صحراء أنطونيوني.. مغامرة باللون الأحمر

أنيس أفندي 01 يناير 2019 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : أنيس أفندي
فيلم الصحراء الحمراء Red Desert هو أول الأفلام الملونة للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، والذي واصل من خلاله تشريحه للطبقة البرجوازية في المجتمع الإيطالي. وهو أيضا أول الأفلام التي حققها بعد ثلاثيته الشهيرة «ثلاثية الاغتراب» والتي تضمنت أفلام L’Avventura المغامرة 1960، وLa Notte الليل 1961، وL’Eclisse الكسوف 1962.


يستدعي الحديث عن أنطونيوني علاقته بحركة الواقعية الجديدة التي انطلقت في إيطاليا منتصف العقد الخامس من القرن العشرين وأثرت على السينما في العديد من بقاع العالم. ففي حين أن رواد هذه الحركة من المخرجين أمثال روبرتو روسيلليني، وفيتوريو دي سيكا، ولوكينو فيسكونتي وغيرهم، تنصلوا من الشكل السينمائي السائد في إيطاليا إبان الحكم الفاشي، والذي عرف باسم «سينما التليفون الأبيض» التي ركزت بالأساس على الطبقة الأرستقراطية في إيطاليا، وعمدوا إلى تصوير الطبقات الوسطى والدنيا من العمال والفقراء، كان أنطونيوني أكثر ميلا إلى تشريح الطبقات العليا والبرجوازية وأزماتها النفسية والوجودية.
«لقد قام مايكل أنجلو أنطونيوني منذ فيلمه الأول «وقائع علاقة حب» (1950)، بوضع نفسه خارج الواقعية الجديدة من خلال تحليله الشفاف والمركز للعالم النفسي للبرجوازية.»
ربما يكون هذا هو المدخل الأهم والأبرز لسينما أنطونيوني، ويمكننا من خلاله تفكيك لغته السينمائية وجوانبها التشكيلية التي اكتسبت زخما جديدا مع بداية تحقيقه للأفلام بالألوان الطبيعية بدلا من الأبيض والأسود التقليدي، فضلا عن نزعته الوجودية والذاتية في تناوله لموضوعات أفلامه ومعالجاتها، وهو ما سنحاول الوقوف عليه من خلال تحليل فيلمه الصحراء الحمراء Red Desert.

الاغتراب والعزلة
يتمحور الفيلم حول شخصية جوليانا، الأم والزوجة الجميلة التي تعيش أزمة نفسية عميقة ناتجة عن تعرضها لحادثة سير. وعلى الرغم من أن هذه الشخصية تنتمي بشكل واضح إلى طبقة البرجوازية الصناعية، إﻻ أنها تعبر عن أزمة شخصية ووجودية أكثر من كونها تعبر عن طبقتها. تعاني جوليانا من صعوبة التواصل مع محيطها الطبيعي والمجتمعي، ويجسد من خلالها أنطونيوني، شأنها شأن بطلات ثلاثية الاغتراب، أزمة الهوية والوجود لدى الإنسان المعاصر، في عالم تسيطر عليه رموز الحداثة.
يقول أنطونيوني: «أعتقد أن الموضوع في معظم أفلامي هو الشعور بالوحدة. في كثير من الأحيان يتم عزل شخصياتي، فهم أفراد يبحثون عن المؤسسات الاجتماعية التي سوف تدعمهم، يبحثون عن العلاقات الشخصية التي سوف تستوعبهم. ولكنهم في أغلب الأحيان ﻻ يجدون إﻻ القليل من الدعم. إنهم يبحثون عن وطن، عن الوطن بمعناه الأوسع. وأنا أشاركهم الشعور ذاته، فليس هناك مكان في العالم أشعر فيه بشكل حقيقي بأنني في الوطن، حتى في روما.»
إذن هذا هو الموضوع في فيلم الصحراء الحمراء، الوحدة والانعزال وعدم القدرة على التواصل مع المجتمع، الموضوع الذي عالجه أنطونيوني في ثلاثية الاغتراب بشكل خاص وفي معظم أفلامه بشكل عام، وهذا الموضوع هو أحد العلامات المميزة للغته السينمائية.
لم تستمر حركة الواقعية الجديدة في إيطاليا أكثر من بضع سنوات، انطلق بعدها المخرجون في آفاق أوسع فرضها بالأساس تطور المجتمع نفسه، ولهذا جاءت بداية أنطونيوني في عام 1950 منفصلة بشكل كبير عن تلك الحركة، فالتعافي الاقتصادي في إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتغول الحداثة على أسلوب حياة المواطن
دفع المخرجين إلى الانتقال من التركيز على موضوعات مثل الفقر، والعدالة الاجتماعية، ودمار الحرب، إلى موضوعات مثل الرغبة غير المشبعة للثروة المادية لأعضاء البرجوازية الإيطالية.
في أحد المشاهد تسأل جوليانا، كوررادو: «هل أنت يساري أم يميني؟» فيجيبها: «إن الأمر يبدو كما لو أنك تسألينني عن ديني وإيماني، إنها أسئلة كبيرة وخطيرة، أسئلة تتطلب إجابات محددة، ولكن في الأعماق يخيل إليّ أن من الصعب للإنسان أن يعرف حقاً بماذا يؤمن».
يرى الناقد والكاتب إبراهيم العريس أن «الوجودية ﻻ الواقعية» كانت دائما سمة مشتركة في كل أفلام أنطونيوني. إذ أن أنطونيوني يعبر عن تمزق فنان ومثقف أواسط الستينات من القرن العشرين أمام حياة كانت تحمل كل أنواع اليقين، مندفعا للبحث عن آفاق جديدة، ستقف ﻻحقا خارج الأيديولوجيا، وخارج الانقسام بين يمين ويسار.
يولى أنطونيوني اهتماما خاصا بالشخصية، فأفلامه عادة ما تدور بين عدد محدود من الشخصيات، فعلى حد تعبير أنطونيوني، الفيلم ليس ما تدور حوله أحداثه، ولكنه عن الشخصيات، وما يحدث من تحول داخلهم، والتجربة التي يمرون بها خلال الفيلم هي ببساطة أشياء تحدث لأنها تحدث للشخصيات التي ﻻ تبدأ حياتها أو تنتهي ببداية الفيلم أو نهايته.
وهو ما نجد له انعكاسا على مستوى السرد، إذ تنعدم العلاقة السببية بين الأحداث أو الترتيب الزمني المنطقي لها، في الفيلم ﻻ يرى المشاهد حادثة جوليانا التي سببت لها الصدمة النفسية، ولكنه يعرفها من خلال الحوار، وﻻ يرى أيضا نهاية حالتها، فهل تعافت جوليا من الصدمة والاكتئاب؟ هل تصالحت مع العالم الحديث؟ هل استعادت القدرة على التواصل مع المجتمع؟ كلها أسئلة مفتوحة يتركها أنطونيوني بلا إجابة فربما هو ﻻ يبحث عن إجابة، هو فقط يستعرض مقطعا من حياة شخصياته يضمنه حيرته وأسئلته الوجودية، والتي ﻻ يبدو أنه قد توصل إلى إجابة مرضية لها.
يقول أنطونيوني: «لم يعد يبدو لي من المهم أن أصنع فيلما عن رجل سرقت دراجته. ولكن من المهم أن أرى ماذا يوجد في عقل وقلب هذا الرجل؟ وكيف تكيف مع نفسه؟ وماذا تبقى فيه من تجاربه السابقة؟»

الألوان المخيفة
بداية من العنوان الذي يحيلنا مباشرة إلى التمييز اللوني، وعطفا بحقيقة أن فيلم «الصحراء الحمراء» هو أول أفلام أنطونيوني الملونة، يمكننا أن نتخذ اللون مدخلا لتحليل السمات التشكيلية عند أنطونيوني، وبشكل خاص في هذا الفيلم.
دخول الألوان إلى السينما اقتضى مرور ثلاث عقود كاملة (من الثلاثينيات إلى الستينيات) لأسباب مختلفة، منها الاقتصادي، ومنها التكنولوجي ومنها الفني.
تتمثل الأسباب الفنية في ممانعة المخرجين لاستخدام هذه التقنية الحديثة والنظر إليها بوصفها تقنية تجارية بالأساس، بالإضافة لاعتياد الجمهور على المنظر السينمائي باللونين الأبيض والأسود. بالرغم من أن تكنولوجيا الألوان ترجع للعقد الثاني من القرن العشرين (1915)، فضلا عن وجود محاولات سابقة على هذا التاريخ.
تجاوزت الألوان عند أنطونيوني كونها مجرد تقنية للتصوير، لعلاقتها بالتكوين التشكيلي للفيلم، فالرجل لم يقم بتحقيق فيلم ملون، وإنما استخدم الألوان كمكون تعبيري أصيل لمعالجة الموضوع، وتكثيف التفاصيل المتعلقة بالشخصيات وتحولها

في المشهدين الافتتاحي والختامي، تبدو جوليانا بمعطفها الأخضر كما لو كانت شخصية ملونة في فيلم بالأبيض والأسود. نرى اللونين يسيطران بشكل كبير على التكوين، الأسود هو لون الأرض والتربة الطينية بفعل المطر، والأبيض هو السائد في الخلفية بفعل السماء الغائمة التي غابت عنها الشمس، وأدخنة المصانع المتطايرة. تمييز جوليانا من المشهد الافتتاحي (صورة1) يعطي انطباعا بعدم انتمائها لهذا العالم، أو عدم قدرتها على التواصل معه.
«مما ﻻ شك فيه أن اللون الواحد المنفرد له قوة ودلالة على النفس البشرية اكتسبت عبر التاريخ من قديم الزمن، بما جادت به الطبيعة من معان ومفاهيم جعلت الشعور والعاطفة الإنسانية تتأثر بهذه الألوان المختلفة كنوع من محاكاة مدلولها الطبيعي، مثل لون الدم الأحمر الذي ارتبط بالقسوة والقتل، ولون الزرع الأخضر النابت الذي ارتبط ببرعم أخضر جدير بالحياة والجمال والاستمرارية، أو اللون الأصفر بالزرع الناشف الأجرد الميت، وهكذا.»
يعتمد أنطونيوني في فيلمه بشكل أساسي على ألوان الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، وكلها تنتمي إلى الألوان الرئيسية وفقا لنظرية ألبرت منسل Albert Munsell، وهي الألوان الأصيلة أو غير المخلقة من ألوان أخرى. تكتسب هذه الألوان قدرة تعبيرية في ذاتها، إذ إنها ألوان الطبيعة الأصلية. غير أن أنطونيوني يستخدم «باليتة» ألوان قاسية وصارخة تمتلك قدرة خاصة في التعبير عن الاضطراب النفسي الداخلي للشخصيات.
يقول أنطونيوني: «في فيلم الصحراء الحمراء كان عليّ أن أغير مظهر الواقع، مظهر الماء والشوارع والريف. كان عليّ أن أطليهم بألوان وفرشاة حقيقية. لقد قمت بتلوين غابة باللون الرمادي لتبدو كالإسمنت.»
اللون هنا ليس مجرد محاولة لإضفاء جاذبية من نوع ما على المشهد، ولكنه مكون تشكيلي أساسي لتكثيف المزيد من التفاصيل والمعلومات عن الشخصيات وصراعها الداخلي والخارجي في عدد أقل من اللقطات. فأزمة جوليانا النفسية تمنعها من التواصل مع محيطها الطبيعي والاجتماعي، وتظهر في هيئة عوينات قاتمة تطغى على رؤيتها الطبيعية وإحساسها بالمكان والأشخاص من حولها، فبالتأكيد هذه الأشجار ليست رمادية اللون، ولكنها تبدو كذلك لجوليانا.
شخصيات أنطونيوني هي شخصيات منعزلة، تعاني اضطرابا وجدانيا بفعل انفصالها عن العالم من حولها، ورفضها لتغول الحداثة على حياتها الشخصية، ولكن أنطونيوني ﻻ يرفض الحداثة، وﻻ يبحث عن النوستالجيا في عالم بدائي أقل تطورا، وهو يدرك أن الإبداع الفكري والصناعي والتجاري هو مجال طبيعي للإنسان الحديث، لهذا فهو يهتم بالطرق التي يتكيف بها الناس بدورهم مع هذا المجال.
في المشاهد القليلة داخل مصنع الزوج، نرى أن أنطونيوني قد قام بطلاء جدران المصنع، وآﻻته الصاخبة، وأنابيبه الضخمة، بدرجات زاهية من ألوان الأحمر والأخضر، والأصفر. (صورة3) محاولات إضفاء اللون على مناظر المصانع والآلات والمداخن شديدة الارتباط بحالة جوليانا النفسية والتي تحاول تلوين رموز الحداثة في محاولة للتآلف معها، وبالتبعية التصالح مع حياتها. كما ترتبط أيضا بمحاولات أنطونيوني نفسه لأنسنة هذه الرموز وإضفاء الحياة عليها بوصفها أحد شخصيات فيلمه التي تتجاوب مع باقي الشخصيات وتتأثر بها كما تؤثر عليها.
يقول أنطونيوني: «الآلات في هذا الفيلم، بما لها من سلطة، وجمال، وبؤس كامن، ذات تأثير هائل إذ تحل محل المنظر الطبيعي. لكن الآلات ليست السبب في أزمة الألم التي يتحدث عنها الناس منذ سنوات. أعني أنه يجب علينا أﻻ نتوق إلى الأزمنة الأكثر بدائية معتقدين أنها أكثر طبيعية بالنسبة للإنسان.»
ﻻ يتوقف أنطونيوني عند القدرة الشعرية والتعبيرية للألوان، ولكنه يستحضر أثرها على شخصياته بشكل واضح ومباشر من خلال الحوار. في أحد المشاهد يسأل كوررادو، جوليانا: «مم تخافين؟» فتجيبه: «أخاف من الشوارع، أخاف من المصانع أخاف من الألوان، أخاف من الناس، أخاف من كل شيء.» وفي المشهد الأخير يسأل الابن: «ذلك الدخان أصفر اللون، لماذا؟» فتجيبه جوليانا: «لأنه مسمم». فيرد الطفل: «إذن إذا ما مر طائر بهذا الدخان سيموت؟» فتجيبه جوليانا: «الطيور تعرف الآن أنه يجب عليها ألا تقترب من هذا المكان».
هنا يستعيد اللون صورته الذهنية التقليدية، فالأصفر هو مرادف الذبول والموت، والأخضر مرادف الخصوبة والحياة، والأحمر مرادف الرغبة الجنسية، ويتجاوز من خلاله أنطونيوني النظرة القاصرة للأفلام الملونة، فيستدعيه لاستكمال التكوين التشكيلي، ولتكثيف المعلومات والتفاصيل، وللمساهمة في رسم شخصياته وتأطير أزمتها الوجودية.
التكوينات تحاصر الشخصية
يتناول أنطونيوني التحول المعقد للإنسان المعاصر وعلاقته المضطربة بجماليات الحداثة التي تسيطر بشكل واضح على سردية أفلامه، ليس من خلال الحوار البسيط والقليل في أفلامه فقط، ولكن أيضا من خلال العمارة، سواء الطبيعية أو المصطنعة. كما ترتبط رؤية أنطونيوني - الذي درس الهندسة المعمارية لفترة طويلة من حياته - لإيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، برؤيته للعلاقة بين الشخص والمكان.
تنحصر أزمة شخصيات أنطونيوني في شعورهم بالضيق وغياب القيم وما يرتبط بها من مشاعر الاغتراب التي تؤدي به في النهاية إلى الشعور العام بعدم الجدية في الحياة وهو ما ينعكس بالتبعية في علاقة شخصياته ببيئتهم الطبيعية، فالمدينة عند أنطويوني تصبح كيانا عاقلا وطاردا للشخصيات. يأتي المعنى في أفلام أنطونيوني من التفاعل بين العمارة الموحية، والمشاعر الإنسانية الغامضة. إنه يتصور رغبة إنسانية مثالية لإعادة اكتساب الحس الإنساني بالتواصل مع البيئة.
على مدار الفيلم تحضر التكوينات الحداثية وتأثيرها على الشخصيات، المنشآت الصناعية الهائلة والتي تبدو الشخصيات بجانبها كائنات ضئيلة منسحقة تحاول السيطرة على هذا الوحش العملاق، نرى ذلك في أحد المشاهد التي يقف فيها الزوج وصديقه إلى جوار أحد الأسطوانات العملاقة، وفي مشهد لاحق تنفجر إحدى الأنابيب ليخرج منها الدخان الكثيف ويستحوذ على المساحة الأكبر في الكادر في مقابل الشخصيات المتضائلة إزاءه.
يتكرر الأمر نفسه مع رمز آخر من رموز الحداثة الصناعية وهو البواخر وناقلات النفط العملاقة وحركتها المتأنية المهيبة، والتي يتكرر ظهورها سواء في المشاهد الخارجية، أو في المشاهد الداخلية أثناء ظهورها عبر النوافذ.
ينسحب التحليل نفسه على الإضاءة، إذ تسيطر على الغالبية العظمى من مشاهد الفيلم إضاءة معتمة، حتى في المشاهد الخارجية التي تغيب عنها الشمس بصفة دائمة ويسيطر عليها الضباب في عدد غير قليل من المشاهد، باستثناء المشهد الوحيد الذي تقوم فيه جوليانا برواية قصة على طفلها. ينقلنا أنطونيوني إلى القصة نفسها حيث طفلة صغيرة تلعب على الشاطئ وحيث الشمس تغمر المكان، وفي الخلفية نسمع صوت الأم تحكي للابن كيف أن هذه الطفلة أحبت هذه البقعة الجميلة، بألوانها الطبيعية، وهدوئها التام.
في هذا المشهد تغيب كل رموز الحداثة، وتغيب أصوات المصانع والآلات التي تسيطر على شريط الصوت بل إنها تسبق الصورة في المشهد الافتتاحي، كما أن القارب الوحيد الذي يظهر في هذا المشهد هو قارب شراعي تقليدي ﻻ يمت للقوارب الحديثة بصلة.
يستعرض أنطونيوني من خلال المشهد مجموعة من اللقطات لتكوينات صخرية طبيعية على جانب الشاطئ، هذه هي جنة جوليانا المتخيلة، ونعيمها الذي تحاول الهرب إليه من جحيم المدينة الصناعية الحديثة، في مقارنة واضحة بين التكوينات الطبيعية وتلك الصناعية.
في أكثر من مشهد يتوقف أنطونيوني عند نظرة جوليانا إلى نفايات المصانع القذرة بلونها الأسود القاتم، في مقاربة واضحة لنفايات الحداثة والمجتمعات الصناعية، في مقابل نفايات الروح للتعبير عن فكرة التدمير الذاتي للطبيعة في حالة نفايات الحداثة والتدمير الذاتي للنفس البشرية في حالة نفايات الروح (الاضطراب النفسي) عند الشخصية.
عنصر الحركة هو أحد العناصر الأصيلة في تكوينات أنطونيوني، إذ تنقل اللقطات المفردة حركة دائمة سواء حركة الشخصيات الدائمة والمعبرة عن الفوران والتوتر الداخلي، أو حركة البيئة المحيطة (حركة السفن، أو حركة دخان المصانع)، وهو ما يرتبط باعتماده القليل على القطع، إذ يتغير التكوين أكثر من مرة في المشهد الواحد بدون قطع ومن خلال تتبع حركة الشخصيات، أو عن طريق القطع الممنهج من الزاوية القريبة Close إلى الزاوية الواسعة Wide. يعتمد أنطونيوني بشكل واضح على هذا المنهج في القطع، إذ يبدأ المشهد عادة بلقطة قريبة للشخصية، يتبعها لقطة واسعة للمحيط، وتتكرر الكرة أكثر من مرة خلال نفس المشهد في محاولة لتأطير العلاقة بين الشخصية ومحيطها.
في أحد المشاهد المبكرة في الفيلم تفيق جوليانا من نومها مفزوعة، وتحكي لزوجها عن حلمها المروع، وكيف أنها كانت نائمة بسريرها المستقر على رمال متحركة، وكيف أنها اختنقت بإحساسها بالغرق. يحاول الزوج إغواءها بممارسة الجنس لكنها ترفض. وفي مرحلة متقدمة من الفيلم تمارس جوليانا الجنس مع الصديق على سرير طليت قضبانه باللون الأحمر.
يرى فرويد أن الرجل المعاصر تنحصر اهتماماته في العمل والجنس، وهو ما ينطبق بشكل كبير على شخصيتي الزوج والصديق، هذا الرجل المعاصر يرى في الجنس الشعور المادي الباقي والوحيد بالحياة الحقيقية والمعنى المباشر للسعادة، يفتقر هذا الرجل المعاصر إلى كل منابع الإيمان، وﻻ يجد من بد إزاء رمال الحداثة المتحركة التي كلما قاومها ازداد جذبها قوة.
يبدأ الفيلم وينتهي بالمشهد نفسه، جوليانا وابنها في معطفين ملونين داخل إطار يسيطر عليه اللونان الأبيض والأسود، وتطغى فيه المنشآت الصناعية بأصواتها الصاخبة، وأدخنتها المتناثرة، وينتهي بجملة جوليانا لابنها: «الطيور تعرف الآن أنه ما يجب عليها الاقتراب من هذا المكان».

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات