“ميكروفون” سينما مستقلة لا تعادي الجماهير

إسلام انور 01 أغسطس 2015 السينما المستقلة

الكاتب : إسلام انور
يختزل بعض السينمائيين مفهوم السينما المستقلة في كونها الأفلام التي تعتمد على منظومة إنتاج بديلة عن منظومة الإنتاج التجارية السائدة والمسيطرة على سوق السينما.


في حين أن مفهوم السينما المستقلة يحتاج قبل الحديث عن منظومة إنتاج بديلة،إلىوجود فلسفة ورؤية مغايرة لمفهوم صناعة السينما بشكل كامل،تعمل على إنتاج أفلام مختلفة ومتنوعة في الأفكار والقضايا، وطرق الإنتاج، وتقدم تقنيات سينمائية بها قدر كبير من التجريب والتجديد في الإخراج والتصوير والمونتاج والبناء الدرامي للأحداث، ومن خلال هذه الأفلام يعمل صانعو السينما المستقلة على إعادة صياغة جماليات السينما وتقديم رؤية مختلفة للذات والعالم،معالحرصعلىإيجادصيغةمناسبةلمخاطبةالجمهور،لاتتعاليعلى
ذائقته، ولا تنسحق أمامه وتقدم له الأفلام التجارية التي اعتاد عليها.
في فيلم “ميكروفون” استطاع المخرج الشاب أحمد عبد الله، أن يجمع بين السينما المستقلة بكل ما تحمله من تمرد وتجريب وطرح لقضايا مختلفة بجماليات سينمائية مغايرة، وفي ذات الوقت لم يتعالي على ذائقة الجمهور،
مما أسهم في نجاح الفيلم جماهيريا بشكل كبير.
ساعد عبد الله في هذا النجاح عدة أمور، أو ًلا تناول الفيلم لقضية مهمة ومطروحة بقوة في السنوات العشر الأخيرة، وهى الفنون المستقلة بمختلف أنواعها من سينما لموسيقي لجرافيتي وغيرها، هذه الفنون لها جمهور كبير من الشباب، ثانيا وجود منتجين لديهم قدرة كبيرة على تسويق الفيلم محليا ودوليا، مثل محمد حفظي، وخالد أبو النجا، ثالثا تطور وتراكم تجربة أحمد عبد الله مع وجود فريق عمل مميز مكون من طارق حنفي (تصوير)، وأمجد نجيب (ديكور)، وهشام صقر (مونتاج)، رابعا تطعيم العمل بمساحة من
السخرية والكوميديا، مع وجود شخصيات حقيقية لفرق موسيقية وفنانين.
الديكودراما
بدأت فكرة الفيلم مع المخرج أحمد عبد الله بعد مشاهدته للعديد من رسومات الجرافيتي على حوائط الإسكندرية، بالإضافة لملاحظته انتشار الفنون المستقلة المختلفة في الإسكندرية مثل الجرافيتي والموسيقى والسينما، فقرر أن يصنع فيلما وثائقيا عن الفنون المستقلة المنتشرة في الإسكندرية، وبالفعل سجل مع العديد من الفنانين والفرق المستقلة، ولكن بعد فترة من العمل قرر أن يحول الفيلم من عمل وثائقي إلى فيلم “ ديكودراما”، وهو مزيج من الفليم الوثائقي والروائي، لذلك حرص على أن يكون معظم أسماء الأبطال في الفيلم هى أسماؤهم الحقيقة، بالإضافة إلى الاستعانة بشخصيات حقيقية من الفنانين والفرق المستقلة للعب أدوار داخل الفيلم كفرقة مسار إجباري، وفرقة الهيب هوب (Y-Crew)، وفرقة الهيفي ميتل النسائية (Mascara)،
وثنائي الجرافيتي آية ورجب، ومتزلج “السكيت بورد” ياسين.
تدور أحداث الفيلم حول ثلاث قصص رئيسية متداخلة، القصة الأولى عن علاقة بطلالفيلم خالدأبوالنجا مهندس“الستالايت”العائد من أمريكابعدسبع سنوات ليبحث عن حببيته”هدير”، التي تلعب دورها منة شلبي، والقصة الثانية أبطالها أحمد مجدي، ويسرا اللوزي، وهما مخرجان شابان من طلاب مدرسة السينما بمركز الجزويت، ويقومان بعمل فيلم مستقل كمشروع تخرج، عن الفرق الموسيقية المستقلة في الإسكندرية، والحكاية الثالثة ترصد حياة ثلاثة
شباب من الفرق الغنائية المستقلة، وهم أعضاء فرقة “واي كرو”.
نبوءة الثورة
تتشعب هذه القصص، وتتشابك مع حكايات فرعية لتكون بورتريه عن عالم الفنون المستقلة “المحاصرة” في مدينة الإسكندرية، هذا العالم المهمش على كافةالأصعدة من الدولةوالمجتمعوالمؤسسات المانحة،هو ذاته العالم الحقيقي والمعبر بصدق عن جيل وقطاع كبير من الشباب، يحاول التعبير عن نفسه من خلال موسيقى مختلفة وروسومات جرافيتي وسينما بديلة بعيدة عن السينما التجارية السائدة،وكلمايحتاجه هذاالجيلهو“ميكروفون” ينقلصوتهم وأحلامهم ومشكلاتهم، ووسط هذا الصراع لانتزاع مساحة للفنون المستقلة، يدرك القائمون عليها أن الأمر يحتاج إلى ثورة بمعناها الشامل، ثورة على النظام الاجتماعي والسلطة الحاكمة والفن السائد والمركزية المسيطرة، ومن هنا جاءت نبوءة الثورة التي كتبت باللون الأحمر على الحائط في أحد لقطات الفيلم، وسرعان ما حدثت ثورة 25 يناير 2011 بعد عام واحد من تصوير الفيلم، وتصدرت هذه الفنون المتمردة والمستقلة المشهد الثوري، فتحول
ميدان الثورة إلى مسارح ومعارض تشكيلية مفتوحة.
الذاكرة والهوية
الذاكرة واحدة من الأفكار الرئيسية التيتناولها الفيلم،فكثيرمن فناني الإسكندرية يرفضون النزول للعاصمة، برغم الفرص الكبيرة التي ستتوافر لهم في القاهرة، خوفا من فقدانهم لذاكرتهم، فالإسكندرية بالنسبة لهم ليست مجرد مكان ولدوا به؛ ولكنها تاريخهم وهويتهم وعالمهم الآثير، سؤال الذاكرة والهوية يتكرر أيضاً، ولكن بنموذج مختلف، تطرحه “هدير” حبيبة خالد، التي ترى أنه لم يعد هناك شىء يربطها بهذا المجتمع، المدمر والفاسد، حتى ذكرياتهما معا تقرر التخلص منها قبل رحليها بإعطاء خالد أجندتها
هذه القصص المتداخلة والمتشعبة التي تطرح العديد من القضايا والأسئلة، احتاجت إلى معالجة سينمائية خاصة، وقد نجح المخرج أحمد عبد الله وفريق
العمل في التعامل معها بشكل سينمائي، فاستخدم عبد الله ثلاثة أنماط من التصوير، أولها الكاميرا المحمولة والمونتاج السريع لتصوير الفرق المستقلة والحفلاتوالرقص،وهىنوعيةتصويرمعرةجداعنحالةالتمردوالرغبةفي التغيير، النمط الثاني كان عبارة عن الكادرات الثابته والطويلة نسبيا في رصد حياة البطل خالد التي كان بها كثير من الرتابة والملل، والنمط الثالث كان في استخدام كاميرا مختلفة وإضاءة مختلفة في لقطات الفليم التسجيلي
الذي يصوره أحمد مجدي ويسرا اللوزي الطالبان بمدرسة الجزويت.
لم يتوقف الأمر عند تقنية التصوير والمونتاج والإضاءة، ولكنه امتد أيضا لشريط الصوت الذي استخدم أصوات الحياة اليومية المعتادة ووظفها، بحيث أصبحت أقرب ما تكون لإيقاع يشبه إيقاعات الموسيقي، مستخدما صوت إيقاع الأقدام على الأرض وأصوات غلق الأبواب والمصافحة بالأيدي وصفير غلاية الماء، وغيرها من الأفعال الاعتيادية اليومية حولت الحياة اليومية لإيقاع مثير
وممتع داخل العمل.
هذا الذكاء والوعي من فريق العمل نجده أيضا حاضرا في تعامله مع الزمن، حيث يستخدم المخرج زمنين، الأول زمن “كرونولوجي” تسلسلي لسرد حكاية البطل مع الفرق المستقلة، وزمن آخر “سيكولوجي” قائم على الذاكرة لسرد حكاية خالد مع حبيبته هدير، وهذه نقطة مهمة يغفلها صناع السينماالمصريةعادًة،فالذاكرةلاتعملبالمنطقولابالزمنالمعتادفيحياتنا اليومية، فالذاكرة لها نسق خاص وزمن متغير عن الزمن الواقعي المعاش، فالذاكرة تستدعي من الماضي ما تريده بالشكل الذي تريده دون الالتزام بالتسلسل الزمني أوالالتزام باستحضار الذكريات بشكل كامل كما كانت، لذلك سنجد لقطات لقاء خالد مع حبيبته غير متسلسة زمنيا وبعضها تتكرر،
لأنها تعر عن الذاكرة التي هى بطبيعتها مرتبكة ومشوشة وغير مرتبة.
الكوميديا
أحد الأسباب الرئيسة في نجاح فيلم “ميكرفون” هو خروجه عن الإطار الذي وضعه صناع السينما المستقلة في مصر لأفلامهم، بوصفها أفلام مهرجانات ويجب أن تكون جادة وتعر عن تجربة ذاتية أو قضايا كبيرة، وتتعامل بعداء غير مرر مع الكوميديا، على العكس من كل سابقة تعامل أحمد عبد الله مع فيلمه بروح حرة، فاستطاع خلق شخصيتين ساخرتين في غاية الأهمية هما “إكسلانس” سمسار العقارات، و”صالح” مدير المركز الوطني للفنون، بالإضافة إلى شخصية والد هاني عادل الذي برغم تفاصيل دوره التراجيدية حيث يشعر الأب بوحدة كبيرة بعد رحيل زوجته فيقرر الصمت والتعامل مع الحياة بزهد، لكن بذكاء شديد يخرج أحمد عبد الله مجموعة من المشاهد
المبنية على رد الفعل، والتي تحتوي على قدر من الكوميديا.
على الجانب الآخر كانت هناك شخصية بائع شرائط الكاسيت الشعبية، وبرغم أدائه المميز، لكن الشخصية ذاتها وجودها الدرامي لم يكن له أي مرر، فض ًلاعنوقوعصناعالفيلمفيخطأزمنيمرتبطبكونأحداثالفيلمتدورفيعام 2010، وبائعو شرائطالكاسيتقدتوقفواعنممارسةهذهالمهنة،وتحولوالبيع الإسطوانات المدمجة منذ بداية الألفية، وبالتالي لا يعقل أن يوجد بائع شرائط كاسيت حتى الآن، بالإضافة إلى وجود بعض المشاهد المجانية للإسكندرية، كان يمكن الاستغناء عنها مع الاستغناء عن شخصية بائع الكاسيت، مما كان
سيساعد على تقليل مدة الفيلم الذي كان طويلا نسبيا
يذكر أن فيلم “ميكروفون” حصل على عدة جوائز، منها جائزة (التانيت الذهبي) من مهرجان قرطاج، وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة الدولي السينمائي، وأفضل مونتاج من مهرجان دبي الدولي السينمائي في
دورته السادسة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات