“الثبات” لمجدي العمري

وليد الخشاب 01 أغسطس 2015 السينما المستقلة

الكاتب : وليد الخشاب
التماهي بين إبادة شعبين


“الثبات”.. هو أول فيلم روائي طويل للمخرج العربي الكندي مجدي العمري، خريج معهد السينما في مصر، وكان العرض الأول للفيلم في صيف هذا العام، باختصار هذا الفيلم المغرق في الشاعرية والواقعية في آن، يتنفس روحا تذكرنا بجماليات وإيقاع المخرج الروسي الفذ “تاركوفسكي”، كذلك يحمل الفيلم ملامح السينما الكندية المستقلة والسينما العربية الكندية معا، على
مستوى نموذج إنتاج الفيلم وعلى الصعيد الجمالي.
منذ ميلاد السينما الكندية “الجديدة” في الستينيات وحتى اليوم، أسهم العديد من المخرجين والمنتجين الكنديين من أصول عربية في هذه الصناعة، بدءا من “دونالد شبيب”، مخرج فيلم “سكة سفر”، والذي يعد فيلما مؤسسا في تاريخ السينما الكندية، لاحتفائه بتقنيات سينما الحقيقة والواقعية، و(صلاح بشير)، رئيس مجلس إدارة أبرز شركة (سينيبلكس)، أكر مالكة لقاعات العرض بكندا، وصولا إلى(ربا ندة)، المخرجة التي لفتت أنظار النقاد والجمهور العريض معا بفيلمي (صباح)، و(بتوقيت
القاهرة)، واللذين أنتجهما المخرج الكندي الشهير (أتوم إيجويان).
ينضم مجدي العمري إلى قائمة مشرفة من صّناع السينما العرب الكنديين، ويتميز عنهم بأسلوبه التأملي، المغرق في الابتعاد عن القيم التجارية السائدة، والذي يتسم مع ذلك بالواقعية الشديدة في أداء الممثلين، وشريط الصوت وزمن اللقطات الطويلة، بالإضافة إلى جماليات الصمت التي تطغى على الفيلم، وتحث
المتفرج على التأمل في حالة الشخصيات النفسية.
لا توجد قصة معقدة في الفيلم، الكاميرا تتبع سيدة فلسطينية شابة وجارها الكهل الذي ينتمي لشعب “الموهوك” (من سكان أمريكا الأصليين)، في علاقة صداقة وشراكة “سياسية” وروحية غريبة، تقابل السيدة الفلسطينية جلادها السابق، الضابط في جيش جنوب لبنان العميل لإسرائيل، والذي كان يتولى تعذيبها في معتقل الخيام الشهير، بدون أن يشرح الفيلم تفاصيل وأسباب، تبدأ القصة بالسيدة الفلسطينية وهي تقتل جلادها، في اللحظة
نفسها
يدخل جارها الهندي الأحمر، وبدون أن يتبادلا الكلام أو الشرح، يساعدها الكهل على إخفاء آثار الجريمة ويحميها، بل ويوصلها إلى المستشفى.
بقية الشريط تتبع على التوالي ماضي السيدة الفلسطينية وحاضر وماضي الكهل الهندي الأحمر، تارة نرى السيدة العربية صريعة الاكتئاب، ونخمن أن سببه التعذيب الذي تعرضت له، وكونها مناضلة في صفوف المقاومة، مما يعقد علاقتها بابنتها، وتارة نرى الكهل من شعب “الموهوك”، ونتتبع خلافه مع ابنه.. يصمت الكهل عن علاقته بزوجته التي تركت أسرتها، ورحلت لتنضم لجماعة تناضل من أجل حقوق شعب الموهوك وسكان أمريكا الأصليين بشكل عام، بذلك الاختيار، تخلت الأم عن ابنها، وإن كانت مضطرة لذلك على نحو ما، بسبب الاكتئاب الذي تعاني منه حزنا على حال شعبها برغم تلك الظروف المعقدة، يسعى
هذا التجاور والتقاطع بين قصة المرأة العربية والمرأة “الموهوك” (الهندية الحمراء) يتجاوز التشبيه المعروف: الفلسطينيون مثل الهنود الحمر من حيث التعرض لظلم تاريخي سلبهم حقوقهم وأراضيهم، يبدو السيناريو وكأنه يفسر تاريخ كل امرأة منهما بإلقاء الضوء على قصة المرأة الأخرى؛ كلتاهما كانت تناضل للدفاع عن حقوق شعبها، وتعرضت لعنف وقمع من القوة المعتدية أو المحتلة؛ كلتاهما تعجز عن الانخراط في حياة عائلية “عادية” بسبب عنف هذه التجربة، مما يحدو بهما إلى “التخلي” –على نحو ما – عن الأسرة القريبة، في محاولة للعق الجراح أو مواصلة النضال من أجل حقوق الأسرة بالمعنى الأعرض: الشعب الذي تنتمي له كل منهما؛ وكلتاهما تستخدم العنف في لحظة ما
دفاعا عن تلك الحقوق، أو عن النفس.
هذه القراءة “النثرية” للفيلم لا تفي شاعريته حقها، يعتمد الفيلم على الإيجاز بل والاقتضاب الشديد في السرد وفي شرح دوافع الشخصيات–وهذا عصب الشعر في الفيلم، لكن الشحنة العاطفية
القوية تنبعث من الصمت الذي هو أبلغ دال على الألم، والحيرة، والحزن والاكتئاب، من أقوى مشاهد الفيلم لحظة ممتدة، تكاد تكون صامتة في معظمها، يزور فيها الكهل “الموهوك” صديقته الفلسطينية في المستشفى، مجرد لحظة عابرة يلفها الصمت، لكنها بليغة في إبراز الصلة الروحية الوطيدة بين الشخصيتين، تجمع بينهما مأساة قومية (هزيمة الهنود الحمر وهزيمة الفلسطينيين)،
لكن يربطهما -على مستوى أعمق- رحابة الصدر التي تجعل المرء يتقبل الآخر ويتعاطف معه دون أن يطرح أسئلة، أضف إلى ذلك ما يمكن أن يخمنه المشاهد من أن الرجل “الموهوك” يرى زوجته في صديقته الفلسطينية الشابة، ولعله يبدأ في تفهم تصرفات زوجته التي تركته من أجل النضال، عندما يضع القدر في طريقه سيدة
تشبهها على نحو ما.
اختار المخرج أن يكون فيلمه “الثبات” بالأبيض والأسود، مما يضفي بعدا ملحميا على الفيلم، إذ يستدعي اللونان عصر ميلاد السينما وفكرة الحق والباطل كضدين يتصارعان من خلال بشر تأخذهم تقلبات الأقدار –أو تصاريف التاريخ، ويغلب على الفيلم الصمت، إلا في اللحظات القليلة التي يتحدث فيها أبطال الفيلم، ويستخدمون فيها لغاتهم الأصلية، لذلك معظم الحوار بالعربية أو بلغة شعب “الموهوك”، من سكان أمريكا الأصليين، بالإضافة
لبعض الجمل باللغة الإنجليزية.
تمثل هذه الاختيارات الجمالية جانبا من فعالية الفيلم في مجال العلاقات ما بعد الاستعمارية، بدلا من هيمنة الكلمة كما اعتدنا في السينما التجارية والسينمات الغالبة، يختار الفيلم إعلاء شأن الصمت، معارضا بذلك خيارات السوق الغالبة، وبدلا من أن تغلب اللغة الإنجليزية في فيلم تم إنتاجه في أمريكا الشمالية - في المحيط الجغرافي لأهم القوى الإمبريالية في العصر الحديث- نجد اللغات الغالبة هي لغات شعوب واقعة ضحية للهيمنة الاستعمارية،
مثل اللغة العربية، ولغة شعب “الموهوك”.
تتبدى على نحو واضح ملامح انتماء فيلم مجدي العمري للسينما المستقلة على المستوى الفني، فالفيلم بعيد عن التيارات الغالبة في السينما، حتى في اختياره للغات الحوار، أما على مستوى التمويل والإنتاج، فقد أنفق المخرج، وهو (المؤلف والمنتج والمونتير أيضاً)، عدة سنين باحثا عن هيئات توفر التمويل لفيلمه؛ ولأن كندا جزء من “العالم المتقدم”، فتمويل الأفلام غير التجارية يعتمد بالأساس على دعم الدولة، مما يستدعي أن يقضي صاحب الفيلم شهورا عديدة ليعد مشروعا يقنع اللجنة المسئولة عن التمويل، ويكرر العملية أمام عدة لجان، على مستويات حكومية عدة، محلية وفيدرالية، لكن من حسن حظ المخرجين والمنتجين المستقلين أن دبي وأبو ظبي وقطر تخلخل علاقات القوة بين شمال الكوكب وجنوبه منذ أن أصبحت هذه البلاد مصادر نشطة لتمويل الأفلام المستقلة، حتى تلك المنتجة في شمال الكوكب، مثل كندا، هكذاجمعالفيلمتموي ًلامنقطرودبي،بالإضافةلهيئاتوجهات مانحة مختلفة في كندا وفي مقاطعة كيبيك الفرانكوفونية
بكندا.
بفيلمه “الثبات”، يضع المخرج مجدي العمري قضايا سكان أمريكا الأصليين على الخريطة، مقدما واحدا من الأفلام النادرة التي تتناول قضايا هذه الشعوب، قالبا بذلك موازين القوى المعتادة في طريقة تصوير سكان أمريكا الأصليين، على مستوى الإنتاج أيضا، يشارك الفيلم في قلب موازين التمويل المعتادة أيضا، فهو ينضم إلى عدد محدود من الأعمال المستقلة المنتجة في الغرب،
التي تستفيد من تمويل هيئات خليجية لسينما الغرب.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات