فتحي فرج .. الناقد الباحث عن الحقيقة

أمل ممدوح 26 مارس 2023 جمعية نقاد السنيما المصريين

الكاتب : أمل ممدوح
لم يتسن لي معرفته شخصيا ولم ألتق به ولو مرة بعيدة، فقد باعدت بيننا عدة أجيال سبقني فيها، ولم يكن اسمه أيضا ذائع الصيت لمن لم يقترب كثيرا للتخصص في السينما أو لهذا الجيل، ولم أجد إلا القليل جدا عنه لحد الندرة كمعلومات أو صور أو مقالات، وكلها مؤشرات لانطباعات هامة عن شخصيته غير العابئة ببروز اسمها ولا بذاتها أو تحققها الشخصي، بقدر اهتمامها بمواقفها وقضاياها المتبناة وممارسة شغفها بما تحب، وذلك برغم ثقل قيمته المهنية وتميزه.


لم يتسن لي معرفته شخصيا ولم ألتق به ولو مرة بعيدة، فقد باعدت بيننا عدة أجيال سبقني فيها، ولم يكن اسمه أيضا ذائع الصيت لمن لم يقترب كثيرا
للتخصص في السينما أو لهذا الجيل، ولم أجد إلا القليل جدا عنه لحد الندرة كمعلومات أو صور أو مقالات، وكلها مؤشرات لانطباعات هامة عن
شخصيته غير العابئة ببروز اسمها ولا بذاتها أو تحققها الشخصي، بقدر اهتمامها بمواقفها وقضاياها المتبناة وممارسة شغفها بما تحب، وذلك برغم ثقل
قيمته المهنية وتميزه.
قبل الاقتراب منه كان يصادفني اسمه في مقالات بعض الكتاب القدامي أو وسط أحاديث عن أدوار البعض في السينما؛ الناقد السينمائي فتحي فرج،
كنت ألاحظ امتزاج سيرته بالتقدير وسمة النبل، هالة من الإجلال والنبل تصحب اسمه حين يذكر، بحثت كثيرا عن صور له لم أجد سوى اثنتين؛ أحدهما
في شبابه عام 1973 من أرشيف الناقد الأستاذ أمير العمري، يتوسط فيها صديقيه يوسف شريف رزق الله وأحمد رأفت بهجت، والأخرى صورة رسمية
صغيرة في كبره، وكم هو الفارق النفسي بينهما، رغم حفاظه على سمات ثابتة في مظهره، ما أعتبره مؤشرا نسبيا على أصالة طبع اعترضته تغيرات
عميقة، الصورة الأولى ملفتة كثيرا، كان به وسامة غير عابئة بنفسها، ونظرة شاخصة بعيدا مع الموضوع لا الأشخاص، مع الأفكار، بهيئة لا تخلو من
سمات عزة وقيادة، وهدوء وتحكم في الأعصاب، مع نظارة لم تتغير تقريبا حتى في كبره، ذات إطار أسود سميك مربع، وعدسات غامقة نسبيا، مع نظرة
بعيدة كالأحلام، لا تخفي علامات نباهة وتميز هادئة، أما الصورة الأخرى المتقدمة فنجد رجلا كلاسيكيا توحي ملامحه بالجدية وبشيء من الصرامة
والقوة، وبقدر ما تبدو دلالات ظاهرية على تمسكه بأصالته وما يعرفه في نفسه، بقدر ما تطل منه تعاسة من ابتعد عنها، وخفت فيه شيء أو أشياء، جعلته
يتعايش تقليديا بعكس طبيعيته الثورية، هذه انطباعات بسيطة مبدئية من رسائل الأرواح التي أظنها تبقى وإن ذهب الزمن.
ولد فتحي فرج عام 1934، وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب، ويبدو أن هذه الدراسة كانت اختيارا أصيلا منسجما مع عقله النهم للتحليل أملا
للحقيقة ومعرفة الذات، ففي بدء شبابه بحث عن ذاته فكريا، فالتحق بجماعة الإخوان المسلمين، فقد كان كما قرأت في مقالات الناقدين سمير فريد وأمير
العمري، يميل لتقدم ومعاصرة لا تنفصل عن المحافظة الدينية المعتدلة، لكنه انتمى إليهم بعقلية ديناميكية وليست جامدة، تناقش وتعترض فتربك القادة،
فما كان مصيره سوى الطرد من هذه الجماعة التي كان مرشدها الهضيبي آنذاك، فيجد نفسه أميل لليسار لكنه يؤثر الاستقلال بعد تجربته الأولى، فقد كان
بحسب تعبير الأستاذ سمير فريد "مثقفا عصريا يؤمن بالحداثة التي لا تتعارض مع الدين، وإن عليه تحديث النظرة إلى الدين حتى لا يصبح منفصلا عن
العصر"، لكنه ظل محسوبا على الجهتين، الإخوان والشيوعيين، مرفوضا من كليهما، متهما من الدولة دون إدانة، متعرضا للاعتقال في أعقاب حادث
المنشية، محيرا متهميه، فلا هو منتم للإخوان وإن مال فيما سبق، ولا منتم للشيوعيين وإن صنف منهم.
شغف السينما
برغم أنه تم توظيفه في بدايته بشكل روتيني في وزارة المالية، إلا أن ميله وهواه كان تجاه السينما، فانضم في الخمسينات لندوة الفيلم المختار التي
أسسها الكاتب يحي حقي، مع مثقفين آخرين محبين للسينما، ثم بدأ كتابة مقالات النقد السينمائي في جريدة المساء ثم صار عضوا مؤسسا في جماعة
السينما الجديدة عام 1968 ، ومشرفا على مجلة "الغاضبين" الصادرة عنها، يكتب مقالات ثورية كطبيعته، ينتقد التقليدي الراكد في السينما ويدعو لتبني
النظريات السينمائية الحديثة في العالم كسينما المؤلف، وهو صاحب فكرة إنشاء نوادي السينما بالأقاليم بقصور الثقافة الجماهيرية، وإرسال الأفلام
العالمية رفيعة المستوى الفني للعرض فيها، وقد أصدر ورأس تحرير مجلة "سينما النوادي" الصادرة عن الثقافة الجماهيرية، متيحا من خلالها ظهور
أقلام نقدية جديدة، كما كان أول سكرتير لجمعية نقاد السينما المصريين التي ساهم في إنشائها، واستطاع المجيء بأفلام برازيلية وجزائرية لعرضها في
الجمعية.
وكان مهتما بمتابعة الحركة السينمائية الجديدة، وأولى اهتماما خاصا بحركة السينما البريطانية وكذلك بأفلام المخرج الأسباني السيريالي لويس
بونويل، كما كان ينادي بما يمكن أن يسمى "سينما لكل مواطن"، عن طريق عرض الأفلام الفنية الرفيعة في المدارس والجامعات وقصور الثقافة
والإكثار من دور العرض في القرى والمدن.
كتاباته وآرائه المميزة ..
لفتت نظري أثناء تصفحي لمقالاته عدة آراء متميزة وجريئة له، أذكر منها ما يلي :
إشارته للجمهور بالاتهام أيضا حين نشكو من تخلف الفيلم المصري، فقد ورد في مقال للناقد أمير العمري أنه كتب في نشرة نوادي سينما الأقاليم في
عام 1970 " إننا إذا كنا نشكو من تخلف الفيلم المصري فكرا وتكنيكا، فإننا بنفس القدر نشكو من تخلف المتفرج المصري أيضا وتدهور تذوقه الفني إلى
الحد الذي يجعله ينجح أفلاما ما كان لها أن تنجح. فالجمهور وهو المستهلك الوحيد للفيلم السينمائي هو أيضا مشكلة توضع في الحسبان عند مناقشة قضية
التخلف في السينما المصرية".

كما يتحدث عن فكرة "النسبية" في النقد التي كان يتم الترويج لتبنيها، رافضا إيها، ومضمونها أنه عند التناول النقدي للفيلم المصري لا يجب إخضاعه
لمقاييس فنية قاسية، ولا يجب مقارنته بأفلام أجنبية ممتازة حيث يتوفر لها ما لا يتوفر للفيلم المصري، أي أنها دعوة للنسبية في نقد الفيلم المصري أو
تقويمه، فيقول فرج أنه منطق صحيح لكن إن حللناه بإمعان لن يؤد بنا إلى النسبية ولكن إلى شيء آخر، بل الحل في الموضوعية، فيصل إلى رفض
النسبية كطريق صحيح لنقد الأفلام، لأنها إخلال بوظيفة الناقد وإفساد للفنان نفسه، سواء بالمبالغة في مدحه أو ذمه.
وكان يرى أن هناك أعمال ترقى إلى مستوى التناول النقدي وأخرى لا ترقى إليه، ومن هنا يصبح تناول أعمال دون غيرها تقدير لها على عكس ما
تصوره الهواجس الخاطئة. كما يرى أن "الحوار العلمي الإيجابي البعيد عن التحيزات المتحكمة تحكما مرضيا في الوسط السينمائي، هو الطريق الأمثل
إلى فن ناضج، وهذا يستدعي أولا وقبل كل شيء ألا يضع المخرج نفسه فوق الناقد، فهذه غطرسة أو ادعاء ثقة ليست موجودة".
ويتحدث عن ثلاثة أنواع سيئة من النقد؛ نقد الأتباع والشلل، نقد الكشكول ويقصد به الناقد الذي يكتب في كل شيء وأي شيء دون دراسة، وكأنه (يلعب
كل الألعاب)، ثم الأدباء والمسرحيون والكتاب السياسيون الذين يتحولون إلى نقاد، ويشير إلى أننا لم نجد نقدا سينمائيا جادا قائما على أسس علمية، إلا
بدخول قلة يعتبرون النقد علما يستلزم التخصص والدراسة الموسوعية، لأن السينما تتصل بكل الفنون.
وهو يؤكد أن الأفلام باختلاف نوعها يجب أن تكون جادة، حيث الفن بطبيعته نشاطا جادا، فإن كانت هناك أفلام ليست جادة فهي أبعد عن الفن بقدر
بعدها عن الجدية، كما لا يتفق مع تسمية الأفلام بالهادفة، حيث ليس مفهوما بالمرة أن يكون هناك فيلم هادف وفيلم غير هادف، فكل الأفلام بالضرورة
هادفة حتى لو كانت كوميدية من النوع الهازل الضاحك.
حماسه الجريء والسينما الجديدة
من أكثر ما يظهر طبيعته الحاسمة غير المهادنة، ونزعته الثورية الحالمة بالتغييروحماسته الجريئة المتمردة، كلماته عن السينما الجديدة وجماعة
السينما الجديدة، فيقول: "إن جماعة السينما الجديدة قامت لتبقى"، و"الحقيقة أن السينما الجديدة لا تستطيع أن تخرج من داخل مؤسسة السينما، ذلك أن
هذه المؤسسة لا تفكر في كيف الإنتاج وأساليبه بل تفكر في كم الإنتاج بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى".
وكان يؤكد أن الدعوة السينمائية الجديدة، تعتقد بأنه من غير الممكن أن تخرج الأشكال الفنية المعبرة تعبيرا دقيقا عن واقعنا، من داخل جهاز لا يعنيه
التعبير عن هذا الواقع، وإنما يعنيه تشغيل الأيدي العاملة . ويضيف " فليس ذنب الفن المشوه في بلدنا أن هناك مئات ينسبون أنفسهم إليه، ويطالبونه بأن
يقدم لهم لقمة العيش. لقد آن الأوان لكي توجد السينما الجديدة، وسوف نصنعها شاءت كل أجهزة السينما أم أبت".
عن أسلوبه ..
سوف تندهش حين تقرأ مقالاته من مستواها التحليلي العميق والوافي بالنسبة لهذا الزمن، ومن إطلالة الفلسفة من طياتها، فو محلل عميق يجيد الجدل
المنطقي، والربط الذكي ولاستدلال الهادىء، مع عبارات دقيقة التعبير صحيحة التركيب، ستشعر بثوريته التي لا تقبل المساومة، والولاء لمبادئه وأفكاره
التي يعتنقها ويقيس عليها نقده الاجتماعي للأفلام الذي كان ميالا له مضفرا بتأمل فلسفي تقدمي، مع قدرة على التنقل المرن والماهر بين الرؤية المقربة
والرؤية البنورامية الشاملة، آراؤه لها تفردها وكذلك زوايا نظره التي يتناول بها الأفلام والموضوعات السينمائية، مع إلمام واضح بصناعة السينما
وآليات إنتاجها، فتلحظ ولاءه وعشقا للسينما، وجدية في تناول وتحليل الأفلام، بشكل يفوق الكثير من المقالات الجادة في الوقت الحالي، أي بعد قطع
أشواط وعصور في الكتابة النقدية.
تجده يقسم مقاله المستفيض لعدة عناصر؛ كتتابع المشاهد أوالسيناريو أو الإخراج أو المعالجة السينمائية أو الألوان أو المونتاج أو البناء الفيلمي أو
الدرامي، شخصيات الفيلم، المكان، دراما التصوير، التمثيل، التكنيك، أو يعقد مقارنة بين الأصل الروائي والسيناريو، أيهم كما يفرضه التناول النقدي
المستوفى.
ما يفعل اليأس بالحالمين ..
كثيرا ما يصاب الحالمون الصادقون بالإحباط، بقدر شخصياتهم الثورية، فهم يسعون للأفضل والأرقى دون مساومة، فإذا ما ضيق على تساميهم قد
يؤثرون الانعزال، ويبدو أن تزايد الضغوط بعد تغير إدارات هيئة الثقافة الجماهيرية وتغير المناخ الثقافي في زمن الرئيس السادات، لم يتمكن أو يقبل
فتحي فرج التواؤم معه، فآثر الرجوع لوظيفته في وزارة المالية، ثم هاجر بعدها إلى السعودية عاملا في دور النشر لسنوات طويلة، تاركا مشروعه
النقدي ناقصا كما قال الأستاذ سمير فريد" كان فتحي فرج من ألمع أبناء جيله وأكثرهم ثقافة، لكنه لم يحقق ما كان يريده، وظل مشروعه النقدي ناقصا
حتى وفاته، ولذلك لم يجمع مقالاته وأبحاثه ولم يصدر له سوى كتابين أحدهما مترجم والثاني عن علي الغزولي". وهو ما جعل الأستاذ سمير فريد يفكر
بعد وفاة صديقه العزيز، في جمع ما استطاع من مقالاته ودراساته وتضمينها في كتاب أعده وقدمه بعنوان "كتابات مختارة للناقد السينمائي فتحي فرج"
صدر عن سلسلة آفاق السينما بالهيئة العامة لقصور الثقافة، بحيث تضمن الكتاب مقدمة تشتمل على مقالين كتب واحد منهما صديقا فتحي فرج الأستاذين
سمير فريد وأمير العمري، تلاها سبعة فصول، ست منها كتابات لفرج عن أفلام مناطق مختلفة، قسمت على أساسها الفصول إلى أفلام مصرية طويلة،
أفلام مصرية قصيرة، أفلام عربية، أفلام أمريكية، أفلام من غرب أوروبا ثم من شرق أوروبا ثم خمسة مقالات في فصل أخير تحت عنوان
"الغاضبون"، وهي تلك التي نشرت في مجلة جماعة السينما الجديدة باسم "الغاضبين" في مجلة الكواكب، حوالي 39 مقال عن أفلام وأربعة عن السينما
وهمومها.
وها أنا الآن أتعرف على كتاباته من هذا الكتاب، لأكتب عنه وكأني عرفته، وقد رحل عام 2001 بعد توليه رئاسة جعية نقاد السينما المصريين
بعامين، فتوفي رئيسا لها وقد بذل من أجلها بصدق وشغف الكثير، حبا في السينما وبحثا معها وفيها عن الحقيقة والعالم الأجمل الذي عاش يحلم بهما
وناضل من أجلهما.

******

مصادرأساسية :
كتاب "مقالات مختارة للناقد السينمائي فتحي فرج" للأستاذ سمير فريدمقالات متفرقة للناقد الأستاذ أمير العمري

 
 
 

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات