الكاتب : رحمة الحداد
"أنا رجل الله الوحيد"
يصعب أن تجد رجل كتبه بول شريدر لا يشعر بالوحدة، جميع رجاله فاشلون في العلاقات الإنسانية يميلون للعزلة حتى مع محاولاتهم لكسرها ويملكون شغفا يختلط بمقت شديد للعنف، علاقة بول شريدر بالعنف مثيرة للاهتمام فهو ينقده باستمرار وفي نفس الوقت يميل نحوه وكأنه يجذبه بقوة لا تقاوم، يكتب إثر ذلك شخصيات رجال يريدون التخلص من رواسب الحرب لكنها لا تتركهم، يحاولون التخلص من أعباء أجسادهم لكنها تثقل عليهم، رجال يريدون تغيير العالم حتى وإن كان ذلك يعني التضحية بالنفس وبالآخرين، وفي وسط كل ذلك يشعرون بوحدة لا تعالج، وحدة يشعر بها من يعلم أكثر مما يعلم الآخرين، فيصبح كل رجل نموذج مخلص يسعى للتطهير، ومن أكثر وحدة في العالم من المسيح المخلص نفسه؟
عند الحديث عن شخصيات بول شريدر فإننا لا نتحدث عن مخرج مؤلف، بل مؤلف أولا ثم مخرج ثم مخرج مؤلف، ليس هو من يتحكم بكل عناصر العمل الفني، لكنه يتحكم في أساسه: السيناريو، شريدر هو أحد أشهر كتاب السيناريو السينمائي المعاصرين ولأنه يملك جسد من الأعمال المتحدة موضوعيا والتي تتناول هموم واحدة فإن الأفلام التي يكتبها سواء أخرجها أم لا ترتبط باسمه بجانب أسماء مخرجيها، في مسيرته ارتبط اسمه بأحد أشهر مخرجي أمريكا مارتن سكورسيزي، لكن على الرغم من نجاحاتهما سويا وسيطرة أسلوب سكورسيزي البصري إلا أن اسم شريدر لم ينصهر في وعاء اسم سكورسيزي اللامع، بل يمكن التقاط أساليبه الكتابية والموضوعية في أي مشروع يشارك فيه أو يصنعه، هموم متكررة وملحة، قصص يجمعها أبطال من الرجال في طريقهم لتدمير الذات ويستحيل إيقافهم، رجال يستدعون أيقونات دينية بالغة القدم لكنهم أيضا ابطال هائمون في مدن معاصرة بمشكلات معاصرة مثل الاغتراب والحرب والعولمة، مثل الأشباح يسكنون الليل يشعرون بالخطر بينما يمثلون هم الخطر، رجال ضحايا للسياسات الأمريكية وضحايا للحداثة
هشون وحزينون هم أبطال قصصهم وأشرارها.
البداية
يصعب إن صادفت حسابات بول شريدر الشخصية حاليا على مواقع التواصل الاجتماعي أن تتخيل أنه أحد أساطير السينما المعاصرة وأبطالها، شخصياته تعرف أجيال بأكملها ويبني الرجال حولها شخصياتهم، لكنه حاليا يشبه رجل مسن أبيض يشكو من العالم لمتابعيه ثم يقع في المتاعب، لكن إذا تجنبنا الحكم على شخصيته الحالية ونظرنا في الأفلام التي صنعها والتي لا يزال يصنعها فيمكن دراسة مساحة كبيرة من تاريخ السينما الامريكية وأمريكا نفسها، فهي مساحة لكل ما هو مقدس وما هو مدنس، أرض للحريات والأحلام وللعنف الذكوري الدموي، تؤطر حكايات شريدر ورؤيته للمدينة وللرجال رؤية دينية وهوس بالأيقنة المسيحية، هوس بنموذج المخلص والتضحية الجسدية وبالوحدة التي تصاحب كل ذلك، لكن التربية المسيحية المتشددة التي تلقاها شريدر منعته من مشاهدة الأفلام حتى أصبح في سن السابعة عشر.
ولد بول شريدرعام 1946 لأسرة متدينة وعندما تملص من قبضتها لمشاهدة الأفلام لم تبهره لأول مرة بل أخذ وقته لكي يقع في حب ذلك الفن حقا، وعندما حدث ذلك بدأ دراسة دراسات السينما كناقد وكاتب عن الافلام، واهتم بشكل رئيسي بصناع السينما الأوروبيين والآسيويين، وكتب كتابا عن ياسوجيرو أوزو المخرج الياباني الذي يتبع أسلوب اختزالي وثيودور دراير الدنماركي الذي يهتم بشكل رئيسي بسرديات تتعلق بالإيمان والوحدة البشرية وروبير بريسون صاحب الأسلوب البصري الثاقب والموضوعات الدينية كذلك وهو أحد أكثر صناع السينما تأثيرا على شريدر شكليا وموضوعيا.
كتب شريدر وأخرج حوالي 26 فيلما، كتب فيلمه الأول الياكوزا the yakuza عام 1974 وأخرجه سيدني بولاك، تقع أحداث الفيلم في عوالم مجموعات قتالية معاصرة في اليابان وتتراوح وجهات النظر فيه بين الممثلين اليابانيين والأمريكيين، وفي ذلك الفيلم تطرق شريدر إلى بعض الثيمات التي سوف تلازمه في بقية مسيرته المهنية، منها التضاد بين الشرق والغرب، والاغتراب المديني، وتوابع الحرب، وبالطبع البطل العائد من الحرب محمل بعنفها وتأثيرها الذي لا يمحى، يستدعي الياكوزا طبيعة أمريكا والعنف المتأصل في فيها، فهي أمة بنيت على المجازر الجماعية، في أحد المشاهد تتبادل شخصيتين الحديث حول الفروق بين اليابان وأمريكا فيعلق أحدهما: "حينما ينهار أمريكيا فإنه يفتح النافذة ويطلق النار على مجموعة من الغرباء لكن عندما ينهار يابانيا فإنه يغلق النافذة ويقتل نفسه كل شئ في وضع معكوس"
فتح النافذة وإطلاق النار على الغرباء
على مر العصور المختلفة والمجتمعات المتنوعة لم تملك الرجولة أو الذكورة تمثيل ثابت، لكن النوع الأكثر سيطرة على كل المجتمعات عبر التاريخ هي الذكورة المهيمنة، التي تسمح للرجال بالتواجد في منزلة أعلى في السلم الاجتماعي، تصنع لهم امتيازات أكبر وتحدد أسلوب موحد للتعبير الشخصي عن النوع، فالرجل خشن وقوي وعنيف، لكن هل تلك الامتيازات امتيازات حقا؟ من خلال الذكورة المهيمنة في المجتمعات الحديثة يوجد ما يمكن تسميته الذكورة العسكرية، الذكورة التي تصنعها قيم الجيوش والتجنيد، والتي لا تقتصر ممارستها على وقت الجنود بداخل الجيوش وفي أوقات الحرب بل تمتد إلى حياة الرجال اليومية فيعيشون ذكورة عسكرية بشكل مستمر تتجلى بصور مختلفة حسب الاختلافات الفردية، تمحي الذكورة العسكرية أي آثار للصفات الأنثوية كما تدمر الهوية المدنية للفرد لكي يصبح مستعد لارتكاب عنف يمكن تبريره في وقت حدوثه كما أنه يعطي لحياته قيمة ومعنى فهو يدافع عن بلده ضد عدو ما، لكن ما علاقة هذا ببول شريدر؟ (1)
خلال مسيرة شريدر صنع قصص خلفية لا نراها لأبطاله، لكنه كرر تاريخ محدد لعدة أبطال وهو أن البطل محارب سابق في فيتنام، لا يمكن بالضبط تسمية فيتنام حرب فهي أشبه بهجوم من طرف واحد، مما يجعلها عملية عبثية من العنف والعنف المقابل دون وجود عدو حقيقي، صنع ذلك للكثير من الجنود الأمريكيين العائدين أزمة وجودية كبرى ، وحتى إن لم يكونو من دعاة السلام أو من المنتقدين لسياسات الامبريالية والاستعمار الأمريكي فإنهم على مستوى ما يعلمون أنهم ارتكبو عنف غير مبرر لكن ذلك العنف أصبح جزء من هوياتهم الان بل ويسعون لاستخدامه لمصالح شخصية أو لتحقيق فكرة هوسية تتعلق بتطهير العالم من الفساد، يملك العائد الأمريكي من الحرب احترام من الكثيرين لكنه إذا لم يكن شخص ذو رتبة عالية وامتيازات مادية فإنه فرد عامل آخر يسعى لإكمال حياته وكسب رزقه بعد التعرض لصدمات لا تنسى، يصبح أمريكي مستعد لفتح النافذة وإطلاق النار على الغرباء.
شخصيات مقاتلين سابقين حاملين للسلاح بشكل مدني في أفلام بول شريدر
يمكن رؤية تأثير الذكورة العسكرية في أشهر أفلام شريدر الذي أخرجه مارتن سكورسيزي سائق التاكسي Taxi Driver 1976، عاد ترافيس بيكل ليجد المدينة منتقعة في الفساد، تجهده الأفكار ويجد صعوبات في النوم وعيش حياة طبيعية، يتخذ وظيفة ليلية تشغل وقت الأرق ويحلم بالتواصل الإنساني خاصة مع النساء لكنه فاقد القدرة على التفاعل بشكل سوي مجتمعيا لا يملك المهارات البدائية في التعامل مع الآخر خاصة إذا كان ذلك الآخر من جنس مختلف، نظرا لتجويف عقله من كل شيء عدا كونه رجل عسكري، يطلق ترافيس على نفسه رجل الله الوحيد، يهيم في شوارع نيويورك ويحلم بأن يخلصها من قاذوراتها ولا توجد طريقة يعرفها لفعل ذلك بالطبع إلا استخدام العنف، وعندما يفعل فإنه يصبح بطل حقيقيا بطل يرضي نفسه ربما حتى أكثر من بطولة الحرب.
على الرغم من شهرة وتأثير سائق التاكسي فإنه ليس الفيلم الوحيد الذي كتبه شريدر لبطل حرب سابق يستخدم العنف عندما يعود لبلاده، بعدها بعام كتب الرعد المتقلب rolling thunder 1977 وأخرجه جون فلين، بطل الحرب هنا شارلز رين (ويليام ديفان) يحصل على تقدير أكبر ويقع في طبقة اجتماعية أعلى، هو ليس وحيدا من البداية بل يملك أسرة، لكن تقتل أسرته التي عاد من أجلها أمام عينيه من قبل رجال عصابات، يملك بعضهم لهجة مكسيكية، فيضعهم ذلك في خانة الآخر الأجنبي، يفعل رين وضع الذكورة العسكرية مرة أخرى يسعى للقضاء على هؤلاء الرجال، يجر معه فتاة منبهرة بقوته كعسكري مهووسة بالأداء الرجولي الكلاسيكي تريد أن يتم انقاذها لكنه يعاملها وكأنها لا شيء قطعة تجميلية تكمل أسلحته في طريقه للانتقام وعندما يفعل يشعر برضا شديد عن نفسه كمواطن أمريكي وكرجل، فالعنف هو ماهية وجوده، هو ليس شخصا عاديا بل بطل حرب سابق وأمريكي أيضا وهو ما يعطيه الحق في إفراغ النار دون اللجوء للقانون أو حتى المحاولة.
في آخر افلام شريدر الصادر عداد الأوراق the card counter عام 2021 من كتابته وإخراجه يصيغ بطل وحيد آخر تطارده ذكريات فترة عمله في الجيش واشتراكه في واحدة من أبشع عمليات التعذيب في سجن أبو غريب أثناء حرب العراق، هنا يختار شريدر حادثة يستحيل أن تسمي بطلها بطل حرب فهي ليست قضية إشكالية مثل حرب فيتنام، عوقب ويليام تيل (أوسكار أيزاك) على ما فعل بقضاء سنوات في السجن، وفيها فقد الرغبة في عيش حياة خارج الجدران المغلقة يريد ويليام أن تقيد حريته لذلك يختار أن يقضي أوقاته في نادي للعب القمار حيث لا توجد نوافذ ويصعب الشعور بمرور الوقت، لكن عندما يسعى أحد الشباب الذي انتحر والده بعد اشتراكه في عمليات التعذيب لجر ويليام للعنف مرة أخرى للانتقام من المسئول عن تعليم الجنود تقنيات التعذيب وإخراج المعلومات من المعتقلين، يعود ويليام لذكريات العنف من حين لآخر تنفجر منه شحنة غضب يصعب السيطرة عليها لكنه يحاول باستمرار كبحها، وبدافع الانتقام يرتكب فعل عنف أخير لكي يرتاح مرة أخرى في سجن يحد من حريته، على عكس ترافيس فإن ويليام يملك بعض القدرة على التواصل مع الجنس الآخر لا يشفي ذلك وحدته لكنه يجعلها أقل حدة.
صراع داخل الجسد
كل رجل يكتبه شريدر يعيش صراع مع رجولته، الذكورة هي تعريفه لنفسه وهي ما يدمره في النهاية وكل رجل من هؤلاء هو رجل الله الوحيد، يريد أن يغير العالم مثل مسيح مخلص في طريقه للتدمير الذاتي، لذلك ليست مفاجأة أن يكتب شريدر بالفعل فيلم عن المسيح عيسى نفسه، في اقتباس لرواية نيكوس كازانتساكيس وإخراج مارتن سكورسيزي المثيرة للجدل the last temptation of the christ 1988 ومثل رجاله الآخرين على الرغم من قدسيته ظهر مسيح شريدر وسكورسيزي حائرا معذبا بتوقعات الآخرين منه ويمتد هؤلاء الآخرين إلى الله نفسه، مسيح هش يقع في الإغواء، يحلم بالنساء والأسرة والأطفال، يحلم بفرض السيطرة وتغيير العالم، بتطهير المدينة من كل الدنس لكنه لا يستطيع خداع الوحدة، فبعد كل شئ تجده الوحدة في النهاية ويجد أن التضحية الجسدية هي الطريق الوحيد.
في معظم الأفلام التي كتبها شريدر يوجد مشهد لرجل يمرن جسده عضليا أحيانا أكثر من طاقته، يتحول الجسد النحيل لجسد أكثر قوة قادر على تحمل ما يطلب منه، ويرتبط ذلك التمرين بالتدريب على حمل السلاح واستخدامه أو يكون الرجل خبيرا في استخدام الأسلحة اصلا نظرا لكونه بطل حرب سابق وبعدما كان جزء من جسد ضخم يتلقى الأوامر يصبح حر ذاته، يحاول هؤلاء الرجال التحرر من عبء انعدام التأثير والتأثير في المكان الخاطئ واستعادة لأهلية الكاملة على أجسادهم، وعلى الرغم من تسبب استخدام العنف الشديد تشوه في طبيعة عقولهم وحالتهم النفسية إلا أنهم لا يستطيعون التخلص من ذلك العنف الداخلي أبدا، القوة الجسدية هي حل رجال شريدر في تحقيق العدالة أو في استعادة السيطرة على الذات.
يمكن التقاط قيمة استخدام الجسد في فيلمه الشهير مع سكورسيزي الثور الهائج raging bull 1980 فهو فيلم عن ملاكم جسده هو مصدر رزقه بالمعنى الحرفي، لكن تلك القوة الجسدية والقدرة على ارتكاب العنف تكشف هشاشة عقلية بالغة وهوس حقيقي ورهاب من الفقد أو الخيانة ورغبة في السيطرة على النساء، تفقده تلك الهشاشة جسده الذي دربه واعتز به فترة طويلة فنراه يسير في مهنة مختلفة لا تتطلب قوة عضلية او عقلية ولا تسعفه القوة أو العنف في إنقاذ نفسه أو غيره.
شخصيات في مرحلة تقوية الجسد من أفلام بول شريدر
في فيلمه الأكثر فنية الذي يحكي قصة أحد أشهر الروائيين اليابانيين ميشيما حياة في أربعة فصولmishima: a lif e in four chapters 1985، يصل استخدام الجسد إلى أقصى حدوده، ميشيما فنان شاعر وكاتب لكنه يملك نظرة تربط بين الايروسية والموت والجمال، يرى أن السيف يجب أن يتحد مع القلم يملك هوس بالعسكرية والأفعال الحقيقية الجسدية، ويستغل في كل ذلك التقاليد اليابانية المرتبطة بقتل النفس، يمرن ميشيما جسده لكي يملك قوة تمكنه من تحقيق أهدافه من إيجاد معنى لحياته، بل وينتظر القنابل الامريكية أن تأتي لتدمر الجمال الذي يراه في بلده، في ثقافته يستخدم ميشيما جسده كأداة لتطبيق العنف ووسيلة للتضحية بالذات مثل مسيح ضاق ذرعا بالحياة الأرضية.
يستخدم ارنست تولر (ايثان هوك) في فيلم الكنيسة البروتستانتية first reformed 2017 جسده بشكل تطهيري ديني يستدعي آلام المسيح، ويفعل ذلك في سبيل تغيير وتطهير عالمه، ومثل رجال شريدر تحتل عقله فكرة هوسية بأن في يده القدرة على التغيير أنه إذا تألم كفاية سوف تتحسن الأوضاع الجوية ولن ينتهي العالم، ومثل أي مخلص لا يسمعه أحد لكنه يحدث نفسه في مذكرات لفترات طويلة، وبالطبع هنالك المسيح نفسه في الإغواء الأخير، يحكي الفيلم نسخة متخيلة من حياة المسيح غير مبنية على النصوص الدينية ، هنا المسيح يريد أن يصلب يجد في الألم الجسدي وسيلة لتطهير البشرية، لكنه ليس متأكدا من قراراته تتسارع الأفكار في رأسة تجعله وحيدا حبيسا معها وفي خلال كل ذلك نسمع صوته كراوي يبث مخاوفه وحيرته وكأنه يكتب مذكراته، مثلما نسمع صوت ترافيس بيكل يخبرنا عن وحدته ورغبته في التطهير.
الكتابة بصوت الراوي
صوت الراوي ذلك يمكن تتبعه في الكثير من أفلام شريدر، يستدعي شريدر أسلوب كتابة المذكرات من أحد مخرجيه المفضلين روبير بريسون في فيلمه مذكرات راهب ريفي diary of a country priest ، يحكي رجال شريدر خواطرهم في صورة مذكرات أو في صورة رواية مباشرة داخل الفيلم، تحد وحدتهم من إيجاد شخص آخر يصلح للتواصل المباشر أو بث أكثر الأفكار حميمية فيلجأون للكتابة والحكي، يعلمون أن حيواتهم على وشك الفناء ويجدون ملاذا في توثيقها وتدوينها حتى وإن لم يسمع عنها أحدا، تتراوح تلك الرواية أو الكتابات في جودتها حسب الشخصية، شخصية ميشيما الأديب والشاعر يروي مشاعره بأكثر الصور شعرية ودقة، بينما يتحدث ترافيس بيكل سائق التاكسي عن نفسه بألفاظ واضحة بل وطفولية أحيانا، في حين يبث المسيح أفكاره بمزيج من الهشاشة والقوة يترجى الله أن يريه الطريق ويشكوه في مرات أخرى فتصبح نسخته من الراوي أشبه بصلاة مطولة.
يجعل الاعتماد على صوت الراوي من أفلام شريدر وثائق لشخصيات يصعب الثقة فيما تقوله فهي تتبع أسلوب الراوي الغير معتمد عليه unreliable narrator، لأن تلك الأحداث نابعة من رجال ذوو عقول مهتزة غير متزنة، أفكارهم غير واضحة أو مرتبة رؤيتهم للعالم مشوشة وهم على وشك ارتكاب أعمال عنف مروعة يصعب حتى الجزم بمدى دقة تفاصيلها أو ما إن حدثت من الأساس، نحن نعيش مدة الفيلم بأكمله داخل تلك العقول، يضفر شريدر في كتاباته وجهة النظر الذاتية الحميمية تلك مع العالم الخارجي الأكثر موضوعية مما يخلق عالم أشبه بعوالم الأحلام ويجعل تلك الشخصيات التي يصعب التعاطف معها مثيرة للتعاطف بشكل كامل بل إنها تصبح شخصيات أسطورية على الرغم من أفكارها الغير مقبولة في العالم الحقيقي.
يعيش أبطال بول شريدر في خطر دائم تسببه ذكورتهم، نظرتهم لأنفسهم والمتوقع منهم مجتمعيا، لا يحاول أي منهم أن يكسر القالب لكنه يحتضن تلك الذكور الخطرة حتى تدمره، فالعالم في خطر لأنهم كذلك وهم في خطر للأسباب نفسها،
يمثل تناول بول شريدر لتلك الشخصيات سبب شهرته ونجاحه وكونه واحد من أبرز وأبرع كتاب السيناريو في أمريكا المعاصرة وفي العالم، فهو يملك القدرة على خلق دراسات شخصية متكاملة تجعل السينما ما ينبغي أن تكونه: وسيط يمكننا من فهم الآخرين.
مصادر:
(1) كيف ترتبط الذكورة العسكرية بالعنف في الجيش؟
https://feminism-boell.org/index.php/en/2017/02/08/tough-obedience-how-militarized-masculinity-linked-violence-army