الكاتب : علياء طلعت
قبلت هوليود إسهامات النساء في مجالات محدودة للغاية، أهمها التمثيل بالطبع، فعلى الرغم من وجود أفلام كانت متمركزة بشكل أساسي حول بطلات سيدات مثل "ميلدريد بيرس" و"كاميلا" إلا إنها كانت من إخراج مخرجين تخصصوا في هذا النوع من الأعمال، وفي إدارة الممثلات بشكل لافت، مثل جورج كيوكر ومايكل كورتيز.
وظهر عدد محدود للغاية من المخرجات والكاتبات، في العصر الذهبي لهوليود، أشهرن عايدة لوبينو، وذلك حتى أتت صحفية شابة، مطلقة حديثًا للمرة الثانية، واقتحمت حصون هوليود، ليس بأفلام فنية ضئيلة الميزانية، لكن بأعمال تجارية ناجحة للغاية، مع أشهر النجمات والنجوم، إنها نورا إيفرون.
من الصحافة إلى السيناريو
فتاة نيويوركية صغيرة، لأب وأم شكلا ثنائيًا من كتاب السيناريو البارعين، انتقلت معهما في ذروة نجاحهما إلى أرض أحلام، هوليوود في لوس أنجلوس، لكنها كانت تعلم دومًا أنها في غربة لن تنتهي إلا بعودتها إلى نيويورك، وبالفعل انهت دراستها الثانوية، ثم عادت في رحلة مشابهة لما قامت بها بطلة فيلمها الشهير "When Harry Met Sally" وهناك بدأت عملها في الصحافة.
لم تكن رحلتها مستحيلة، لكن طريقها أيضًا لم يٌمهد لها بالورود، ففي منتصف الستينيات كان مكان الفتيات في غرف الصحافة الخلفية، لم يُتوقع من أي منهن الكتابة الحقيقية، أمضت وقتها تعمل في وظيفة صغيرة، حتى أتتها فرصتها الذهبية عندما أضرب الصحافيين عن العمل، وطًلب من الصف الثاني من الكتاب والكاتبات تقديم نسخة ساخرة من الصحف الكبرى، فكتبت مقالًا مشابهة لأحد كتاب النيويورك بوست الشهيرين، والذي لفت أنظار المحررين بهذه الجريدة، فُعرض عليها وظيفة في البوست، لتبدأ مسيرتها الصحفية الحقيقية.
اشتهرت أيفرون بكتابة المقالات بالمجلات والصحف، في مزيج سحري بين الحياة العام، وحياتها الخاصة، الأمر نفسه الذي سيتكرر بعد ذلك في أفلامها كثيرًا، وأعطاها طزاجة واختلاف سواء في الكتابة الصحفية أو السينمائية.
المرأة الباسلة التي ضحكت مع الناس على مأساتها:
كانت السينما طموح نورا إيفرون والكثير من الصحفيين والصحفيات، وبدأت هذه الرحلة في منتصف السبعينيات، عندما شاركت زوجها الثاني الصحفي كارل برنستين في إعادة كتابة سيناريو فيلم "All the President's Men in"، لم يستخدم هذا السيناريو، لكنه كان تجربتها الأولى، وبعد طلاقها من برنستين نتيجة لخيانته لها مع صديقة مشتركة، وعودتها من واشنطن إلى التفاحة الكبيرة مرة أخرى، اكتسب العمل السينمائي لها قيمة إضافية، فكأم وحيدة لولدين، رغبت في عملًا مربحًا ومريحًا أكثر من الصحافة، ولا يتطلب منها الحركة المستمرة والسفر.
وعام 1983 بالمشاركة مع الكاتبة آليس آرلين كتبت أول سيناريو لها يرى النور وهو فيلم (Silkwood) والمقتبس من قصة حقيقية لسيدة شابة، اكتشفت مخالفات في منشأة Kerr McGee Cimarron النووية ثم ماتت في حادثة سيارة في ظروف غامضة، أخرج العمل مايك نيكولز، ومن بطولة ميريل ستريب التي سيتكرر اسمها كثيرًا في أفلام إيفرون منافسة في ذلك ميج رايان.
بطلة إيفرون الأولى كانت امرأة مختلفة عن مثيلاتها في السينما، أم تخلت عن أطفالها لتحصل على استقلالها، تعمل في مفاعل نووي، لتحصل على دخل صغير يكفي بالكاد إعالتها، تعيش مع رجل بدون زواج، ولديها صديقة مقربة مثلية، وعندما تتعرض مع زملائها للضغط من رؤسائهم بشروط عمل مجحفة، وبيئة خطرة، تصبح عضوة في لجنة عمالية.
كان "سيلكوود" البداية المثالية لمسيرتها ككاتبة سيناريو، ترشح لأوسكار أفضل نص سينمائي، وفتح لها بابًا متسعًا للسينما، فكان مشروعها التالي أكثر جرأة، وهو سيرتها الذاتية التي دونتها سابقًا في رواية "حرقة قلب" (Heartburn) ثم حولتها إلى سيناريو سينمائي، قدمت فيه دورها مرة أخرى النجمة ميريل ستريب.
كان لإيفرون منطقًا خاصًا، أن تجعل الآخرين يضحكون معها، بدلًا من الضحك عليها، لذلك بدلًا من البكاء وحيدة على مأساتها وتلقي العزاء والمواساة من أفراد المجتمع الثقافي في نيويورك وواشنطن، استخدمت أفضل خصائصها، وحولت ألمها إلى رواية ناجحة، ثم فيلمًا أكثر نجاحًا.
هذا الفيلم تتويجًا لأسلوبها الذي اتبعته سابقًا في مقالاتها الصحفية، ووضع حياتها الشخصية مركزًا للحبكة ونسج الأحداث حولها، لكن هذه المرة لم تكن بحاجة إلى التخيل، فقد كانت قصتها مثيرة بلا حاجة لأي بهارات وتوابل أدبية، امرأة حامل في الطفل الثاني، يخونها زوجها، مع صديقة مشتركة، اعتبرت هذه الرواية والفيلم انتقامًا فنيًا للغاية، أعطى إيفرون دفعة قوية للأمام.
عبر سيناريو هذا الفيلم عن دقة فهم إيفرون للوسيط السينمائي في عملية اقتباس لرواية كتبتها بنفسها، فاستطاعت الاستغناء عن السرد بالكلمات واستبدالها بالصورة السينمائية، وغيرت في بعض الشخصيات، وهجرت أخرى بخطوطها الفرعية، في حرفية لا يقدر عليها الكثير من كتاب السيناريو المقتبس الذين يضلون طريقهم بين تفاصيل الأعمال الروائية، فتصبح الأفلام مجرد خطاب مرسل يقوله الشخصيات على الشاشة.
عندما قابلت إيفرون سالي وهاري
على الرغم من كتابتها لفيلمين ناجحين، ونجاحتها السابقة في الصحافة وكتبها المنشورة إلا أن الخطوة الحاسمة في أسطورة نورا إيفرون كان مع فيلمها لعام 1989 When Harry Met Sally، افتتحت بهذا الفيلم عقد التسعينيات، وأفلامه ذات النهايات السعيدة والأبطال والبطلات الوسيمين الذين يقعون في الحب، ويلاقون بعض المصاعب، لكن في النهاية يجب أن يعترفا بمشاعرهما، ويعيشان في سعادة للأبد.
يمكن الربط بين أفلام نورا إيفرون والكوميديا الرومانسية بشكل عام في التسعينيات والموجة النسوية الثالثة، وتراجع حركة تحرير المرأة بكل عنفوانها في الستينيات والسبعينيات، إلى عصر أكثر تحفظًا، مع تسائل خفي حول ما جدوى كل هذا الصخب الذي أحدثته النسويات في العقدين السابقين.
فبطلات نورا إيفرون في هذه الحقبة نساء حصلن على مكتسبات الموجتين النسويتين الأولى والثانية، ولكن قررن استخدامها بحكمة، وتنصلن من الراديكالية التي خالطت خطاب النسويات السابق، فسالي بطلة فيلم "عندما قابل هاري سالي" تدري بأن صديقها يستغل السيدات في علاقات جنسية لليلة واحدة معوضًا غياب زوجته السابقة، تلومه لكن في ذات الوقت تتقبل الأمر كأنه طبيعة عادية لدى الرجال، في حين تحافظ على إخلاصها بعد قصة حبها الفاشلة، لأن هكذا تفعل النساء المحترمات في أفلام التسعينيات، التي قاربت العودة إلى وهم عذرية البطلات البريئات.
فيلميها القادمين مع ميج رايان كذلك حافظا على نفس الصورة النمطية للبطلات النسائيات، اللواتي كن على عكس "كارين سيلكود" من أول أفلامها، متحفظات، يعشن في ظل علاقات مستقرة طويلة الأمد، ثم تنهيها هي أو الطرف الآخر قبل أن تنخرط في علاقة مع البطل، الأمر الذي يشجعه المشاهدين بالتأكيد.
ففي فيلم You've Got Mail لدينا جو فوكس الذي قام بدوره توم هانكس، يسلب الشخصية الرئيسية كاثلين متجرها الذي ورثته عن والدتها، ثم يتحايل عليها حتى يسلب قلبها، ممثلًا الرأسمالية المغلفة في وعاء حلو من الرومانسية وخفة ظل البطل، الأمر الذي جعل وضع البطلة كامرأة مهزومة ألطف كثيرًا في عين المتفرج.
مسيرة أفعوانية متقلبة
يرتبط اسم نورا إيفرون بأفلام ناجحة للغاية مثل When Harry Met Sally أو You've Got Mail أو خاتمة أعمالها Julie & Julia ولكن هذه الأفلام لم تكن فقط ما قدمته، فلها 16 فيلمًا سينمائيًا، بعضها شاركت كتابته مع أختها ديليا إيفرون، ونصفها بالضبط أخرجته بنفسها بالإضافة إلى مهمة الإنتاج.
مسيرة نورا إيفرون السينمائية مليئة بالانعطافات الحادة، فبعض أفلامها حازت على إعجاب النقاد، واستحسان الجمهور، وحتى الجوائز السينمائية، لكن البعض الآخر مني بفشل ذريع، وفضل الكثيرون نسيانها تمامًا عند الحديث عنها.
حاولت إيفرون الحفاظ على نفس الخلطة الناجحة من الأفلام الكوميدية الرومانسية التي تتميز بنكهة ناقدة لاذعة قليلًا، وشخصيات ذكية وحوار سريع، استهلمت بعض سطوره من حياتها الشخصية، وبطولة نجوم ونجمات أصحاب شعبية عالية مثل توم هانكس وميريل ستريب وميج رايان، ولكنها لم تكن صيغة ناجحة على طول الخط، فأفلام مثل Mixed Nuts وهو من إخراجها، وCookie الذي صدر في نفس عام When Harry Met Sally لم تستطع الحفاظ فيها على ذات المستوى من الأصالة في أعمالها الناجحة الاخرى، وأصبح حوارها الذكي فوضويًا مع شخصيات غاب عن بعضها المنطق.
المكون السحري الذي استطاع إنجاح الكثير من أفلام نورا إيفرون هو نفسه ما تسبب في نجاحها في الصحافة، أي قدرتها على مزج الخاص بالعام، غرس أفكارها وحياتها وتفاصيلها البسيطة في أعمالها، مثل شغف بطلتي Julie & Julia بالطهي، الأمر المماثل لنورا نفسها التي كثيرًا ما مزجت مقالاتها بوصفات جربتها بنفسها، أو الأيام الأخيرة قبل وفاة والدها في الفيلم المقتبس عن رواية أختها ديليا Hanging Up، خلقت إيفرون عالميًا حميميًا جمع بينها وبين مشاهديها وقرائها، وكلما خرجت منه واتجهت لأعمال مشابهة لتلك الرائجة في هوليود ضلت الطريق.
ولكن حتى اليوم تظل نورا إيفرون من أنجح النساء اللواتي مررن على هوليوود خارج نطاق التمثيل، اقتحمت حصون السينما التجارية، وصنعت لنفسها علامة مميزة، وأفلامًا لا تشبه غيرها، وحتى إخفاقاتها لا يتذكرها أحد بعد الآن.