الكاتب : رحمة الحداد
تتحرك الكاميرا جانبيا داخل منظر جليدي شاهق البياض، تتتبع الأعشاب المتناثرة، تقترب فجأة من جذع شجرة لتتفحص تفاصيله، تقترب أكثر لمجموعة من الكلاب ينظرون تجاهها ثم تبتعد لترينا مشهدا أكثر اتساعا تتجول فيه وتعرفنا عليه من بيوت صغيرة وشجيرات دقيقة وأولاد يلعبون، طيور تقف على الأغصان ترصد العالم تحتها فنرى وكأن أعيننا هي أعينها، بل ونسمع صوت الطيور.
في مشهد من فيلمه سولاريس يدعونا أندري تاركوفسكي المخرج الروسي الأشهر لأن نتأمل لوحة معلقة على الحائط وكأنها جزء من بيئة حقيقية تتواجد وتتنفس، يعطي لنفسه الوقت للتجول فيها وحولها، يبتعد ويقترب، يجعل من لوحة ثابتة، تتابع قصصي من الأحداث والمشاعر، ويربطها بمشهد مصور ذي خلفية وتكوين مشابهين، تسمى اللوحة الصيادون في الجليد لبيتر برويجل الأب رائد عصر النهضة في هولندا، لطالما فتن به تاركوفسكي، يمكن رؤية ذلك في كل أعماله، سواء بإحالات مباشرة أو متوارية.
لم تكن تلك الإشارة الوحيدة لأساتذة الفن التشكيلي القدامى في سولاريس لكن تناثرت هنا وهناك في الفيلم، دون محاولة للفت الأنظار بفجاجة بل أصبحت خيطا من نسيجه يصعب الاستغناء عنه، مثل مقطوعة باخ الذي نسمعها طيلة الفيلم، في أحد المشاهد يعاد تصوير لوحة عودة الابن الضال لرمبرانت وهو أحد رواد عصر الباروك الذي ينتمي إليه باخ أيضا، يرجع تاركوفسكي تلك الاستخدامات المتعددة للمرجعيات البصرية إلى أن السينما فن حديث صغير السن، وأنه يريد إعطاءها منظورا تاريخيا ويستدعي لذهن المشاهد أنها فن ناضج تضاهي حتى فنون عصر النهضة والباروك وغيرهم.
لا تتوقف التأثيرات الفنية على السينما عند حد التناصح أو الإحالات والإهداءات فإذا نظرنا إلى السنوات المبكرة للسينما، عندما أرادات أن ترسي لنفسها مدارس كفن لا يزال يافعا اختارت أن تجاري مدارس الفن الحديث، وأصبح ذلك التأثر لا يقع تحت طائلة الاقتباس المباشر للجماليات الشكلية بل هو تبن لرؤية فلسفية كاملة، وصبها في جماليات خاصة بالوسيط الذي يملك إمكانيات حديثة، لكن نظرا لطبيعة الفن التشكيلي البصرية الخالصة يسهل الظن أن التأثر السينمائي بها يأتي بشكل مباشر مثل الاقتباس اللوني أو التكويني لكن الموضوع أعقد من تشابهات بين لوحة شهيرة ومشهد من فيلم، فعندما انتقلت السينما من حالة تسجيل الواقع إلى إثبات قيمتها كفن حقيقي، تبنت مدارس مثل التعبيرية الألمانية والواقعية والتأثيرية، لكن وقوع أفلام معينة في خانة إحدى تلك المدارس لا يعني أنك ستعرفها بمجرد النظر مثلما يحدث في اللوحات الثابتة، لكن في حالات أخرى تقتبس الأفلام جماليات شكلية، ليست مجردة، لكنها أدوات تشكيلية أصبحت جزءا من اللغة السينمائية بشكل غير واع، وفي بعض الأفلام نجد امتزاج الاثنين، تأثرات موضوعية بفلسفة مدرسة ما بجانب تأثر شكلي بجماليات مدرسة أو فنان ما، ويملك كل منها معنى وتأثيرا ثاقبا يصل للمشاهد ويبني هوية فيلمية مستقلة، يمكن تقسيم مراحل تأثر السينما بالفنون البصرية بترتيب زمني يبدأ من أول مدرسة تم تبني اسمها حتى أصبحت التأثيرات مموهة لا مسميات لها.
المدرسة الانطباعية
بعد اختراع الكاميرا وقع فن التصوير في مأزق كبير، فبعدما كان الرسامون والنحاتون هم الوسيلة الوحيدة والمثلى لتصوير الواقع، أصبحت هناك آلة تقوم بذلك، بل وتقوم به بشكل أكثر مثالية ودقة من اليد البشرية، بالتوازي مع الاختراع الذي غير شكل العالم، ظهرت بعض النظريات العلمية الحديثة وقتها عن كيفية عمل الضوء وكيفية عمل عين الانسان وتلقيها للعالم، وكيف يرتبط كل منهما بالآخر، من تلك النظريات ومن الرغبة في تجنب الواقعية وانتهاج شكل أكثر تحررا وعفوية من التصوير ظهرت المدرسة الانطباعية. ضربات فرشاة متلاحقة وألوان متجاورة دون خلط أو تنميق، شموس ساطعة وظلال ملونة، بعض السمات التي يمكن التعرف عليها عند رؤية لوحة انطباعية، فهي فن رسم الضوء، رسم روادها في الخارج وتركوا الغرف والموديلات الأكاديمية، نقلو تأثير ضوء الشمس الأصغر المتلألئ على وريقات شجرة خضراء، أو كيف تلقي الشجرة بظلالها على مساحة من الأرض، تلك الشذرات والانطباعات هي ما شغلهم وليس نقل الواقع بمثالية ونعومة، بزغ العنصر اللوني بشكل أساسي في تلك الفترة، فكيف اقتبست السينما تلك السمات؟تبنت السينما اسم الانطباعية لفترة قصيرة من 1918 وحتى 1930، تحديدا في فرنسا، لم تكن الأفلام الملونة هي السائدة في ذلك الوقت، كانت الأفلام بدرجات الأبيض والأسود وما بينهما، وعلى الرغم من الألق اللوني الذي ميز الفنانين الانطباعيين إلا أن السينما وجدت طريقها لاستقاء جماليات تلك الحركة، بل ومهدت الطريق لتقنيات تبنتها مدارس من بعدها ولازالت تستخدم حتى الآن، القطعات المونتاجية السريعة المتلاحقة التي تبدو كومضات عقلية، واستخدام الزمن غير الخطي، والحكي من وجهة نظر الشخصية، يمكن رؤية ذلك في أفلام مثل “مدام بودو المبتسمة” من إخراج جيرمان دولاك، صنعت دولاك فيلمها من انطباعات صغيرة شكلت قصة كاملة، لسيدة تحاول أن تجد معنى لحياتها، وفيه فيلمه نابوليون، يغزل ابيل جانس ملحمة كاملة مستغلا إمكانيات الإضاءة، والاظهار المزدوج فيبدو فيلمه غير مباشر وأقرب للتأثيرية من الأفلام الملحمية الأكثر كلاسيكية. الأفلام التأثيرية أو الانطباعية لا تملك سمات صارمة يمكن التقاطها وتعددها كأدلة على تسمية الفيلم كذلك أو إدراجه ضمن مدرسة معينة، مثل الرسم الانطباعي فلوحات مونيه للورود تعتبر انطباعية ولوحات أوجست رينوار للنزهات الخلوية تحت الشمس تعتبر انطباعية أيضا على الرغم من التباعد الأسلوبي، يمكن أيضا ربط بعض الأساليب التأثيرية المتأخرة بنظيرتها في السينما، تفرعت من التأثيرية أساليب أكثر تحديدا مثل التنقيطية، الذي يعتبر جورج سيورا رائدها، التنقيطية هي نسخة أكثر دقة وعلمية من التأثيرية، تأخذ منحى أكثر تطرفا في التعامل مع نظرية اللون، استخدم سيورا نقاط الألوان المتجاورة دون خلط لكي تكون في النهاية شكلا يمكن قراءته، فمثلا إذا وضعت عدة نقاط من الأزرق وتداخلت معها نقاط الأحمر ستحصل على درجات من البنفسجي، إذا نظرت إلى تطور الشكل السينمائي سنجد أنه يشبه فكرة التنقيطية إلى حد كبير، تجريد اللقطة واستخدام المونتاج لتركيب القصة لكي تصبح مشهدا مفهوما فيما بعد، وبتجاور عدة لقطات بجانب بعضها البعض نحصل على وحدة مشهدية، وهو ما بدأ مع التأثيرية في السينما ثم طوره أيزنشتاين في مدرسة المونتاج السوفيتية.
ربما الانعكاس الأكبر مباشرة بين الفن التشكيلي الانطباعي والسينما الانطباعية هو بين الأب والابن، أوجست رينوار وجان رينوار، كان أوجست رينوار أحد أشهر وأهم الأسماء في الفن الانطباعي، رسم الروابط العائلية والمناسبات الاجتماعية والصور الشخصية الناعمة المكللة بضوء الشمس، وجاء ابنه جان في عصر الفن الأكثر حداثة وهو السينما يستقي جماليات القرن التاسع عشر التي استخدمها والده، تنبض أفلامه بالحياة والضوء الفضي الذي تولده صورة الخام الأبيض والأسود كما كانت لوحات أوجست رينوار حية ذهبية بالألوان، لكن في الوقت نفسه لا يحاول جان استغلال سهولة ربط اسمه باسم أحد أهم الأسماء في تاريخ الفن، فيسلك طريقه الخاص لكنه مضاء بظلال الآباء والأجداد، ومضات صغيرة من الانطباعية يمكن تلمسها في أفلامه دون أي مباشرة أو محاولة لعكس لوحات أوجست رينوار.
التعبيرية الألمانية
في نفس التوقيت الذي ظهر فيه الانطباعيون في فرنسا بحبهم للطبيعة وضوء الشمس والألوان المشبعة، ظهرت في ألمانيا حركة أكثر قتامة، فنانون ينبذون الفن الواقعي ولكن ليس لصالح فن أكثر خفة بل لكي يعبروا عن ثقل أرواحهم والقلق والرعب الذي يغلف بداية الحداثة بعد الحرب العالمية الأولى، لم يبتعدوا كثيرا عن ألوان الانطباعيين الصارخة لكن تعاملهم معها أعطاها معاني ومرجعيات مختلفة، فأصبح البرتقالي الذي يستخدمه مونيه لتصوير الشمس لونا دمويا مخيفا في لوحات التعبيريين، فإذا نظرنا للوحة الصرخة لإدوارد مانش وهي أيقونة التعبيرية وأكثرها شهرة سنجد عفوية استخدام الألوان وسيولتها تشبع الألوان وقوتها لكن يغطي على كل ذلك القلق والوحدة المحدقة، وإحساس نهاية العالم المنتظر في كل جانب، اشتهر التعبيريون أيضا باستخدام الحفر والطباعة وعدم الاكتفاء بالألوان الزيتية، فكانت تلك الطبعات، العنيفة بالأبيض والأسود، ذات تباين عال وملامح بشرية ثاقبة ذات عيون جاحظة ونسب مشوهة، مثل طبعات لودفيج كيرشنر الفنان الألماني الذي عانى ويلات الحرب، ففرغ كل سوداويته في فنه.
وفي نفس توقيت محاولات السينما الانطباعية في فرنسا ظهر مقابل لها في ألمانيا، السينما التعبيرية، والتي ستملك تأثيرا أوسع وأكثر وضوحا في السينما وجمالياتها واتساعها كفن في إطارات فانتازية وفلسفية رسم مخرجي التعبيرية الألمانية إسقاطاتهم السياسية والاجتماعية، الشخصية والنفسية، لكن على عكس الانطباعية، تملك التعبيرية سمات أسلوبية محددة ويسهل التقاطها، شخصيات ذات عيون محددة بالسواد وشفاه قاتمة نبيذية ديكورات ذات زوايا حادة وطابع أسلوبي أقرب للعمارة القوطية، تيمات تبدو مستقبلية أو ديستوبية ربما أشهر مثال عليها هو كابينة دكتور كاليجاري لروبرت فيني ومتروبوليس لفريتز لانج، يمكن ملاحظة تقارب السمات الشكلية لكن مع اختلاف أساليب كل مخرج لكن هناك تيمة مشتركة بشكل مثير للاهتمام وهي فكرة الشخصية التي يتم السيطرة عليها الإنسان شبه النائم أو المنوم، وهو ما تم تحليله من قبل الكثيرين كإسقاط على الديكتاتورية وتحكمها في الشعوب.
التعبيرية الألمانية في الفن التشكيلي والسينما لا تعتمد بشكل كبير على التناص الشكلي واللوني، ولكن على جماليات أكثر موضوعية، لسبب ما يسهل الربط بينها حتى مع بعد تطابقها الشكلي، الذعر الذي يتجسد في الوجوه المرهقة والعمارة المنحنية والظلال القاتمة وكل تلك التفاصيل الصغيرة تصنع روابط بين المدرستين التشكيلية والسينمائية، لكن لم تقف التعبيرية هنا، فأسلبة الإضاءة الواضحة انتقلت لأمريكا في الأربعينيات فيما يسمى بالفيلم نوار، بمعنى حرفي الفيلم الأسود، وهو مصطلح أطلقه نينو فرانك على مجموعة من أفلام الجريمة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، مثلما ظهرت الأفلام التعبيرية بعد الأولى، تجمع الأفلام مجموعة من التيمات المتشابهة وهي التوتر البادي على الأحداث والبطل ذي الأخلاقيات المضطربة واستخدام الظلال القاتمة والتباين بشكل مكثف.
المدرسة السريالية
عمل الفن التشكيلي في تلك الفترة من تاريخ السينما كملهم ومرجعية شكلية وفلسفية المدارس الفنية التي ألهمت السينما مرت عليها فترات طويلة واندثرت ثم نهضت من جديد لكن واحدة من أكثر تلك المدارس معاصرة للسينما ومستغلة لقدراتها الجديدة كانت السريالية، عندما كتب الشاعر أندريه بريتون مانيفستو السريالية لأول مرة، نبذ العقل الواعي والرضوخ لقوانين الفن البرجوازية، وأعلى من قيمة العقل الباطن والأحلام وتفسيراتها، وجد هو ومتبعيه الحرية الحقيقية في التحرر من الوعي ومن المعنى، السريالية مدرسة شعرية وتشكيلية، لكنها وجدت في الوسيط الحداثي السينمائي منفذا لتصوير تداعيات العقل، فلا يوجد فن آخر قادر على التقاط سيولة الوقت والحركة كما يفعل الفيلم السينمائي.
شهدت الأفلام السريالية ما يمكن اعتباره أول تعاون بين السينمائيين والتشكيليين أو الفنانين البصريين، ففي فيلم رينيه كلير “بين العروض” ظهر مان راي المصور الفوتوغرافي السريالي الأشهر بالإضافة للرسام فرانسيس بيكابيا ورائد الفن المفاهيمي مارسيل دوشامب، استخدم كلير تقنيات جعلت فيلمه أشبه بالحلم، لقطات تسير بعكس الاتجاه وتصوير بطيء وأشياء في أماكن لا تفترض بها أن تكون هناك، تماما كأي حلم لا يمكن تفسيره بالمنطق واللغة المعتادة.
ربما أشهر تلك التعاونات بين التشكيلي والسينمائي جاءت في صورة واحد من أهم الأفلام التي يتم إدراجها تحت السريالية “كلب أندلسي” للويس بونويل، وفيه تعاون مع عقل آخرأو لاوعي آخر يملكه السريالي الأشهر سلفادور دالي، يتكون الفيلم من حلمين، أحدهم لبونويل والآخر لدالي، لطالما حاول المحللون والنقاد تفسير الفيلم، مرة أنه نقد للدين ومرة أنه نقد للبرجوازية ودعوة للتحرر الجنسي، لكن العقول السريالية تأبى أن تعمل المنطق، يصعب إيجاد منطق في يد يأكلها النمل، وعين يتم شقها بمشرط كما يشق الشمس السحاب.تتكرر أحلام دالي في لوحاته فنرى عنصر النمل والأيدي والأعين في أكثر من سياق فدالي هنا ليس فقط أحد المشاركين في كتابة فيلم بونويل لكنه يستخدم فنه الشخصي كمرجعية.the ants, Salvador daliun chien andalou, luis bunuel لم تتخط السينما حتى وقتنا هذا جماليات السريالية فيمكننا رؤيتها في أعمال المعاصرين ويتم ليها واستخدامها في أنواع أخرى مثل الفانتازيا وتدرج داخل تتابعات الأحلام لكن بعدما تخطت التصنيفات وقولبة المدارس والاتجاهات أصبح الفن التشكيلي بمثابة مرجعية بصرية شاسعة لا تنتهي تلهم المصورين والمخرجين، يحيوها في أعمالهم أو يستقوا منها أساليبهم، ويعودون إلى تاريخ الفن الكلاسيكي بعدما تبنوا المدارس الحديثة لفترة، فيمكننا رؤية أثر الفنون القبطية وفنون عصر النهضة والباروك وغيرها في الأفلام الحديثة والمعاصرة.
عصر النهضة
وهو الاسم الذي يطلق على مرحلة نهوض الفن والفلسفة في القرن الرابع عشر بعد سقوطها لفترة تحت ظلام الخرافات الدينية والشعبية، وتعتبر من أهم العصور الفنية، فمن من لا يعرف الموناليزا، أو يستطيع التعرف على لوحة خلق آدم، لتلك الفترة نصيب كبير من الاقتباس الفني وإعادة الصياغة نظرا لكونها جزءا أصيلا من الثقافة الفنية بل والشعبية أحيانا، يأخذ أشهر فناني الفترة أحد أهم روادها ليوناردو دافينشي النصيب الأكبر من ذلك التأثير، ويمكن رؤية بصمته وتكويناته واضحة في السينما، وخاصة جداريته الخالدة العشاء الأخير، التي تستخدم بجدية أحيانا وبسخرية أحيانا، تكوينها الذي يستفز الأذهان والأعين يجذب المصورين والسينمائيين بل والفنانين التشكيليين المعاصرين حتى الآن لكي يتلاعبوا به ويعيدون ترتيب مفرداته ومعانيه.
في عام 1961 أخرج الاسباني لويس بونويل السريالي الشهير فيلمه فيريديانا كان وقتها قد ابتعد شيئا فشيئا عن سرياليته واحتفظ ببعض عناصرها في نسيج أفلامه مثل الأحلام والنظريات الفرويدية، يحكي فريديانا قصة راهبة تذهب لزيارة عمها وهو قريبها الوحيد قبل أن تتلى نذورها، بعد وقوع بعض الأحداث المفاجئة ووفاة عمها تستقر هي في بيته وتقرر عدم الرجوع للدير وأن تساعد الفقراء والمشردين وتأويهم وعندما تغيب عن المنزل يقتحم من مدت لهم يد المساعدة قصر عمها ويقرروا تناول العشاء الفاخر على مائدته الكبيرة ويتصرفوا بحرية تامة مخلفين فوضى هائلة هنا يقرر بونويل بذكاء شديد رسم لوحة حية مطابقة لعشاء ليوناردو، ولكنه عشاء المشردين الأخير كأغنياء أحرار يتصرفون في ممتلكات أسيادهم كما يحلو لهم ويصبحون هم الأسياد، يعرف بونويل بمعاداته للكاثوليكية بل إن فيلمه فيريديانا يعتبر نقدا دينيا ومجتمعيا لاذعا رفضته الكنيسة واعتبرته هرطقة وكفرا، لهذا يعتبر استخدامه للرموز المسيحية شكل من أشكال اللفظ والسخرية فهو ينتقد تعاليم الكنيسة بواسطة فنون الكنيسة نفسها، فنرى هنا العشاء الأخير خاليا من القداسة يجلس مكان المسيح أحد المتشردين وهو كفيف محب للنساء، يمكن أن نعتبر المشهد بعيدا عن التناقض الواضح والسخرية، معبرا عن خيانة أولئك المشردين لمنقذتهم التي يجوز اعتبارها مسيحهم المخلص.
الباروكتبع عصر النهضة في أوروبا عصر يسمى بالباروك من أوائل القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن الثامن عشر، حركة فنية تتميز بالمبالغات الدرامية والأسلوبية، جاءت تسمية الباروك من كلمة إيطالية تعني اللؤلؤة ذات الشكل غير المتناسق، فهذا يرمز لتمردها على القواعد والمثاليات المنسوبة لعصر النهضة، مشاهد لوحات الباروك تأتي دائما في وسط الحدث والحركة والدراما، ويستخدم فيها “الكياروسكورو” وهي طريقة إغراق كل الخلفية في الظلام والتركيز بضوء مسرحي على الشخصيات المهمة والمشاعر المراد إظهارها وينفذ ذلك عادة باستخدام مصدر واحد للإضاءة على كل عنصر، أهم ما يميز لوحة الباروك هو التلاعب بالظلال وتوجيه العين للأجزاء القليلة المضاءة، من أوائل من بدأوا هذا الأسلوب هو مايكلانجلو كارفاجيو، الذي اشتهر بلوحاته ذات التباين الضوئي واللوني الشديدين، أثر كارفاجيو في شكل التصوير في الباروك وفي الفنانين الذين عاصروه والذين جاءوا من بعده، واستمر تأثيره حتى في التصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
يمكننا رؤية ذلك متجليا في أفلام التعبيرية الألمانية مثل فيلم القدر لفريتز لانج، فلكي يؤكد على التناقضات بين عوالم الأحياء والأموات والخير والشر، يصنع تباين عال بين الظل والضوء والأبيض والأسود، وفي الأربعينات يمكننا رؤية تأثير الباروك وخاصة كارفاجيو في أفلام الدنماركي كارل ثيودور دراير وخاصة فيلمه يوم الغضب، يدمج الفيلم الواقع بالخيال والحق والباطل في شكل تباينات تشبه في تكوينها لوحات كارفاجيو بشكل أوضح من فيلم فريتز لانج، بسبب المرجعية الزمنية لأن أحداث الفيلم تقع في القرن السادس عشر فيمكن رؤية تشابهات الأزياء في لوحات الباروك وفيلم، الأردية السوداء والياقات البيضاء وغيرها.
عندما أصبحت السينما ملونة لم يتراجع تأثير الكياروسكورو بل أصبح أقرب لمصدره الأصلي، ويمكن رؤية ذلك في أفلام حديثة شهيرة مثل الأب الروحي لفرانسيس فورد كوبولا، فصور مدير التصوير جوردون ويليس التحولات من البراءة للتدنيس عن طريق استخدام أساليب الإظلام والاضاءة المتبعة في عصر الباروك بالإضافة للباليتات اللونية والتكوينات وحركة الممثلين.
ربما يمكن الإشارة لواحدة من أشهر أساليب التصوير الفوتوغرافي وهي إضاءة ريمبرانت، يستخدم المصورين المحترفين والسينمائيين المصطلح ولا يعلم الجميع مصدره كان ريمبرانت أحد رواد عصر الباروك، اشتهر برسم الصور الشخصية أكثر من غيرها ابتعد عن واقعية عصر النهضة ونعومة أسلوبها وانتهج منهجا أكثر خشونة وتعبيرا وإضاءة أكثر درامية، أضاء أشخاصه بالاعتماد على مصدر إضاءة واحد مع استخدام عاكس لذلك المصدر، وتكون النتيجة في الأغلب وقوع نصف الوجه في الضوء ونصفه في الظلام، اقتبس هذا الأسلوب المصورون الفوتوغرافيون تحديدا في تصوير البورتريهات في الأستوديوهات وبعض مصوري السينما.
يعطي هذا الأسلوب للعنصر شكل إضاءة دراميا مع مظهر طبيعي غير مصطنع في نفس الوقت، يمكن رؤية ذلك التأثير لكن مع إضفاء المعاني والتحليلات الدرامية في فيلم الأب الروحي وطريقة اضاءة أوجه الشخصيات وكيف تنزلق للعوالم السفلية فتنتقع وجوهها في الظلام، ويتم التأكيد على ذلك عن طريق التباين بإنارة الشخصيات الأكثر براءة وأقل تورطا في عوالم العصابات بضوء الشمس الطبيعي.
الروكوكوعند صنع الأفلام التي تحكي سيرة ذاتية لشخصية عاشت في فترة غير التي يصور فيها الفيلم أو حتى عن شخصية خيالية من عصر آخر، يتم الاستعانة بالمواد الأرشيفية
المصورة للمدينة أو القرية التي وقع عليها الاختيار، والصور المتاحة للشخصيات أو لتلك الفترة، فإذا صنع أحدهم فيلما تقع أحداثه في الخمسينيات فسيجد صور ملونة توضح ملابس الرجال والنساء في ذلك الوقت، صور للمنازل والشوارع وملصقات إعلانية لطبيعة المنتجات والأساليب الإعلانية المستخدمة وقتها، لكن ماذا لو أراد مخرج بناء عالم كامل في القرن الثامن عشر، لم تكن الكاميرا قد اخترعت بعد، لكن كانت بالطبع كان هنالك أنواع أخرى من التصوير.
في عام 1975 صدر فيلم باري ليندون للمخرج الأمريكي الشهير ستانلي كوبريك، عن قصة صعود وهبوط أحد النبلاء في القرن الثامن عشر ومحاولاته في الارتقاء الاجتماعي ومأساته الحياتية، يعتبر باري ليندون واحد من أكثر الأفلام التي يتم الإشادة بجمالها البصري وتقنيات الإضاءة والتكوين وتصميم الأزياء والإنتاج، يوصف كوبريك دائما بأنه مهووس بالتفاصيل والدقة فعندما أراد صنع دراما فترة، اختار مرجعية شكلية وموضوعية تسمح له بالإبداع وفي نفس الوقت بنقل سمات حقبة بعينها بحرص وأمانة تجعلها تنبض حية أمامنا على الشاشة، تسمى المرحلة الفنية السائدة في هذا القرن بعصر الروكوكو، أو الباروك المتأخر، ومثلما كان الباروك مهتما بمسرحة الفن وجعله مؤثرا عاطفيا بل ودراميا أخذ الروكوكو منحى أكثر بذخا، يعكس الواقع الذي اختار الفنانون وقتها تصويره، حياة الملوك والنبلاء، الملابس المخملية المزركشة الناعمة وتسريحات الشعر المتطرفة، الأثاث المزخرف والبيوت ذات الأسقف العالية، راقب كوبريك كل تلك التفاصيل بحرص فأصبح فيلمه أشبه بتتابع لمدة ثلاث ساعات للوحات عصر الروكوكو، لكن لم يكن هذا خيار شكلي وجمالي فقط، عصر الروكوكو في الفن عامر بزيف المظاهر والمغالاة في الجماليات المادية وهو ما يمكن اعتباره مجازا للزيف الذي صوره كوبريك في حياة النبلاء في الفيلم.اختار كوبريك لوحات فنان محدد من العصر كإلهام له، “ويليام هوجارث” أحد رواد الروكوكو، خاصة مجموعة لوحاته “الزواج على الطريقة الحديثة” وهي سلسلة من اللوحات تحكي قصة وكأنها تتابع مونتاجي، وهو رابط آخر بين العالمين الفنيين، تعتبر السلسة ما يشبه الحكمة الأخلاقية فهي تحذير من مساوئ الزواج المبني على علاقات مادية بحتة وهي تيمة مشتركة في الفيلم أيضا، بجانب التشابهات الموضوعية توجد اقتباسات شبه مباشرة لشكل وتكوين لوحات هوجارث داخل الفيلم، وعزز أجواء الفترة التصوير باستخدام ضوء الشموع بدون إضاءة صناعية، فكانت النتيجة فيلما غنىا بصريا وفنيا بشكل غير مسبوق.
السينما هي فن النحت في الزمن كما وصفها أندري تاركوفسكي، وكون عنصر الزمن أساسيا وحصريا لها يجعل لها خصوصية لم يسبق لفن أن تحلى بها من قبل، لكن بجانب خصوصيتها فهي أيضا فن جامع، جامع للفنون القديمة والحديثة، للبصريات والسمعيات
للكلمة المكتوبة والصورة والنوتة الموسيقية، ولأنها أمضت وقتا لا صوت لها فالصورة هي عنصرها الأساسي والأثير، فلم يكن يمكنها تجاهل كل ذلك الإرث البصري الذي خلده الإنسان من رسوم الكهوف وحتى الفن البصري المعاصر الحالي.
المراجع:
filmography 1-solaris, Andrei tarkovsky, 19712-the smiling madame beudet, germaine dulac 19223-napoleon, abel gance, 19274-a day in the country, jean renoirm 19365-the cabinet of dr. caligari, Robert wiene 19206-metropolis, fritz lang, 19277-entr’acte, rene clair, 1924 9-un chien andalou, luis bunuelm 192910- viridiana, luis bunuel 196111-destiny, fritz lang, 192112- day of wrath, carl Theodore dryer, 194313-the godfather, francis ford coppola, 192714-barry Lyndon, Stanley Kubrick, 1975
* طبيعة الفن التشكيلي.. وجماليات السينما الخاصة عبر مدارسها