مهرجان روتردام الثامن والأربعين..

محمد طارق 10 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : محمد طارق
في عام 1972، افتتح مهرجان روتردام السينمائي الدولي، دورته الأولى. كان عدد الحاضرين آنذاك في حفلة الافتتاح، 17 شخصًا. وعلى مدار سنوات من العمل، نجح مؤسس المهرجان الناقد السينمائي الهولندي هيوبرت بال في نقل المهرجان من مجرد مبادرة هدفها تسويق الأفلام المستقلة في سينمات عرض الأفلام الفنية أو ما يُعرف بسينمات الArt Houses المنشأة حديثا في هولندا في وقتها، إلى مهرجان قوي، يدعم صناعة الأفلام ذاتها من خلال منح وأسواق إنتاج مشترك، ويوفر مساحة العرض لكل ما هو مستقل في عالم الأفلام.


رأى هيوبرت بال، والذي رحل عن عالمنا عام 1988، أن المنح يجب أن تذهب إلى الفنانين الصاعدين من أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وبعض البلدان من شرق أوروبا، أو ما يعرفه العالم بالدول النامية أو دول العالم الثالث. وبعد رحيله، قرر المهرجان تسمية المنح الموجهة باسمه تقديرًا لجهوده ودأبه في إنشاء وتسيير المهرجان في سنواته الأولى. المنحة التي ذهبت فيما بعد إلى عديد من الأفلام ذات القيمة الفنية العالية، ومنها على سبيل المثال، أفلام لمخرجين مصريين، مثل فيلم “عرق البلح” لرضوان الكاشف، و”رومانتيكا” لزكي فطين عبد الوهاب، و”حاوي” لإبراهيم البطوط، و”فيلا 69” لآيتن أمين، و”زهرة الصبار” لهالة القوصي، وأخرى لمخرجين عرب مثل “سجل اختفاء” لايليا سليمان، و”صمت القصور” لمفيدة التلاتلي.

حضور جماهيري استثنائي لأكثر من ٥٠٠ فيلم معروض
وفي عام 2018، سجل المهرجان ما يقارب 327 ألف تذكرة مباعة، خلال دورته الـ47، الأمر الذي يجعله واحدا من تلك المهرجانات التي صنعت جمهورها بالفعل، فقد تجد العديد من المقيمين بمدن غير روتردام داخل هولندا يحضرون المهرجان من أجل مشاهدة كل ما هو جديد في عالم السينما. وفي عامنا الحالي، وبرغم عدم صدور الأرقام الدقيقة عن عدد التذاكر حتى الآن، إلا أن كاتب المقال، يتوقع أن يماثل الرقم نفس ذات الرقم الذي حققه في العام الماضي.
يعتمد المهرجان في برمجته، على عرض كل الأعمال التي أثارت الانتباه في العام الماضي، حيث إن المهرجان يقام في أول العام، فإن برمجته تبدأ من مهرجان برلين، وتنتهي بانتهاء العام، إلى جانب عدد من الأفلام التي تٌعرض عالميًا لأول مرة. عرض المهرجان هذا العام ما يفوق الـ 500 فيلم، ما بين روائي/تسجيلي طويل، أو قصير، أو حتى متوسط الطول، وهو من المساحات القليلة التي توفر العروض للأفلام متوسطة الطول. من بين الأفلام المعروضة، شهد 146 فيلمًا عرضهم العالمي الأول، وبالاتفاق مع مهرجان برلين، سافرت بعض تلك الأفلام بالفعل لتُعرض مجددًا وفي غضون أقل من شهر في مهرجان برلين.

برامج دعم مختلفة.. ودرس في تنظيم المهرجانات
وقبل الحديث عن الأفلام يجب أن نتحدث عن المهرجان ذاته كدرس في تنظيم المهرجانات، وكلاعب أساسي في دعم الأفلام المستقلة، التي تقل مواردها يومًا بعد يوم، وكمنصة حرة لعرض كل ما هو جديد، دون رقابة على أفكار صانعيه، ودون قيد لمرات عرضه من قبل. للمهرجان أربعة برامج موجهة لدعم الصناع، والنقاد على حد سواء، أولها هو “مختبر روتردام-Rotterdam Lab” وهو عبارة عن ورشة مكثفة لمدة خمسة أيام، للمنتجين الشباب، ليقابلوا في هذه الأيام مجموعة من المنتجين والمسوقين والموزعين ذوي الخبرة، الذين يعملون معهم من خلال جلسات مكثفة حول إنتاج وتسويق مشاريعهم، ويمتد الأمر لدراسة حالة إنتاج أحد الأفلام المستقلة في الأعوام الأخيرة.
برنامج الدعم الثاني هو “سوق الأفلام-Cine Mart”، والذي اشتهر مهرجان روتردام بوضع صيغته المبتكرة التي استخدمتها المهرجانات السينمائية فيما بعد، الا وهي جمع أصحاب المشاريع السينمائية المميزة مع المنتجين والموزعين، ومسوقي الأفلام، ومندوبي مبيعاتها في لقاءات فردية (واحد لواحد)، وهي الطريقة التي تستخدمها معظم المهرجانات السينمائية المهمة في العالم هذه الأيام. البرنامج الثالث الذي يقدمه المهرجان لدعم الأفلام هو “منح هيوبرت بال-Hubert Bals fund”، وهي التي تحدثنا عنها سابقًا في بداية المقال، وهي تُعطى للأفلام في مراحل مختلفة من إنتاجها، سواء كمنح لتطوير السيناريو، أو للإنتاج، أو لما بعد الإنتاج.
البرنامج الرابع الذي يقدمه المهرجان هو برنامج التدريب للنقاد الشباب، وهو برنامج يجمع مجموعة من النقاد الواعدين الشباب، ويشترط البرنامج أن يكون المتقدم دون سن الثلاثين، وألا يكون قد تحقق مهنيًا كفاية ليحضر المهرجان دون دعم. جمع البرنامج هذا العام خمسة نقاد من خمس قارات مختلفة، ولولا ظروف استثنائية، حالت دون حضور الناقدة النيجيرية، لجمع من ست قارات، كعادة كل السنوات. يتعرض هؤلاء النقاد لبيئة المهرجان المليئة بالشغف بالأفلام، ويناقشون أوضاعهم المهنية، في وجود ميسرين ذوي خبرة في مجال نقد الأفلام.
أما عن التنظيم، فهو تجربة استثنائية بلا شك، ففور وصولك إلى محطة قطار روتردام، لا يمكنك التغاضي عن ظهور ملصقات المهرجان الدعائية في كل مكان، المدينة الحداثية التي دُمرت وأعيد بناؤها بشكل جديد تمامًا، تحتفي بالمهرجان، في كل شارع، ومقهى، ومطعم. وصولًا إلى المقر الرئيسي للمهرجان، يستقبلك العاملون والمتطوعون (الذين يصل عددهم لما يقارب ٩٠٠٠ متطوع) بود شديد، ورغبة في المساعدة في كل خطوة. أما عن الصحفيين، فيتم تخصيص مركز صحفي واسع للكتابة وعمل المقابلات الصحفية التي يتم ترتيبها بكل يسر عن طريق البريد الإلكتروني. المركز الصحفي مزود بالإنترنت عالي السرعة وكمبيوترات لحجز جدول أفلامك الذي يتم كله عن طريق الحساب الشخصي للصحفي أو حتى للمشاهدين غير المتخصصين.
بالإضافة إلى ذلك، يوفر المهرجان عروضًا خاصة بالصحفيين، والصٌناع والتي لا تحتاج إلى تسجيل، ويتم دخولها ببطاقة المهرجان. كما يوفر المهرجان مكتبة فيديو للصحفيين والنقاد، تتيح لهم مشاهدة ما فاتهم ن أفلام، وتعمل مكتبة الفيديو بشكل متنقل خلال هولندا كلها، من خلال الحساب الخاص بالصحفيين والنقاد، الأمر الذي يسهل كثيرًا من جدولة الأفلام التي تريد متابعتها. وبعد انتهاء المهرجان، يتم إتاحة بعض الأفلام مقابل مبلغ مادي، عبر موقع المهرجان، وهذا العام، تم الاتفاق أيضًا مع منصة MUBI الشهيرة بعرضها للأفلام الفنية والمستقلة، لعرض بعض من أفلام المهرجان مقابل اشتراك شهري لمنصة المشاهدة.

محاضرات لمعلمين سينمائيين..
وأفلام واعدة لمخرجين شباب
المحاضرات أو الـ Masterclasses هي إحدى مميزات المهرجان، حيث يتاح لمحبي الأفلام، والنقاد، حضور محاضرات لبعض من أساتذة ومعلمي السينما مثل السيناريست جوليرومو ارياجا، والمخرجة كلير دنيس، والمخرج جيا زانكي، والذي عُرض فيلمه “الرماد هو الأنقى بياضًا” في خلال عروض المهرجان هذا العام.
تنوعت الأفلام المعروضة في المهرجان ذاته لتشهد عروضًا مختلفة، وسنحاول هنا إلقاء الضوء على أهم الأفلام التي عُرضت وحازت اهتمام الجمهور أو النقاد، أو حصدت بعضًا من الجوائز في المهرجان.

“أبناء الدنمارك” لعلاوي سليم - Sons of Denmark
يختار المخرج الدنماركي علاوي سليم، وهو القادم من أصول عربية، أن يصنع فيلمه الطويل الأول حول قضية الإرهاب والتطرف في الدنمارك. يختار أبطال فيلمه، شاب يميني متطرف الخطاب يترشح للانتخابات، وشاب عربي يشعر بالاغتراب ينضم لجماعة تشرع في عمليات إرهابية، وبينهما بطل الفيلم، وحسن الضابط المتخفي، القادم من أصول عربية هو الآخر. حبكة تذكرنا بفيلم سبايك لي الأخير “بلاكككنسمان” وهي حبكة تضع الشخص محل الاضطهاد في موقع سلطة، وبرغم هذا التشابه، فإن علاوي سليم في أول تجاربه الإخراجية الطويلة يتفوق على سبايك لي من حيث قوة بناء السيناريو، الملىء بالمفاجآت، إنه فيلم لا يمكنك توقعه على الإطلاق، حيث يقدم معالجة ذكية لتيمة مستهلكة، تجعلك تفكر في الأمر بشكل مختلف.

“الغروب” لـ لازلو نمس - Sunset
يعود لازلو نمس، في فيلمه الروائي الطويل الثاني، بعد “ابن شاؤول” إلى حقبة زمنية مبكرة، حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى، هذه المرة تبدو القصة أكثر تجريدًا حتى وإن احتوت بعض الإيحاءات نحو نفس التيمة، حيث نتتبع قصة فتاة تعود لتسترد محل أسرتها، في بودابست، عام 2010. وبرغم أن الإحالات غير واضحة هذه المرة، إلا أن نمس يستخدم نفس السمات الأسلوبية، تتبع للشخصية بشكل ملاصق، استخدام أسلوب الإضاءة ذى الظلال العالية، ولقطات مرعبة لحوادث جمة تحدث لبطلة الفيلم.

“أم سوداء” لخليق الله - Black Mother
في فيلمه التسجيلي الأحدث، يعتمد خليق الله، على أسلوب مميز للغاية في سرده لتاريخ السود، كونه القادم من خلفية الفوتوغرافيا، يصور المخرج لقطاته لمشاهد تسجيلية عادية تحدث في شوارع جامايكا، لا وجود لتعليق صوتي مصاحب، وإنما فقط أصوات طبيعية من هذه البيئة مصممة بشكل مميز للغاية لتصاحب تلك اللقطات، وتنقل الإحساس دون أي فجاجة أو خطابة. ما يميز الفيلم أكثر، وهو المنقسم لثلاثة أجزاء، هو أنه في نهاية الجزء الثاني، تجد نفسك قد دخلت في حالة تشبه للتنويم المغناطيسي، ثم تُفاجأ في بداية الجزء الثالث بالصوت المصاحب يقول لك “انس هاتفك النقال، انس تلك الرسالة التي تفكر بها” ليفيق مشاهده من حالة لم يكن يدري أنه دخل بها أصلًا.

“خذني إلى مكان لطيف”
لـ إينا سندرافيتش - Take Me Somewhere Nice
الما، فتاة هولندية، تقرر أن تذهب في رحلة لزيارة أبيها المريض في البوسنة، لتدخل في رحلة استكشاف لعوالم لم تعهدها، وأشخاص جدد يختلفون تمام الاختلاف عن مواطنيها الذين تصفهم بالبرود. تختار المخرجة في فيلمها الروائي الطويل الأول أن تقدم تلك الرحلة من زوايا تصوير تحصر الأبطال في جزء صغير من الكادر، وكأنهم بمعزل عن البيئة التي يعيشون بها، بالإضافة إلى تلك التفاصيل الحسية التي تغرقك في حالة الشخصيات بشكل متقن. يلقي الفيلم أيضًا الأضواء على تلك العلاقة المرتبكة بين دول الاتحاد الأوروبي وبين شرق أوروبا، لكن من خلال القصة ذاتها، ومن دون أي مباشرة. فاز الفيلم بجائزة النمر الذهبي (تنويه خاص) في المهرجان.

“حاضر، مثالي” لـ شينج زو - Present, Perfect
أي عالم نعيش فيه اليوم؟ هل نُظهر شخصياتنا الحقيقية على منصات التواصل الاجتماعي؟ أم أننا نختلق شخصيات جديدة؟ تتبع المخرجة الشابة شينج زو مجتمعًا جديدًا في الصين، مجتمع البث الالكتروني، والذي انتشر بشكل كبير في الصين عام ٢٠١٦، وأصبح وسيلة العديد من الصينيين لجني الأرباح. شاهدت المخرجة ما يفوق الـ٨٠٠ ساعة من البث المباشر، قبل أن تقرر أي القصص ستختار، هذا عامل رافعة يعرض على المشاهدين أن يعلمهم كيفية تشغيل الرافعة، وهذا شاب آخر يرقص في وسط الشوارع، وآخر تعرض لحروق شديدة يستغلها في جذب المشاهدين!
الفيلم ليست له مادة مصورة خصيصًا، حيث تصنع المخرجة فيلمها المميز فقط بالبحث والمونتاج، الأمر الذي يجعلها تجربة فريدة من نوعها، موضوعة بالأبيض والأسود كاختيار فني يليق بفيلم يحتوي كل هذه العجائب. حصل الفيلم على جائزة النمر الذهبي في المهرجان، وهو اختيار جريء يُحسب للجنة التحكيم بالطبع.
في نهاية المطاف، يعلق المهرجان في ردهة من ردهاته العد التنازلي للدورة الخمسين، حيث يتحرك بخطى ثابتة، وضع أساسها ناقد مدرك لما يريده المهرجان، وصناعة السينما المستقلة في الوقت ذاته، وسارعلى خطاه مديرون يقظون لروح المهرجان الحداثية، والداعمة، التي خلقت للمهرجان سجلًا هائلًَا من الدعم المقدم للأفلام، سواء بتدريب الصناع، أو دعمهم، وصولًا إلى عرض الأفلام، وخلق الأسواق الجديدة لها.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات