«مملكة الظلال» أشكال التسلية البصرية قبل اختراع السينماتوغراف

حسن شعراوى 10 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : حسن شعراوى
“في الليلة الماضية كنت في مملكة الظلال.. آه لو كنت تعلم كم كان غريبا أن تكون هناك. إنه عالم بلا صوت، بلا لون، كل شىء هناك ــ الأرض، والأشجار، والناس، والماء، والهواء ـــ مصبوغ بلون واحد هو اللون الرمادي.. إن الأشعة الرمادية تسقط من الشمس عبر السماء الرمادية، لتصبح العيون رمادية، والوجوه رمادية، والأوراق والأشجار بلون رمادي شاحب. إنها ليست الحياة وإنما ظلها، إنها ليست الحركة وإنما طيفها الذي لا صوت له».


تلك الكلمات كتبها الأديب الروسي «مكسيم جوركي»، بعد مشاهدته فيلما سينمائيا في إحدى دور العرض بروسيا عام 1896، متأثرا بنشوة فائقة، بما شاهده في «مملكة الظلال»، كما أسماها.
فقبل اختراع «السينماتوغراف» كانت «الظلال» ترقص على جدران الكهوف بعد اكتشاف الإنسان للنار، وعلى أنوارها المرتعشة بدأ برسم الصورة الأولى على جدران كهفه الأول، وربما أيضا كان الإنسان الأول يلعب بشعلات النار مكتشفا ظلاله لأول مرة في دهشة، وهي تتمدد خلفه أو أمامه فكانت «تسليته» البصرية الأولى ليؤنس وحشته الكبرى وضآلته وسط الكون الفسيح.
ومن تلك اللحظة ارتبط الإنسان بـ «الصورة» التي سبقت زمنيا اللغة والفكر، وبذلك تملكت القدرة والسيطرة على وعيه ولا وعيه، وأصبح تأثيرها عليه عظيما، وبدأ حلمه يتمدد بالنظر خارج الكهف، بعد أن نمت حاسة الاستجابة للضوء، وزادت حاسته للرؤية، فأصبحت أكثر حدة وأكثر دقة، فازداد ميله للتطلع والنظر في جميع الاتجاهات.
ومن النار والظلال التي تنعكس على جدران المغارات والكهوف، ومن اللعب والتسلية بدأ الكائن البشري مسامراته الليلية في رحلة بحث دائم، رغبة في تحقيق مزيد من التسلية البصرية المؤثرة. التي انتهت باختراع «السينماتوغراف» بعد رحلة طويلة وشاقة للإجابة عن سؤاله الأول: كيف له أن يأسر الزمن ويحتفظ به للأبد.
فالسينما ليست اختراعا بقدر ما هي حالة تطور معقد، وكما يقول ديفيد روبنسون: «إن السينما تنطوي على عنصر جمالي وعنصر تقني وعنصر اقتصادي، بالإضافة إلى عنصر الجمهور، وهذه العناصر الأربعة سوف تضع دائما شروط الصورة التي تظهر على الشاشة في أي زمان ومكان. والعناصر، الجمالي والتقني والاقتصادي والجمهور، التي نتجت عنها في 1895 الصور المتحركة كما نعرفها الآن، والتي شكلت السنوات الأولى من عمر هذا الوسيط الفني، كان لها أصول قديمة قبل الأخوين لوميير والصالون الهندي بكثير”.
فالسينما ليست إنجازا فرديا مفاجئا، ولكنه نتيجة لتراكم لخبرات ومجهودات جماعية سابقة، مرت بمراحل عديدة وفي مجالات مختلفة، حتى توصل المخترعون إلى وسيلة للجمع بين الفوتوغرافيا والألعاب البصرية، التي انتشرت في قرون سابقة، ومكنتنا من تصوير مظاهر الواقع الحي بدقة وعرضها مرة أخرى.
فما هي تلك الألعاب البصرية التي كانت القاعدة الأساسية لاختراع الفوتوغرافيا ومن ثم السينما؟
في سبعينيات القرن السابع عشر انتشرت عروض «خيال الظل» وهي من بین أهم فنون الترفیه والتسلیة الشعبیة التي استقدمها «الرهبان اليسوعيون» من الصين وإندونيسيا إلى إيطاليا وفرنسا، وسرعان ما انتشرت عروضه في جميع بلدان أوروبا، وتعتمد على الحكایات التي ترسمها ظلال الدمى التى یتم تحریكها بعصا وراء ستار من القماش الأبیض المسلط علیه الضوء المنبعث من الشموع والفوانیس والمشاعل. «وعلى امتداد القرن كان عارضو خيال الظل الجائلون يجوبون معظم أرجاء أوروبا بمسرحياتهم الصغيرة. كما بدأ هنري ريفيير عام 1887 في عرض سلسلة من مسرحيات وملاحم «خيال الظل» على مسرح «القط الأسود» في باريس، واستمر ذلك إلى ما بعد عرض «الأخوين لوميير» بعام، بل ولقد جرت بعض محاولات الإحياء الفني لهذا الشكل في القرن العشرين، جاءت ذروتها في اتحاد خيال الظل والسينما في أفلام السلويت للوتا رينيجر ـ Lotte Reiniger، مخرجة الرسوم المتحركة الألمانية.
الأيدوفيوزيكن ـ Eidophusikon
في عام 1781 في لندن ، حيث قام الرسام الألزاسي»فيليب دي لوثر بورج» بافتتاح «الأيدوفيوزيكن» وهي أشبه بقاعة مسرح صغير ميكانيكي يجلس فيه المشاهدون ليشاهدوا عبر شاشة كبيرة تتحرك خلالها مجسمات ذات أبعاد ثلاثية، عن طريق سلالسل من الأحبال والبكرات لمناظر زيتية تحكي قصصا تتحرك أمامهم، مصحوبة بموسيقى ومؤثرات ضوئية وكأنها فيلم سينمائي .
“الفانوس السحري”
هو الأكثر شعبية في كل وسائل التسلية البصرية، وكان الأقرب لتقنية السينما كما يقول ديفيد روبنسون في كتابه المهم «تاريخ السينما». وهو جهاز عرض لصور مرسومة أو مطبوعة على ألواح شفافة من الزجاج أمام عدسة مكبرة فتنعكس صورته مقلوبة على شاشة بيضاء في غرفة مظلمة، حيث تكون الصورة مكبرة وفقا للمسافتين النسبيتين بين الجسم والعدسة والشاشة والعدسة. وهو نفس المبدأ الذي قامت عليه السينما فيما بعد.
وعرف الفانوس السحري من القرن السابع عشر، وكان العارضون المتجولون يطوفون به في بلدان أوروبا من قرية لأخرى، متحلقين حولهم جماعات من الجمهور والمشاهدين المسحورين بعروض الصور، التي كانت رسوما لقديسين وقديسات وقصصا وصورا من الكتاب المقدس والحكايات الشعبية. ومع تطور واستحداث وسائل الإضاءة والعدسات تربع «الفانوس السحري» على عرض المتع البصرية كافة في القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من شعبيته في فرنسا وإيطاليا وألمانيا فإنه بلغ ذروته في إنجلترا الذين برعوا في صناعته، وبواسطة أنوار «أكسيد الكالسيوم» القوية كان بمقدورها أن تقدم صورة فائقة الجمال في قاعة «ألبرت”.
إلا أن عارضي الفانوس السحري ومنذ البداية لم يكونوا قانعين بالصورة الثابتة، فكانت هناك طيلة الوقت محاولات مستمرة لتحريك تلك الصور الثابتة على الشاشة، ومن هذه المحاولات ولد اختراع الفانتسماجوريا.
“الفانتسماجوريا ـ Phantasmagoria”
وهو من اختراع مشغل الفوانيس البلجيكي «إيتين روبرتسون»، وهو عبارة عن جهاز لتحريك الفانوس السحري نفسه، مقتربا إلى شاشة العرض أو مبتعدا عنها مع تثبيت البؤرة آليا. مما كان يحدث تكبيرا وتصغيرا للصورة على الشاشة بشكل دراماتيكي. وكان ذلك مناسبا للعروض ذات الصبغة القوطية والمرعبة، الأمر الذي أصاب الكثير من المشاهدين بالخوف والرعب وأحيانا التقيؤ من تأثير ما يشاهدونه.
نظرية استمرار بقاء الرؤية
وفي عام 1824 اكتشف الطبيب والفيزيائي «بيتر مارك روجيه» ظاهرة بقاء الرؤية «، وتعنى أن العين البشرية تحتفظ على الشبكية بالصورة الثابتة بعد أن تزول من أمامها لمدة 1/10 من الثانية، فإذا ما تعاقبت مجموعة من الصور الثابتة التى تختلف عن بعضها اختلافات بسيطة، أمام العين بسرعة تتراوح ما بين 10 إلى 14 صورة فى الثانية الواحدة، فهى لن تستطيع أن تفصل الصورة السابقة عن الصورة التي تأتى بعدها فى أقل من هذا الزمن، وعندها تنخدع العين وتتخيل أن ما تراه هو حركة متصلة دون أى فاصل بينها، وذلك لأنها تستمر فى رؤية كل صورة بعد اختفائها من أمامها وأثناء فترة حلول الصورة التالية محلها.
وبهذا الاكتشاف يكون بيتر مارك روجيه قد أسس المبدأ الفيزيائي الأساسي التي سينشأ عليها فن السينما، إلا أنه قد أنشأ طريقا للألعاب البصرية التي تقوم على هذا المبدأ ومنها:
الفيناكيستيسكوب ـ Phénakisticope
وهو قرص من الورق المقوى اخترعه عام 1832 البلجيكي «جوزيف بلاتو»، ترسم على حافته سلسلة رسومات لفعل واحد متكرر، بما يشبه الرسوم المتحركة، بحيث يدور القرص على محور وتتم مشاهدة الصور في مرآة عبر فتحات على محيط القرص، تسمح برؤية لحظية وساكنة للصور المنفصلة، وكان التأثير الذي يحدث للمشاهد هو دمج هذه الصور المنفصلة بتحريك القرص لخلق انطباع بحركة متصلة.


الزويتروب ـ Zoetrope
وهو شكل آخر من «الفيناكيستيسكوب» ابتكره عالم الرياضيات البريطاني «وليم جورج هورنر» عام 1834. وفي هذا الجهاز كانت الصور ترتب على شريط أو حزام داخل أسطوانة، ومع دوران الأسطوانة بسرعة تتم مشاهدة الصور عبر فتحات طولية مشقوقة بالنصف الأعلى للأسطوانة في مواجهة كل صورة، وكانت من أكثر الألعاب البصرية شعبية خاصة في عام 1860.
البراكسينوسكوب ـ Praxinoscope
ووفقا لجهاز الزويتروب ، في عام 1867 اخترع الفرنسي «شارل إميل رينو» جهاز البراكسينوسكوب، حيث استخدم «رينو» أسطوانة مضلعة من المرايا، تنعكس عليها الصور المرتبة على أسطوانة خارجية أخرى، وعند دوران الجهاز كانت المرايا تقدم للعين متتالية سريعة من الصور، تعطي إيهاما واضحا ورائقا بالحركة، إلا أن «رينو» واصل تعديلاته على الجهاز حتى وصل ذروتها في جهاز البراكسينوسكوب العارض، فأصبحت الصورة المعروضة شفافة، ينفذ خلالها ضوء شديد، والصورة المنعكسة من المرايا الدوارة يتم تمريرها عبر «عدسات» عارضة إلى شاشة.
وفي عام 1892 قدم «رينو» عرضا رائعا أسماه «إيماءات مضيئة» بعرض شريط متواصل من «الصور»، فانعكست على الشاشة «اسكتشات» صغيرة تمثل أشخاصا متحركين بطريقة لم تعد مقيدة بفواصل قافزة، فكانت أقرب إلى «الفيلم السينمائي”.
كانت هذه أشهر الألعاب البصرية التي مهدت الطريق لاختراع السينما أو «مملكة الظلال”.
إنها حلم الإنسان الأول الذي يتحكم في الأشياء. ويجعلها ملك يده. لكن الإنسان لا يعمل فحسب بل يحلم ويتخيل أيضاً.. يحلم بالسيطرة على الطبيعة بوسائل خارقة.. يحلم بأن يتمكن من تغيير الأشياء وتشكيلها في صورة جديدة بوسائل سحرية، كما يقول «ارنيست فيشر»: «فالسحر في الخيال يقابل العمل المتواصل في الواقع»
والإنسان من أول عهده ساحر.
المراجع:
موسوعة تاريخ السينما العالمية المجلد الأول ــ المركز القومي للترجمة.
ـ ضرورة الفن ـ أرنيست فيشر ــ ترجمة أسعد حليم ــ مكتبة الأسرة.
ـ السينما والجذور ــ ترجمة خالد أقلعي ــ إصدارات المجلة العربية.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات