الكاتب : حسام الخولي
لم يجد الناقد المصري سيد سعيد في بدايته ما يملأ فراغات قلبه المفتون بالفن مكانًا في دراسته الهندسية، سرعان ما ترك الهندسة للتواجد في عالمه المتخيل والواقعي بين السينمائيين في مصر، كمخرج لأعمال انتقائية تمامًا بعيدة تبدو أحيانًا غير مناسبة تمامًا للذوق العام أو كفنان يكتب على الإبداع ولا يصنعه تمامًا أو ربما يصنعه على طريقته في قلب جمعية النقاد ككاتب على الفنون بالتوازي مع صناعتها.
لم يجد الناقد المصري سيد سعيد في بدايته ما يملأ فراغات قلبه المفتون بالفن مكانًا في دراسته الهندسية، سرعان ما ترك الهندسة للتواجد في عالمه المتخيل والواقعي بين السينمائيين في مصر، كمخرج لأعمال انتقائية تمامًا بعيدة تبدو أحيانًا غير مناسبة تمامًا للذوق العام أو كفنان يكتب على الإبداع ولا يصنعه تمامًا أو ربما يصنعه على طريقته في قلب جمعية النقاد ككاتب على الفنون بالتوازي مع صناعتها.
كان مشواره الحافل ذلك قليل الإنتاج الكتابي نوعًا ما بالرغم من الانتشار والتحقق الذي حدث، يكتب ببطء وينشر هكذا، تمامًا كما يصنع أعماله القليلة كمخرج، يختار ما يكتب عنه سواء عمل فني أو فنان كحائط يتخفّى وراءه للكتابة عن نفسه بشكل أكثر دقة، ما يمكن أن يملأ من خلالهم فراغات للطريقة أو المساحة التي يقدمهم من خلالها، كأن يقدم رجل من الصعيد في بداية كتابه ليخبر القارئ عن تناقض تلك الحياة مع حياته الشخصية التي نشأ فيها في بورسعيد على الساحل، وهكذا يرى النقد والكتابة عمومًا: مسار فني يمكن إعادة إنتاج الفن من خلاله بشكل أكثر رحابة.
أثناء بحثنا للكتابة عنه في هذا العدد وجدنا صعوبة بالغة في الوصول، وربما في هذا ما يعبّر عنه أكثر مما يخفيه، قلّما يكتب أو يُكتب عنه كناقد يقف نديًا أمام من يكتب عنهم لا يخطب ودهم أو رضاهم، يرتضي تمامًا بالمساحة التي يحصل عليها للكتابة والتواجد.
في جمعية النقاد التي عيّن رئيسًا لها بعد عام واحد من عمله كأستاذ غير متفرغ بالمعهد العالي للسينما في 1999 يحكي بعض النقاد عن إصراره على دعوة المخرج السوري المعارض عمر أميرلاي لعرض فيلمه والحوار معه في الجمعية أثناء الاحتفال بمرور خمس وعشرين عامًا على الجمعية.
هكذا يمكن التأريخ سريعًا لمشواره الممتد في جمعية السينما؛ سعي دائم لتقديم المختلف، كمحاولة لإعادة إنتاج النقاش والجدال الذي "يصنع الفن" وفقًا لوجهة نظره التي جاءت في كتابه الذي حمل مراسلاته مع صديق عمره الناقد كمال رمزي.
لا يمكن تضييق الحديث عمومًا عن الرجل بتواجده فقط في المحيط النقدي، استمر تبادل الأدوار الذي يصنعه لنفسه كناقد ومخرج تستفيد منه الجمعية على أكمل وجه كرجل يمكنه إحداث حراك نسبي داخل الجمعية والمهرجان على حد سواء كما يشهد معاصروه.
على فترات متباعدة تمامًا كان يصنع سيد سعيد أفلامه، سنوات طويلة تناسب أسلوبه في الكتابة وإنتاج الفنون عمومًا صنع فيلم "تعظيم سلام" 2011 التسجيلي عن شخصية طلعت حرب بعد سنوات طويلة جدًا من صنع فيلم روائي قصير الشاهد والقضية 1975. كما قدم عدد من المسلسلات التليفزيونية أبرزها "تمساح البحيرة" عام 1995، و"رحلة إلى الشمس" مسلسل للأطفال عام 1981. هكذا كانت رحلته التجريبية تمامًا حول كل شيء.
في فيلمه القبطان الذي يعتبره فيلمه الروائي الطويل الوحيد يمكنك ببساطة أن تستشف تواجد صانعه في كل حركة، وربما في أغلب كتاباته كذلك، على سبيل المثال في كتابه عن المونتير أحمد المتولي يضع نصوص إبداعية من كتابته أثناء كتابته عن الرجل وهو ما سيفعله أيضًا أثناء كتابته عن مدير التصوير أنسي أبو سيف، اتساق يجعله يصنع "انصهار الشكل مع المضمون" مثلما وصفه الراحل أحمد يوسف.
وفي افتتاحية كتابه عن أنسي أبو سيف على سبيل المثال يقول: ها هو ذا الفتي الذي يصنع من خلاء البلاتوة الموحش مدنًا وسفنًا ومقاهي وحواري وقصور وحانات. هكذا يمكن أن نعتقد في كتابة الرجل نفسه، الذي يصنع من أبطال صفحته البيضاء، يبني لهم وينشيء أشياء يخاليه تناسب فكرته عن الكتابة والفن كزاهد ومتصوف دائمًا ما يلجأ للرمز.
في بداية فيلمه "القبطان" يتقدم التتر عبارة "إنما أحدثك لترى فإذا رأيت فلا حديث" المقتبسه من المتصوف الأشهر الإمام النفّري، يتقدم الفيلم تصوّر فلسفي، يجرّبه في مجموعته القصصية ثم روايته، وربما في قلبه ما يلخص فلسفته عن السينما والنقد بالطبع، لا ينشغل بالنقد تمامًا قدر مروره الزاهد المجرب.
كانت المفارقة، أن المخرج والناقد سيد سعيد، تنبأ بوفاته؛ حيث كتب عبر حسابه بموقع "فيسبوك": "في هدوء مسالم، سوف أنسحب من عالمكم المحكم عاريًا بلا كلمات، وها أنا في طريقي، مستكشفا حياة أخرى، أرشق الإشارات في صحراوات ليل بلا نوافذ، منتسبًا إلى برودة ظلي، ظلي الذي ظل يلازمني ولكنه الآن ينكرني".
هذا التجريبي المتصوف الذي عاش بعيد نسبيًا عن الأضواء بخلاف زملائه الأشهر كمخرجين ونقاد يمكن الوقوف على تجربته الاستثنائية قليلًا للتساؤل عن إنتاج الفن أساسًا في حالة مثله وكيف يمكن أن تؤسس الرؤية النقدية الحقيقية لصناعة فنان شامل يدرك جيدًا جوهر الفن من خلال إدراكه الجيد لدور النقد.
………………