء.
ونرى (آرماند) فى مشهد صامت يغلق باب غرفته وهو يسمع صراخ (لويس) و(كلاوديا). ويُحكَم على (لويس) بالحبس مدى الحياة فى تابوت حديدى مظلم، وعلى البنت بأن تتعرَّض لضوء النهار، وتموت محترقةً فى ضوء الشمس هى ورفيقتها الجديدة التى وهبها إياها (لويس).
يتدخَّل (آرماند) لإنقاذ (لويس) من الموت؛ وحينما يسأله (لويس) عن (كلاوديا)، يخبره بأنه فات الوقت لإنقاذها. وبدوره يتَّجه (لويس) إلى المسرح، ويقوم بإشعال النيران فى المسرح ومن فيه دون تدخُّلٍ من قائدهم (آرماند).
"لقد جعلتَنى أرى أخطاءَهم. كان محكوما عليهم بالهلاك. لقد انتهوا مع زمنهم لأنهم نسوا الدرس الأول. يجب أن نكون دائما أقوياء... يجب أن نكون دائما وسيمين... مهما فعلنا فلا ندم".
هكذا أنهى (آرماند) الحديث مع (لويس)، بعد أن أضرم الأخير النار فى المسرح ومَن فيه دون تدخُّل من (آرماند).
"هل تستطيع أن تعلِّمنى هذا؟ ألَّا أندم على ما أفعله... لكن ماذا إن كنت لا أهتم بتعلُّم هذا الدرس؟ ماذا إن كنت لا أحمل بداخلى سوى المعاناة والندم؟".
هكذا يُنهى (لويس) حديثه مُخبِرا (آرماند) بعلمه بأن مقتل (كلاوديا) كان من تدبيره؛ لأنها العائق (كما كان يسمِّيها)، ولكن حقيقة الأمر أنه رغم موتها، إلا أنه سوف يظل يحملها فى قلبه للأبد.
بعد أن تكشَّفَت كل الأمور، يغادر (لويس) تاركا كلَّ هذا الماضى خلفه، ويعود إلى حيث مبتدأ الرحلة؛ إلى مدينته التى بدأ منها مشواره الأول بعد أن تغيَّر للأبد متقبِّلا مصيره.
"الكهف الذى تخشى دخوله يحوى الكنز الذى تبحث عنه".
(جوزيف كامبل)
الإبداع الأصيل والتدمير وجهان للعملة نفسها؛ بل أحيانا يفوق الأثرُ التدميرىُّ للإبداعِ التدميرَ ذاته. كل أشكال الإبداع أو الخلق الإنسانى مُوَجَّهة فى المقام الأول إلى الإنسان نفسه، نَقْلا لحكمة أو خبرة، أو حتى لغرض التسلية. كل ما سبق يدور فى الإطار البسيط للتلقى؛ التلقى الواعى الذى تحكمه قوانين المنطق والعمليات العقلية. لكن إذا كانت الحياة هى الحياة؛ تُعيد ولادة نفسها كل يوم؛ الأرض تدور وستدور، والشمس تُشرق كل يوم، والسماء فى الأعلى (إن كان هناك أعلى)، والأرض تحت أقدامنا دائما. من أين يأتى إذًا سحرُ الأشياءِ الجميلة؟ لماذا عاشت كلُّ هذه الأساطير التى أنتجها الخيال الإنسانى على مدار كل هذه العصور؟
لا أظن أن الأشياء كما تبدو عليها؛ وأظن أن الأسطورة ما هى إلا وعاءٌ للمشترك الإنسانى الذى لم ولن يتغيَّر ما بَقِى الإنسان، وإلا فما دخلنا بمأساة أوديب، أو إليكترا، أو بجماليون؟
"تَخَلَّ عن كلِّ أملٍ يا من دخلتَ إلى هنا".
عبارةٌ كُتِبَتْ على أبواب جحيم دانتى، فى صراعه للخروج من الجحيم والوصول إلى المطهر، ومنه إلى الفردوس. ألم يكن جحيم دانتى فى حقيقته هو جحيمه الداخلى؟ ومن أجل الخروج منه، وَجَبَ عليه مطارحة الشياطين فى الظل، وإلا لَما كان لرحلته معنى. وكذلك الأمر مع (لويس) بطل فيلم (نيل جوردان) فى صراعه المستمر مع (ليستات)، أو فى شكل مظلم أكثر (آرماند).
أول من ناقش هذا الجانب المظلم من الشخصية، والمُسَمَّى اصطلاحا بـ (الظل)، هو عالِم النفس السويسرى (كارل جوستاڤ يونج) مؤسس علم النفس التحليلى، وكانت له أعمالٌ مؤثرةٌ فى مجاﻻت الطب النفسى واﻷنثروبولوجى واﻷدب والفلسفة والدراسات الدينية.
اعتبر (يونج) أن (اﻷنا) تشمل فقط العقلية الشعورية للإنسان. إنها العقل الواعى فى صلة اﻹنسان بالواقع، وهى مسئولة عن العمليات الشعورية، كالتفكير واﻹدراك واﻹحساس والفهم والتَّوَحُّد.
من خلال (اﻷنا)، يعرف اﻹنسان نفسه ومكوِّنات شخصيته؛ فهى التى تُوقظه وتُنبِّهه وتُذَكِّره باﻷشياء التى يجب عليه القيام بها، وكذلك تتَّخِذ له القرارات المهمَّة فى حياته اليومية، كما بَيَّن أن (اﻷنا) قد تدخل فى صراعٍ مع العالم اللاشعورى، الذى ينقسم إلى (اللاشعور الشخصى) الذى يضمُّ خبراتِ الفرد الذاتية، و(اللاشعور الجَمْعى) الذى يُخَزِّن الخبرات المتراكمة عبر اﻷجيال والأجداد، والتى تنتقل عبر الأساطير.
أرجَعَ (يونج) الأساطير إلى (اللاشعور الجَمْعى)، واعتبر أن اﻷحلام تكشف عن اللاشعور وعن الحقائق النفسية؛ فهى الباب الخفى فى النفس وخفاياها. ونحن فى الأحلام نشبه الإنسان الكلى الكامل الخالد، كأبطال الأساطير.
قال (يونج) بوجود (النماذج اﻷصلية/ النمط الأول/ Archetype). وعَرَّفَ (يونج) هذه النماذج الأولية بأنها عبارة عن صورة أو فكرة عامَّة متكرِّرة تُمثِّل تجربةً إنسانيةً نموذجيةً؛ بالتالى يمكن اعتبارها أنماطا وسلوكيات، أو أنها الصور البدائية التى هى جزء من النفس واﻷنظمة اﻻجتماعية لدينا. بالتالى، اعتبرها الوسيلة التى يتم بها التعبير عن سلسلة من التجارب والذكريات المتعلقة باﻷجداد؛ أى إن كل شخص يطوِّر سلسلة من النماذج اﻷولية بِناءً على تجاربِ أجدادِه.
افترض (يونج) أن هذه النماذجَ هى جزءٌ من لاوعى البشر مجتمعين، وبالتالى فهى تؤثر على السلوك بطريقة غير واعية.
وكلما كان التوازن بين النمط اﻷوَّلى وصورته الفعلية الخاصَّة بالشخص مستقرا، كان هناك استقرار فى البناء النفسى للشخص بلا أى صراعات.
من أجل تجسيد فكرة النماذج اﻷصلية، استخدم (كارل يونج) الرموز واﻷساطير التى تبدو فى جميع الثقافات، واعتبر (كارل يونج) أن هناك خمسة نماذج رئيسية تساهم فى تكوين (اللاشعور الجَمْعى) للإنسان، وهى:
١- (نموذج الأنيما/ The anima)/ (كلاوديا):
اﻷنيما هو النموذج اﻷصلى للشخصية اﻷنثوية التى تُوجَد فى لاوعى الرجل؛ أى إنها صورة نموذجية، وتحدِّد طبيعة علاقات الرجال مع النساء، وتُمكِّن الرجلَ من فَهم الأنثى.
مع الأخذ بالاعتبار أن شخصيات الأنيما ليست تمثيلا لنساء محدَّدَات، بل تتكوَّن من خيالٍ مُغَطى باحتياجات وتجارب ذات طبيعة عاطفية.
إن أكثر الشخصيات تمثيلا لهذا النموذج الأصلى هى اﻵلهة، والمرأة المشهورة، وشخصيات اﻷمَّهات.
٢- (نموذج الأنيموس/ The animus)/ (لويس فى نظر كلاوديا):
يشير الأنيموس إلى الصور النموذجية للمذكَّر فى لاوعى المرأة. وكما هو الحال مع الأنيما، فإن هذه اﻷشكال ﻻ تُمثِّل رجلا مَلموسا، بل هى تمثيلٌ ﻷوهامٍ مُغَطَّاةٍ باحتياجاتٍ وتجاربَ ذات طبيعة عاطفية، وبالتالى فإن شخصيات الأنيموس اﻷكثر تميُّزا هى شخصيات الإله واﻷب ومشاهير الرجال والشخصيات الدينية والشخصيات المثالية.
٣- (نموذج الظل/ The shadow)/ (ليستات/ آرماند):
الظل هو أحد النماذج اﻷساسية لِلَّاوعى الجمعى الذى يُقدِّم معنيين مختلفين. من ناحيةٍ يكون الظلُّ نموذجا ممثِّلا للَّاشعور الجَمْعى، ومن جهة ثانية يُشير الظل إلى الجانب اللاشعورى الشخصى للإنسان؛ الظل الجَمْعى (الشيطان/ الجن)، والظل الشخصى (ما يُخفيه كلُّ شخصٍ فى أعماقه).
الظل هو نموذج أوَّلى مهم لتصوُّر نظرية اللاشعور الجَمْعى؛ ﻷنه يدلُّ على أن جميع التصرُّفات النفسية والجماعية التى ﻻ يتحمَّلها الضمير بسبب عدم توافقها مع الشخصية، تكون هى الظل.
٤- (نموذج القناع/ The persona)/ (شخصية مصاص الدماء ذات القوى الخارقة):
الشخصية أو (القناع) هى الوجه الخارجى الذى نقدِّمه للعالم، والذى نخفى وراءه أنفسنا الحقيقية. هذا هو الوجه العام أو الدور الذى يقدمه الشخص للآخرين كشخص مختلِف عمَّا هو عليه.
٥- (نموذج النفس/ الذات/ The self)/ (ندم لويس/ الراهب):
النفس أو الذات هى النموذج اﻷصلى الخامس لـ (يونج)، الذى يُعرف بأنه النموذج اﻷصلى لِلَّاوعى الجمعى؛ وهى الصورة المثالية الخاصة بالشخص على اختلاف الصورة المثالية بين المجتمعات المختلفة؛ وبالنسبة إلى (يونج)، هى الهدف النهائى لكل فرد فى تحقيقِ حالةٍ من الاتحاد معها.
وتَجِبُ الإشارة السريعة إلى بعض المفاهيم التى أريدُ من خلالها مناقشةَ ما تراءَى لى من خلال مشاهدة فيلم (نيل جوردان)، على اعتبار أن السينما وسيط فنى مؤثر بشكل يمكن القول عنه إنه يِثير الرعب أحيانا؛ فهو يضع المتلقى فى حالة تشبه التنويم الإيحائى. وكلما تمكَّن صاحبُ العمل من استخدام أدواته، كان التأثيرُ بالغَ العمق. لكن إلى أىِّ عمقٍ وصل (نيل جوردان)؟
بعد زوال سِحر الموسيقى الجيدة، وحركة الكاميرا السحرية، والسيناريو المراوغ، والانتقال السَّلِس بين مائتى عام هما زمن الفيلم الذى يروى فيه البطل قصته، فإن ما يمكن استخلاصه هو أن بطل الفيلم (مصاص الدماء) يشعر بالذنب، وأنه لا يمكنه التخلُّص منه، ولذلك تعلَّم التعايش معه.
ما الذى كان (نيل جوردان) يريد تمريرَه بالتكوينات المريبة بعض الشيء بين أبطال الفيلم؟ ما الفائدة الدرامية لها؟
بدايةً، (رحلة البطل)؛ وهو مصطلح تم استخدامه لأول مرة من قِبَل (جوزيف جون كامبل)؛ وهو ميثولوجى أمريكى وكاتب ومحاضر ومُحَرِّر للعديد من الكتب عن الأساطير. استعار (كامبل) مصطلح (الرحلة البطولية) من رواية (جيمس جويس) المعروفة باسم (يقظة فينيجان)؛ حيث إن (كامبل) كان باحثا فى أعمال (جويس)، كما أنه ألَّف كتابا فى تحليل ونقد رواية (جويس) الأخيرة كنموذج يمكن من خلاله قراءة النمط التى تسير به أغلب الأساطير والحكايات، وربما بعض النصوص الدينية.
تتلخَّص فكرة نموذج (رحلة البطل)، فى مجموعةٍ من الأحداث التى تبدأ بدخول (الشخصية الرئيسية) فى مغامرة، ومرورها بأزمات حاسمة، تُحرِز فيها النصرَ فى النهاية. وَصَف كامبل سبع عشرة مرحلة فى الرحلة البطولية، إلا أنه ليست كل الروايات التى كُتِبَت فى ضوء هذا المصطلح تحتوِى على كل هذه المراحل؛ فبعضها يُركِّز فقط على مرحلة واحدة. بل إن فى بعض الروايات قد تُوجَد هذه المراحل بصورة غير مرتَّبة.
يمكن إدراج المراحل السبع عشرة، ومن بينها طريقة (الثلاثة فصول)، على النحو التالى: (الفصل الأول: المغادرة (أو الانفصال) - الفصل الثانى: البدء (أو الاطِّلاع) - الفصل الثالث: العودة).
الفصل الأول: المغادرة
- نداء المغامرة، أو طلب الدخول فى المغامرة.
- رفض النداء ورفض الدخول فى المغامرة.
- المساعدات الفائقة.
- عبور العتبة للمجهول أو العالم الآخر.
- بطن الحوت.
الفصل الثانى: البدء
- طريق التجارب.
- مقابلة مع المرأة الفاتنة.
- المرأة كإغراء.
- التكفير مع الأب.
- التمجيد أو المثل الأعلى.
- النعمة أو الهبة المطلقة.
الفصل الثالث: العودة
- رفض العودة.
- الرحلة السحرية (رحلة العودة السحرية).
- الإنقاذ من الخارج.
- عبور عتبة الرجوع إلى العالم الاعتيادى.
- حرية العيش.
طِبقا للنموذج السابق، نجد (لويس) يائسا بعد موت زوجته وابنه، راغبا فى إنهاء حياته فى أى لحظة (طلب الدخول فى مغامرة)، ومن ثم يظهر (ليستات) (ظِل البطل طِبقا للنموذج اليونجى)، وهو تجلِّى النزعة العدمية الفاقدة لكل معنى للحياة؛ فقد استدعاه (لويس) من أعماقه بعد أن فقد كلَّ رغبةٍ فى حياة الأسرة السعيدة التى سلبها منه الموت، والتى تُشكِّل (المساعدة الفائقة)؛ لِمَا يمثله (ليستات) من كونه مصاص دماء؛ شخصا غير اعتيادى يمتلك قوى خاصة، حياة أبدية وشباب دائم؛ ويعرض عليه الخيارَين: أن يقتله، أو ينضم لصحبته فى عالمه المثير، حياة أبدية ومتعة خالصة؛ ومن ثم قبول البطل لذلك العرض، الذى هو فى حقيقته يشبه العَقد الذى أبرمه فاوست فيما مضى مع الشيطان (الظل)؛ عبور عتبة العالم الاعتيادى (العالم الآخر)، عالم (ليستات) المظلم. ويبدأ طريق التجارب، ويكتشف أن العملة تمتلك وجها آخر. والوجه الآخر للعملة يتلخَّص فى شعوره المستمر بالذنب جرَّاء موافقة (ليستات) على الانضمام إليه. وتستمر التجارب، ولكن يزداد الشعور بالذنب. (مقابلة المرأة الفاتنة) عثوره على (كلاوديا)، التى طِبقا للنموذج اليونجى تُمثل الأنيما الخاصة بـ (لويس)، ولكنها صورة عن المرأة غير ناضجة، ولذلك تظهر له بشكل طفلة صغيرة تمثيلا لعدم نضوج صورته الخاصة عن الأنثى. التفات (ليستات)/ (الظل) لعثور (لويس) على الأنيما الخاصة به، ومحاولة (ليستات) استخدامها ضده (المرأة كإغواء)، وتحويل (ليستات) لها، وضمها لصحبتهم، ومحاولة إنشاء الأسرة السعيدة كما يقول (ليستات). لكن بمرور الزمن (30 عاما)، تكون (كلاوديا) (الأنيما غير الناضجة) صورة حقيقية عن (ليستات) الذى يرغب فى إبقائها طفلةً مدى الحياة، وإهداء (ليستات) لها فى كل سنة دمية صغيرة، إصرارا منه على معاملتها كطفلة، رغم أن عمرها الحقيقى أصبح يتجاوز الثانية والأربعين، إلا أن جسدَها لا يتقدَّم فى العمر؛ فهى محبوسة فى جسد طفلة تبلغ اثنى عشر عاما. وتبدأ تلفت نظر (لويس) إلى أن (ليستات) ليس صديقَ الطريق كما يبدو، لكنه هو الشخص الذى يؤخِّره ويُبقيه فى الظل. تقوم (كلاوديا) (الأنيما الخاصة بلويس) بقتل (ليستات)/ ظل (لويس) نيابةً عنه.
مقابلة (آرماند) تُعَدُّ عودةً للظل فى شكل أقوى؛ لأن (لويس) لم يحل المشكلة بقتله (ليستات). ما زالت المشكلة قائمة، وهى الشعور بالذنب، وبالتالى - طِبقا لـ (يونج) - فإن محاولة كبت الظل بأى الطرق دون حل المشكلة الأساسية، تعنى عودة الظل فى شكل آخر أقوى ممَّا اعتاده الفرد. دعوة (آرماند) لـ (لويس) لحضور المسرحية داخل المسرح الذى يمثل (بطن الحوت أو أعمق نقطة فى الكهف) وتأكيده على الحضور برفقة (كلاوديا)، واستعراض (آرماند) على المسرح بقتله لتلك الفتاة، الذى أبدع المخرج فى تصويره واستعانته فى تنفيذه بمحاكاة إحدى اللوحات الشهيرة التى جسَّدت الرمز الأنثوى (ڤينوس) للرسَّام الإيطالى (ساندرو بوتيتشيلى)؛ يستخدمه المخرج فى مشهد قتل (آرماند) لتلك الفتاة الجميلة على المسرح، إشارةً لـ (لويس) أنه يمكنه قتل (الأنيما/ الرمز الأنثوى) حتى وإن كانت فى أكمل صورة لها؛ وكيف لك وأنت تتمسَّك بصورة غير ناضجة للأنيما فى شكل طفلة؟!
محاولات (آرماند) العديدة لإقناع (لويس) بأن ينضمَّ إلى صحبته على أن يتخلص من الفتاة، ورفض (لويس) التخلُّص من (كلاوديا)/ (الأنيما) وإن كانت غير مكتملة، فى إشارة مُبطَنة إلى أن عالمهم السحرى كمصاصى دماء (العالم الذكورى الخالص)، لا يمكنه تحمُّل الضعف الذى تجلبه تلك الكائنات (إشارة إلى النساء).
يَدخُل (لويس) أعمق داخل (بطن الحوت)، وهنا يتدخَّل (آرماند) (الظل فى شكله الجديد) بتدبير مؤامرة لقتل (كلاوديا)، ونزعها من (لويس) رغما عنه، واكتشاف (لويس) فيما بعد ومواجهة (آرماند) بحديث هادئ بعد خروجه من المسرح الذى أشعل فيه النيران فيه، (الخروج من بطن الحوت)؛ مكاشفة (آرماند)/ (الظل) بالحقائق، واعتراف (لويس) بأنه لا يستطيع التخلص من الذنب، حتى وإن عرض عليه (آرماند) المساعدة. هزيمة الظل فى شكله الأقوى بالاعتراف بوجوده وليس بإنكاره ومحاولة قتله كما فعل فى السابق. تقبُّل (لويس) لنفسه كما هو دون محاولة للهروب (رحلة العودة والرجوع للعالم الاعتيادى مرة أخرى)، بعد أن أصبح (لويس) أكثر ثقة؛ فقد تعرَّف (لويس) على نفسه، وحارب شياطينه الداخلية، وعرف عن نفسه ما يمكن تغييره، والذى يجب أن يتقبَّله (الاتحاد مع الذات).
اعتبر (فرويد) عالِم النفس الشهير (أوديب) التاريخىَّ، أنه ما هو إلا جزء من اللاوعى الجمعى للبشرية. ومن هنا استخلص أشهر العقد الكلاسيكية، إن اعتبرنا بطل الفيلم يتم تقديمه من خلال إطار كلاسيكى مستوحى من الرواية المؤلَّفة من قِبَل (برام ستوكر) عام ١٨٩٧، وهو أول مَن طرح فكرة الخلود عن طريق التحوُّل إلى مَا يُسمَّى (مصاص الدماء) فى روايته (دراكولا)، ومن ثم كل الأدبيات اللاحقة كانت تنويعات مستوحاة من هذا العمل، وأصبحت كأسطورة ليست كأوديب، لكنها تظل أسطورة يمكنها أن تحوى الكثير من الإشارات.
السؤال: ما هى أزمة (لويس) الأخلاقية، والمُتَمثَّلة فى كل ذلك الذنب؟
يطرح المخرجُ فى تلك الكادرات، التى كانت تبدو غريبةً فى بداية مشاهدتى للفيلم لكنها أصبحت منطقية طِبقا للسِّياق السَّابق، الكادراتِ الحميميةَ بين الذكور، وإبرازه للجمال الذكورى بشكل مبالغ فيه. أظن أن الإجابة لا تحتاج لتفصيل، وإنما لإعادة مشاهدة الفيلم مرة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن تكلفة إنتاج الفيلم بلغت ستين مليون دولار من قِبَل منتجه (ديڤيد جيفين)، وقد أُوجِزَ الحديثُ عنه بخبرٍ من جريدة نيويورك بوست بتاريخ ٢١/١١/٢٠١٢، وهو كالآتى:
"استمتَعَ برحلةٍ إلى البيت الأبيض، ومنزلٍ فى ماليبو، ورافقَ نجومَ هوليوود. ولكن الآن بعد ست سنوات من الحياة التى كان يحلم بها، انفصل الطالب الجامعى السابق فى كاليفورنيا (جيريمى لينجڤال) أخيرا عن شريكه الملياردير قُطب الإعلام (ديڤيد جيفن)".
وأفادت صحيفة نيويورك بوست أن الزوجين قد افترقا لأن "العَلاقة قد أخذت مجراها ببساطة".
أَقتَبِس من كلام الدكتور (عبد الوهاب المسيرى) فى رسالته للدكتوراه فى جامعة روتجرز فى الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد تنبَّأ المفكر المصرى الراحل (عبد الوهاب المسيرى) بانعطاف الممارسة الجنسية فى الغرب نحو (المثلية)؛ حيث أطلق المسيرى على تلك الثورة المثلية، الحتمية بحسب قوله، تعبير (الشذوذ الجنسى البروتستانتى). لماذا رأى المسيرى حتمية هذا التحوُّل؟
بنى المسيرى نظريته تلك على أساس اعتماد الحضارة الغربية على اللذَّة كمِعيارٍ للقيمة؛ ولذلك فإن الجنس الغَيْرى - بحسب ذلك المعيار - يصير خطرا؛ لأن تلك العَلاقة مع الآخر يترتَّب عليها عطاء مقابل الأخذ، ومسئوليات اجتماعية، وربما أحيانا تَعنِى الإنجاب وتربية الأطفال، وهو ما يعنى مجموعةً من القِيَم الثابتة تتجاوز مفهومَ اللذَّة الكاملة.
لم تكن هناك مؤشِّرات فى المجتمع الأمريكى فى ذلك الوقت على ما يدعم استشراف المسيرى الذى قدَّمه فى أطروحته، سوى فقط دراسته للشاعر الأمريكى (والت ويتمان)، الذى ذكر نَصا فى إحدى كتاباته الشخصية التى اطَّلَع عليها المسيرى أثناء دراسته: "أنه أصبح شاذا جنسيا لأسباب أيديولوجية؛ لأنه يرى أن تلك هى الحرية الحقيقية". ولا يخفَى على أحدٍ الآن مدى مصداقية نبوءة الرجل.