مناظر نهاد بهجت فن تشكيل الرؤية

محمد عادل 10 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : محمد عادل
حاولنا أن نُحاورهُ .. رفض .. أعلن اعتزاله تماماً عن أي مُقابلات صَحفية أو غيرها .. يرى أن مجموعة الكُتب والدِراسات وغيرها التي نُشِرتَ عن أعماله قِيل فِيها كُل شئ .. لكن لا يُمكن أبداً أن يكون الحديث عن “الصُورة” دون الحديث عنه وأعمالهِ. مُهندس الديكور الكبير “د. نهاد بهجت”، والذي يؤمن - كما قال - بمقولة فنان الديكور العالمي “ألكسندر ترونير”: “أصعب مهنة في حقل السينما هي تصميم الديكور، فمُهندس الديكور يبدأ عمله في فراغ المِساحة، مِن نقطة الصفر، أما باقي العاملين فيبدأون على أُسس وضعها مَن قبلًهم” .


الكِتابة عن “نِهاد بهجت” بِالتركيز على جانبهِ السينمائي تحديداً عمل يحاتج إلى مشاهدة “كمية” ولكن في البداية تجدر الإشارة إلى أن هناك مُلاحظتين تأسيسيتين لقراءة بعض من “صورة” هذا الفنان، الأولى: “التجريب”.. أما الثانية فهي “الشعبوية” إن كان لنا أن نُسميها هكذا! .
كانت أول جائزة يحصل عليها بهجت عن “تنسيق المناظر” عام 1968 عن فيلم “أوهام الحب” للمُخرج “ممدوح شكري”، حيث اتسم بِالجرأة في اختياراتهِ في هذا الفِيلم، فهو أول من أدخل “الديكورات البيضاء” في السينما.
وفي مقال لـ “نِهاد بهجت” بِعِنوان “الديكور السِينمائي”، يذكر أن المُخرج “ممدوح شُكري” هو أول من تنبه إلى ثراء “اللون الأبيض” وما بِهِ مِن إمكانياتٍ مُذهلة، حيث ؟إن اللون الأبيض لا ينتمي إلى المَجموعة اللونية، لذلك فقد وظفه في فيلم “أوهام الحُب” لإحداث الأثر الدرامي المطلوب لتحقيق بُعد الشخصية العبثي والعدمي.
وعاد بهجت لاستخدام اللون الأبيض مُجدداً في فيلم “المُدمن” للمُخرج “يوسف فرنسيس” عام 1981، حيثُ استخدم اللون الأبيض كخلفية للأثاث في “مُستشفى الأمراض النفسية”، فألغى بذلك التباين وقد أكد على ذلك في مُحاضرة بِعنوان “تنسيق المَناظِر والدِراما” بِـ “جمعية الفِيلم” بِقولهِ: “اللون الأبيض هو لون العدم وإلغاء التبايُن، فيعمل على إلغاء الإحساس بِالمكان والظِل
أي إنه يلغي الإحساس بِالوجود والشَخصِية الدِرامية التي تَحيا فِي هذا الدِيكور فهي شَخصِية إنسان ضائع”.
هذا فيلم يخص التجريب، أما “الشعبوية” فالمُلاحظ أن أكثر من 60 % من الجوائز التي حصل عليها “نِهاد بهجت” كانت لأفلام بها تصميم الديكورات الشعبية كـ “قهوة المواردي” لـ “هشام أبو النصر” عام 1981، حيث كانت ثمة مُتعة كُبرى في هذهِ الأعمال كما أكد، وذلك رغم انتمائهِ للطبقة البرجوازية كما سنذكُر لاحقاً.
السينما .. ليه؟
عمل “نِهاد بهجت” في العديد من المُسلسلات والمَسرحيات - مِنها “شاهد ماشفش حاجة” و”الواد سيد الشَغال” لـ “عادل إمام” - لكن كان دائماً يؤكد أن عشقهِ الأول “السينما”.
عن هذا يقول: “شعرتُ أنني وعملي بالتليفزيون (متصاحبناش)، وقد أُغرمت بِالمَسرح، لكن في النِهاية عِشقي الأول هو السينما، فمثلاً العمل بالتليفزيون يكون مَطلوباً مِنك كم مَهول مِن الديكورات، وتُفاجأ بِالتعَامُل مع عدد كبير مِن المُمثلين، ومع هذا الكم الهائل مِن المَناظر والديكورات المَطلوب نجازها في وقتٍ قصير لم يكُن ثمة إدارة جيدة أو إمكانيات تُساعدك على إنجاز العمل بشكل راق وناجح، فقررت أن أعتذر عن العَمل بِالمُسلسلات نِهائياً بعد آخر مُسلسل وهو وجه القمر لفاتن حمامة عام 2000، وقررت ألا أعود إلى هذهِ التجربة، خاصة عندما تكتشف أن الديكور بِالعَمل التليفزيوني شيء ثانوي، فالتليفزيون يعتمد على المُمثل واللقطات القَريبة، أما في السِينما فمن الممكن أن ترى المَشهد يبدأ بِقِطعة اكسسوار مثلاً وتكون لها معنى ودور مُهم بِخِلاف التليفزيون”.


Flash back
يُمكن تلخيص مفهوم الديكور والاكسسوار في السينما في فترة ما قبل ولوج “نهاد بهجت” لهذا العالم، بقِصة بسيطة حكاها له الفنان الراحل “عماد حمدي” شخصيا.
روى “عِماد حمدي” أنه كان يُصور في استوديو “ناصيبيان”، وجاء “مُقاول الإكسسوار” - وكانت تسمية “مُنسق المناظر” بهذا الاسم قديماً - فوضع إكسسواراته ووزعها في الأستوديو ثم انتهى التصوير، فبدأ يُلملم أشياءه، وفي هذا الوقت كان “عماد حمدي” يُصور فيلما آخر بأستوديو “نحاس”، ففوجئ بنفس “مُقاول الاكسسوار” يقوم بنقل كل الاكسسوارات التي استخدمها في الفيلم الذي صُوِرَ بأستوديو “ناصيبيان” للفيلم الذي يُصور بِأستوديو “نحاس” بكل تفاصيلها كما هي، ودون أي تغيير، على الرغم من اختلاف الشخصيات والأحداث! ويُكمل “عماد حمدي”: “وقتها شعرت أنني أُريد - ودون أن أدري - أن أقول حِوار الفيلم السابق، ولم أشعر بِأنني في فيلمٍ جديد”! .
لهذا فَبِقدوم “نِهاد بهجت” مجال “الديكور” قام بِـ “إعادة الأمور إلى وضعها الفني الصحيح” كما يذكر الكاتب “سيد خميس” فِي كِتابهِ “ثمانية عشر رجلاً وامرأة واحدة” (وزارة الثقافة - مكتبة الأسرة ).

يُضيف “سيد خميس”: “مُهندس الديكور الفنان ليس مُجرد صانع خلفيات المَكان الذي تدور فيه أحداث العمل الدرامي، كما أنه ليس مُزخرفاً ينصب عمله على تجميل ما يصنعه المُخرج ومُدير التصوير والمُمثلون، ولكنه شريك كامل في صناعة الفيلم، وهو المسئول عن إنطاق المكان ببعث الحيوية الدرامية فيهِ، وذلك مِن خلال مُفرداتهِ الخاصة، فاللون في الديكور موسيقى مرئية، والمكان الذي تتحرك فيهِ الشخصيات الدِرامية ليس مُجرد تجسيد للدقائق التي استغرقها الحدث أثناء تصويره أو عرضهِ، ولكنها - كما يرى الفنان الكبير نِهاد بهجت - شخصيات لها تاريخ مُمتد في الماضي، وهو يرى كل هذا في المكان الذي يرسمهُ، فهو ليس مكانا صُنِعَ من أجل التصوير، وإنما مكان عاش ورأى ولهُ عُمر في الماضي، مليء بالتفاصيل وبتجاعيد الزمن، مُحاط أحياناً بِالإهمال والتجاهل، وما فعله نهاد بهجت في تصحيح مفهوم الديكور السينمائي شبيه بما صنعه فنانونا الكبار من التشكيليين في فنون الإخراج والتصميم والرسم”.
لهذا نجد أن “اللوحة” هي عِشق “نهاد بهجت” الأول على حد قولهِ، فقبل أن يدرس الديكور كان يرسم ويُلون ويستمتع بهذا الفن، وعندما عمل في الديكور استفاد جِدا من الفن التشكيلي، فكان يُعامل المَنظر على أنه لوحة تشكيلية، فكان يُلون الجُدران ويجعلها ذات ملمس مُختلف ليُعطي ثراء للمنظر والتفاصيل، بالإضافة إلى أُسلوب التعتيق والتأثيرات المُختلفة للألوان، والتي مكنتهُ من توظيفها في الديكور بشكل جديد ومُثمر للصورة النِهائية للمَنظر.
كان عشقه للفن التشكيلي هو ما دفعه لأن يكون أول من يُدخل “البوسترات” بجوار “الأعمال التشكيلية” للفنانين التشكيليين أمثال “جمال السجيني”، “وجدي حبشي”، “يوسف فرنسيس”، و”راغب عياد”، وغيرهم، كما استخدم الصور الفوتوغرافية كعُنصر من العناصر التعبيرية في المَنظر السينمائي، وقام بالمزج بين الطُرز المُختلفة وبين الأشكال الكلاسيكية القديمة والحديثة كما قام باستخدام الأعمال واللوحات لمُصممين عالميين أمثال “إيمز”، “لوكوربوزييه” و”ساريينن”.

كمال الشيخ
عمل “نِهاد بهجت” في بِداية مشواره كـ “مُنسق مَناظر”، فهو أول من وظف الإكسسوار في خدمة الدِراما، ثم تحول بعدها إلى “تصميم الديكور”، فكان أيضاً أول من تمرد على الألوان والتكوينات التقليدية، ليُصبح بعدها من أهم مُهندسي الديكور في السينما المصرية.
يؤكد هذا ما رواه “نهاد بهجت” في عام 1963 عن بدايتهِ: “في زِيارة لأحد صَالات المَزادات قابلت أنا ووالدي المُخرج الكبير كمال الشيخ، كان عمري سبعة عشر عاماً، فتحدثت معه عن حال السينما، ومدى استيائي من حال الصورة والحالة البصرية وتوظيف الاكسسوار، ففوجئت بهِ يطلب مني أن أكون مسئولاً عن الإكسسوار في فيلمه الجديد الشيطان الصغير، وبِالفِعل قُمت بتحضير وتنسيق مناظر الفِيلم، وأذكُر أنهم كانوا يُطلقون مُقاول اكسسوار في هذا الوقت على هذهِ المِهنة، فقررت أن أُحيي المُسمى القديم لهذهِ المهنة ألا وهو “مُنسق المَناظر”، وبِالفِعل قد كان، فطلبت أن أقرأ السيناريو قبل البِدء في العمل، وبدأت أدرس الشخصيات والأماكن، وبعدها أُحدد أي أنواع الإكسسوار تُعبر عن الشخصية وتخدم الدراما”.
بعدها - وفي نفس العام - عمل “نِهاد بهجت” مع المخرج “كمال الشيخ” في فيلم “الليلة الأخيرة” لـ “فاتن حمامة” وعنه يقول: “كان الأُستاذ كمال الشيخ مُتحمساً لي لأقصى درجة، فهو من الفنانين الذواقين، كما كان خبيراً لِلتُحف، وكان هذا الفيلم مَشاهدهُ مُتعددة، فقلت لنفسي: إذا فشلت في هذا الفيلم لن أُكمل العمل في هذا المجال، ففوجئت بالفنان ومهندس الديكور العظيم ماهر عبد النور يعرض علي سبعة أفلام أُخرى لأتولى مسئولية تنسيق المَناظر بهم، وفي هذا الوقت كان ماهر عبد النور هو مُهندس الديكور الأول في السينما المِصرية، ويُصمم المَناظر لثمانين بِالمائة من الأفلام بِسُوق السينما في هذا الوقت، ثم بدأت أنتشر بِهذا الشكل، حتى إن المُمثلين الكِبار كانوا يشترطون ترشيحي لتنسيق المَناظر بِالأفلام التي يعملون بِها”.
وقد استمر تعاون “نِهاد بهجت” مع “كمال الشيخ” في أفلامٍ أُخرى كتعاونهما عام 1969 في فيلم “ميرامار”، وأيضاً في 1970 من خلال فيلم “شيء في صدري”.
في فيلم “ميرامار” كان على “نِهاد بهجت” أن يفرش المَنظر ويُنسقهُ من وجهة نَظر “ماريانا” صاحبة البَنسيون - وهي سيدة أجنبية عجوزَ - لهذا يغلب الطابع الأوروبي على “البَنسيون” بِما فِيهِ مِن لمساتٍ نِسائية وأركان لِلعب الورق.
وفي “شيء في صدري”، نُلاحظ - كما ترى الناقدة وأُستاذة الفن التشكيلي “د. ماجدة سعد الدين” - أن “نِهاد بهجت” راعى الفارق بين عائلة بسيطة أثرت سريعاً، وبين أُخرى ثرية فقدت ثروتها نتيجة لظُروفٍ مُعينة، ففي الحالة الأُولى نرى الإكسسوارات الثمينة والغالية، إلا أنها غير مُتجانِسة وغير مُنسقة، وفي الفيلم انتقلت العائلة الفقيرة مِن حي السيدة إلى الزمالك بأمر “الباشا”، لهذا رأينا “البار” في “الصالون” يُستخدم كـ “نَملية” للسُكر والشاي! أو مثلا نجد تمثال “غاندي” على مكتب “الباشا” في نفس الفِيلم، وما يُمثله “غاندي” يأتي مُتناقضاً تماماً لشخصية “الباشا”!.
يعود “نهاد بهجت” للاسترسال في ذِكرياته عن “كمال الشيخ”، فينتقل لعام 1975 وعملهما معاً في فيلم “وثالثهم الشيطان” فيقول : “كان مِن بين المَشاهد مَنظر لِفِيلا مهجورة، فطُلِبَ مِني أن يكون هناك في آخر السُلم الذي يقودنا إلى الدور العلوي مكان فسيح، على أن تكون غُرفة نوم البنت على الجانب الأيمن، والغُرفة الأُخرى على الجانب الآخر، ويربط بينهما شُرفة، وهذا الشَكل طلبهُ لأنهُ حدد تماما حركة الكاميرا والمُمثلين، وهذا كتصور مِعماري لِلمكان وارتباطهِ بِالدراما، فكمال الشيخ مُخرج شديد الكِلاسيكية، وهذا نوع مِن الموهبة بِرأيي”.
في ذات الوقت عمل بهجت مع المخرج “فطين عبد الوهاب” - مثل فيلم “نُصف ساعة جواز” عام 1969- فلم يكُن “فطين” يعمل إلا معه - على حد قول “نِهاد “ -، والسبب - كما يقول - لإيمان “فطين عبد الوهاب” بموهبتهِ وقُدرتهِ على ترجمة وتحويل الدراما والأحداث إلى عمل فني ملموس ومُمتع بِالنِسبة لِلمُتلقي.

يوسف شاهين
تحليل دقيق لِمَا قام بِهِ “نِهاد بهجت” في فيلم مثل “إسكندرية ليه” لـ “يوسف شاهين” عام 1977 يذكره الرسام والكاتب الصحفي “محمد لطفي” في مقاله عن هذا الفيلم حيث كتب: “ديكور شقة الأُسرة هو الديكور الأساسي في الفيلم، حيث ترسم لنا تفاصيل الشقة حالة درامية نرى من خلالها طبيعة حياة هذه الأُسرة في ظِل أحداثٍ سياسية، لذا نرى مدى طُموحهم في الظهور بشكلٍ برجوازي، فتُطِل علينا مُفردات تؤكد هذه الحالة مثل ترابيزة دائرية تُستخدم للعب الورق مع كراسي بتصميم كلاسيكي، كذلك استخدام لوحات الزينة بِأُطر مُذهبة، عريضة، تبدو عليها ملامِح القِدم والزمن، وغلبَ على الشقة “بالتة” الألوان الزرقاء مع الأخضر، واستخدام البُني في خشب الأثاث لتُؤكد هذهِ البالتة القاتمة حالة شُعورية ودِرامية تُقربنا من أجواء الحَرب المُحاصرة لهؤلاء السُكان، أما البناء المِعماري للشقة فقد صِيغ بِدراية وعِناية، حيث عبرت الخُطوط الهندسية بِشكلٍ صادق عن مُعاناة هذهِ الأُسرة الفقيرة، حيث جاءت المِساحات بتِقسيماتها وكأنها تتزاحم لتضغط على الأُسرة في حَياتها اليومية، فنجد الطُرقة الصغيرة مع تنظيم قِطع الأثاث، مع الكُتل المُكونة للمكان، كُل هذا منحنا شُعوراً بالكثافة والضِيق، ساعد في تكثيف هذا الشُعور بالتة الألوان القاتمة، فنجد أن الأزرق لون يغلب على طبيعة المكان الجُغرافية لمدينة مثل الأسكندرية، ليكون دلالة على انتماء هذه الأُسرة للأسكندرية، لينجح نِهاد بهجت في الربط بين الطبيعة الداخلية لِلمَكان وألوانها بالطبيعة الجُغرافية للمدينة”.
يُضيف “محمد لطفي”: “كانت مَشاهد الفيلم قد أتت في شكل واقعي أحيانا، وفي شكل رمزي أحيانا أُخرى، نجد مَشهدا من أروع مَشاهد الفِيلم تم التعبير عنه في شكل غاية في السيريالية وبفانتازيا غاية في الإحساس، وهو مَشهد موت الأخ الأكبر بسبب حرقه السيد المسيح، فنرى الستائر البيضاء في شكل انسيابي، تتقاطع في تكوين فني، يغلفهُ الدخان المُتصاعد لنرى القِطع على قدم المسيح وعليها آثار دماء جافة، لتنقل لنا شُعوراً بِالأسى وقسوة العذاب وحالة الخَوف التي انتابت الأخ الأصَغر في صِياغة فنية، يغلب عليها اللون الأبيض، لون البراءة والصَفاء للدلالة على قُدسية المسيح”.
للوقوف على كافة هذهِ التفاصيل والاهتمام بها من القِراءة السابقة، يجب علينا العودة لمَرحلة طُفولة “نِهاد بهجت”، والتي يُمكن مِن خِلالها فهم الكثير عند قِراءة فيلم كـ “اسكندرية ليه ؟”، فـ “نِهاد بهجت” كان يحضر صالات المَزادات مع والده الطبيب الذي كان يهوى التُحف واللوحات والموسيقى، كما كانت مُربيته الفِرنسية تحرص على أن يحضر هو وشقيقه حفلات الأُوبرا.
يقول “نِهاد بهجت” عن تِلك الفترة : “كنت أتأمل دار الأوبرا القديمة بِعمارتها الرائعة، والأزياء، والدِيكورات ذات التصميمات، والألوان التي تُضفي على النفس بَهجة نبيلة، فكانت تصطحبنا المُربية أيضا إلى المَعارض الفنية، وأذكُر أنها كانت تتمتع بحِس فني كانت تنقله إلينا أنا وأخي فكما كُنتُ أذهب مع والدي وأُمي إلى السينما مساء يوم الخميس، وكان موسم السينما الإيطالية بمثابة مُكافأة عظيمة، فكانت دُور السينما في وسط البلد تعرض المُوجة الجديدة للسينما الإيطالية والفِرنسية والأفلام الواقعية، مثل أفلام دي سيكا وفيلليني، فتفتحت عيناي على أضواء الفن السابع المُشبع بالجمال، بالرغم كون هذهِ الأفلام بِالأبيض والأسود، إلا أنهُ كان لِهذهِ المرحلة دور كبير في تكوين مخزون بَصري كبير أعانني كثيرا في عملي فيما بعد”.
بِالتأكيد كُل هذا أثر في “نِهاد بَهجت”، خاصةً وهو يعمل مع “يوسف شاهين” الذي يميل - كما “نهاد” - إلى التجريب، وعن “شاهين” يقول: “أجمل ما في شاهين جنونه الفني، وتقديره لجنون الآخرين وإبداعاتهم، فهو لا يفرض جنونه على الآخر، ولكنه ينسج جنونا جديدا بينه وبين الفنانين الذين يعملون معه، وهذا نوع من العبقرية النادرة”.
بِقراءة فِيلم آخر لـ “شاهين” تعاون فيهِ مع “نِهاد بهجت” كفيلم “العصفور” مثلا، نجد أن “نهاد بهجت” قد اعتمد - كما ذكر - على “مجموعة الألوان المصرية”، أي على دَرجة “البُنيات” في تصميم ديكور شقة الأُم “بهية”، فابتعد عن أي لون غربي دخيل، حتى لا يخدش خُصوصية هذهِ الشخصية المَصرية. والجدير بالذِكر أن “نِهاد بهجت” قام بِبِناء الحارة لـ”العصفور” في كلية الهندسة بِـ “جامعة القاهرة”! وعن ذلك يقول: “كنتُ أُريد ضمان حيوية الخَلفية التي من الصعب إيجادها في فِناء الأُستوديو، فالتزمت بِالبَساطة في الفِيلم، وابتعدت عن الزخرفة، كما التزمت بِهارمونية الألوان ووِحدة الأُسلوب في غالبية الديكورات”.
لهذا ليس غريباً أن يشيد الناقد “سامي السلاموني” في نشرة “نادي السينما” عام 1974 بـ “نِهاد بهجت” حين كتب: “الديكور في العصفور ليس مُجرد المَنظر الذي تدور فيهِ الأحداث، بل هو جزء أساسي من بِناء الفِيلم، فهو إطار لتكوين الشخصيات والأحداث، وكان غريبا أن يُقدم تصورهُ لحي بين السرايات - حيث بيت بهية والمطعم - بهذا الإحساس الواقعي المُقنع الذي لا يفقد الجَمال أيضا”.
حسين كمال
يعترف “نِهاد بهجت” بأن تمرده على الصُورة التقليدية لمكتب “مأمور السِجن” في فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” عام 1978 جاءت نتيجة لعبقرية المُخرج “حسين كمال”، حيث اتحدت رؤية “حسين كمال” مع رؤيتهِ. فمثلاً نجد في مكتب “المأمور” قصاري الزرع التي يوليها اهتماما شديدا! كما تُطل علينا زُجاجات العُطور و”الفوط البيضاء” النظيفة، كما نُلاحظ قفص العصافير الذي يُحبهُ “المأمور”! وكُلها دلالات تُعبر عن مدى التناقض في شخصية المأمور التي تميل - كما هو ظاهر - للجمال والنظافة والسلام، في الوقت الذي يُعذب فيهِ البشر!.
وحينما سألوا “نِهاد بهجت” عن “حسين كمال” قال: “شاهدت فيلم المستحيل لحسين كمال، كان أول فيلم له، وخاطبت نفسي: لو لم أعمل مع هذا الفنان العظيم لن أتمكن من الوصول لطُموحاتي، فجرأة الفنان لا بُد وأن ترتبط بمُخرج لديهِ نفس الجرأة ووجهة النظر المُتمردة التي بِداخِلي، فأصررت داخل نفسي على العمل مع حسين كمال، فلديهِ لمسة الجنون والتمرُد التي رأيتها في أعمالهِ، وهذه اللمسة هي كيف تكون قادرا على الاختلاف عمن حولك بوعي ومَنهجية في التفكير والجرأة في تناول أعمالك”.
للتأكيد على ذلك نحاول استعراض بعض من أعمال الاثنين معا. ففي فيلم “شئ من الخوف” عام 1969، أوضح بهجت أنه استخدم في تنسيق مناظر قلعة “عتريس” إكسسوارا حاد الخَط، كما استخدم الكثير من السيوف، جلود الحيوانات، البنادق، وابتعد عن “الإكسسوار الناعم” على حد قولهِ، كما أن طُراز الأرابيسك المُستخدم أضفي جوا أُسطوريا على قسوة شخصية “عتريس” كنموذج أُسطوري للبطش والقسوة.
وفي فيلم “إمبراطورية ميم” عام 1972، يذكر نِهاد في البرنامج الإذاعي “عالم السينما”: “الديكور في السينما جزء من البِناء الدِرامي، وهذا ينطبق على هذا الفيلم، فهو كوميدي سياسي يتعرض لحياة أُسرة بُرجوازية مصرية، تتولد فيها الصِراعات، جيل الوسط وتُمثلهُ الأُم أو فاتن حمامة، وجيل ما بعد الثورة ويُمثله الأولاد، جيل مُنطلق يُطالب بِالديمقراطية في مواجهة جيل أقدم، هذا الديكور عبارة عن فيلا مُكونة مِن طابقين، الطابق الأرضي مُصمم على الطراز الكلاسيكي، وما فيهِ من لوحاتٍ وتُحف وزخَارف مُعبرة عن الحياة البرجوازية لهذهِ الأُم والطابق الثاني أغلبه حُجرات نوم البنات والأولاد، يتغير فيهِ الشكل إلى المُودِرن الذي يُعبر عن انطلاقة الشباب الذي يُطالب بِالتغيير، فالشكل هُنا يُعبر عن طبيعة كُل شخصية، وكذلك الألوان المُستخدمة في الديكور، فحُجرات النوم هادئة، مرحة، تتفق مع طبيعة الفيلم الكوميدي عامةً”.
وفي فِيلم “النداهة” عام 1974 ، يقول “نِهاد بهجت” في مجلة “الإذاعة والتليفزيون” عدد يوليو 1975: “عندما يتخطى الواقع والحاضر إلى شكل مُستقبلي يُعبر عن افتقاد العُنصر الإنساني وعن ميكانيكية العِلاقات، فالمُستقيمات الموجودة على حوائط منزل البطل في الخلفية تعكس أعماق وأغوار هذا العالم، والبطل أو إيهاب نافع هو الإنسان الرمز الذي يُجسد مَاديات هذا العَالم الذي نَعيشه، وكأن الديكور جزء من شخصية البطل، فقد انعكس الديكور على الشَخصية الدِرامية، كما انعكست هي أيضاً عليهِ، فكأنهُما جُزءان لا ينفصلان، كل يُكمل الآخر، فالبطل جُزء من هذا الكُل الذي يعيش فيهِ بِعقلهِ العِلمي، فالسِمة الهندسية واضحة في خُطوط الديكور من خِلال المُستقيمات والدوائر، وحدات الإضاءة، البار نِصف الدائري، والدائرة المَوجودة في الخلفية على هيئة الشَمس، كُل هذهِ الخُطوط الهندسية تُوحي بِالعَقل المُنظم والفِكر المَادِي”.
لكن هذا لم يشفع لفيلم “النداهة” الذي طالته بعض الانتقادات على يد بعض النُقاد والكُتاب والمُخرجين كالراحلين “د. محمد كامل القليوبي” و”سمير فريد” وكان رد “نِهاد بهجت” وقتها في مقال بعنوان “الديكور ذلك البطل المَجهول” للفنان “بيكار” بجريدة “الأخبار” حيث قال: “الديكور المنزلي يختلف عن الديكور السينمائي، وذلك لأن الديكور المَنزلي هو تنسيق الأثاث تنسيقاً وظيفياً وجَمالياً، في حين أن الديكور السِينمائي تنسيق تَعبيري في المَقام الأول، فهو يُشارك مع المُمثل والمؤلف في التعبير الدِرامي، وفِي الإيحاء بِالأبعاد النفسية والفِكرية والفلسفية للقِصة”.
ويشرح “نِهاد بهجت” ما يقصده أكثر بعد عرض فيلمهِ “على ورق سوليفان” لِـ “حسين كمال” عام 1974، ففي تحقيق “السينما تهرب إلى الشارع” لـ “سعيد عبد الغني” في جريدة “الأهرام” بعدد فبراير 1980 يقول: “على مُهندس الديكور أن يكون على دِراية بِكُل العناصر فن السينما أن يُحبها تماماً، لا يجب أن يُخفى عنه أي مرحلة مِن مَراحل الفِيلم السِينمائي مُنذُ كِتابته على الورق حتى ظُهورهِ على الشاشة الكبيرة، فالديكور نغمة من سيمفونية كبيرة، ولا بُد من وجودها مع عناصر الأوركسترا الفني ولا غِنى عنها، ولكن عليها ألا تطغى، فالديكور يخدم ولا يهدم ومُهندس الديكور عليهِ أن يُراعي حركة الكاميرا عِند التصوير والزوايا المَطلوبة لتصوير المَشاهد، وألوان الديكور التي تَتماشى مع حالة المَشهد الدِرامية، إلى جانب الإكسسوارات التي تملأ الديكور، ومن أي عصر، وكيف تتعايش وتتلاءم مع طبيعة هذا الديكور”.

أحمد يحيى
أحياناً ما يقف مُهندس الديكور أمام عائق المِيزانية التي تُوضع لهُ عند عمل الفيلم، ففي فيلم “ليلة بكى فيها القمر” للمُخرج “أحمد يحيى” عام 1980 استعرض “نِهاد بهجت” عضلاته كُلها في ديكورات استعراضية مُبهرة مِن خِلال مِيزانية بسيطة على حد قول الناقد الراحل “د. رفيق الصبان”، فرغم قسوة الميزانية ومَحدوديتها، استطاع بهجت أن يُقدم أجمل الديكورات الاستعراضية في هذا الفيلم.
وعن هذا يقول نهاد: “السينما العالمية لا تبخل بالإنفاق على الديكور والملابس والعناصر الفنية فهُناك جيوش مِن الفنانين والعُلماء يتعاونون في إنجاز هذهِ المُهمات الفنية مِن دِيكورٍ وملابس وإكسسوار، وأذكر قِصة رُويت لي وحدثت في أحد الأفلام الأجنبية، حيث طلب المُخرج خيمة سِيرك كبيرة بنفس المَقاييس الطبيعية، وطلب مُدير التصوير لمبة واحدة لإضاءة الخيمة بأكملها، فتقدموا بِمشروع لشركة فيليبس العالمية لاختراع لمبة بإمكانيات خاصة تُضئ هذهِ المِساحة الضخمة من الفَراغ، وهذا كمثال لنعرف كيف يعمل هؤلاء الفنانون”.
ويُكمل: “الامكانيات لدينا تُعتبر ضعيفة جِداً، فليس هُناك وِرش مُجهزة بشكلٍ كافي، والعِمالة المَاهرة تنقرض، وقَد نَبهت لِهذهِ المُشكلة مِن زمن، فكُلما كان (أُسطى كبير) يتوفى، كُنا نُنبه أنه لا بُد من تسليم جيل جديد ومُدرب بِشكلٍ جيد، ولكن للأسف آل الحال إلى ما نحنُ عليهِ الآن وأيضاً هناك مُشكلة في مَقاسات الأُستوديوهات، فهي غير مُصممة بِالمَقاييس العَالمية ومِساحتها صَغيرة جِداً، عِلاوة على أن جُدرانها ثابِتة، فعندِما زُرت البلاتُوهات فِي هوليوود وجدتُ أن الجُدران مُنزلقة بين البلاتُوهات، فيُمكن أن يستخدم مُهندس الديكور أكثر مِن بلاتوه ويفتح المِساحة ليحصل على مِساحة ضخمة”.
لكن رغم كُل تِلك الظروف، فلم يقف هذا عائقاً أمام طُموحات “نِهاد بهجت” ففي مجلة “السينما والناس” عدد يوليو 1987، يذكر فيلماً آخر للمُخرج “أحمد يحيى” وهو فيلم “الخادم” ( 1988) ويقول : “استعنت لأول مرة في السينما المَصرية بلوحاتٍ وتماثيل وتُحف ومفروشاتٍ حقيقية هناك أفلام عالمية كثيرة تقوم بنفس الشيء، لدرجة أنها تستعين بالقِطع الأثرية مِن المَحلات التُجارية الكُبرى مثل كارتييه وفان كليف، ومن أشهر المُخرجين العالميين الذين يقومون بذلك المُخرج الإيطالي الشهير فيسكونتي”.
خالد الحجر
البعض قد يتصور أن مِهنا مِثل Art director أو Stylist مِهن حديثة، لكنها في حقيقة الأمر ليست جديدة - كما يقول “نِهاد بهجت” – بل على نحو أكثر دقة هي مِهن جديدة على السينما المصرية، وهذهِ المِهن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بِـ “مُصمم الديكور”.
يقول “نِهاد بهجت”: “في فيلم مفيش غير كده لنبيلة عبيد والمُخرج خالد الحجر عام 2006 كُنتُ أُتابع كُل العناصر الفنية الخاصة بِالصُورة النِهائية للشكل، بِدايةً من الديكور، الإكسسوار الألوان، ونِهايةً بِشكل المَلابس وألوانها وأُسلوبها، فالفيلم استعراضي، والأفلام الاستعراضية في السينما المصرية قليلة، تكاد تُعد على أصابع اليد، نظراً لارتباط هذه الأفلام بتكاليف إنتاجية ضخمة، فالمُعادلة هُنا صعبة”.
لذا نستطيع أن نقول بأن البطولة في هذا الفيلم هنا كانت لـ “نِهاد بهجت” في لمسات الديكور والألوان والإدارة الفنية لكل العناصر التي كونت المَشهد السينمائي.
“أعمالي في عشرات الأفلام عبرت في بعضها عن واقع مصري، شديد التخلُف، ومُغرق في الواقعية، كما قُمت باستخدام الخامات البيئية في الديكور، بل وعَبرت عن مُعاناة البرجوازية المَصرية كما في فيلم الحَفيد لعاطف سالم، وغيرها من المُحاولات والتجارُب التي حاولتُ مِن خِلالها أن أخرج بها عن الديكور الجِبس التقليدي للسينما المَصرية، ومُحاولاً دائماً ألا أُصمم.
المصادر:
بعض المصادر مذكورة في مَتن المقال:
- كِتاب “نِهاد بهجت وهمس الجَماد” لـ “د. ماجدة سعد الدِين” – دار ألف – 1997.
- كِتاب “نِهاد بهجت.. شجاعة التمرُد” للرسام والكاتب الصحفي “محمد لطفي” - مطبوعات المهرجان القومي للسينما المصرية - 2007

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات