حول الفيلم التسجيلي “فعل القتل ـ The Act of Killing”

سارة سيد 09 مايو 2022 السينما التسجيلية في مصر الحقيقة والجمال

الكاتب : سارة سيد
في العام 1965م أُسقطَت الحكومة الإندونيسية بفضل العسكر ، أي شخص يعارض الحكومة العسكرية الديكتاتورية قد يُتهم بالإنتماء للفكر الشيوعي أو الاشتراكي أو للفلاحين المعدمين أو للعقلانيين أو للعرق الصيني ، و في أقل من سنة و بدعم من الحكومات الغربية قُتل أكثر من مليون شيوعي.


استخدم العسكر قوات شبه عسكرية وعصابات لينفذوا عمليات القتل، والمقصود بالقوات شبه العسكرية هنا هم “ البلطجية “ هؤلاء الرجال كانوا يتولون السلطة وكانوا يعذبون المعارضين منذ ذلك الحين.
“ عندما قابلنا القتلة ، بكل فخر أخبرونا قصصا عن عملياتهم، و حتى نفهم ذلك طلبنا منهم أن يصوروا عمليات القتل بالطريقة التي يريدونها، هذا الفيلم يتتبع العملية و يوثق ما يتبع ذلك.”
هكذا بدأ (جوشوا أوبنهايمر ) المخرج الأمريكي فيلمه “ فعل القتل “ بعرض تاريخ إندونيسيا في الفترة ما بين عامي 1964 و 1966، وأوضح كيف أسقطت الحكومة الإندونيسية آنذاك إثر الانقلاب العسكري الذي قام به الشيوعيين عام 1965 مما أدى إلى حملة من جانب العسكر أجهضوا فيها هذا الإنقلاب وتتبَعهُ بإبادة تامة للشيوعيين بقيادة (سوهارتو ) الرئيس الثاني لإندونيسيا والذي قاد بعدها حملة تطهير واسعة ضد الشيوعيين .
خلفية الأحداث
تزايدت عضوية الحزب الشيوعي الإندونيسي والحزب الوطني الإندونيسي اليساري و الدعم العام لهما بشكل كبير بين عامي 1960 و 1965، ويرجع ذلك إلي عاملين رئيسيين؛ أولهما أن الرئيس “ سوكارنو “ وهو رئيس البلاد منذ عام 1945 حتى عام 1968 وكان رمز محوري للحركة الجماهيرية ضد الإستعمار قبل الإستقلال قد ازداد دعمه لفكرة ( إشتراكية إندونيسيا )، والعامل الآخر هو أن اليسار الشيوعي الإندونيسي كان قد شنّ حملة ضد فساد الشركات المملوكة للدولة في ظل الإدارة العسكرية ، وللمطالبة بتمثيل العمال في إدارة تلك الشركات و إعادة توزيع الأراضي الكبيرة على المزارعين الفلاحين المعدمين .

سوهارتو و دوره
قام اللواء (سوهارتو ) وهو رئيس القيادة الاستراتيجية العسكرية وقتها بحشد جنوده و ألقوا القبض على الشيوعيين، زاعمًا أن الحزب الشيوعي الإندونيسي قد حاول الانقلاب علي الحكومة وشنت جماعته علي الفور حملة دعائية و بدأت في عمليات القتل و الإرهاب ضد الحزب الشيوعي واليسار الإندونيسي. و على مدار السنوات الثلاث التالية كانت القيادة السياسية بجماعة ( سوهارتو ) مدعومة بحشود عسكرية في تنظيم عمليات القتل الجماعي وكان من يقوم بتنفيذ القتل إما الجيش أو القوات شبه عسكرية مسلحة، و قد احتفت حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان واستراليا وحكومات أخرى بعمليات القتل واعترف عملاء الاستخبارات المركزية السابقين فيما بعد بأن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية قد منحت حكومة سوهارتو قوائم بأعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي، و في عام 1966 أقنع سوهارتو الرئيس سوكارنو بأن يمنحه سلطة إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، والتي كانت نقطة التحول في الدور السياسي لسوهارتو ؛ حيث عينه البرلمان رئيسًا بالوكالة عام 1967 ثم رئيسًا مُنتخبًا عام 1968 ليصبح الرئيس الثاني لإندونيسيا .
أكثر من ثلاثة ملايين شيوعي تمت إبادتهم سواء بالقتل أو بالاعتقال من قبل الجماعات المنظمة التي على رأسها تنظيم (شباب البانكسيلا ) أكبر منظمة شبه عسكرية في إندونيسيا، ويُعد صاحب الدور الأكبر و الرئيسي في مذبحة( 1965- 1966).

الشخصيات
يعرض الفيلم جانبا هاما من جوانب الشخصيات الرئيسية التي شاركت في تلك المذابح وهو وضعهم أمام حقيقة بشاعة جرائمهم ، كيف تقبلوها ؟ وكيف يرونها الآن ؟ هل ينظرون إليها نظرة المُخَلِص العظيم الذي رأى ضرورة فعل ما فعله، أم سينظرون إليها بنظرة أكثر عدلاً وتصالحا مع النفس وأن يعترفوا بما بها من ظلم بيِّن وجَلي.

أنور كونجو
الحقيقة أنه إذا تطرقنا إلي شخصيات الفيلم لابد أن نقف عند عدة شخصيات هامة حقًا، ومن أهمها بالطبع الشخصية الرئيسية به وهي ( أنور كونجو ) و هو الذي تمت ترقيته عام 1965 في أعقاب الانقلاب من مجرد بائع تذاكر الأفلام في السوق السوداء إلى قائد أعتى فرقة إعدام في شمال سومطرة حيث أصبح جزءًا هامًا من عمليات القتل وذلك استنادًا إلى تعريف ( أوبنهايمر) له في الفيلم، واستنادًا إلى ما أقره ( أنور) نفسه . لهذه الشخصية محوران مهمان أديا إلى تشكيل التحولات التي طرأت بـأنور ولابد من استعراضهما، أولهما؛ نكهة الفخر الواضحة في طريقة عرض أنور لجرائمه و هو ما أقره أنور بنفسه بأنه قتل العشرات بل المئات من أرواح الشيوعيين بطريقة ابتكرها هو حينها بشنقهم بسلك معدني، لما وجد فيه من السهولة و السرعة وعدم تركه آثارا للدماء مثل طرق القتل التقليدية، ويروي أنه ابتكر طرق القتل التي استخدمها في عملياتهُ متأثرًا بالأفلام الأمريكية والأفلام السادية عن التعذيب و القتل، بل أنه أصبح أكثر سادية من هذه الأفلام كما يقول. و نراه في الحديث عن طرق قتله للشيوعيين رجلًا منتشيًا و سعيدًا بما يقول وبما فعل، وهذا سيقودنا إلي المحور الثاني لشخصيته حينما أتاح له المخرج (أوبنهايمر ) تمثيل المشاهد الحقيقية التي تم بها تعذيب و قتل الشيوعيين بمساعدة صديقه (هيرمان كوتو ) عضو (التنظيم المسلح ) بالطريقة التي يرونها، و هنا استغل أوبنهايمر شغف أنور بالسينما الأمريكية، ووضعه أمام مرآة نفسه بجعله المخرج وعرض تلك المشاهد بعين أنور، فأتقن أنور الأداء حتى تقمص دور الشيوعي المُعذب فعلًا وهو على مشارف الموت، و إذ به يصيح بأن أوقفوا التصوير و يساعده (هيرمان) في فك السلك المعدني من حول رقبته و يقول أنور لاهثًا “ شعرتُ بأنني مَيّت لثواني “، و نراه في مشهد لاحق يقول في لحظة صدق “ هل الذين قمت بتعذيبهم يشعرون بنفس الذي شعرت به أنا ، أستطيع أن أشعر بشعور من عذبتهم لأن كرامتي هنا تحَطمت ثم شعرت بـالخوف ذلك الحين فجأة، كل ذلك الرعب تملكني و أحاط بي “ فيرُد المخرج جوشوا أوبنهايمر عليه قائلًا “ في الحقيقة الذين عذبتهم كانوا يشعرون بأسوأ من ذلك بكثير لأنك تعلم بأن ما يحدث لك مجرد فيلم بينما هم كانوا يعلمون بأنهم يُقتلون” فَيرد أنور قائلًا “ و لكني أشعر بذلك يا جوش، حقًا أشعر بذلك، أولاً لأني ارتكبت ذنبًا؛ فعلت ذلك لأشخاص كثيرون جوش، هل كل ذلك يعاودني، أتمني ألا يفعل، لا أريده أن يعود يا جوش”.
يقول كلامه الأخير باكيًا أمام الكاميرات معلنًا عن ندمه الحقيقي وهذا تحول كبير في رؤية أنور للموضوع برمته، حيث أقر ببشاعة الجرائم بالفعل، ولكنه أيضا يرى أنهم كانوا مُجبرين آنذاك على تشويه الشيوعيين و قتلهم من قِبل العسكر.

عَدي ذو القدري
شخصية أخري هامة تُدعي “ عَدي ذو القدري “ وهو مشارك بتنفيذ عمليات القتل عام 1965 ، صديق أنور الذي قام معه في بعض المشاهد بدور شيوعي يتعرض للاستجواب و التعذيب علي يد أنور وهيرمان، فنراه في مشهد يتحدث فيه إلى أنور بكل صراحة و شفافية قائلًا “ أحيانًا أفكر لو كان أبي شيوعي و قُتل سأكون غاضبًا، هذا طبيعي، على سبيل المثال إذا قتلت والدي سأكون مستاءً منك، لماذا قتلت والدي ؟ ثم لا تدعني ألتحق بالمدرسة، ولا تدعني أعمل بل ولا تسمح لي بالزواج، هذا يجب أن يتغير، لم يكن هناك إعتذار رسمي، ما الصعب في الاعتذار إذاً ، سيكون كالعلاج و يخفف الألم ، المغفرة ، لم يكن الشيوعيين أكثر وحشية ؛ كُنا نحن الأكثر وحشية “.
- فَـعَدي صريح منذ البداية؛ يقر بأن ما فعله جريمة ولكنه اختلق لها الأعذار وقتها حتى لا تطيح بنومة الكوابيس مثلما يحدث مع أنور، فهو لا يشعر بالذنب، يرى بأنها كانت حربا والتاريخ يكتبه المُنتصرون” أنا المنتصر، يمكنني أن أضع تعريفي الخاص” كما قال في حديثه مع أوبنهايمر، وهو من أجرأ من حاورهم المخرج في هذا الفيلم .
قدم الفيلم طرحًا مختلفًا لأبعاد الأزمة وبيان الحقائق التاريخية التي أخفاها أصحاب السلطة آنذاك عن حقيقة وحشية الشيوعيين، و استطاع بالفعل أن يضع يده على مواضع الفساد القائم في المجتمع الإندونيسي بين قياداتها ورجال الدولة والبرلمان، بالإضافة إلى عرض الفقر البيّـن والجهل بين الشعب الإندونيسي بأكمله.
لا يسع المرء إلا أن يتساءل إذن، لماذا وافق أمثال أنور كونغو وعدي على التعاون مع أوبنهاير، وعن طريقة تعريض الذات لتلك الانتقادات - حتى لو كانت خفية في الصدور لم تُعلن على الملأ - وهذا التفاخر بمآثرهم؛ فإن تفاخرهم يساعد في الحفاظ على نظام الخوف طبقًا لسياسة الدولة المُتبعة، و لكنه ليس مظهرا من مظاهر الفخر الحقيقي، وهذا يدل على حالتهم النفسية المعقدة بالفعل .
إن أوبنهايمر في “ فعل القتل “ يكشف هروب وأوهام الجناة ، فضلاً عن الأكاذيب التي يقولونها حتي يتمكنوا من العيش مع أنفسهم، ولكن أيضًا كيف يواصلون فرض هذه الأوهام والكذب على كل من حولهم، وعلى أقارب القتلى؛ فالمخرج أظهر ببلاغة حقيقية الصمت المخيف للناجين بل في المجتمع كـكل؛ إنه خوف لن يختفي أبدًا حتى يتم التصدي له.
هذا الفيلم عن الإفلات من العقاب وكشف الأكاذيب التي تقوم عليها السياسات الدولية الحالية، وليس فيلمًا يحاول صُناعه جعل الإبادة الجماعية المنسية مرئية، فقد كشف أوبنهايمر في الفيلم أن الغرب جزء أساسي من الرعب والظلم و الدمار والصمت، و يذكِّر بأن عمليات القتل الجماعي للشيوعيين في إندونيسيا عام 1965 في ذروة الحرب الباردة كانت المملكة المتحدة وأمريكا من أكبر موردي الأسلحة فيها .
إن آثار “فعل القتل” نفسية ومعنوية أكثر منها سياسية أو عسكرية، ففي هذا الفيلم نرى ما تخلفه الحروب في نفوس البشر من خوف وقلق نفسي عميق لا يمحوه الزمن.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات