الكاتب : علياء طلعت
تتضارب مشاعر المشاهد عاشق السينما والمكرس لها تجاه هوليود، فعلى الرغم من كونها الأكثر سطوعًا وسطوة إلا إنها كذلك غزيرة الإنتاج، تعتمد بشكل أساسي على ضخ الأموال من الاستوديوهات الضخمة، ما يعلي في بعض الأحيان السينما كتجارة عن كونها فن، وتقدم كل عام عدد مهول من الأفلام سواء تلك المصنفة A أو B، فتضيع الأعمال الجيدة بين أخرى رديئة أو متواضعة على أقل تقدير.
ولكن السينما الأمريكية على الرغم من تجاريتها الكبيرة إلا إنها تحمل وجهها الفني الخاص، الذي يحتاج دراسة مدققة لكشف أنماطه المتطورة من حقبة لأخرى، وفي كتابه "Reinventing Hollywood: How 1940s Filmmakers Changed Movie Storytelling" قدم ديفيد بورديل هذه الدراسة لحقبة محددة وهي الأربعينيات، ولعنصر معين وهو السيناريو السينمائي.
كيف غيّر صناع الأفلام في الأربعينيات رواية القصص؟
بدأ بوردويل كتابه بسلسلة من الأسئلة: "ما هي الاستراتيجيات السردية المميزة التي ظهرت في الأربعينيات؟ من أين أتت؟ كيف استخدمها العديد من صانعي الأفلام؟ وكيف غيّرت الابتكارات شكل وصوت الأفلام؟ "
بدلاً من التركيز على النجوم اللامعين وقصص ورؤساء الاستوديو في هوليوود في الأربعينيات من القرن الماضي، قام المؤرخ السينمائي ديفيد بوردويل بالتركيز على الأفلام نفسها، وبشكل أكثر تحديدًا، كيفية صنعها.
لم تكن تقنيات سرد القصص في الأربعينيات التي استخدمها الكتاب والمخرجون والمنتجون مثل - الفلاش باك، والمونولوجات الداخلية، والسرد متعدد الرواة، وخطوط القصة المتعددة، على سبيل المثال - جديدة، بل تم إعادة مزجها و التلاعب بها بشكل إبداعي لتوليد ابتكارات سردية جديدة.
ظهرت هذه التقنيات في أفلام اشتهرت بشدة وأصبحت من الكلاسيكيات مثل Citizen Kane و How Green Was My Valley و The Best Years of Our Lives، ولكن أيضًا في أفلام أقل شهرة، وحتى من الفئة B أي الأفلام التي تصنع بميزانيات محدودة فقط لشغل مكان في برامج الأفلام بدور العرض، ولا تحظى بأي تقدير حقيقي.
كان السرد في بدايات السينما الروائية جامدًا، مستمد بصورة أساسية من أصوله المسرحية والروائية، ولكن تطور السرد إلى أشكال أكثر ثراء ءً طوال الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما اختلطت اللغة المرئية للسينما الصامتة مع العناصر الشفوية / السمعية لـ إنشاء أبنية أكثر مرونة في صناعة الأفلام الروائية.
يركز هذا الكتاب على كيفية سرد القصص أكثر من القصص نفسها. ولكن من خلال عزل هذا الجانب الخاص من صناعة السينما، واستنتج بوردويل عبر صفحات الكتاب التي قاربت الـ 600 أن عملية التكرار وإعادة استخدام هذه التقنيات وتطويرها عمل لصالح الفن السينمائي، ليس فقط في الأربعينيات لكن فيما بعدها أيضًا وحتى اليوم.
لماذا الأربعينيات؟
الجزء الأول من كتاب Reinventing Hollywood مقدمة ضرورية لفهم سر أهمية الأربعينيات في تاريخ السينما الأمريكية، فالسينما كما يعلم الجميع بدأت صامتة، وظلت هكذا حتى نهاية العشرينات من القرن العشرين، حيث طورت خلال هذه السنوات الأولى لغتها الخاصة بعيدًا عن الكلام، واستطاع صناع الأفلام بالتدريج وضع الأسس التي تعلمها المشاهد، ولكن فجأة تكلمت الأفلام مع فيلم (The Jazz Singer) عام 1927، وضاعت هذه اللغة السينمائية الراسخة بين فوضى الحوار والمؤثرات الصوتية.
كان على السينما أن تنتظر عقد كامل تقريبًا، حتى يظهر جيل جديد من صناع الأفلام فهموا الوسيط بحالته الجديدة، واستخدموا الصوت بشكل فني، وهي المرحلة الأولى التي تسبق المرحلة التالية وهي تطوير السيناريو السينمائي بعدما ذهب بريق الصوت من العقد السابق، ومن هنا ظهرت أهمية عقد الأربعينيات.
ومثل أي شيء آخر في الحياة، اعتمدت أفلام الأربعينيات على الأعمال السابقة لها، فهي لم تعيد اختراع السيناريو السينمائي، بل طورت ما هو موجود بالفعل، عرض الكتاب وبالأمثلة المختلفة ارهاصات كل تطور سينمائي في الأربعينيات من حقبة الثلاثينيات وما قبلها حتى.
فحقبة العشرينيات وما بعد الحرب العالمية الأولى كانت ثورة من النشاط الثقافي الأمريكي، ليس فقط في السينما، إنما في كل المجالات تقريبًا، ولكن لم تدم طويلًا، فمع الثلاثينيات بدأ ما يُسمى بالكساد الكبير، الذي استمر حتى بدايات الحرب العالمية الثانية، التي على الرغم من ويلاتها العديدة إلا أنها أنعشت الاقتصاد الأمريكي بصورة أو بأخرى، وبالتبعية بدأت السينما الأمريكية دورة جديدة من النشاط، فالمشاهدين الذين لم يمتلكوا في العقد السابق المال الكافي للترفيه مثل السينما، أصبحوا قادرين اليوم على ذلك، فدارت عجلة الإنتاج، التي مثلما أنتجت الغث قدمت السمين.
استمرت هذه الفترة النشطة في السينما الأمريكية حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعودة المحاربين، وبداية مرحلة استقرار جديدة في المجتمع الأمريكي، وبالتبعية في السينما، تغيرت المعادلات، وأصبح الدور الآن على سينما أكثر تقليدية من تلك المنفتحة على التجارب الجديدة خلال الحرب.
ما السينما إلا استعارة كبيرة:
السينما كوسيط ظهر بشكل لاحق عن الوسائط الأخرى استوعب مزاياها وعيوبها، فنجد أن كل من الأدب والراديو كان لهما دورًا كبيرًا في عمليات تطور السينما والسيناريو والحكي على وجه الخصوص، فالراديو الوسيط الصوتي فقط كان عليه أن يطور من آلياته لاجتذاب الجمهور بشكل يومي وساعات متصلة، فجاء عصر أورسن ويلز رائد المسلسلات الإذاعية في ذلك الوقت قبل انتقاله للسينما، واستخدم تكنيك الرواة المتعددون، والفلاش باك، واقتبس من الأدب بكثرة.
لفت كل ذلك انتباه صناع الأفلام، وبدأوا في استعارة هذه الأساليب الطازجة، وتطويرها حتى تتلاءم مع وسيطهم، ومنهم أورسن ويلز نفسه، الذي في أول أفلامه "المواطن كين" إنتاج 1941 طور أكثر من أسلوب في السيناريو والحكي كانوا موجودين بالفعل قبل ذلك في الراديو أو في أفلام سينمائية محدودة، لكنه أطلق لخياله العنان وبالمثل طورت هذا الوسائط الأخرى من نفسها نتيجة للسينما، في علاقة تبادلية طبيعية.
الأدب كذلك شهد جرأة كبيرة في استخدام أساليب سردية جديدة، وكلما قدم أخذ خطوة للأمام، اتبعته السينما بخطوات عدة.
ولكن هذه العلاقة لم تكن ثنائية فقط، بين الوسائط الأخرى والسينما طرف ثالث، وهو الأهم في هذه المعادلة، وأعني به المشاهد، الذي كان عليه أن يتطور كذلك ليفهم هذه الأساليب السينمائية المستحدثة عليه، فعلى سبيل المثال الفلاش باك تم ربطه بعدة أدوات تسهل من فهم المتفرج أن هناك انتقال زمني للماضي، مثل التلاعب في الصورة، أو ربط الأزمنة بموسيقى تصويرية، أو حتى بكلوس آب على وجه الممثل، ينتقل بعدها إلى مرحلة زمنية سابقة مثلما حدث في أفلام Now, Voyager وBrief Encounter وKitty Foyle وThe Affairs of Susan.
ومثل أي اكتشاف جديد تم ابتذال بعض الأساليب الجديدة بالتكرار وإعادة التدوير والاستخدام دون تطوير، مثل فقدان الذاكرة، الذي تم استخدامه بصورة إبداعية في العديد من الأفلام، حتى أصبح التكنيك الجديد في السرد والذي يسمح بمساحة مختلفة في الحكي، كليشيه مكرر بعد عدة سنوات من استخدامه بذات الأسلوب.
توديع البنية الثلاثية العتيقة لبعض الوقت:
رسخت السينما في سنواتها الأولى البنية ثلاثية الفصول المستعارة من المسرح والتي وضع قواعدها أرسطو في كتابه فن الشعر، ولكن في الأربعينيات مل صناع الأفلام هذا الأسلوب في بعض الأحيان، وبدأوا في استخدام بنيات سردية مختلفة، بعضها صدم الاستوديوهات فاستحق القتال من أجله، وبعضها جذب المشاهدين لأنه ابهرهم بجدته.
ففي الأربعينيات ظهر نوع سينمائي جديد هو "قطعة من الحياة" (Slice Of Life) الذي لم يقدم قصة ببداية ووسط ونهاية، وتمهيد وعقدة وحل، بل يتناول فترة زمينة محددة مركزًا على حياة عائلة أو جماعة ما، لنتعرف على طبيعته أكثر دقائقها اعتيادية، ارتبطت هذه الأفلام بالحرب، لرصد قصص العائلات التي غاب عنها أحد ابنائها وتعيش على أمل عودته ومن أشهرها The Human Comedy وMrs. Miniver.
تكنيك آخر في البناء لمع مع فيلم "المواطن كين" وهو الرواة المتعددون، فقدم السرد المتعدد الرواة، من وجهات نظر مختلفة، لإكمال الصورة الكاملة للشخصية محل البحث، واستخدم هذا الأسلوب مرارًا في السينما الأمريكية بعد المواطن كين، في أفلام حتى أكثر خفة، مثل A Letter to Three Wives.
ساهم ناجح فيلم أورسن ويلز إلى تكرار استخدام الرواة مع تنويعات مختلفة، ومع كل فيلم يجرب الصناع، ويتقبل الجمهور، ما يعطي الفرصة لتطور قادم وهكذا.
بالإضافة للبناء نفسه الخاص بالأفلام، هناك تغييرات جوهرية حدثت في الشخصيات الخاصة بها، فبعد تنميط الشخصيات بشكل واسع بين الشر والخير، ظهر البطل الضد، وفيلم النوار النوع السينمائي الذي شهد مجده في الأربعينيات، والذي تميزت شخصياته بالازدواجية بين النور والظلمة، والفيم فيتال أو المرأة المغوية.
إذا كان ما شرحه بوردويل في كتابه يبدو وكأنه سينما اليوم، فهذا لأنه كذلك. وقد فحص ديفيد بوردويل عبر الأمثلة الاتجاهات التي تبلورت في التقاليد السينمائية الأمريكية. وكيف يدين كريستوفر نولان وكوينتين تارانتينو على سبيل المثال اليوم بدين هائل للتجارب السردية في الأربعينيات، وذلك من خلال التحليلات المتعمقة للأفلام الشهيرة وغير المعروفة أحيانًا، من Our Town و All About Eve إلى Swell Guy و The Guilt of Janet Ames، وقيم بوردويل الإنجازات الفريدة للعصر وإرثه لصانعي الأفلام في المستقبل.