الكاتب : اية طنطاوي
كونتين تارانتينو: الكتابة تشبه الرحلة والشخصيات بوصلة الطريق
يكتب كونتين تارنتينو أفلامه كما يمشي في طريق طويل، هكذا يصف علاقته بالكتابة، يكتب مشهدًا تلو المشهد كما يضع قدمًا تلو قدم، يضع خطواته الأولى للأمام، ثم يترك الشخصيات تقوده إلى الأحاديث التي تريدها والأفعال التي يتولد منها الدراما، وهكذا تنساب معه الحركة فيصل إلى نهاية السيناريو، نهاية الطريق. لا يتبع تارنتينو منهجية معينة في بناء السيناريو فهو يعرف المحطات الرئيسية التي ستمر بها الشخصيات، يعرف البداية والنهاية وملامح الرحلة، ويشرع في الكتابة تاركًا الأحداث تقود بعضها بعض.
سينما تارنتينو زاخرة بالشخصيات التي لا تنسى لأنك قلما تجدها في الواقع، كما أنها تحمل فلسفة خاصة تمشي على قدمين، عندما تحدث تارنتينو عن الشخصيات قال: "يجب أن تكون الشخصيات صادقة مع نفسها، وهذا شيء لا أراه كثيرًا في أفلام هوليوود، بل أرى شخصيات تكذب طيلة الوقت.. بالنسبة لي الشخصية لا تستطيع أن تفعل شيء جيد أو سيء، يمكنها فقط أن تفعل شيئًا حقيقيًا أو لا."
يدفعني حديثه السابق إلى التساؤل عن الكيفية التي يكتب بها تارنتينو شخصياته؟ بالأحرى كيف يقتفي أثرها؟ ومن أين يأتِ بها؟ عندما كان صغيرًا تأثر تارنتينو بأسلوب الروائي الأمريكي إلمور ليونارد، وما جذبه تحديدًا في أدبه هو شخصياته والطريقة التي يتحدثون بها، فهم بحد وصف تارنتينو لا يتحدثون عن الأشياء بشكل مباشر بل يلتفون حولها، ينحرفوا عن الموضوعات الأساسية ويغرقوا في الاستطراد، تمامًا كما يتحدث الناس في الواقع. يمكننا القول أن هذا هو المنهج الذي اتبعه تارنتينو لاحقًا في كتابة الحوار. عندما يكتب تارنتينو شخصية ما فهو يبحث عن صوتها بداخله، أو بداخل شخصية يعرفها عن قرب، التقاها يومًا، قرأها في رواية أو شاهدها في فيلم، لكن عندما سُئل عن أفضل شخصية كتبها قال "ميا" بطلة فيلم Pulp Fiction، واللافت أنها شخصية "لا يعرف كيف ظهرت له" يتحدث عنها تارنتينو بمحبة عاشق إلتقى بحب حياته في زحام حفلة ما فإنجذب لها دون تفكير، هي لا تشبهه ولا تشبه أحدًا يعرفه ولا حتى تقترب من شخصيات سينمائية شاهدها من قبل، كأنها جاءت له خصيصًا فتشبث بها وكتبها، ولهذا السبب تحديدًا هي أقرب شخصياته لقلبه.
يخلص تارنتينو لشخصياته كثيرًا، لا يفكر فيها فقط ليكتب مشاهد الفيلم، بل يهتم كثيرًا برسم حياتها وفهمها بالكتابة عنها، لذلك هو يملك خلفيات درامية لشخصياته، هذه الخلفيات ليست محض ملاحظات عابرة لكنها أقرب لنصوص نثرية طويلة، إنه سرد موازٍ للسيناريو، نص بداخل النص أو كتاب داخل الفيلم كما يصف تارنتينو، كتاب إرشادي لفهم الشخصية لا يعني الجمهور بقدر ما يعني الممثل لفهم شخصيته التي يؤديها. الأمر ينطوي على الكثير من المتعة خاصة إذا عرف الجمهور معلومة كهذه، ليقرأ أكثر عن الشخصيات ويفهم أشياء لم تحدث على الشاشة لكنها حتمًا كتبت بخط تارنتينو على الورق. بهذه الطريقة يقتفي تارنتينو أثر شخصياته لترشده لإستكمال طريق الكتابة.
آرون سوركين : تعاطف مع شخصياتك واخلق من حواراتهم معارك متناغمة
قبل أن يشرع في الكتابة يخلق آرون سوركين حالة من الاشتباك مع محيطه ليحفز أفكاره، يتجول بسيارته في شوارع المدينة، يدور حول نفسه في الغرفة، يستحم، ولا يبالغ عندما يقول أنه يستحم ما يزيد عن الست مرات يوميًا لكي ينشط أفكاره، كما أنه لا يغفل الاستماع إلى الموسيقى، ببساطة يتعمد أن ينغمس في انفعالات وحركة جسدية يعود بعدها إلى مكتبه نشيطًا مرتديًا ملابس جديدة، في هذه اللحظة تبدأ الكتابة، وتتشكل شخصياته على الورق.
لا يتحرك سوركين من الشخصيات بقدر ما يقف أمامها ليفهمها. لا يكتب الشخصيات التي يعرفها والتي تشبهه وحسب، بل يتحرر من نفسه وعالمه ليخلق شخصيات مختلفة عنه وربما لم يقابل مثلها في حياته فقط ليمنحها صوتًا تحكي به، وما يحرك الكاتب بداخله تجاه الشخصيات هو تعاطفه الشديد معها، هذا التعاطف هو الذي يمنح الحوار على لسانهم منطقًا يدافعون به عن أنفسهم. لا يهم أن تكون الشخصية شريرة أو مخطئة، المهم أن يكون لها منطقها وتحمل أوجه التناقض الإنساني الذي يجعلها حقيقية. يؤكد سوركين أن "التعاطف" هو مفتاح الكاتب الأول لفهم شخصياته، وعلى صعيد أخر يحذر الكٌتاب من التفكير في شخصياتهم بصفات الخير والشر، فالكاتب الجيد في رأيه لا يحكم على شخصياته بل يزرع فيها ما يجعلها تتماس معه. يقول سوركين "اكتب شخصيتك كأنها تعرض على الله قضيتها بطريقة تخولها دخول الجنة"
من هنا يسأل نفسه: ما هي رغبات هذه الشخصية؟ ثم يفكر في ماهية العقبات التي تحول دون تحقيقها لتلك الرغبات؟ من هنا تبدأ اللعبة، يزرع الشخصيات في مواجهات ومنها تنشب المعارك، وعلى أرض المعركة تبدأ الدراما وتتشكل الحبكة ويسلم نفسه لإيقاعها.
اشتهر سوركين بحواراته السينمائية التي لا تنسى، بل إن المشاهد لا يحتاج الكثير من الوقت ليدرك أن مشهد المحكمة بين مارك زوكربيرج وصديقه إدواردو سافرين في فيلم The Social Network ومشاهد المرافعات في فيلم The Trial of the Chicago 7 من كتابة آرون سوركين، هذه المبارزات التي تختمر على نار هادئة سرعان ما تشتعل؛ هذه هي الطريقة التي يبني بها سوركين حواراته.
تضعنا مشاهد المبارزات الحوارية الحوارات أمام شخصيات متناقضة، وكل شخصية لها منطقها الذي يحركها وصوتها الخاص الذي يفرض نفسه بقوة في المشهد ويتحول لمدافع شرس. لذلك دائمًا ما نتذكر الحوارات بين الشخصيات في أفلام سوركين أشبه بالمعركة، بل إنها حوارات رنانة بإمكانها أن تعلق في ذهن المشاهد لفترة طويلة. يقول سوركين إنه يكتب بصوته الخاص ولا يستعير صوت آخر، ولا يخجل من إفشاء سره بأنه يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ لا يخلو من الجدالات والنقاشات الحامية، يتشاجر مع نفسه، يختبر وقع الكلمات التي تقولها الشخصيات على أذنه ثم يسأل نفسه: هل هذا صوت الشخصية؟ كيف سيكون تأثيرها إذا قالها الممثل؟ وبماذا ترد عليها الشخصية الأخرى؟ ومن هنا تبدأ ألاعيبه في الكتابة واختبار نغمة الحوار في لحن المشهد. الاختلافات بين الشخصيات هي التي يصنع منها سوركين إيقاع الحوار، لذا لا تخلو حواراتهم من الجمل السريعة القصيرة، مزج الهزل بالجد، وتوظيف وتكرار الكلمات في الحوار الواحد ليخلق وقع مميز على أذن المستمع فيتحول المشهد إلى مباراة كلامية بإيقاع مباراة تنس أكثر منه حوار مرتب على طاولة تفاوض بين طرفين.
داميان شازيل: ملاحقة ما لا يمكن وصفه بالكلمات
تخيل أنك تستمع إلى مقطوعة موسيقية لأول مرة، يأسرك اللحن وتغمرك النشوة، فتلوح بأصابعك في الهواء، يتراقص جسدك تماشيًا مع الإيقاع الحالم، تشعر للحظة أنك سرقت تمامًا من واقعك وانغمست في جو آخر، وعندما ينتهي اللحن تعود إلى لحظتك الحالية منتشيًا ومغشيًا في آن. عليك الآن أن تصف لنا ما شعرت به دون كلمات. تبدو مهمة صعبة لكنك قد تحتاج طرق أخرى غير معتادة في الوصف بدون كلمات.
من زاوية مشابهة وقف داميان شازيل أمام فيلمه الأول Whiplash مفكرًا كيف يسرد قصته ويخلق دراما تتصاعد في مشاهد معينة بدون كلمات، بالصورة والموسيقى يحكي صراعًا بين لاعب درامز ومعلمه كموجة عنيفة تصطدم بصخرة. يمكننا تذكر مشاهد التدريبات بين البطل والمعلم وكل التوتر المشتعل بينهما، كل هذا التوتر لا نذكر منه الحوار بقدر ما نذكر حركة الكاميرا والعزف المرتبك على الدرامز. يقول شازيل وضعت تفكيري كله في الإيقاع، الحركة السريعة والانفعالية للصورة التي يتولد منها إضطرابًا يشعر به المشاهد، هذا يضعنا أمام السؤال الذي يشغل شازيل دائمًا أثناء الكتابة: كيف يجعل المشاهد يشعر بما يشعر به البطل في ذلك مشهد دون أن يلجأ إلى الحوار؟
يمكننا الآن تذكر مشهد العزف الأخير الذي نتج عنه توتر درامي متصاعد دون حوار بين أندرو والمعلم، الأمر كله يعتمد على الصورة وقطعات المونتاج السريعة التي خلقت حالة من الإيقاع المضطرب، وأيضًا مشهد نيل أرمسترونج في فيلم First man عندما اضطربت به المركبة الفضائية أبولو عند الإقلاع الأول إلى الفضاء. كيف ينتقل شعورًا مقتضبًا على الورق موصوف في كلمة إلى شعور متجسد وإحساس يغوص فيه المتفرج ويختبره أثناء المشاهدة، كيف يشعر بالاضطراب الذي شعر به أرمسترونج، وكيف يؤلمه نفس الألم الذي يضرب أندرو وهو يقاتل على آلة الدرامز؟
يصف شازيل مرحلة الكتابة والتفكير في تصميم المشاهد بأنها مرحلة يتحول فيها من صانع أفلام ليكون مهندسًا يبني سفينة أو شيء من هذا القبيل، الأمر كله يعتمد على التفكير في المشهد بصريًا كلوحات منفصلة ثم تجميعها بشكل متجاور تحتاج إلى ضبطها لتصنع فيلمك. لذلك يعتمد شازيل على الميزانسين، يرسم storyboard لمشاهد الفيلم، ينقل على الورق الصورة كما يتخيلها، ومن هنا يفكر في الطرق البصرية التي يخلق منها الدراما، إذا تخيلنا مشهد العزف مكتوبًا على ورق السيناريو هو لا يقول شيء، البطل يعزف والتوتر يزيد على وجه المعلم، الأمر يحتاج إلى سرد موازٍ بالصورة والموسيقى، في Whiplash جاءت الموسيقى قبل الصورة، وبهذا بنى شازيل مشاهده على إيقاع الموسيقى وصمم الصورة على إيقاعها. في الأفلام الموسيقية يكون اللجوء إلى الموسيقى أكثر من الكلام، لذلك يتبع شازيل النظرية الدرامية "لا تخبرني، اظهر لي" والموسيقى هنا هي التي تظهر كل شيء، فيتخلى عن الجمل الحوارية ليضعك في عقل شخصياته الغارقة في موسيقاها الخاصة.
ينتهي الأمر في غرفة المونتاج إلى مقاطع متفرقة، لوهلة يبدو الفيلم فوضى لا نهائية، لكن إعادة ترتيب المشاهد مع الموسيقى يتولد معها إيقاع الفيلم وتتضح المشاهد والرؤيا.
يلاحظ في أفلام داميان شازيل تكرار النهايات الصامتة المفتوحة، صمت يليق بالشعور الذي يخلقه بدون كلمات، يؤكد شازيل أن هذه الطريقة هي المفضلة بالنسبة له في الكتابة، بل يصفها بأنها تخلق ما يسميه "سينما نقية" تنتهي بلطف ولا تنجرف إلى الإفراط في الحوارات التي تزعجه للغاية ولا يلجأ لها في الكتابة، الأمر كله يعتمد على ممثلين بارعين، وحبكة درامية تتصاعد إلى أن تصل إلى نهاية تسمح بالانسيابية عوضًا عن الجمود، وبعيدًا عن الإنجراف في حوارات وخطابات درامية تكسر الإيقاع الحالم.
**
الأخوين كوين: اكتب دون أن تملك أسلوبًا خاصًا
ينفلت الأخوين كوين في أفلامهما من حسابات اللغة السينمائية أو الأسلوب السينمائي الواحد الذي يضعهما في قالب معين، والكتابة لكل فيلم جديد تعني بالنسبة لهما أسلوبًا جديدًا، لا يشبه أعمالهما السابقة، ولا يعتمد بالأساس تكنيكًا ثابتًا في الكتابة. الأمر يبدأ من "كان ياما كان" وعلى هذا المهد تولد القصة.
لا يضع كاتب السيناريو قلمه الأول في الكتابة قبل تحديد نوع الفيلم الذي يكتبه، ومن هنا يسير على نهج النوع، سواء كان كوميديا أو رعب أو نوار، النوع هو الذي يحرك دفة الكتابة، وكل المراحل اللاحقة تدور في هذا الفلك. يمكنني القول أن الأخوين إيثان وجويل كوين لا يتبعان هذا النهج بل يقران أن أفلامهما ليس لديها أسلوب وهو أمر لم يشغلهما من قبل، بل إنهما يتنقلان في الفيلم الواحد بين أكثر من نوع سينمائي، يقف الأكشن إلى جوار الكوميديا، والنوار إلى جوار التشويق. عندما شرع الأخوين في كتابة أول مشاريعهما السينمائية لم يدرسان قواعد السيناريو والبناء الكلاسيكي ذو الثلاثة فصول، بل انجرفا خلف القصة نفسها، ورسم الشخصيات التي تحركها. يقول إيثان "لا يجب عليك اتباع بنية محددة لكتابة سيناريو جيد، فقط اتبع ما تشعر به، حينها تصبح بنيتك جاهزة".
تبدو هذه النصيحة مغامرة كبيرة من شأنها أن تربك كاتب سيناريو درس وقرأ العديد من المراجع التي تعلمه قواعد وأصول كتابة سيناريو جيد إمتثالاً لنوعه، لكن بالنسبة للأخوين كوين فالأمر كله يتمركز في القصة التي تبني نفسها على مهلٍ، والمغامرة الأكبر أنهما يبدأن سرد القصة، وتتابع المشاهد، إلى أن يصلان إلى مرحلة تفرض فيها القصة وضع النهاية. يقول جويل "اجلس واترك قصتك تحدث"، الأمر إذن لا يحتاج قواعد مسبقة، بل الجلوس أكثر داخل عقل إيثان وجويل أكبر فترة ممكنة.
يروق لي تشبيه هذا النوع من الكتابة السينمائية بالزراعة العمياء، أن ترمي بذورًا لا تعرف ماهيتها ثم تنتظر ثمارها، وبعدها تأتي خطواتك اللاحقة في الرعاية والحصاد، تمامًا كما يفعل الأخوين كوين في الكتابة، حيث يتركان الشخصيات على الورق تحرك السرد وتدفعه للأمام. يقول إيثان وكوين أنهما يكتبان الشخصيات ويفكران " ماذا لو أن فلان أو فلان يلعب هذه الشخصية" ثم يتركان الشخصية تنمو وتنضج وتقودهما إلى استكمال خيوط السرد. الأمر إذن ينطوي على شخصية ذات دوافع واضحة وعالم ملامحه مختلفة عن هذه الدوافع، تتورط الشخصية في معضلات أخلاقية، تصطدم بمواقف ساخرة وأخرى صادمة تجعل الحياة صعبة، إلى أن نسأل كيف تنجو الشخصية من كل هذه الأعباء والإخفاقات المتلاحقة؟ هذا ببساطة عالم الأخوين كوين، حيث الحياة تتجلى بكل وجوهها المضيئة والقاتمة.