العشرة المبشرون بالنقد في تلك السنوات المباركة

إبراهيم العريس 22 مارس 2023 جمعية نقاد السنيما المصريين

الكاتب : إبراهيم العريس
عندما سيقول عنا البعض ونحن في عز ألفتنا وصداقتنا أننا نكاد نمضي معظم وقتنا في المهرجانات والمناسبات في النميمة على الآخرين وربما على بعضنا البعض، سيضحك علي أبو شادي الذي كان يُعتبر عادة زعيم فريقنا من النمامين لا ينافسه في ذلك إلا أنا وقصي صالح الدرويش، سيضحك ويقول: "وماله؟ ما هو النقد الحقيقي نوع من النميمة.. واللا إيه؟". والحقيقة أن أبو شادي لم يكن في ذلك بعيدا جدا عن مفهومنا للنقد. مفهوم كنا نعتبره قمة في العلم والنزاهة. أليست النميمة في أجمل وجوهها وأشدها غربلة لعيوب الآخرين وربما في محاولة لـ"إنقاذهم من العيوب"؟


عندما سيقول عنا البعض ونحن في عز ألفتنا وصداقتنا أننا نكاد نمضي معظم وقتنا في
المهرجانات والمناسبات في النميمة على الآخرين وربما على بعضنا البعض، سيضحك علي
أبو شادي الذي كان يُعتبر عادة زعيم فريقنا من النمامين لا ينافسه في ذلك إلا أنا وقصي صالح
الدرويش، سيضحك ويقول: "وماله؟ ما هو النقد الحقيقي نوع من النميمة.. واللا إيه؟". والحقيقة
أن أبو شادي لم يكن في ذلك بعيدا جدا عن مفهومنا للنقد. مفهوم كنا نعتبره قمة في العلم
والنزاهة. أليست النميمة في أجمل وجوهها وأشدها غربلة لعيوب الآخرين وربما في محاولة
لـ"إنقاذهم من العيوب"؟
بالنسبة إليّ كنت قبل ذلك قناصا وحيدا أكتب و"أناضل" بمفردي وعلى طريقتي الخاصة؛
ونادرا ما كان يحدث لي في المهرجانات والمناسبات السينمائية أن أختلط بالآخرين ولا سيما
بالنجوم الذين رغم حبي واحترامي لهم واعجابي بكثر منهم كنت أمارس ذلك كله من بعيد، ولا
أرى فائدة من الإختلاط بهم بالنظر إلى أن تجاربي في العمل السينمائي قبل أن أتحول إلى ناقد،
علمتني أنهم لا يتلاطفون مع الناس إلا بحسب ما تمليه عليهم مصالحهم. لكن هذا كله سوف
يتبدل لاحقا وعلى مرحلتين، أولاهما حين التقيت سمير فريد في بيروت في مكتب المناضل
الشيوعي كريم مروة وكنت قد اعتدت قراءته في "الطليعة" التي كانت كتابي المقدس حينها
ولاحظت كم تتشابه أفكارنا ولكن ليس إلى درجة أن يكون لقاؤنا الأول في مكتب ذلك الزعيم
الشيوعي الكبير؛ وثانيتهما في القاهرة حين استجبت بعد تردد لدعوات قصي صالح الدرويش
للتعارف. كنت أتحاشاه قبل ذلك أولا لأنه "يضحك كثيرا" - وهذه ستكون لاحقا إحدى التهم
التني وجهتها إلي مخابرات زين العابدين بن علي في تونس! كتبرير لمنعه من دخول هذا البلد
لأسباب أخرى لم يشأ النظام الإفصاح عنها-، وثانيا لأنه يمضي معظم وقته مع "النجوم" هو
المرتبط بصداقات مع ليلى علوي ويسرا ومحمود عبد العزيز ونور الشريف وعدد كبير غيرهم
من نجوم السينما المصرية والعربية. والحقيقة أن تعارفي مع سمير فريد جرني إلى علي أبو
شادي وكمال رمزي وهاشم النحاس ثم كرت المسبحة في مصر، فيما جرني تعارفي مع قصي
إلى غسان عبد الخالق ورهط كبير من النقاد والسينمائيين الجزائريين والمغاربة.
في الشهور الأولى لتحولي إلى فرد في تلك المجموعة ورغمي إعجابي بها أفرادا وجماعة،
أحسست بالكثير من الإمتعاض. ولكني بعد ذلك لم أندم أبدا. ليس لأنني اكتشفت جدية هذا العالم
ولطفه بعيدا من البريق المفتعل، بل بالتحديد لأنني أنا بدوري سرعان ما تعلمت كيف أضحك
واستمتع بوقتي ثم كيف امضي ساعات وساعات مع "النجوم" في كان أو القاهرة، في قرطاج –
قبل منعي أنا الآخر من دخول تونس وأيضا وعن جد هذه المرة بتهمة أنني أضحك كثيرا-.
وكنت مع هؤلاء النجوم أحكي عن السينما، هوايتي المفضلة فأكتشف كم أنهم يفرحون بالجلوس
إلينا نحن النقاد لنحدثهم عن السينما والنقد حديثا لم يكن في وسعي أن أحدس قبل ذلك بأنه يمكن
أن يكون عميقا ومثقفا! لم أكن أتوقع من ليلى علوي أو يسرا؛ من محمود حميدة أو لبلبة أو

محمود عبد العزيز أو نور الشريف أن يكونوا هم وعدد آخر غيرهم، من الفضول وحب
المعرفة والشغف بالسينما على مستوى رضوان الكاشف أو محمد خان أو أسماء البكري ثم
لاحقا مجدي أحمد علي وداود عبد السيد، فكيف وقد رأيتهم يفحمون توفيق صالح وربما يوسف
شاهين أحيانا؟. أمام ذلك الواقع الجديد كان من الطبيعي أن أندم على كل ما عشته من سنوات
عجرفة وترفع وعزلة قبل ذلك!
وأنا لئن كنت أركز هنا على الجانب المصري من الحكاية فما هذا إلا لأنه الجانب الذي اكتمل
لدي قبل غيره. فهو كان الأرضية التي راحت تنبني عليها العلاقة مع المغاربة نور الدين صايل
واحمد بهاء الدين عطية ونجيب عياد ولكن ليس طبعا مع خميس خياطي الذي سبقت علاقتي به
علاقتي مع هؤلاء جميعا وإن كنت أراه على الدوام واحدا من الذين أصبحوا يلقبون بالعشرة
المبشرين بالنقد حتى وإن لم يتمكن أبدا لا من الإلتقاء بنا كثيرا ولا من السير على منوالنا في
اتباع درب النميمة. ومثله كان مصطفى المسناوي، الكاتب والناقد السينمائي المغربي الذي أفلت
من بين أيدينا ذات يوم كئيب في القاهرة فرحل قبل أوانه. ولكن على عكسه نايلة الغربي التي
وفرت الجانب الأنثوي من الحكاية كلها وكأنها تقيم في الوقت نفسه وهي التونسية المشهود لها
بالإستقامة وخفة الدم، توازنا بين المغرب والمشرق الذي كانت تمثله و"تبيّض وجهه" خفة دم
السورية ديانا جبور التي كانت باكرا من مجموعة "العشرة" وربما لاتقانها النميمة أكثر من
الآخرين حتى!
الآن قد تبدو مكتملة بالنسبة إلى القاريء الصبور صورة أولئك العشرة الذين اعتكف بعضهم
ورحل البعض الآخر عن عالمنا – رحل معظمهم في الحقيقة -. العشرة الذين كان عددهم يزيد
قليلا في بعض المناسبات ويقل في مناسبات أخرى. لكن معظمهم كانوا يؤمّنون النصاب خاصة
في مهرجاني "كان" و"القاهرة" من ناحية الضحك ومن ناحية النميمة ولكن أيضا في بعض
الأحيان من.. ناحية السجالات النقدية! فنحن في نواتنا الأساسية نكتب عن الأفلام ونحب الأفلام
ونستمتع حين نكون داخل الصالة في المهرجانات متراصين إلى جانب بعضنا بعضا حريصين
على ألا ندع من هم في غير فريقنا على مخالطتنا. فنحن كنا أشبه بطائفة منغلقة على ذانها
تسمح للأذكياء، وربما للحسناوات، فقط بالدنو منا ولكن ليس حين نكون داخل الصالة لمشاهدة
فيلم مهرجاني. ولئن كان "أعداؤنا" و"حاسدونا" يعتقدون دائما أننا كنا نمضي وقتنا معا في
النقاش حول ما نشاهد من أفلام، سأكشف لمن بقي منهم على قيد الحياة "سرا خطيرا": كان من
النادر لنا أن نتناقش حول فيلم قبل أن نكتب عنه وننشر مقالنا، وليس خوفا من سرقة ما أو من
توارد أفكار بل لأننا كنا نرى أن فعل الكتابة عن فيلم ما عمل فردي وشديد الخصوصية. وأنا
شخصيا ما زلت على رأيي هذا حتى اليوم ويبدو أنني لن أبدله. ولكن، غالبا على سبيل مزاح
ماكر كان يحلو لنا أن نمارسه أنا ونور الدين صايل، كنا حين نخرج من فيلم ما، نروح في
نقاش حوله بصوت عال في بهو الفندق وفي المقاهي متصرفين كأن لا أحد يسمعنا. وكان
النقاش كله خطأ في خطأ كأن ننسب فيلما ما إلى الأسلوب البريختي وهو منه براء، أو أن
نتحدث عن سرقات من غودار وما إلى ذلك. ولما كانت للصايل ولي مكانة محترمة بين من
يكتبون عن السينما، دون أن تكون لنا في المقابل سمعة المازحين الكاذبين لأن تلك كانت حديقتنا
السرية، كانت "أفكارنا" الهزلية والتافهة في الحقيقة سرعان ما تنتشر في سجالات نسمعها
بآذاننا بل حتى نقرأها في مقالات لهم في اليوم التالي.

هكذا عشنا بشكل عام تلك المرحلة. ولكن من نحن؟ ومن أين أتينا؟ بكل بساطة كنا جميعا بشكل
أو بآخر آتين من خيباتنا اليسارية دون أن نتخلى عما كنا نراه "قيم اليسار الأخلاقية على الأقل".
كنا ما نزال نريد تغيير العالم رغم كل شيء. بعضنا – المصريون من بيننا خاصة - أتى من
بين حواريي يحيى حقي في ندوة الفيلم المختار في مصر، وبعضنا أتى من حركة نوادي السينما
في تونس والمغرب، والبعض الآخر من تراث نضالات الثورة الجزائرية. وكان من بيننا
البعثيون المرتبطون بحنين ما إلى يسار البعث الذي عرف ذات يوم في دمشق أن ينظم مؤتمرا
يعلن خلاله ولادة "السينما البديلة". لكن نلك الولادة توقفت يومها هنا فقط ولم تكمل الطريق
وحسنا فعلت وإلا لازدحمت الأرض بالقبضات المرفوعة والشعارات البلهاء. في المقابل كان
هناك من أتى من تجارب شيوعية أو يسارية متطرفة، ناهيك بالذين كانوا كل ذلك في الوقت
نفسه ومنتمين إضافة إليه، إلى الثورة الفلسطينة نضالا وإيمانا ولكن على سبيل المصلحة أيضا.
وبين هؤلاء وأولئك كان عالم النقد السينمائي يعج بعملاء، حقيقيين أو مفترضين، لأنظمة
إيديولوجية حاكمة ولا سيما في العراق وليبيا. وطبعا لم يكن العشرة المبشرون بالنقد هؤلاء
جميعا بل كانوا هم وخصومهم أيضا من شكّل ذلك العالم العجيب. عالم رواد آفاق لا يبالون
بانتماء وطني منغلق أو هوية قاتلة... كان يجمعهم في نهاية الأمر حب السينما وربما القدرة
على أن تكون مصدر رزق لهم. ويا حبذا لو اجتمع هذان الجامعان معا. وربما يكونان قد اجتمعا
لاحقا حين تكاثرت المهرجانات الخليجية وتكاثرت أموالها وتحول النقاد، ومن بينهم من كان من
جماعة العشرة إلى موظفين فيها ومقاولين لحسابها! كان هذه حكاية أخرى بالطبع.
ولكن أين السينما في ذلك كله؟
حاضرة تماما. ولا سيما لدى النواة الصلبة من العشرة المبشرين أو لدى "خصومهم" ولكن
خاصة لدى النجوم الذين كنت أنا شخصيا قد اعتدت على حبهم والحوارات الطويلة معهم. وهي
ربما كانت الحوارات السينمائية الأكثر جدية التي خضتها في حياتي على أية حال!
وفي الأحوال كافة، كانت تلك السنوات وقبل أن تنفرط، بعض أجمل سنوات حياتي. لكنني لا أنا
ولا رفاقي العشرة – ودون تشديد على دقة الرقم من فضلكم!- كنت أو كنا نعرف أن الزمن
سوف يكون لنا بالمرصاد. الزمن الذي تضافر مع التغيرات التقنية وجملة الأحداث التي توالت
علينا مع بدايات الألفنية الجديدة حتى ينتهي كل شيء. لقد انفرط ذلك العقد الذي يمكنني أن
أصفه اليوم بأنه كان "عقدا فريدا" بالمعاني الثلاثة: عقدا من الجواهر على طريقة إبن عبد ربه،
وعقدا من السنين بالنظر إلى أن تلك السعادة لم تدم سوى عقد وبعض عقد من الزمن، وعقدا
توافقيا بيننا نصّ على أن نعيش إلى الأبد ونحب السينما إلى الأبد ونكتب عنها إلى الأبد. ولكن
معظم "العشرة" - ومعظم من كانوا خارج "العشرة" ومن أحبهم إلينا طبعا رفيق الصبان الذي
كان دائما هدف نميمتنا مشاركا فيها مقهقها بطيبة قلبه – سرعان ما أخلّوا بالعقد الأخير ففارقونا
تباعا. رحل غسان عبد الخالق وتبعه قصي صالح الدرويش ثم سمير فريد وعلي أبو شادي
ومصطفى المسناوي فنور الدين صايل، واختفت ديانا جبور في غياهب العمل الوظيفي وكذلك
فعلت نايله الغربي واعتكف كمال رمزي. ولكن على الهامش أيضا رحل محمد خان بعدما كان
رأفت الميهي وتوفيق صالح وعاطف الطيب وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وأسماء البكري
ولا سيما رضوان الكاشف الذي كان دائما رجلا هنا ورجلا هناك.. فهل أتابع هذه اللائحة التي
أخاف أن تطول أكثر مما تحتمل أعصابي؟

رحلوا أو غابوا أو اعتكفوا بل تبعهم من أبناء الجيل التالي أحباء لحقونا في أيامنا الأخيرة مثل
بشار ابراهيم بالموت المبكر والمؤسي، فهل عليّ أن اتساءل عمن يمكن أن يملأ الفراغ الذي
تركوه؟
على الإطلاق! بالنظر إلى أنه كما اعتادت الطبيعة أن تسوي أمورها تمكن الزمن في مجالنا هذا
من أن يسوي الأمر. مع اختفاء كل هؤلاء النمامين النقاد السينمائيين الطيبين الماكرين، ها هي
"المهنة" نفسها تختفي. بل ها هي السينما كفعل اجتماعي تختفي وها هي الصحافة كحيز تنتشر
فيه السجالات حول السينما وأحلامها تختفي. لقد عرف ميشرونا العشرة وبعض الرفاق الآخرين
كيف يوضبون متاعهم ويغادرون في الوقت المناسب تماما حتى دون ان يعوا تلك المصادفة
التاريخية كما كان يجدر بهم أن يفعلوا. ونحن معشر المتبقين منهم لمجرد أن نتذكرهم ونتذكر
مقالبهم وضحكاتهم ومكرهم ونميمتهم، حتى وإن كان قد آن الأوان لنسيان إنجازاتهم السينمائية
التني يمكن المجادلة على أية حال بشأن قيمتها وأهميتها بالنسبة إلى تاريخ السنما، لا بد لنا من
أن نذرف عليهم سواء كانوا راحلين أو مجرد معتكفين أو مختفين لسبب أو لآخر، دموعا تتقاطع
مع ضحكات كانوا يعرفون كيف يضحكونها فتعلن عن حضورهم هنا أو هناك، إلى درجة أننا
كنا ذات مرة نحضر عرضا هزليا للفنان عادل إمام الذي عرف ذات حين كيف ينضم إلى
مجموعتنا لكنه سرعان ما استنكف عن ذلك، وخلال العرض دخلنا متأخرين وراح قصي وقبل
وصولنا إلى القاعة نفسها، يضحك بصوته العالي وقهقهته المجلجلة، فصرخ إمام من على
الخشبة: "هوه قصي وصل والا إيه؟" ولا شك أن كثرا من متفرجي "الزعيم" اعتقدوا أن تلك
العبارة جزء من المسرحية ولكنهم لأنهم يؤمنون بكل ما يفعله نجمهم وما يقوله لم يتساءلوا بعد
ذلك عمن هو قصي ولماذا اختفى بعدما كان سجل حضوره بضحكته وبالعبارة التي أطلقها
ممثلهم المفضل.
حسنا سأجيب الآن: لقد اختفى قصي لأنه ما كان يمكنه أن يعيش في عالم اليوم الخالي من
الضحك ومن الحياة والذي لم تعد النميمة ممكنة فيه!

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات