الكاتب : سارة عابدين
بازوليني
مخرج يصنع الشخصية مثل نحات يصنع منحوتة بضربات أزميل مرتجلة.
مقابلة مع بازوليني أدارها جيمس بلو في خريف عام 1965
ترجمة سارة عابدين
كنت أفكر ماذا يجب أن أسألك. غالبا ما أطرح على المخرجين أسئلة تبدو غبية بعض بعض الشيء. وأنا لا أريد تجنب ذلك، لأن الأسئلة الغبية هي الأسئلة التي نكون بحاجة إلى إجابات. آمل أن تساعدني ردودك في الوصول إلى بعض النتائج لاحقا.
- اسمح لي أن أبدأ بالسؤال قد يبدو ساذجا وه كيف تعمل؟ هل تكون على دراية ولو بشكل غامض بالعمليات المتكررة في عقلك؟ ما الذي يساعدك؟ ما الذي يدفعك عندما تريد العمل، ما هي الخطوات التي تبدأ بها؟
بالنسبة لي لا يوجد فرق بين الفيلم والأدب والشعر. هناك ذلك الشعور الذي لم أتعمق فيه أبدا ولم أفهمه وهو الذي دفعني لكتابة الشعر عندما كنت في السابعة من عمري. ربما كان الدافع والرغبة في التعبير عن الذات، والمشاركة في خلق شيء ما في العالم. عمل يرغمني على الانخراط فيه.
طرحك للسؤال بهذه الطريقة يجبرني على إعطاء إجابة روحانية غامضة. إجابة غير منطقية قليلا، ما يشعرني أنني في موقف دفاعي بشكل ما.
- يجمع بعض الفنانين معلومات حول موضوع ما، مثل الصحفيين قبل البدء في العمل. هل تفعل ذلك؟
نعم. هذا الجانب الوثائقي موجود. كل كاتب يوثق لنفسه من خلال إنتاجه. نظرا لأن كتابتي كما يقول رولان بارت تنتمي إلى المذهب الطبيعي لذلك فأنا أهتم كثيرا بالأحداث الواقعية والأحداث الوثائقية. يوجد في كتابتي مزج بين الواقعية والعناصر الأكاديمية التقليدية والحركات الأدبية المعاصرة.
- من أين جاءتك فكرة فيلم "الإنجيل حسب القديس متى" وكيف بدأت العمل عليها؟
أدركت رغبتي في صنع ذلك الفيلم منذ فتحت الكتاب المقدس صدفة في إحدى المرات وبدأت في قراءة السطر الأول والصفحات الأولى من إنجيل القديس متى. خطرت لي الفكرة بدافع لا يمكن تحديده بوضوح. بالتفكير الهادئ في هذا الشعور وهذا الدافع وهذه التجربة غير العقلانية بدأت القصة تتضح لي. ويحدث ذلك في كل مسيرتي الأدبية.
- بمجرد أن ينتابك هذا الشعور، ما الذي تبحث عنه لتمنح هذا الشعور شكلا ملموسا؟
اكتشفت قبل كل شيء أن هناك خطا دينيا قديما كامنا في شعري. أتذكر السطور الشعرية التي كتبتها في عمر 18 و 19 وكانت ذات طابعا دينيا. أدركت أيضا أن جزء كبيرا من ماركسيتي له أساس غير عقلاني، أساس صوفي وديني. لكن تكويني النفسي العام يجعلني أميل لرؤية الأشياء من وجهة نظر ملحمية. هناك شيء ما ملحميا في العالم. فجأة خطرت لي فكرة الفيلم كملحمة غنائية.
تخليت في الفيلم عن أي نوع من الطبيعية والواقعية وتخليت عن علم الآثار وعلم اللغة. لم أرغب في عمل إعادة صياغة تاريخية، وفضلت ترك الأحداث على حالتها الدينية الأسطورية الملحمية. ملحمة أسطورية.
كنت مضطرا للعثور على كل شيء –الشخصيات والأجواء- في الواقع. كانت القاعدة الأساسية في صناعة الفيلم هي قاعدة القياس. وجدت أماكن مماثلة لفلسطين القديمة بالفعل، ولم أعد بناء المواقع. بحثت كثيرا في جنوب إيطاليا، في المناطق التي لا تزال إقطاعية، كانت هي الأماكن الأقرب في الشكل لفلسطين القديمة.
عثرت على ما أبحث عنه بالتوالي. مثلت القدس القديمة في مدينة ماتيرا دون تغييرها بأي شكل من الأشكال. استخدمت الكهوف الصغيرة الواقعة بين قرية لوكانيا وبوليا كما كانت تماما دون أي تعديلات لتمثيل بيت لحم. وفعلت نفس الشيء مع الشخصيات. اخترت جوقة الشخصيات الخلفية من وجوه فلاحين لوكانيا وبوليا وكالبيريا.
- كيف تعاملت مع هؤلاء من غير الممثلين؟ وكيف دمجتهم في قصة لا تخصهم؟
لم أفعل شيء. لم أخبرهم بشيء. ولم أخبرهم بالشخصيات التي كانوا يلعبونها. اخترت الممثلين لما هم عليه. ولم أطلب من أي شخص منهم أن يحول نفسه إلى أي شيء آخر غير ما هو عليه. كانت الأمور أصعب فيما يتعلق بالشخصيات الرئيسية. على سبيل المثال الشخص الذي لعب دور المسيح كان طالبا من برشلونة. كل ما أخبرته به هو أنه سيلعب دور السيد المسيح. لم ألقنه أي شيء. اخترته لما كان عليه، ولم أرغب أبدا في أن يكون شخص آخر غير ما هو عليه.
- لكن كيف جعلت الطالب الإسباني يتحرك ويتحدث ويتنفس ويقوم بالدور. كيف أخرجت منه ما تتمناه دون أن تخبره بشيء؟
أخبرتني الشخصيات الحقيقية بطريقة درامية بما علي فعله. تمكنت عين الكاميرا دائما من التعبير عن دواخل الشخصية. يمكن إخفاء هذا الجوهر من خلال الممثل المحترف، أو من خلال قدرة المخرج على إخفاء جوهر الممثل وتمثيل الشخصية. في هذا الفيلم لم أرغب في فعل ذلك. تركت الكاميرا تلتقط ماهية الرجل الواقعية كما هو في حياته.
يمكن للرجل المخادع المضلل في الحياة أن يقوم بدور شخص ساذج. لكنني في هذا الفيلم لم أستعن بممثلين محترفين وبالتالي لم أطلب منهم تحويل أنفسهم إلى أشخاص آخرين. طريقتي ببساطة أن أكون صادقا و دقيقا في اختيار الرجال الذين يكون جوهرهم النفسي حقيقيا وصادقا. بمجرد أن اختارهم يصبح عملي بسيطا للغاية. لست مضطرا لأن أفعل معهم ما أفعله مع الممثلين المحترفين، فلا أخبرهم بما يجب عليهم فعله، أو ما لا يجب عليهم فعله، ولا نوع الأشخاص الذين من المفترض أن يمثلوهم. أخبرهم ببساطة أن يقولوا هذه الكلمات في إطار ذهني معين وهذا كل شيء.
بالعودة إلى المسيح، بمجرد أن اخترت الشخص الذي سيقوم بالدور، لم أجبره على فعل أي شيء. قدمت اقتراحاتي واحدا تلو الآخر، لحظة بلحظة مشهد بمشهد. أقول له: أغضب ولا أخبره كيف يغضب. أتركه ليغضب بالطريقة الت يغضب بها عادة دون أي تدخل مني.
لأنني لا أصور مشاهد كاملة مطلقا، يصبح عملي أسهل. اعتبر نفسي مخرجا غير محترف لذلك كان علي دائما ابتكار أسلوب قائم على التصوير لفترات قصيرة جدا. لا ألتقط المشهد بشكل مستمر. حتى إذا كنت أستعين بممثل غير محترف فإنه يبقى قادرا على الحفاظ على الوهم لأن المقاطع تكون قصيرة جدا. وإذا لم يملك القدرة الفنية فهو لن يضيع ولا يتوقف لأن الوقت أقصر من أن يسمح له بذلك.
تمكنت من العثور على شخصيات تشبه المجوس والملاك والقديس يوسف، لكن العثور على شخص يشبه المسيح كان الأصعب. لذلك كنت راضيا بشخص يقترب من المسيح خارجيا وجوهريا. على الرغم من أنني لا أجر اختبارات الأداء، لكنني أجريت اختبار أداء للمسيح ليس من أجلي لكن نزولا على رغبة المنتج الذي أراد الشعور ببعض الأمان. أما أنا أختار الممثلين غريزيا. لم تخني الغريزة حتى الآن إلا في حالات قليلة وخاصة جدا.
- ماذا فعلت مع الممثل الإسباني غير المؤمن لتصل إلى النتيجة التي تريدها؟
لم أفعل شيء. لقد ناشدت حسن نيته. لقد كان شابا ذكيا ومثقفا ونشأت بيننا صداقة، ومع ذلك كان لديه خلفية إيديولوجية ورغبة قوية في أن يكون مفيدا لي وبهذه الطريقة استطاع التغلب على قلقه. جعلته يؤدي الدور في مقاطع صغيرة جدا دون إعداد. أقترح التعبيرات أثناء تمثيله للمشهد. نظرا لأننا كنا نصور بدون صوت كنت أتحدث إلى الممثلين أثناء الأداء. كان الأمر أشبه بـ نحات يصنع منحوتة بضربات أزميل مرتجلة.
- إذا لم تعط الأشخاص غير المحترفين الكثير من الشرح عن الشخصية، فهل تخبرهم بالقصة على الأقل؟
نعم أفعل ذلك في كلمتين فقط حتى أرضي فضولهم، لكنني لا أخوض معهم مناقشات جادة. إذا كان لديهم أي شك حول ما يجب عليهم فعله، أشرح لهم نقطة بنقطة وليس كل شيء أبدا.
- هل تضيف إيماءات معبرة لا تشكل عادة جزء من السلوك الشخصي للممثل غير المحترف؟
لا. لا أجعله أبدا يقوم بإيماءات ليست له. أتركه يستخدم إيماءاته الطبيعية. أخبره فقط بما يجب عليه فعله مثل صفع شخص ما، أو التقاط كوب. لكنني أتركه يفعلها بطريقته وإيماءاته الخاصة. وإذا توجب علي فعل ذلك فأنا أفعله من خلال الكاميرا واختيار المشاهد أو التعديل عليها دون أن أجعل الشخص يؤكد على الفعل.
- بعد تجربتك الإخراجية مع ممثلين محترفين وأشخاص غير محترفين ما الفارق بين التجربتين؟
الاختلاف الرئيسي هو أن الممثل المحترف لديه فنه الخاص. لديه طريقته الخاصة في التعبير عن نفسه، وتقنياته الخاصة التي تحاول فرض نفسها على أسلوبي، ولا يمكنني النجاح في دمج الاثنين. كوني مؤلفا لا أستطيع تخيل فكرة أن أؤلف كتاب مع شخص آخر وبالتالي فإن وجود ممثل محترف يشبه وجود مؤلف آخر في الفيلم.
- ما هي ملاحظاتك حول الخصائص الجمالية والفنية للفيلم من خبراتك التي اكتسبتها؟
- لم أدرس السينما في اي مدرسة. لم يشجعني افتقاري إلى الخبرة المهنية على الابتكار بل حثني على إعادة الاختراع. الشخص الذي يتمتع بخبرة مهنية كبيرة قادر على الابتكار تقنيا. أنا لم أصنع أي اختراعات تقنية. ربما أكون قد اخترعت أسلوبا معينا يسهل التعرف على أفلامي، لكن الأسلوب لا يعني دائما الاختراعات التقنية. لأنني لا أملك خلفية تقنية كانت خطوتي الأولى هي تبسيط التقنية. هذا الأمر مناقض لما أفعله ككاتب، لأنني ككاتب أميل إلى التعقيد. أي أن صفحتي المكتوبة معقدة للغاية من الناحية الفنية. هذا هو القيد الرئيسي لمسيرتي الفنية. أعتقد أن الفترة الأولى من عملي السينمائي على وشك الانتهاء، وتوشك الفترة الثانية على البدء، حيث سأكون محترفا أيضا فيما يتعلق بالتقنية.
- ما الذي اكتشفته عن المعنى الجمالي للفيلم؟
أممم سأقول الحقيقة، الشيء الوحيد الذي اكتشفته هو متعة الاكتشاف.
- أنت تتحدث مثل جودار الآن.
أجبت مثل جودار لأنه من المستحيل الإجابة على السؤال. أنا لا أؤمن بغائية السينما وغائية التنمية والهدف النهائي للتنمية ولا أؤمن بالتحسن. أعتقد أن المرء ينمو ولا يتحسن. التحسن ذريعة للنفاق. أنا مؤمن بالنمو الخالص لكل شخص منا. أرى تطور أسلوبي كنمو مستمر.
- ماذا عن البنية الجمالية للسينما؟
تتميز بنية السينما بوحدة خاصة. إذا ركز الناقد البنيوي على خصائص السينما بين سينما القصة وسينما اللا قصة. لا أعتقد أن هذا التمييز في القصة يؤثر على بنية السينما، لكنه يؤثر على الأسلوب. إن عدم وجود قصة أو وجودها ليس عاملا بنيويا. أعلم أن بعض البنيويين الفرنسيين حاولوا تحليل السينما، لكنني أعتقد أنهم لم ينجحوا في تحديد هذه الفروق.
الأدب فريد من نوعه وله وحدة. تشمل الهياكل الأدبية النثر والشعر ومع ذلك هناك لغة النثر ولغة الشعر، على الرغم من أن البنية الأدبية واحدة. بالطريقة نفسها يكون للسينما هذه الفروق. من الواضح أن بنية السينما واحدة. القوانين الهيكلية المتعلقة بأي فيلم هي نفسها إلى حد ما. فيلم عادي وفيلم لجودار لهما هياكل متماثلة في الأساس. علاقة معينة مع المتفرج، طريقة معينة في التصوير والتأطير. كل هذه العناصر متطابقة في كل الأفلام.
هذا هو الفرق: فيلم جودار مكتوب وفقا للخصائص النموذجية للغة الشعرية. في حين أن السينما الشائعة مكتوبة وفقا للخصائص النموذجية للغة النثر. على سبيل المثال، عدم وجود قصة هو ببساطة انتشار للغة الشعرية على لغة النثر. ليس صحيحا أنه لا توجد قصة؛ هناك قصة ولكن بدلا من أن تروى في تكاملها، تروى بشكل بيضاوي، مع اندفاعات من الخيال والإشارات. إنه روي بشكل مختلف لكن تبقى هناك قصة.
يجب التمييز في الأساس بين سينما النثر وسينما الشعر ومع ذلك فإن سينما الشعر ليست بالضرورة شعرية. يمكن أن يتبنى المرء مبادئ وشرائع سينما الشعر ومع ذلك يصنع فيلما سيئا. وقد يتبنى مخرج آخر مبادئ فيلم النثر ويروي قصة متكاملة ومع ذلك يخلق الشعر.