الكاتب : محمد طارق
بمجرد عبورك للضفة الشمالية لميناء إي جي بأمستردام، سيلفت انتباهك، بتصميمه المعماري الحداثي، وبياضه، وكأنك تشاهد مبنى قد صُنع ليصوره ستانلي كوبريك في أحد أفلامه، إنه مبنى Eye Film Museum، أو متحف الفيلم “العين” بأمستردام، والذي تم افتتاحه في عام 2012، ليوصف بأنه “كعبة” محبي الأفلام بهولندا. تطمح إدارة المتحف لأن يكون بيتًا للأفلام، وهو يحتوي العديد من الأنشطة والفاعليات المتعلقة بفن السينما، بداية من معرض دائم لتاريخ السينما، وقاعات تعليمية، وقاعات عرض، ومطعم، وقاعات سينما بالطبع.
وفي هذا المقال، نحاول تسليط الضوء على معظم الأنشطة التي يقوم بها المتحف، آملين أن تمتلك مصر متحفًا مماثلًا في يوم من الأيام، يحافظ على تراثنا السينمائي الضخم، ويؤرخ له أيضًا. ولكن قبل أن نشرع في وصف ما بداخل المبنى، سنتحدث قليلًا عن تصميم المبنى الذي يطابق إلى حد ما هوية المبنى التي تتخذ من الأفلام والسينما موضوعًا لها.
مبنى يشبه السينما
تم تصميم المبنى من قبل شركة نمساوية مرموقة تُدعى Delugan Meissl Associated Architects، ويقع المبنى في موقع متميز في مدينة أمستردام على الضفة المقابلة للجزء التاريخي للمدينة، في حي يُدعى اوفرهوكس - Overhoeks والمُسمى وفقًا لبرج تم إنشاؤه في ذات الحي نفسه. إذا ما نظرنا إلى المدينة من أعلى، سنجد أن المبنى ببياضه المميز، يتباين بشكل ما مع باقي ألوان المباني الرمادية والزرقاء، إنه مبنى مميز، كما الأفلام ذاتها، في اختلافها عن أي فن آخر. تصف الشركة المصممة للمبنى أنه قد تم صنع سطح المبنى بشكل ما يجعل الضوء يتحرك في المبنى بشكل مختلف على مدار اليوم، واضعين في اعتبارهم أن الضوء والحركة، هما من الصفات المميزة لفن السينما.
أيضًا، تم تصميم المبنى بشكل ما، يغير من وجهة نظر الرائي كلما تحرك ناحيته أو مبتعدًا عنه، وكأن المبنى تسلسل من المشاهد يتم القطع، أو الانتقال بينها، وهو الأمر الجلي داخل المبنى ذاته عند الانتقال بين القاعات المختلفة، كل هذا يجعل من المبنى قطعة معمارية فريدة تعبر بشكلها عن السينما، والأفلام، حتى من قبل معرفة ما بداخل القاعات. تصميم فريد ومواكب للتطور الهائل الذي تشهده الصناعة يومًا بعد يوم.
معروضات المتحف ومكوناته
في الدور الأرضي، وبعد المرور على صالة الاستقبال، ندلف إلى المعرض الدائم للمتحف، والذي يسعى للتعريف بتاريخ فن السينما. يتكون المعرض الدائم من عدة أجزاء، فهناك جزء يتوسط الصالة، ويُدعى “البانوراما”، ويحتوي عددًا من الكاميرات المستخدمة قديمًا، مثل كاميرا ميتشل والتي تصور على شريط خام 35 مللي، وميوتوسكوب - mutoscope يعرض فيلم “النادل” لشارلي شابلين، ومصباح سحري - Magic lantern، وكاميرا كينامو - Kinamo، مرتبة ترتيبًا زمنيًا يسمح للزائر، أن يتجول بداخل تاريخ السينما، وأن يلمس ويجرب تلك المعدات التي أصبحت جزءًا من التاريخ. في نهاية هذه الصالة، نرى كاميرات الفيديو المحمولة، ومن ثم، يضع المتحف هاتف آي فون، مرفقًا بلوحة شرح تقول:
“لقد كان سينماتوغراف الأخويين لوميير، آلة عرض، وطابعة، وعارضة أفلام في الوقت ذاته. والآن، يحمل كل منا صناعة أفلام متكاملة في جيبه، فالهاتف الذكي هو كاميرا، وأرشيف للمادة المصورة، وشاشة عرض في جهاز واحد. التغيير الرقمي يغير كل شىء من طريقة تصوير، وتمويل، ومونتاج، وتوزيع، ومشاهدة، وحفظ الأفلام، لكن الشىء الذي يبقى هو الحس الأساسي للسينما مُمثلًا في الضوء والحركة.”
تعي إدارة المتحف إذن، أن الهواتف الذكية قد أصبحت جزءًا من صناعة الأفلام، بل ومن تاريخها، وتضعه ضمن مجموعتها، لتؤكد أنه جزء لا يتجزأ من تطور صناعة الأفلام، كما أنها تُلمح بالفكرة لكل زائر، يمكنك أنت أن تكون صانعًا للأفلام، فالأمر لا يتطلب سوى اقتناء هاتف ذكي، والبدء في التعلم. وعلى مقربة من هذا الجزء التاريخي ننتقل إلى طاولة زجاجية، معروض بها شرائط الأفلام الخام، توضح تاريخ الأفلام الخام المستخدمة منذ بداية صناعة الأفلام، وتعرض قطعًا من نسخ أصلية لأفلام تم تصويرها على مقاسات مختلفة مثل 70، و35، و16 مللي.
بموازاة تلك القاعة، توجد غرفة، تُغطي الأفلام المعروضة جدران الغرفة بالكامل، فهي كشكل حداثي لبانوراما الأفلام، قاعة تحيط بك الأفلام بها من كل جانب، وفي المنتصف توجد لوحات لمس، ذات ذراع جانبية، وكل ما عليك فعله، هو جذب تلك الذراع، ليتحول الجزء الذي أمامك من الشاشة إلى مقاطع مختلفة من أفلام، تشرح بدورها جزءًا من تاريخ السينما، غرفة تجعلك تشعر بأنك مُحاط بالأفلام ذاتها، بعد أن ترى المواد الخام المستخدمة في القاعة الأخرى.
في النصف الثاني من صالة العرض الدائم، غرف صغيرة، مصممة كمركبات صفراء، تشبه مركبات مدن الملاهي، بها ثلاثة مقاعد مريحة، وثلاث سماعات رأس، وشاشة كبيرة أمامك. تتيح لك هذه الشاشة أن تشاهد آخر ما تم ترميمه من أفلام، أو أن تشارك في اختبار عن الأفلام، عن طريق أزرار للاختيار بجانب المقعد، ما يمنحك إمكانية المنافسة لك ولأصدقائك، في اختبار للمعرفة الفيلمية. وفي نهاية الصالة، توجد كروما خضراء تمنحك الفرصة لتصنع لقطتك الخاصة باستخدام الستارة الخضراء، التي يستخدمها صانعو الأفلام من أجل تصوير بعض المشاهد.
يتبقى بعد هذه الصالة الكبيرة، جزآن معروضان بشكل دائم أيضًا، الأول هو الجزء الخاص بالاستماع إلى بعض صناع الأفلام، وهم يتحدثون عن تفاصيل خاصة ببعض المشاهد المميزة في تاريخ السينما، كل ما عليك هو أن تجلس، وتستمع إلى مقاطع صوتية قصيرة تتحدث عن مونتاج “Run Lola Run”، أو عن تصوير “Jaws”، أو عن سيناريو “China Town”. الجزء الأخير ضمن المعروضات الدائمة هو مجموعة الصور، وأفيشات الأفلام، حيث يمتلك المتحف قرابة 95 ألف صورة تم التقاطها أثناء تصوير الأفلام، و47 ألف أفيش أصلي لفيلم، بالإضافة إلى مقتنيات تاريخية مثل أرشيف جان ديسميت، وهو واحد من رائدي السينما الهولندية. بعض هذه الصور والأفيشات تُنتقى للعرض العام في المتحف، والبعض الآخر يتوافر في الأرشيف.
وبترك صالة العرض الدائم ننتقل إلى أجزاء أخرى من المتحف، مثل صالة الطعام، والتراس الصيفي للمتحف الذي يطل على النهر، ومن خلفه الجانب التاريخي لمدينة أمستردام، وصالة العرض الكبيرة، التي يخصصها المتحف لعمل معارض مؤقتة عن فنانين متميزين، مثل المعرض المُقام حاليا عن الفنان السوريالي يان سفانك ماير - Jan Svankmajer، ويحتوي المعرض عروضًا لمجموعة من أفلامه الطويلة والقصيرة، ومعروضات من لوحاته، وصوره، وتنصيباته - Installations الفنية السريالية. كما يحتوي المتحف على أربع قاعات سينما، ومتجر لشراء كل ما يتعلق بالسينما من أفيشات للأفلام، وهدايا تذكارية، وكتب، وأقراص دي في دي.
أنشطة المتحف التعليمية
للأطفال نصيب كبير من المتعة في المتحف، فبالإضافة إلى إمكانية زيارتهم للبانوراما الدائمة المعروضة عن تاريخ الأفلام، يقدم المتحف خدمات أخرى لهم، منها عروض أفلام للأطفال من سن 2-6 سنوات، وعروض لمن هم فوق ال6 سنوات، وجولات مصاحبة بالفيديو،
وورش متخصصة تدرس صناعة الأفلام نظريًا وعمليًا. خدمة أخرى يقدمها المتحف للأطفال، هي جولة الألغاز، والتي تدفع الأطفال لاستكشاف المتحف، والسينما ذاتها، عن طريق اللعب والاكتشاف الذاتي لما قبل ظهور الكاميرات وآلات العرض، وتُقدم هذه الجولة مقابل يورو واحد فقط للطفل.
لا يقتصر التعليم، في المتحف على الأطفال، حيث يقدم المتحف رشه التعليمية، ومحاضراته، للطلاب من مختلف الأعمار، فهناك قسم خاص بطلاب المدارس الثانوية، وقسم بمن يدرسون في الجامعات، حيث تتاح لهؤلاء فرصة تصوير أفلام قصيرة، أو التعرف على تاريخ الأفلام من خلال بعض الورش المتخصصة أيضًا. حيث يرى المتحف من خلال رسالته التعليمية أن تعليم السينما هو واحد من أهدافه الرئيسية، ويسعى المتحف لجذب كل المقيمين بهولندا، للاشتباك مع صناعة السينما، سواء من خلال الفهم والتحليل، أو التجربة والإنتاج، مرة واحدة في عمره على الأقل.
متجر هدايا ومساحة لحفلات الزفاف أيضًا
هناك العديد من الطرق التقليدية وغير التقليدية التي ينتهجها المتحف لجذب تمويله اللازم. حيث يعتمد على دعم ومساندة العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة مثل بلدية أمستردام، ووزارة الثقافة الهولندية، ومنح أخرى من مؤسسات ثقافية مثل مؤسسة Nederlands Film Fonds ومؤسسة u&eye Fonds، وغيرها من التبرعات الفردية والاشتراكات السنوية من الأفراد والشركات المهتمة بدعم ثقافة الفيلم في هولندا.
يستخدم المتحف بعض الطرق التجارية أيضًا، وأول هذه الطرق هو المتجر الذي يبيع الهدايا التذكارية المتعلقة بالسينما، وأفيشات الأفلام الأصلية، والمطبوعة، بالإضافة إلى ركن خاص بالكتب الخاصة بالنظريات السينمائية، ومجموعة أقراص الـ«دي في دي» تحتوي أفلامًا كلاسيكية وحديثة منتقاة بعناية شديدة. هناك أيضًا ثمن تذكرة الدخول (10 يوروهات) والذي يُعد زهيدًا مقابل ما يقدمه المتحف، كما أن الدخول للعاملين بالصناعة، يمكن أن يكون مجانًا فور إخبار موظف الاستقبال. يبيع المتحف، تذاكر لعروض سينمائية عادية في القاعات الأربع، كما يستغل المتحف المطعم بشكل جيد، حيث يقدم المأكولات، والمشروبات على مدار اليوم، لتحظى بغداء رائع بعد جولة ممتعة في ممرات المتحف.
يتيح المتحف أيضًا تأجير القاعات من أجل حفلات الاستقبال، والقاعات المخصصة من أجل الاجتماعات، كما يمكن تأجير قاعات السينما ذاتها بالتنسيق مع الإدارة، ولكن الطريقة الأغرب لجلب التمويل المالي هو تأجير المتحف ككل من أجل حفلات الزفاف، وهي خدمة غير اعتيادية، ومميزة للغاية.
يُعد متحف الفيلم إذن كمكان للحج لكل محب للأفلام، حيث يعمل كماكينة متقنة الصنع، للحفاظ على تراث السينما، والتوعية بأهمية هذا التراث. كما يعمل كمصنع للباحثين، والصانعين على حد سواء. وقد حاولنا في هذا المقال أن نتعرض لأهم الأوجه المختصة بمكونات وإدارة المتحف، الذي يعد امتدادًا لغيره من الهيئات والأرشيفات السينمائية، مجددين أملنا في أن نمتلك يومًا مكانًا كهذا، يحافظ على تراثنا السينمائي، ويعمل كمصنع أيضًا للسينما المصرية التي تعاني من تفشي رداءة الصنع، بعد أن كانت يومًا تماثل غيرها من صناعات السينما العالمية.
للمزيد حول أنشطة وخدمات المتحف، يمكنك زيارة موقع المتحف عن طريق هذا الرابط: https://www.eyefilm.nl/en