الكاتب : عزة ابراهيم
فى عصر أصبحت الصورة أهم أداة من أدوات المعرفة يصدر كتاب المصور السينمائى البارز سعيد شيمى «تلابيب الصورة» ليضيف الكثير إلى الثقافة البصرية والوعي المرئي فهو يبحث وينقب ويحلل ويحاول اكتشاف العلاقات والتأثيرات المتبادلة سلبا وإيجابا منذ مولد التصوير الفوتوغرافي ثم السينماتوجرافي ثم الجرافيك وبين فن الرسم العريق ويدعم أفكاره بألبومات لصور متنوعة من خلال مشاهداته وأرشيفه البصرى الضخم، تميزت الصور المرفقة بالكتاب بالجودة العالية من حيث الألوان والورق عالي الجودة المستخدم للطباعة وأظهرت حرصه كفنان واجتهاده كباحث فى تاريخ الصورة على أن يقدم لدارسي السينما وللقراء مرجعا قيما سيكون إضافة كبيرة لمكتبة السينما لأنه يحمل خلاصة ثقافته العريضة واطلاعه الموسوعي وخبرته العملية المباشرة فى تذوق فن الصورة وصنعه والمساهمة فى تطوره.
يسعى «شيمي» من خلال هذا الكتاب إلى أن يجعل القراء يستشعرون ويفهمون الصورة من جذورها - كما يقول - ويطورونها فيما بعد مؤكدا أن هذا التطوير بدأ بالفعل مع التصوير الرقمي الذى سيتحول خلال وقت قصير إلى ثقافة بصرية مؤثرة.
يمكن اعتبار الكتاب موسوعة تاريخية وفنية وضع فيها مؤلفها من روحه وثقافته الفريدة فى مجال الصورة وإلمامه بكل تفصيله علمية وعملية جمعها طوال مشواره الدؤوب لفهم وصنع جماليات الصورة .وقد استعان «شيمى» فى مؤلفه المتميز بحق بنحو 104 مرجعا هاما عن فنون اللوحة والصورة والفيلم وأحد عشر موسوعة فى تاريخ الفن ،استخلص عصارتهم وروحهم و»إبريزهم» ولا مبالغة فى القول إنه اقترب من الطريقة التى اتبعها «رفاعة الطهطاوي» حينما قرأ وترجم كل ما وقعت عليه عينه من علوم حديثة فى باريس حينما قدم للمصريين مؤلفه الهام «استخلاص الإبريز فى تلخيص باريز» فسعيد شيمي استخلص الإبريز فى هذا الكتاب فى مجال لم يكتب فيه الكثير باللغة العربية.
يؤكد «شيمي» فى كتابه أن الصورة تحمل بداخلها كل قيم الفن التشكيلى الأعرق كعلم التكوين وإحداثيات الضوء وجمال الألوان وإيحاءات الحركة كما أنها وثيقة لأحداث وأماكن ومواقف وأشياء مذهلة جميلة وأحيانا قبيحة ويكمن سر قوتها فى مصداقيتها.
ورغم التصادم بين الفوتوغرافيا والفنانين التشكيليين فى بداية ظهور الفوتوغرافيا وخاصة أؤلئك الذين يهاجمون الواقعية فى الفن، فإن الاتجاه الواقعي المغضوب عليه احتضن الفوتوغرافيا وكان من أبرز فنانيه «جوستاف كوربيه (1819-1877) حيث اعتبر أن الفوتوغرافيا تثري أسلوبه الواقعى وأنها امتداد له واستعان بها فى موضوعاته المرسومة، فلوحته «مرسم الفنان» منقولة عن صورة فوتوغرافية، وكثير من لوحاته لها أصول فوتوغرافية تتعامل مع الواقع كما هو دون تجميل، مما دفع النقاد وقتها لاعتبار الواقعية والفوتوغرافيا «متعهدا القبح» - على حد تعبير «شيمي» - والتصقت وصمة الفجاجة بالفوتوغرافيا بشكل كبير، واعتبروا أن الصور التى تصنعها الكاميرا بوسيلة ميكانيكية كميائية ليست فنا.
يشرح الكتاب التجارب التى خاضتها البشرية لتصل من الصورة الثابتة إلى الصورة المتحركة وكيف أن الفوتوغرافيا فتحت عين البشرية العاجزة عن تتبع الحركة السريعة إلى آفاق غاية فى الاتساع ومهدت لمولد السينماتوجراف، واستمرت المرجعية البصرية للصورة الفوتوغرافية حتى الآن تشحذ العمل الدرامى وتقف فى صدارة بناء العمل السينمائى وتسرى فى روحه، بل إن كثيرا من الأفلام السينمائية فى الغرب كانت موضوعاتها ترجع إلى أصول صور فوتوغرافية مثل صور «روبرت كابا» للحرب الأهلية الإسبانية والتى استمد منها «ميل جيبسون» موضوع فيلمه «جالبولى» عن المعركة التى وقعت على الأرض التركية فى الحرب العالمية الأولى، وظلت كثير من صور «كابا» و «هنرى برسون» وغيرهما مرجعية بصرية لأفلام عديدة مثل «إنقاذ الجندي رايان» و»أطول يوم» وكانت نواة بنيت عليها موضوعات أفلام كثيرة.
الرسم كمرجعية للعمل الدرامى
يشير «شيمي» إلى أن السينما استعانت فى بدايتها أيضا على يد الرائد «جورج ميليه» بالرسم والحركة «السينما فوتوغرافية» ففيلمه الشهير «رحلة إلى القمر» 1902 كان عبارة عن رسم وتصوير سينمائى وفى هذا الوقت اقترب الرسم من الوليد الجديد (السينما)، ويعتبر فيلم «عيادة الدكتور كاليجاري» خليطا من الرسم والسينما، وفى عام 1916 استعان المخرج الرائد «ديفيد جريفث» فى فيلمه الملحمي «التعصب» بكثير من اللوحات والديكورات ليعبر عن شكل الأربعة عصور التى يتناولها الفيلم .
ويستعين أيضا المخرج «سيسيل دى ميل» بلوحة «عروس الأسد» فى فيلمه « ذكر وأنثى»، وكان المخرج الروسى الشهير «سيرجى أيزنشتاين» يجيد الرسم فيرسم مشاهده ولقطاته أولا بأول للعاملين معه وظهر ذلك فى أفلامه «إيفان الرهيب» و»الكسندر نيفسكى».
وظلت المرجعية التشكيلية لمخرجي ذلك العصر هى الزاد والشحذ المستمر لفن الصورة السينمائية والدراما، كما أثرى الرسم السينمائيين بعين ثقافية وجمالية جعلت من أفلامهم لوحات تضاهي لوحات الفن التشكيلى.
ويرصد «الشيمي» ما فعله «شادى عبد السلام» فى رائعتيه «المومياء» و»حكاوى الفلاح الفصيح» حيث رسم أغلب كادرات الفيلمين، وذكر أن ستوديو مصر كان يستعين فى بدايته برسام مناظر يقوم بهذه المهمة وكان لكل فيلم رسام خاص به لكن اندثر هذا التقليد بمرور الزمن.
تأثير العدسات وكسر التكوينات الكلاسيكية
أفرد «شيمي» فصلا كاملا للعدسات تناولها بالتفصيل من عدة جوانب غطى تطوراتها التقنية والإضافة والقفزة التى يحدثها كل تطور واكتشاف جديد على الصورة ودقتها وجمالياتها وتناول الفرق بين العدسات العادية والعدسات الخاصة، حتى وصلنا للعدسات «النصف بؤرية» وأشار على استحياء إلى أنه أول من استخدمها فى السينما المصرية بعد أن اشتراها من الخارج وصور بها فيلمه «الشيطان يعظ» مع المخرج «أشرف فهمى» عام 1980 أى بعد 40 عاما من ظهور هذه العدسات فى السينما العالمية ثم استخدمها بعد ذلك فى تصوير «الثأر» لمحمد خان و»الحب فوق هضبة الهرم» لعاطف الطيب.
ويتساءل «شيمي» عما حدث لمفهوم التكوينات الكلاسيكية المتزنة الراسخة فى الصور الملتقطة من عيوب وعدم إدراك لجماليات التكوينات المتزنة بالذات؟
ويجيب بأنه ليس كل إنسان يصور بالفوتوغرافيا يملك موهبة العين التى ترى الجمال وحلاوته فى اتزان الكتل داخل الإطار، بل ظهرت صور كثيرة بها عيوب مثل قطع الموضوع الأساسي وجعله فى أطراف الصورة أو عدم اتزان الموضوع وجعله فى منتصف الصورة مثل صور النهج الكلاسيكي الموروث من عصر النهضة الأوروبية ولم تكن العين البشرية معتادة على ذلك القطع الناقص الغريب فى الصور من قبل
اختراع التصوير الفوتوغرافى وانتشاره الذى جعل الفنانين التشكيليين المعاصرين لهذا التطور يرسمون من هذه الطريقة الشكلية الناقصة فى قطع الصور الفوتوجرافية نهجا وأسلوبا جديدا فى أعمالهم.
وضرب مثالا لذلك بلوحة «نزهة فى ساحة السباق» التى رسمها «ديجا» عام 1873 والتى كانت صدمة لكل من شاهدها بهذا القطع الشديد للموضوع، حيث قطع جزءا كبيرا من عربة الخيول فى أمامية الصورة وخلفية الصورة للعربة الثانية بشكل ملحوظ ومتعمد مما جعل نقاد عصره يقولون: إن التصوير الفوتوغرافي الذي يمارسه «ديجا» قد شكل للفنان عينا مختلفة فى رؤيته للأشياء» وهذا جعل معاصريه يندهشون من هذه الجرأة فى تناوله لشكل القطع الناقص للموضوع الرئيسي بالإطار.
التنقيطية وما يتبعها
يشرح «شيمي» أهمية أن ننظر للفن بشكل شامل ويحاول أن يرصد كيف تتأثر عين الفنان بما تراه وبالتالى تؤثر فينا بما تبدعه أو تبتكره فمثلا «جورج سيراه» حينما عرض أولى لوحاته بالأسلوب التنقيطي عام 1884 باسم «المستحمات» فى صالون باريس السنوي، قوبلت اللوحة بهجوم شديد وتم رفضها فعرضها فى صالون الفنانين التأثيريين فلفتت الانتباه والعين إلى هذا الأسلوب المبتكر الجديد لهذا الفنان الذى يرسم بطريقة النقاط اللونية المتجاورة بحيث تكون هذة النقاط الشكل العام للصورة من حيث مساحتها وحجمها وكثافة الكتل بها وذلك حين ينظر إلى اللوحة من بعد أما إذا اقترب فسيلاحظ هذه النقاط الفاصلة بالطبع، وفى عام 1986 عرض «سيراه» لوحة كبيرة أخرى له بنفس الأسلوب باسم «العصاري فى يوم الأحد فى جزيرة جات الكبيرة» ظل يرسمها لمدة عامين وأطلق عليها «التأثيرية الجديدة التنقيطية» ،وفى هذة الحقبة أيضا تواجد مصورون فوتوغرافيون جعلوا من الآلة أداة فن وطوروا وطوعوا الصور إلى فن بالتصوير والطبع والتكبير والكولاج الفوتوغرافي وأصبحت الصورة لا تنقل الواقع بحياد بل يمكنها أن تشكل فنا ورؤية جديدة. وقد تطور هذا الأسلوب بشكل كبير فيما بعد خاصة بعد إستعمال الألوان المائية فى عمل اللوحة، وضرب الشيمي مثالا بأعمال الفنان التشكيلى المصرى «عصام طه» الذى جعل البقعية اللونية هي البناء الكامل للوحة وكذلك تأثر بهذا الأسلوب «فان جوخ» فى بعض أعماله.
وشرح كيف أن «التنقيطية» تم استخدامها بشكل واع فى السينما لإعطاء صورة ما حدث، للشعور بأنه حقيقى، واستغل بعض فناني الفيلم هذا الشكل التنقيطي فى تصوير أفلامهم الروائية التى تتحدث عن أحداث حقيقية لها تاريخ ولها مصادر مرجعية فى صور سينمائية إخبارية من قبل، وطرح مثالا لذلك بالفيلم الإيطالي «معركة الجزائر» للمخرج «جوليو بونتو كيارفو» الذي تناول كفاح الشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي.
اختراع البالون يكشف للمصورين عن رؤية عين الطائر
يتتبع «شيمى» كيف تم اكتشاف زاوية عين الطائر التى أتاحت رؤية جديدة ساهمت في تطور الصورة حيث استطاع المصور الفوتوغرافى الفرنسى «نادار» عام 1858 التقاط بعض الصور لباريس من الجو من داخل بالون مملوء بالهواء الساخن وقد أتاحت هذه المغامرة مجالا كان مخفيا عن عين البشر جعلت الفنانين التشكيليين الذين يستلهمون من الفوتوغرافيا يتأثرون بها ويدهشونا برؤى جمالية ذاتية كان من مسبباتها زاوية «عين الطائر».
ومع تطور التصوير الجوي وانتقاله من مجال الحروب إلى السينما استطاع السينمائيون استخدام الطائرات المروحية الصغيرة لتصوير الكثير من اللقطات الجيدة من خلال التحكم المتقن بهذة المروحيات. وأصبحت رؤية التصوير من عين الطائر هى الرائدة والممهدة لنوع جديد من إبداع الإنسان.
الطبيعة الصامتة من الرسم إلى السينما
يشير «شيمي» إلى وجود الطبيعة الصامتة فى الرسم منذ قديم الأزل لكنها فى العصور القريبة أصبحت تعبر عن وجدان ومشاعر الإنسان فنجد «فان جوخ» يرسم حذاءه بعدة لقطات أو طبق سمك الرنجة، فصورة الطبيعة الصامتة مرت بمراحل بدأت أولا بتسجيل حالة جمالية مقاربة للطبيعة، ثم أخذت مع تطور فن التشكيل تنتج من روح وقلب الفنان فتظهر الطبيعة الصامتة شعوره وأحاسيسه فيما يرسم. وحينما ظهرت الفوتوغرافيا أصبحت صور الطبيعة الصامتة الفوتوغرافية تحمل عنصرين أحدهما جمالي والآخر حدثي هدفه تثبيت لحظة الالتقاط.
ويضيف أنه فى السينما التى بما إنها فن حركي فإن الصورة الصامتة موجودة بها وممكن أن تكون ثابتة مثل الرسم أو الفوتوغرافيا وفى الغالب ستكون متحركة وستمنحها الحركة مزيدا من كل ما جاء فى فن التشكيل وفن الفوتوغرافيا.
تنعيم الصور وأثر الفوتوغرافيا على الرسم
اتبع الفنانون فى الرسم والفوتوغرافيا والسينما تقنيات التنعيم لأسباب جمالية أو لإحداث تأثيرات وإيحاءات معينة فى الصورة. ففى الرسم استعان بها كل من «أوجست رينوار» و»كلود مونيه» و»بيكاسو» فى مرحلته الزرقاء وكذلك «فان جوخ» ويفسر «شيمي» ذلك بأنه ربما يرجع إلى الجو الضبابي المنتشر فى الشتاء الأوروبى. وعند ظهور الفوتوغرافيا قلدت الرسم فى استخدام التنعيم ولكن باستخدام خاصية عدم الوضوح البؤري للعدسة. وكذلك فعلت السينما لزيادة الجمالية أو الخيال أو الواقع في الحدث الدرامى واستخدمت المرشحات التى يتم تركيبها أمام العدسة لتنعيم الصورة وزيادة جمالها وإخفاء عيوبها.
يسعى «شيمي» - كما يقول فى كتابه - إلى إظهار التأثيرات المتبادلة بين الوسائل البصرية للرؤية فى الصورة المرسومة والفوتوغرافية والسينمائية ،فقد اتخذ الرسم في أحيان كثيرة مظهرا شكليا متأثرا بالصورة الفوتوغرافية كما استعانت السينما بالشكل الفوتوغرافى للرسم.
ويخلص «شيمي» إلى أن الصورة وسط يقلب نفسه ويتطور مع تطور وسائله الصناعية عبر تاريخ البشر، ولأن الصورة هي اللغة التى يفهمها كل الناس فإن تداخل وسائل عرضها المختلفة فى حقيقتها يمثل شيئا سيستمر معنا عبر الزمن من جيل إلى جيل وبأشكال متجددة لم نعرفها بعد.