“عرق البلح”.. هروب الظل تحت صهد الشمس

حسام فهمي 09 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : حسام فهمي
في نهاية التسعينيات خرجت للنور وبعد أن ظلت حبيسة الأدراج لسنوات عديدة معالجة رضوان الكاشف السينمائية المعنونة “عرق البلح”، حيث تدور الحكاية عن قرية صعيدية وسط الصحراء، قرية نسجت تفاصيلها بواقعية شديدة، ولكنها لا تخلو رغم ذلك من اللمحات السحرية.


تكثر الحكايات عن قصر فترة عرض الفيلم في دور العرض المصرية على الرغم من نجاحه النسبي في عروضه العالمية، وخصوصا ضمن مهرجان قرطاج ومهرجان السينما الفرانكفونية ببلجيكا، ولكن الأكيد أن الفيلم ومع مرور الزمان قد اكتسب قيمة وجماهيرية مكنته في النهاية من الحلول في المركز الثامن عشر ضمن قائمة أهم 100 فيلم عربي وذلك ضمن استفتاء جرى أثناء دورة عام 2013 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، وشارك فيه 475 من خبراء السينما من مختلف الدول.
بعيدا عن الجوائز والاستفتاءات فإن عرق البلح شاهد على رؤية سينمائي مصري رحل مبكرا، الكاشف الذي ولد في الخمسينات فآمن كبقية جيله بقيم العدالة الاجتماعية، ثم تفتحت عينه على رعب النكسة في مراهقته، ثم الحرب والسلام، ثم الانفتاح ورعبه الأكبر. الكاشف كغالبية جيله من الفنانين كان يساريا منحازا للفقراء وأحلامهم.
كل هذا، بالإضافة لدراسته للفلسفة قبل السينما، قد شكل رؤية خاصة انعكست عقب هذا بوضوح تام في عالمه السينمائي.
في ذروة هذا العالم، وبخصائص جمالية من نوع خاص، نحاول معكم قراءة الصورة السينمائية في عرق البلح. صورة يمكننا وصفها بالواقعية السحرية. تلك المدرسة التي يصفها الناقد ماثيو ستريشر في كتابه عن الأديب الياباني هوراكي موراكامي قائلا: الواقعية السحرية هي ما يحدث عندما تمتلك بناء غاية في الواقعية ثم يغزوه شيئا غريبا لدرجة عدم التصديق.
العائدون من الغربة.. رعب الشمس
تقوم الصورة في السينما مقام الكلمة في الرواية، السينما، هذا الفن الذي بدأ صامتا، لطالما اعتمدت على التعبير عن فحواها بالصورة قبل أي شئ آخر. ينقسم شريط الفيلم إلى مشاهد وتقسم المشاهد لمقاطع ولقطات، وفي قلب هذا تبقى الصورة، الكادر الثابت، الذي نراه متحركا أو يهيأ لنا هذا وسط سيل من الصور المتدفقة خلال أجزاء صغيرة من الثانية.
يفتتح الكاشف فيلمه بلقطه واسعة لصحراء على مد البصر، يتوسطها رجل يسير بأقدام متعبه تحت شمس لا ترحم، ضوء مبهر وكادر بعيد يظهر من خلاله رجل ضئيل وسط عالم بلا بشر. هذه اللقطة هي المعبر الأول وفي تكثيف شديد عن الحكاية وعالمها، حكاية قرية ذهب عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات وانكشف عنها رعب الشمس.
نتتبع هذا الرجل وسط الصحراء إلى أن يصل لأسوار مهدمة وبوابة كبيرة، مرة أخرى يختار الكاشف ومدير التصوير طارق التلمساني كادرا بعيدا من خلف الرجل الذي يظهر ضئيلا وهو يدق أبواب هذه البوابة الضخمة، لا شئ سوى الصمت والوحدة. في النهاية يتعثر الرجل بشابة تهرب فور أن تراه، يلاحقها إلى الظل فيصل في النهاية لسيدة كبيرة وحكيمة، رحل الجميع إذن ولم يبق من هذه القرية سوى هاتين المرأتين، يسأل الرجل - يقوم بدوره عبد الله محمود - “أين بقايانا يا جدة؟”، فتجيب المرأة الحكيمة “اكشف ظهرك لنخرج الشمس منك”.
يختار الكاشف كادرا متوسطا، إضاءة خافتة صفراء من لمبة جاز وحيدة في يمين الصورة، بينما تزدحم شخصياتنا الثلاث في يسارها، الرجل العائد يتصبب عرقا وهو مكشوف الظهر، الجدة العجوز وفي يدها عصاها، تتوسطهم فتاة جميلة تتشح بالسواد.
هذه هي الحكاية إذن، تخبرنا بها هذه العجوز الحكيمة من ذكرياتها، يختارها الكاشف كراو داخلي، وهكذا نشاهد الحكاية بعينها، ونصبح أبطالا برفقتها. عالم “العائدون من الغربة” و”الناجون من الوحدة”.
الواقعية السحرية.. سحر الصعيد وتوحش المادة
يمرر الكاشف داخل رؤيته الواقعية للقرية الصعيدية عناصر سحرية تذكرنا بأن “الواقعية السحرية” كانت في البدء وصفا للتعبير عن الفنون البصرية قبل أن تشتهر كمدرسة روائية مرتبطة عادة بأدباء أمريكا اللاتينية. في البدء أطلق هذا الوصف الناقد الفني الألماني فرانز روه في تعليقه على لوحات مجموعة من الرسامين الألمان قائلا:
الواقعية السحرية هي مدرسة فنية تجسد في أعمالها الطبيعة السحرية للعالم الحقيقي، هي تجسد بأمانة المظهر الخارجي للأشياء وفي نفس اللحظة تكشف لنا روحها وسحرها
هكذا يصور لنا الكاشف في معالجته روح القرية الصعيدية في مقابل توحش المادة، فنرى هذه الروح منعكسة بتفاصيل تشكيلية قد تبدو خيالية. وهذا معلم واضح ومكرر في اللغة السينمائية للكاشف التي تنحاز دائما للبشر والطبيعية.
تتفتح عيوننا على قرية صعيدية تبدو كغيرها، ولكن التفصيلة السحرية الأهم هنا هي في وجود نخلات عاليات ذات بلحات بيضاوات يشفي عرقها العجزة ويجلب السعادة. كادرات القرية ملونة وزاهية، وهكذا أزياء أهلها وبيوتها. في المقابل يصور الكاشف توحش الرأسمالية وتقديسها للمادة في مقابل امتهانها للبشر.
تصل للقرية في صباح أحد الأيام قافلة من الشاحنات والدراجات البخارية، يرتدى قادة هذه الدراجات أقنعة غريبة الشكل، وكأنهم مسوخ قادمون من عالم آخر، رافقهم صوت حاد وساخر لرجل لا نراه، يأتي الصوت من مكبر مثبت فوق صندوق شاحنة محمول على ظهر جمل. يخاطب الصوت أهل القرية بالاسم، يعرفهم واحدا واحدا، يبشرهم بالمال والذهب، ويغري نساءهم بما سيجلبه رجالهم من أرض غريبة سيعملون بها، ويحذرهم للالتزام بشروطه، الطاعة والصمت والعميان. هنا يختار الكاشف برفقة مصمم الملابس والديكور أنسي أبو سيف مظهرا غرائبيا لهؤلاء الأغراب، بحيث يبدو مظهرهم فانتازيا وفي نفس اللحظة قابل للتأويل بأكثر من معنى. تزغرد النساء، يحمل الرجال في الشاحنات كالبهائم ولا يبقى من الذكور سوى الجد العجوز العاجز الذي لا ينطق، وشاب صغير يسمى أحمد. ليس لأحمد تطلعات مالية تغريه بالرحيل، غايته الوحيدة أن يصعد النخلة العالية ليأتي بالبلح الأبيض، الذي يشفى عرقه الجد العاجز من شربة واحدة. تبتلع الغربة والغرابة رجال القرية، ليبقى النساء في غربة داخل وطنهم، بعد أن انتزع منهم الحب والأمان.مركزية المرأة.. الوحيدات في الظل
يختار الكاشف لحظة تطور الحبكة بدقة وحساسية شديدة، فيقدم برفقة المؤلف الموسيقي ياسر عبد الرحمن مقطعا موسيقيا تتجاوز مدته الخمس دقائق، به وبه فقط نتابع انتقال مشاعر نساء القرية من التفاؤل بما سيجنيه رجالهم في الغربة إلى الفقد والحسرة والشوق. أصوات الناي ودقات الطبول ترافق كادرا مظلما تتوسطه آمنة، التي لم تتلق رسالة من زوجها طوال ستة أشهر، تدور آمنة الواقفة على سطح منزلها حول نفسها وهي تحمل عصا تدق بها الأرض بعد كل لفة، يصعد أحمد على السلم من يسار الكادر، يصل لليمين ويدفع آمنة للجلوس.
آمنة على اليسار وأحمد على اليمين، كادر نصف معتم على اليسار نصف مضيء على اليمين، أحمد بجلباب أبيض وآمنة ترتدي السواد وقد كشفت رأسها. تردد آمنة التي ندرك أنها علمت بوفاة زوجها أثناء عمله في هذه الأرض الغريبة، “نوح يا غراب عاللي قتلته الغربة”. هذا التباين بين الأبيض والأسود، اليمين واليسار، يخبرنا بكل شئ حتى قبل أن نستمع للحوار. ينتقل الكادر أسفل المنزل، احتفال ولادة طفل جديد ولكن الموسيقى تشبه العديد، سيدات يغطيهن ويغطي ملابسهن الملونة حجاب أسود طويل، تدور سلمى - التي يؤدي دورها شريهان - في اتجاه يسار الكادر، تردد كلمات عبد الرحمن الأبنودي: بيبه عمى حماده، بيبه جبلي طبق، بيبه مليان نبقبيبه قالي كولي، بيبه قولتله مكلشي بيبه وديه لأمك، بيبه أمي بعيد، بيبه آخر الصعيد بيبة والصاعد مات، بيبة خلف بنات تدور الأم الجديدة في عكس الاتجاه لتقطع دوران سلمى، بزي ملون تحمل رضيعها الملفوف بالقماش الأبيض في اتجاه يمين الكادر، تغنى النصف الأول من الكلمات، يرافقها صوت أعلى للدفوف، فرحة مؤقتة يرافقها البياض والاتجاه لليمين. من جديد تعود سليمة - تؤدي دورها عبلة كامل- المغطاة بالسواد لتقطع دورانها وتبدأ الدوران في اتجاه اليسار، تردد النصف الثاني الجنائزي من الكلمات، تقترب الكاميرا لنشاهد وجهها في كادر كبير وهي تتمايل يمينا ويسارا بعيون تملؤها الدموع. الإنتقال في الكادر نحو اليسار يصاحبه الحزن، والرحيل، يكرر الكاشف هذا أكثر من مرة طوال أحداث الفيلم. هكذا يصور لنا الكاشف عالم النساء الوحيدات في الظل، كادرات مظلمة ووحيدة، ودوران منفرد ورقص يصاحبه صوت الناي ودقات الطبول.

حب الحياة: التمرد والإحتياج للجنس
أبطال الكاشف بسطاء، يعانون ولكنهم متمردون، متشبثون بالحياة، ويسعون للتمتع بها حتى آخر نفس، تحتاج سلمى للحب، يصعد أحمد النخلة العالية ويصبح رجلا، يبدآن في اللهو كالأطفال ثم يسقطان في الترعة، يتحول اللهو إلى مغازلة جنسية، ويتحول الطفلان إلى رجل وامرأة، فيقبل كل منهما الآخر. ينتج عن حبهما حمل سلمى فيما بعد، ترفض سلمى أن تتخلى عنه، تخبر أمها في موقف متمرد على كل شئ أن من في بطنها هو طفلها هي وأحمد وليس مجهول النسب، يشهد عليهما الله والناس. في المقابل تحمل شفا سفاحا، احتياج للجنس دون حب، يعبر عن الفقد أكثر من تعبيره عن الاكتمال.
نعود لأغنية “بيبة” ينتقل الكادر لفرقة الزمارين، تكوين هرمي يتوسطه الطبال، ثم تقتحم شفا - تقوم بدورها منال عفيفي - الكادر، تربط رأسها برباط أحمر وتلف حاملة حجابها في غنج، لقطة متوسطة تتوسطها شفا وهي ترقص بأذرع ممدودة وفي عمق الكادر لازلنا نرى التكوين الهرمي الذي يتوسطه الطبال، هكذا نشعر بقوة الطبال وسيطرته على الكادر الذي يمتلئ برغبة شفا في العشق، يتحرك الطبال نحو شفا ويتشاركان في الرقص والدوران حول بعضهم البعض. في الفصل الأخير من الفيلم سنعلم أن شفا قد طارحت الطبال الغرام، لم يعط الكاشف إشارة بصرية لهذه العلاقة سوى في هذه اللقطة، وكأن الرقصة كانت هي فعل ممارسة الحب.
اللون الأحمر الحاضر في طرحة شفا رمز جنسي متكرر في الفيلم أيضا. بهذا المشهد الموسيقى الراقص تتطور الحبكة، يتملك الفقد والشوق من نساء القرية، وتقع الخيانة في غفلة من الجميع.

إعادة تركيب ميثولوجيا القرية الصعيدية
“ إلى الجنوبي المطارد بخبيئته، سلاما إليك يوم تموت وسلام إليك يوم تبعث حيا”. بهذه الكلمات التي تحمل طابعا إنجيليا واضحا يبدأ رضوان الكاشف فيلمه، وتمتد الرمزية إلى شخوص الحكاية عقب ذلك. الحكاية في الأصل هي عن جد عجوز خلق هذه القرية من العدم، وابن يافع يحمل على عاتقه مسئولية أرضها ونخلها، ولكن الجديد في المعالجة أن رضوان الكاشف يضع النساء الوحيدات في دور البطولة.
قبيل نهاية الفيلم وعقب الفجر يعتلى الجد حصانه ويغادر القرية، يسير في اتجاه الضباب تخبر الجدة الحكيمة - والتي تقوم بدورها الفنانة السودانية فائزة عمسيب - أحمد وسلمى أنه سيرحل، وبعد يومين ستعود فرسته بدونه، هكذا هو الموت إذن في هذه القرية السحرية. كادر بعيد للجد على حصانه وهو يسير وسط الضباب، وفي اتجاه يسار الشاشة.
في النهاية يعود بضعة رجال إلى القرية فيشكوا في خيانة أحمد “الابن” ويحملوه ذنب تغير حال نسائهم، فيغروه بالصعود مرة أخرى إلى النخلة العالية السحرية ذات البلحات البيضاوات، يتملك الغضب والشر منهم فيغدروا به في النهاية، فيقطعوا أوصال نخلتهم العالية، تسقط ويسقط معها الابن، لينضم بشكل سحري إلى الجد على حصانه، نحو الضباب، ويغادران معا أيضا في اتجاه يسار الشاشة.
تخرج نساء القرية وحكامها الفعليون، نراهم من خلال كادر واسع ومن زاوية عين الطائر “عين الإله”، متشحين بالسواد وفي يد كل واحدة منهن شعلة من النار، لكن يصلن عقب فوات الآوان، سقط أحمد، وسقطت النخلة العالية، وقريبا ينكشف رعب الشمس. ينهي الكاشف حكايته بكادر للناجيتين، الجدة والابنة “سلمى”، في تكوين هرمي تحتضن فيه الجدة وهي جالسة على الأرض الابنة المتكئة على تراب القرية، بيد ممدودة تحاول أن تمس بها حبيبها المغدور به.
هذه الثنائية بين الجد والابن، الجدة والابنة، تعطى للحكاية أثرا روحانيا، وكأن الكاشف يخبرنا أن حكايته عن الجذور، عن الموروث، عن البشر جيل بعد جيل. قد يفسرها البعض أنها حكاية عن أصالة أرض مصر في مقابل رعب الغربة في بلاد النفط، وهذا ليس ببعيد عن السياق الذي هاجر فيه عشرات الآلاف من رجال الصعيد إلى الخليج خلال الثمانينات والتسعينيات.
وقد يفسرها آخرون أنها عن الإنسان بشكل عام، غربته حينما يهجر جذوره وثقافته وأهله وأحباءه، وحسرته حينما يتنازل عن الحب في مقابل المال، وندمه حينما لا ينفع الندم حينما يعتدي على ما في الطبيعة من سحر وجمال، عن النساء التواقات للحب، وعن الرجال المهزومين.
بعض الأفلام تستثير النقاش حولها في قضايا آنية، في التغييرات السياسية والاجتماعية التي ترصدها، عرق البلح من نوعية هذه الأفلام، وهو بالتأكيد شاهد أمين على مصر وصعيدها في حقبة التسعينيات.
لكن هذا الفيلم أيضا، ومن خلال مشاهدة أعمق، يكتسب مكانة أهم بكثير من مجرد التنظير السياسي والوعظ الاجتماعي، تبقى في الذاكرة كادرات الوحدة والغربة تحت الشمس الساطعة، وكادرات الفرحة والألفة بين الأثواب الملونة وتحت ظل النخيل. يشعر المرء أنه متصل بماضيه، ومستعد للبحث في هويته وأفكاره، وكأنه قد فتح بابا سريا لم يكن يعلم بوجوده وسط كل هذا الصخب، باب يصل مباشرة إلى روحه.



التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات