الكاتب : مرام صبح
بممثلين هواة، وميزانية متقشفة، وسيناريوهات غير مكتملة، وبصدقه في التعاطي مع موروث بيئته المحلية، وافتتانه بدمج الوثائقي بالدرامي، وبالبساطة المثيرة، والواقعية العذبة، بلغته المجازية السلسة، وتوظيفه الشعر للسرد البصري، وابتعاده عن الحيل الشكلية والمؤثرات الخاصة، هكذا استطاع المخرج الإيراني عباس كيارستمي أن يكون من أهم المخرجين في السينما العالمية المعاصرة من خلال أفلام جالت على شاشات العالم وهزت قلوب المشاهدين، وألهبت مخيلتهم، وقطفت جوائز قيمة.
.إنها مسيرة فنية بديعة سواء في السينما أو التصوير الفوتوغرافي أو الشعر ركيزتها الأساسية التأمل
إن كيارستمي يمتلك فضيلة التأمل وقد استطاع أن يسيرها حسب هواه في أفلامه.
في فيلمه الأول “خبز وزقاق” (1970) أخذت كاميرته تتأمل انفعالات طفل يحمل الخبز، وترصد خوفه من الكلب الذي عرقل طريق عودته إلى المنزل، وفي فيلمه الوثائقي القصير (Seagull Eggs) عام 2014 تأملت الكاميرا موجات البحر وهي تضرب الشاطئ ذهابا وإيابا الذي عليه ثلاث بيضات حوالي سبع عشرة دقيقة حتى سحبت جميع البيضات الثلاث إلى جوف البحر.
كيارستمي يتأمل ويراقب ويحدق ويمسك في اللحظة ويحلق بخياله ويسبر أغواره فيها، في “طعم الكرز” (1997) ثمة مشهد تجلس فيه شخصية بديعي عند ركام من الحجارة والغبار والأتربة تحوطه من كل مكان، استطاع كيارستمي بهذا المشهد البسيط والصامت أن يوصل الشعور الثقيل الذي يمر به بديعي ويرسم حالته النفسية المعقدة دون استخدام الموسيقى أو أي من طرق التأثير المعروفة على المشاعر، المشهد لوحده كان شيئا مذهلا.
وفي فيلمه “أين منزل صديقي؟” (1987) عندما عاد الطفل (أحمد) إلى منزله في وقت متأخر بعد رحلة البحث عن منزل صديقه لكي يوصل له دفتر واجباته، استطاع كارسيتمي أن يبث لنا مشاعر الخوف من والديه من خلال تعابير وجه الطفل فقط ودون أن ينطق بكلمه واحدة.
لتأمل متلازمة كيارستمي، يتأمل كل شيء من حوله، الصغيرة قبل الكبيرة، القبيح قبل الجميل، الأرض وترابها والغبار، الأحجار الملقاة على جانب الطرق البعيدة، الجبال والتلال والقمم، وجوه الأطفال والنساء والشباب وكبار السن المارين في الشوارع، والجالسين على الطرقات، البيوت وأبوابها.
كان ينظر من خلال نافذة سيارته بدون ملل ولا كلل ذهابا وإيابا، مما أثر على روحه وجعلها تلتمس الجمال في بيئته المحلية البسيطة، وبات ينظر لكل شيء من وجهة نظر فنان تشكيلي، فهو درس الفن التشكيلي بمعهد الفنون الجميلة بالإضافة إلى أنه عمل في بداية مشواره في مجال الدعاية والإعلان والجرافيك، نلاحظ أن ذلك انعكس في بنائه لكوادره لقد حاول دوما مراعاة وجود أسس العمل الفني التشكيلي من توازن وإيقاع وكتلة وفراغ وقيمة لونية وغيرها من تلك الأسس التي ترفع من الشكل الجمالي للمشهد في تكوين لكل كادر من كوادر أفلامه، إنه أشبه بلوحات يمكن أن نعلقها على جدران المعارض العالمية.
الريح سوف تحملنا
في إحدى المرات حين سئل كيارستمي إن كان قد تعلّم شيئا من الجامعة رد قائلاً: “نعم، تعلمت أنني حتماا لم أخلق لأكون رساما”.
كيارستمي يلجأ إلى الرسم لأنه يرى فيه الملاذ الآمن الذي يهرب إليه من صخب الحياة اليومية.
في عام 1999 أنجز فيلم “الريح سوف تحملنا” الذي نسج فيه لوحات غير منتهية، خلفيتها قرية جبلية في كردستان الإيرانية ذات طبيعة جذابه حيث تدور أحداث الفيلم حول مجموعة جاءوا إلى قرية جبيلية في كردستان الإيرانية من أجل تصوير شعائر جنازة امرأة معمرة عند موتها.
استطاع كيارستمي أن يبهر الجميع بهذه التحفة البصرية وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان وجائزة الصحافة العالمية في مهرجان فينيسيا.
بهذا العمل استطاع أن يكون سينمائيا وشاعرا وفنانا تشكيليا في آن واحد فهو يرى أن السينما الفن السابع الذى يضم باقي الفنون الأخرى كالنحت والرسم والموسيقى والشعر حيث يقول:
(لم نحن نحب أن يكون الشيء الذي لدينا معيّنا ومحددا جدا؟ إن كان الأمر كذلك، فينبغي إذن أن نمنع الشخص الذي يحب السينما من الذهاب إلى معرض فني والعكس بالعكس).
التكوين وعناصره التشكيلية في سينما كيارستمي
اللقطة الثابتة
عندما يمسك كيارستمي الكاميرا كأنه يمسك قلما ليكتب شعرا، يخط أول كلمة ثم يكتب باقي الكلمات بكل سلاسة وانسيابية من النادر أن نرى مشاهد داخلية في أفلامه فهو يتلذذ بالمشاهد الخارجية ومناظر الطبيعة.
اعتمد كيارستمي على كاميرا 35 مم في تصوير أغلب أفلامه، التي امتلكت خبرة تقنية كبيرة في تصوير هذا النوع من المشاهد الخارجية خاصه بعد ثلاثيته المشهورة “كركور أين منزل صديقي” 1987، “وتستمر الحياة” 1992، و”عبر أشجار الزيتون” 1994، إنها تصور ما يريده ويشعر به بالرغم من عدم وجود سيناريو كامل.
نلاحظ أن كارستمى اعتمد في “الريح سوف تحملنا” على اللقطة الثابتة بدون قطع في أكثر من مشهد، لكي يلفت انتباه المشاهد ويركز في تكوين الكادر بالإضافة إلى أن الممثلين الذين هم ليسوا ممثلين بالأصل يتحركون بداخل الكادر بحرية ولا يشعرون أن هناك من يتتبع حركتهم.
في أحد مشاهد الفيلم عندما كان المهندس (بهرزاد) جالسا على الكرسي في مقهى القرية قام بتثبيت حركة الكاميرا بحيث نرى المرأة التي تدير المقهى وهي تتحرك داخل الكادر وتقدم الشاي لبهرزاد والرجال جالسون يتحدثون وصوت الأغاني الكردية في الخلفية، بهذا اللقطة استطاع كارستمي خلق جو من الطمأنينة لكل شخص موجود داخل الكادر بحيث يتصرفون بكل أريحية كأنه لا توجد كاميرا بينهم.
وفي مشهد آخر عندما كان بهرزاد يحلق لحيته في شرفة الغرفة، كانت اللقطة ثابتة كأنها مرآة، يقترب بهرزاد من الكاميرا لتصبح لقطة قريبة ويتحرك داخل الكادر ويتحدث إلى المرأة في الشرفة المقابلة وهي تتحرك داخل الكادر ذهابا وإيابا على شرفتها وبيدها كتلة خيط
تلفها على مسامير مثبتة في الحائط الأيمن والأيسر للشرفة والخشبة الموجودة في منتصف الشرفة، استطاع كيارستمي بهذه اللقطة المميزة أن يسرق نظر المشاهد ويشده إلى تكوين كادر بهرزاد من جهة ومن جهة أخرى كادر المرأة في الشرفة.
بالإضافة إلى أنه استخدم اللقطة العامة الطويلة في مشهد الافتتاحية حيث بدأ بلقطة ثابتة، نرى سيارة بهرزاد وأصدقاءه يسيرون في الطريق المتعرج ونرى الهضاب وحقول القمح والأشجار، ثم يقطعها بلقطة عامة طويلة لكي نكتشف مع بهرزاد وأصدقائه معالم هذه القرية التي نحن وهم غرباء عنها.
ويختم فيلمه بلقطة عامة طويلة بدون قطع عند إلقاء بهرزاد بعظمة لإنسان ميت بمجرى النهر والتي أخذها من الرجل الذي كان يحفر البئر بحيث نشاهد أن الكاميرا تتبع حركة العظمة بمجرى النهر ومزجها مع قطعة موسيقية مذهلة بهذه اللقطة استطاع كيارستمي أن يقول الحياة مستمرة بعد الموت، فعند إلقاء بهرزاد العظمة بمجرى النهر انتهت علاقته بهذه القرية التي لا تنتمي إليه ويجب عليه أن يعود إلى طهران حيث حياته هناك.
الخلفيات
اختيار كيارستمي خلفية كوادره في “الريح سوف تحملنا” بعناية ودقة، فقد عمل مصمما للمناظر في مشواره الفني بالإضافة أن والده من قبله كان يعمل مصمم مناظر، ونجد أنه من اللقطة الأولى يختار الخلفية المناسبة التي لها علاقة.
وثيقة بقصة الفيلم، فهو يعتمد على المناظر الطبيعة التي تشع بحيوية (الأشجار والهضاب، والمحاصيل الزراعية، والجبال وحقول القمح) لكي يتذكر المشاهد دائما أن القصة تحدث في قرية جبلية جميع سكانها يعملون في الأرض.
في أحد المشاهد عندما كان المهندس في مكان مرتفع بعيد عن بيوت القرية يوجد فيها شبكة هاتف نراه يتحدث مع الشخص الذي يحفر حفرة، لقطة الكاميرا ثابتة بينما المهندس يتحرك أمام خلفية طبيعة تبدأ بسهول ومن ثم الهضبات ثم الجبال، لقد كرر كيارستمى هذه الخلفية أكثر من مرة لكي يذكرنا بأن كل ما يحدث هو داخل هذه القرية الجبلية.
ونلاحظ أيضا عند تصوير بهرزاد أمام شرفة السكن الذي استأجره مع أصدقائه أن زواية الكاميرا مرتفعة لكي يبرز الخلفية التي هي الحائط الذي كان يتحرك أمامه بهرزاد ، باب لونه أزرق فاتح، مرآة مثبتة داخل الحائط، أحواض الورد الطبيعي، المغسلة، أحذية أصدقاء بهرزاد، استطاع كيارستمى أن يدمج المشاهد معه بأدق تفاصيل هذه القرية الجبلية البسيطة.
العمق في التكوين
يوثق كارستمي بدقة واهتمام الأشياء المهمة في عمق تكوين الكادر، حيث نلاحظ أن عمق تكوين الكادر مهم وحيوي ففي المشهد الذي يسير فيه فرزاد مع بهرزاد بين الاشجار الطويلة نرى فرزاد على اليسار والمهندس على اليمين والكاميرا تتابع حركة الشخصيات إلى العمق بلقطة طويلة عامة بدون قطع تسمح بدخول عناصر جديدة إلى الكادر حيث نرى امرأتين من الناحية الأخرى، هذه لقطة جعلتنا نشعر أن العلاقة بين بهرزاد والطفل (فرزاد) قريبة وأن كل لحظة في الفيلم بالنسبة لكيارستمى هي لحظة رسم لوحة تشكيلية.
ونلاحظ في مشهد الحظيرة أن الكاميرا تصور لقطة ثابتة على مسافة قريبة من الفتاة التي تحلب البقرة بحركات يديها المنتظمة ولا نرى منها إلا ظهرها وملابسها بواسطة ضوء الكشاف ونسمع صوت الحليب وهو ينزل من ثدي البقرة وصوت بهرزاد الذي هو خارج تكوين الكادر، حيث جاء لشراء الحليب، جميع العناصر التكوينية والتصويرية خلقت عمقا لهذه اللقطة وجعلتنا نشعر بالفقدان والحنين الذي يعاني منه بهرزاد في هذه القرية وحاجته إلى الجنس.
حركة الممثلين
كارسيتمي يعرف كيف يحرك الممثلين الذين ليسوا بممثلين في الأصل داخل كل كادر، فنلاحظ عندما كان يأتي فرزاد إلى مسكن بهرزاد فإنه يقف في الأسفل وفرزاد يقف في الشرفة وهي دلالة على العلاقة بينهما، فبهرزاد غريب عن فرزاد ولا تربطهم علاقة سواء أن فرزاد دليله في القرية ويأخذ منه أخبارا عن العجوز.. بالإضافة إلى زرع الشك في قلب المشاهد الذي لا يرى أصدقاء بهرزاد في داخل السكن .. فقط نسمع أصواتهم، وكذلك لا نرى معدات التصوير.
وفي مشهد آخر عندما كان يجلس بهرزاد وفرزاد أمام بيت أحد أهالي القرية يتحدثان مع بعضهما وهناك مسافة قريبة بينهما لكنهما يجلسان على نفس المستوى دليلا أن بهرزاد يحتاج إلى الحديث مع فرزاد لأنه والأطفال أبرياء يقولون ما في قلوبهم.