الصمت...وبلاغة التشكيل السينمائي

بدر الدين مصطفي 10 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : بدر الدين مصطفي
«الكلام هو أحد أجنحة الصمت»، هكذا عبر الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عن الصمت بوصفه اللغة الرئيسة للإنسان، والوسيط التعبيري الأكثر شمولًا من الكلام. لغة عالمية للتواصل تمتلك قدرة غير محدودة على تجسيد مختلف المدلولات حسب ما يقتضيه السياق. ربما يأتي تلقائيا كألا نجد ما يقال، فيكون الصمت سكوتًا، أو مقصودًا كأن نصمت عما ينبغي أن يقال أو نصمت حين يطلب منا الكلام أو نصمت حين الكلام ذاته. في كل الأحوال يكون الصمت لغة، وأحد الوسائل التعبيرية التي تخص الوجود الإنساني في العالم. وبلاغة الصمت كعنصر تشكيلي داخل الفيلم، غير بلاغة الكلام، فهي تنساق من أوتار المشاعر وحدها- بهدوئها أو اهتياجها. إنه حالة موسيقية غنية، أو دَفقة شاعرية، مشحونة بالتعابير والمعاني، التي من قوتها تمتلك من الصخب أحيانًا ما يصم الآذان.


كما الحال في فجوات الصمت، أو لنقل الفراغ، التي تتخلل الأعمال التشكيلية، كانت السينما من ضمن فنون عديدة استخدمت الصمت واستحضرته كوسيلة للتعبير، بل كان الصمت مرحلة رئيسة من مراحل تطورها. وقد لجأت إليه السينما اضطرارًا نتيجة غياب التقنية التي تسمح بإضافة الصوت إلى الشريط السينمائي (جاء أول فيلم ناطق العام 1927 بعنوان مغني الجاز The Jazz Singerمن إنتاج شركة وارنر Warner). وقد اعتمدت السينما كليًا، قبل اكتشاف الصوت، على إيماءات الممثل الجسدية التي يترجمها عقل المشاهد بما يمتلكة من خبرة جسدية مشتركة. وقتها ثار السجال النظري الشهير عن خصوصية لغة الصورة السينمائية وبلاغتها وقدرتها على توصيل المعنى دون كلام منطوق.
على كل ليس هدفنا في هذا المقام الحديث عن تلك المرحلة الصامتة من مراحل تطور السينما، رغم دلالتها بالتأكيد في سياق الحديث عن الصمت السينمائي. إنما نهدف هنا إلى تحليل الصمت كأداة بلاغية وكعنصر تشكيلي داخل لوحة الفيلم، يستخدمها صناع الأفلام لإحداث تأثير ما داخل السرد أو عندما يتخذ الفيلم من الصمت موضوعًا له، وعلى هذا النحو صرح المخرج الشهير روبير بريسون بأن «أهم ما اخترعته السينما الناطقة هو الصمت»1.

مستويات الصمت داخل الأفلام
دعونا نبدأ من المستوى الأول لاستخدام الصمت داخل السرد السينمائي، وهو صمت الحوار. من المؤكد أن الحوار مكون رئيس من مكونات الفيلم، لكن لا يوجد فيلم يعتمد على الحوار فقط، وإلا فقد خصوصيته كفيلم، فيتحول في النهاية إلى رواية منطوقة. هناك بالفعل نوع من الأفلام الحوارية (أي التي تعتمد على الحوار كلية)، وهو نوع له حضوره في تاريخ السينما، لكنه في الغالب يكون مخصصا بالكامل لمناقشة قضية أو موضوع فلسفي أو فكري ولا يعتمد تقييمه على العناصر التقليدية التي يتم تقييم الأفلام وفقا لها؛ من صوت وصورة ومونتاج وأزياء وموسيقى....، وما إلى ذلك، بل يعتمد في المقام الأول على جدارة الحوار الدائم بين شخصيات العمل، جدارة الفكرة وتفاصيل المناقشة التي تدور حولها، إضافة إلى قدرة الممثل على الإقناع بطبيعة الحال. كأمثلة على هذا النوع من الأفلام 12 رجلا غاضبا (1957)12 Angery Men ، رجل من الأرض (2007)The Man From Earth ، غذاء مع صديقي أندريه (1981)My Dinner With Andre ، مهما كانت الأعمال Whatever Works (2009)، وشروق محدود للشمس The Sunset Limted )2011). لكن هذا النوع له خصوصيته في السينما وعلى الرغم من أن الاستقبال
لنقدي جاء جيدًا لمعظم الأفلام السابقة، إلا أن هذا النوع من الأفلام يعتبر فقيرًا في أدواته السينمائية، فهو يختزل لغة السينما في الحوار فقط.
بصفة عامة، وهذا ينطبق على الأفلام الحوارية أيضًا، يكون الصمت جزءًا من مكونات الفيلم. وقد يكون مقصودًا لكي يفرد صانع العمل مساحة للموسيقى، وقد يكون صمتًا يتخلل الكلام لتحفيز المشاهد على قراءة الإيماءات والعلامات التي تحتويها الصورة. وبالنسبة لتلك الحالة الأخيرة، يمكن أن يكون لغياب الموسيقى والأصوات الأخرى في الفيلم تأثير كبير، إذا تم استخدامه في السياق المناسب. فهو يفسح مساحة أكبر للتصورات الذهنية، ويسمح للخيال بإيجاد العلاقة بين مكونات بنية الصورة أثناء غياب عناصر الصوت الأخرى. مع ذلك، لا يعني هذا أن الفيلم يجب أن يختار بين الموسيقى والصمت. في الواقع تستفيد العديد من الأفلام من كلا التقنيتين من أجل خلق تجربة مشاهدة حيوية. الصمت، كما الموسيقى، أداة إبداعية أخرى ضمن الأدوات التعبيرية والتشكيلة المختلفة التي من المفترض أن يمتلكها صانع العمل.
الصمت عن الكلام والحوار وإحلال الموسيقى محل اللغة المنطوقة، هو المستوى الأول من الصمت. وتلجأ معظم الأفلام إلى الموسيقى لضرورات سردية؛ لفت انتباه المشاهد إلى الصورة، توليد نوع محدد من الانفعال لدي المشاهد، التمهيد لحدث أو استدعاءه...إلخ. واختراق الموسيقى للصمت لا يعني أنها ألغت تأثيره الدرامي، بل أيقظت المعنى الحقيقي للصورة، إنها تعمل على تعميق الإحساس البصري لدى المشاهد. وهناك من المخرجين من اعتمدوا على الموسيقى بشكل رئيس في أعمالهم، فأصبح الحوار معهم هامشيًا لا يعول عليه في عملية التواصل مع العمل. من أشهر هؤلاء المخرجين ستانلي كوبريك Stanley Kubrick الذي عبر عن ها المعنى في قوله: «على الفيلم أن يعمل على مُستوى أقرب إلى الموسيقى والرسم منه إلى الكلمات. فالأفلام تعطينا الفرصة لإيصال معاني مُعقدة ومُجردة دون الحاجة المُعتادة للجوء إلى الكلمات» ويقول أيضًا: «على الفيلم أن يكون أقرب إلى الموسيقى منه إلى الأدب، أن يكون تتابعًا من أجواء ومشاعر. أما الموضوع، وما يقع خلف الشعور، والمعنى، فكل هذا يأتي في مرتبة لاحقة». وقد جرت العادة في عملية صناعة الفيلم أن يستعين المخرج بموسيقى مؤقتة ترافق مشاهده، وذلك حتى تقدم له تصور أفضل عن الفيلم ريثما ينتهي من كلفه بتأليف موسيقى الفيلم الأصلية من عمله. وهذا ما حدث في فيلم أوديسا الفضاءA Space Odysse) 1968)، حيث طلب كوبريك من ألفرد نورث تأليف موسيقى الفيلم، وفي الوقت نفسه، عمل على تطوير مشاهد الفيلم باستخدام موسيقى لستراوس وليجيتي كان أبرزها مقطوعتي فالس الدانوب الأزرق وهكذا تحدث زرادشت. في أحد الحوارات، عبر نورث عن سعادته البالغة بهذه المهمة قائلًا: «شعرت بالحماسة الشديدة للعمل مع كوبريك مجددًا، خاصة بعد تجربتي معه في فيلم سبارتكوس والتي كانت رائعة. طالما رأيت في كوبريك أعظم المخرجين موهبة، سواء الشباب منهم أو الكبار، كما أسعدتني أيضًا فكرة العمل على فيلم لا يحتل الحوار منه سوى خمس وعشرون دقيقة فقط.» لكن تلك السعادة لم تدم طويلًا، فبعد أن انتهى نورث بالفعل من تأليف موسيقى الفيلم التصويرية، عرف أن كوبريك قد استغنى عنها لصالح مقاطع الموسيقى المؤقتة، ما مثل سابقة في عالم صناعة السينما. ورغم أن كوبريك قد تعرض لهجوم بعض النقاد، الذين اعتبروا اعتماد كوبريك على الموسيقى المؤقتة كموسيقى نهائية لعمله، قمة في السوقية والابتذال؛ إلا أننا، منذ صدور الفيلم وإلى الآن، نجد مكانه محفوظ في قوائم أفضل الأفلام في تاريخ السينما. كما أشاد بعض النقاد إشادة خاصة باختيارات كوبريك الموسيقية. كتب روجر إبرت عن الفيلم يقول: «دونًا عن كل أفلام الخيال العلمي الأخرى، لا يسعى «2001» إلى إثارتنا، بل على بعث الروع في نفوسنا، الشيء الذي لعبت فيه الموسيقى دورًا ليس بالهين.. كأي موسيقى تصويرية أخرى، عملت الموسيقى التي ألفها «ألفرد نورث» على إبراز الحدث، على منحنا إيحاءات شعورية، بينما تقع الموسيقى الكلاسيكية التي اختارها كوبريك خارج الحدث، ترفعه إلى مرتبة الجليل وتضفي على المشاهد نوع من العلو والتسامي.»2
لكن الفضاء والعزلة والوحدة والصمت فى مواجهة المجهول يظهران من جديد في أيقونة سينمائية تنافس عمل كوبريك السابق، وأقصد هنا فيلم جاذبية Gravity 2016 للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون. كوارون، الذى استخدم كل أصابعه فى العزف ليصنع فيلمًا مليئًا بالمواقف والأحداث التي تجعل تجربة المشاهدة فائقة. وطوال الوقت يخاطب عين المشاهد بلغته السينمائية خالقًا رموزًا كأن تتخذ البطلة وضع الجنين وهى تسبح فى الفراغ وتبدو الأسلاك من خلفها، وكأنها حبل سرى لتأكيد حالة الميلاد الجديد بعد مرورها بما كان من شأنه أن يضعها فى عداد الأموات. الرموز والدلالات البصرية التى يزرعها المخرج طوال مدة عرض الفيلم، لا تنتهى وتسير معها بالتوازى الموسيقى التصويرية التى كتبها ستيفن برايس ببصمته المميزة التى سبق وقدمها في ملك الخواتم Lord of the Rings 2001، الذى جاءت موسيقاه تسير جنبًا إلى جنب مع أداء البطلة يعلو ويهبط يفرح ويحزن معها. لكن لم تكن الموسيقى هي العنصر الوحيد، حيث تتوقف الموسيقى التصويرية بشكل مفاجئ فى بعض المشاهد تاركًا أصوات البيئة المحيطة سواء الناجمة عن حوادث التصادم أو الصمت الذى يغلف الفضاء ليكمل المهمة، أو يستعين بصوت تنفس البطلة الذى يعلو ويهبط كوسيلة للتعبير عن الانفعالات.
الأمر ذاته نجده في أحد مشاهد فيلم سبيلبرج إمبراطورية الشمس Empire of the Sun 1987، فقرب انتهاء الحرب وخسارة اليابان يقف البطل الأسير لدى اليابانيين وهو يشاهد الطارئرات اليابانية وهي تغادر للقتال وتعود. تتطاير النيران في كل مكان، فلا نسمع صوت طائرات ولا صوت قاتلين ولا صخب معركة، فقط الصما تبنثق منه الموسيقى، موسيقى مع صورة بحركة بطيئة مفعمة بالجمال والانسيابية.

في حين أن الصمت التام أو الكامل في الأفلام نادرًا نسبيًا، فإن الصمت الجزئي، الذي لا يوجد فيه حوار لفترة طويلة من الزمن أو حيث لا توجد موسيقى في الخلفية، يستخدم بشكل شائع لإحداث تأثير انفعالي كبير على المشاهدين. مستوى الاستحواذ الذي يفرضه على المشاهد، ومقدار التحفيز الذي يولده لدى الجمهور، يعملان على خلق تجربة مشاهدة مختلفة. وهذا ينقلنا إلى المستوى الثاني من الصمت، وهو الذي يأتي على شكل فجوات داخل العمل تستدعي خيال المشاهد وشعوره. يدعي كول أندرسون Coll Andrson، محرر الصوت لفيلم المخرج شين دوركن Sean Durkin مارثا مارسي مارلين Martha Marcy May Marlene (2011)، أن المشهد الأكثر صدمة في الفيلم، لم يكن في البداية على شكل صوت مسموع لإليزابيث ألسن Elizabeth Olsen؛ بل مجرد صوت طائرة ترنق بعيدًا في الخلفية. ولكن عندما تم تشغيل الفيلم مباشرةً في نسخته التجريبية، تم تعديل الصوت حيث بدا أن الأمر سيكون شديد الإزعاج بالنسبة للجمهور في حال إخفاء صوت أولسون والاكتفاء بصوت الطائرة. لذلك، من أجل تقليل الصدمة، تم إضافة صوتًا كافيًا للمشهد بحيث يحافظ على التواصل الانفعالي لدى الجمهور، دون التسبب في أي نوع من الانهيار الانفعالي الذي يفضي بهم إلى الشعور بالملل. وعبر إضافة الصوت إلى الصورة، كان فريق الفيلم المبدع يمد غصن الزيتون بشكل أساسي إلى الجمهور ليمنحهم الفرصة لأن يكونوا مشاركين فاعلين. إذا عندما تعزل الصوت بعيدًا عن مشهد ما، فإنك بذلك تخلق فراغًا يتوجب على الجمهور أن يعملوا على ملئه بأنفسهم، ومفهوم ملء الفراغ من المفاهيم المهمة في خبرة التلقي بوصفها عملية يتشارك فيها الجمهور مع العمل من أجل خلق المعنى، وهي حالة تؤدي أيضا إلى ربط المشاهد بالفيلم دون استحواذ كامل عليه.
لكن الصمت مع إنجمار بيرجمان Ingmar Bergman يأخذ بعدًا آخرًا، ففي فيلمه الصمت Silence 1963، يوظف بيرجمان الصمت من بداية العمل لآخره ليضع المشاهد في تجربة مُقبضة غريبة تتناسب مع جلال الصورة وحركة الكاميرا التي تميزه. يخلق الصمت داخل الفيلم هالة من الرهبة حول الصورة، فيشعر المشاهد بأنه داخل جو طقوسي يتملكه، منذ بداية العمل حتى نهايته. نلاحظ منذ اللحظات الأولى أن العدسة مركزة على الصبي وأمه وأختها، ونشعر بأنه يجب أن يقال شيء ليحطم هذا الصمت داخل الفندق، لكن الوقت يمر وليس ثمة كلمة واحدة قد قيلت حتى الآن. لذا فإن إحساسنا يتعاظم بأن هذا الصمت ليس صمتًا في الحقيقة بل شيئا مقصودًا لنقل إحساس معين أو قراءة لما ليس مرئيًا داخل الصورة، لأن أي مساحة صامتة في الفيلم تخلق إحساسًا بوجود شيء ما معلق أو على وشك الحدوث وما لا يقال يثير بالتأكيد ترقب المشاهد ويعلي من رغبته في متابعة الحدث. الصمت هو السيد في هذا الفيلم و حين نقول الصمت نقصد به عجز اللغة وتعثر الحوار وانتفاء التواصل بين الشخصيتين الأساسيتين (أستير المثقفة و المريضة التي تمثل الوعي والعقل الصارم وآنا الأم المتحررة الأصل) والحقيقة أننا نشعر بأن كل شخصية منهما تعيش في نوع من المحاكمة الذاتية، لكنها تخشى أن يخرج صدى الحكم ليصل للآخر. هذا الصراع الذاتي والمحاولة المستميتة والعاجزة لتجاوز الذات بما فيها من عيوب والارتقاء لمصاف الشخصية السوية بهدف الوصول للآخر؛ تنتهي دائمًا بالسقوط والفشل، وهذا الفشل يعود مجددًا للحليف الدائم؛ الصمت المكون الأساسي للعزلة.
الصراع بين الأختين يبدو صراعًا عاطفيًا بين مد و جزر، والطفل الباحث عن المعرفة الفضولي ليس سوى الشرارة الناتجة عن هذا الصراع التي تبقي عليه متأججًا. الطفل التائه بين ممرات القطار وبعدها الفندق يرمز للبحث عن العمق عما تخفيه كل الممرات و الأبواب، هو المفتاح الذي يساعدنا على فهم ماهية الصراع. يعمل بيرجمان سينمائيًا و كأنه يعزف نوتة موسيقية ترتفع إيقاعاتها وتنخفض مع المضي في الأحداث. الصمت الذي يرافق الشخصيات في الفندق يناقضه الصخب خارج الفندق صخب يعزل الذات ويمنعها من الإصغاء والتأمل. ركز بيرجمان في تفاصيل هذا الضجيج الذي لا يكاد تخلو منه حيواتنا العادية لكننا لم نره بتلك الشدة التي صورها بيرجمان، بحكم الاعتياد أو بحكم النفي المتعمد كطريقة من طرق الحياة. يعتمد الفيلم كذلك على الرمزية التجريدية في التصوير والصوت: دقات الساعة، صور الجنازة، الأقزام و المسرح، باخ، الرسالة، لقطة الاغتسال، كلها صور تحدث ضجيجًا بذهن المشاهد الذي يحاول جاهدًا فهم المغزى وتفسيره ضمن سياق الفيلم، وهي تظل بالتأكيد إيحاءات محملة بمعانٍ وجودية تنقلنا دائما من اليقين إلى الشك، ولعل لقطة الاغتسال تعتبر نهاية مريحة لهذا الصراع بين المشاهد و المخرج.
من صمت بيرجمان إلى صمت Silence سكورسيزي scorseseالذي أخرجه العام 2016، وحصل على جائزة الأوسكار لأفضل تصوير، حيث جاءت أجواءه متلاءمة تماما مع عنوانه، فالفيلم، رغم موضوعه المثير للتوتر، هادئ بدرجة مدهشة. يحتوي على نظام صوتي دقيق يستخدم بشكل فعال لزيادة دراما الفيلم بالإضافة إلى تركيز محدود على الحوار والمؤثرات الصوتية. لن يكون صوت الأمواج المتلاطمة التي ترتطم باجساد المصلين المسيحيين مثيرا للتوتر الشديد إذا حدث مع وجود موسيقى في الخلفية أثناء المشهد. يستدعي غياب الصوت إحساسًا مريرًا بواقعية الصدمة، قشعريرة العمود الفقري التي يصعب الهروب منها. تعمد سكورسيزي حذف الموسيقى من بعض المشاهد، ليفسح بذلك المجال أمام الجمهور للاستغراق أكثر مع ما يشاهدونه، حيث يعمل الصمت هنا على تقليل الفجوة الموجودة بين الجمهور وما يشاهدونه. فيستغرق المشاهد بالكامل في المشهد كما لو كان بداخله.
لقد قال هارولد بنتر في واحد من خطابات النادرة عام 1962: «هناك نوعان من اصمت، صمت لا تلفظ فيه كلمة، وصمت قد يستخدم فيه سيل من اللغة، يتحدى هذا الحديث عن لغة محبوسة تحته. إن الكلام الذي نسمعه مؤشر لكلام لا نسمعه»3. في إحدى مشاهد فيلم زهرة عباد الشمس Sunflower 1970 لفيتوريا ديسيسكا، بعد أن علمت صوفيا لورين بأن الفتاة الروسية التي أمامها هي زوجة حبيبها (قام بالدور ماسيلو ماسترياني) تنظر إليها دون أي كلمة. لقد فقدت الكلمات في هذه اللحظة قيمتها، حيث لا توجد كلمات بمقدورها الإحاطة بالموقف. لكن ملامحها فضحت غضبها وصراخها الداخلي، ويبدو أن لورين كما أرادها ديسيسكا أدركت لحظتها عجزها عن التعبير إن هي تكلمت، فأوجزت بصمتها.
المستوى الثالث للصمت هو الصمت الكلي الذي يخدم سياق السرد داخل الفيلم ويتناسب مع الفكرة التي يطرحها. لكن هذا النوع من الأفلام ليس شائعًا، ولا يحدث إلا لو كان موضوعه يفرض معالجته بنوع من الصمت المطبق أو التام. هذا هو الحال مع الدراما الأوكرانية في فيلم الرحلة Plemya 2014، الحاصل على جائزة الفيلم الأوروبي عام صدوره. وقد جاء الصمت داخل الفيلم من اجل تحقيق هدف نبيل يخدم موضوعه وجمالياته. حيث يدور الفيلم داخل عالم ذوى الاحتياجات الخاصة من الصم والبكم. ورغم أن مدة الفيلم تتجاوز الساعتين، إلا أنه جاء صامتا بالكامل. وتعتمد مشاهدته على فهم المشاهد للغة الإشارات التى يتحدث بها أبطال الفيلم. وقد تعمد مخرج العمل مروسلاف سلابوشبتسكي Myroslav Slaboshpytskyi عدم وضع ترجمة للغة الإشارة أو توضيح لما يدور داخل الفيلم عبر أي وسيط تعبيري آخر، وإنما ترك المشاهد يعتمد على تفسيره للأحداث. إن غياب الموسيقى والحوار المنطوق فى قدم تجربة مختلفة تماما، فأظهر ما يبدو أنه عجز على أنه مكسب.
قد يتخذ الفيلم أيضا من الصمت موضوعا له، وهذا هو المستوى الرابع له. فالصمت في فيلم مكان هادئ A Quiet Place (2018) لمخرجه جون كراسينسكي John Krasinski، هو الملاذ الذي تنجرف إليه أسرة «أبوت» في حياتهم داخل المنزل البسيط والمزرعة الهادئة، حيث تحيط بهم كائنات عمياء تتحرك حول حياتهم بآذانها، وتلتهم كل من يصدر صوتًا في جزء من الثانية، ما يجبرهم على نوع جديد من آليات التواصل. باللغة الصامتة يصيغون مشاعر الحب والعناد والضجر وغيرهم. مشاعر طبيعية يختبرها المرء يومًا بعد يوم، ولكن عليه- في هذه الحالة- أن يغلفها بالسكون، وهذا لا يعني أن يدفنها، ولكنه يعني أن يصيغها باللغة الوحيدة التي لا تسمعها الوحوش. فيحول الضحكة إلى بسمة والصراخ إلى دموع ساكنة، والتشاجر الحواري الصاخب إلى إشارات يدوية تضرب الهواء، والكلام الرومانسي إلي نظرة أو أغنية. ومكان هادئ ليس أول فيلم يستخدم الصمت أساسًا له، لكن من الواضح أن هذا المفهوم يعد أرضاً خصبة لصانعي الأفلام لاستكشاف مخاوفنا حول عدم قدرتنا على التعبير عن أنفسنا. حتى المهام العادية مثل قيادة السيارة أو نزول درج يصدر صريراً أو تناول حبة دواء تصبح محفوفة بالتوتر عندما يكون أدنى ضجيج يعني موتك المباشر والمريع، ناهيك عن ردود الفعل البشرية الأساسية مثل الضحك أو البكاء أو الصراخ عند الشعور بالألم.
أخيرًا يمكن القول أن الصمت أحد سمات الوجود الإنساني في العالم ومكون رئيس من مكونات عالمنا الذي يغلب عليه ضجيج الصوت. وفي الأفلام يكون للصمت ضجيجًا يفوق الكلام ضخبًا، لأن الصمت أحد عناصر التشكيل السينمائي المقصود في ذاته، وأي مساحة صامتة في الفيلم تخلق إحساسًا بوجود شيء ما معلق أو على وشك الحدوث أو يُفهم ضمنًا، فما لا يقال يتجاوز من حيث الدلالة ما يقال، وما يتم السكوت عنه يعبر أحيانًا على نحو أفضل مما يتم الإفصاح عنه.
المراجع
مانفيل، روجر، الفيلم والجمهور، ترجمةبرلني منصور (القاهرة، دار الفكر العربي، 1998) ص 186.
2 - مقتبس من مها فجال، الرعب والاغتصاب على أنغام الموسيقى الكلاسيكية.
https://midan.aljazeera.net/art/music/2017/9/21/
3 - كرفش، سكوارت، صناعة المسرحية، ترجمة عبد الله الدباغ (بغداد: دار المأمون، 1986) ص 45.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات