القاهرة .. البطل الضد في سينما الثمانينات

أروي تاج الدين 07 سبتمبر 2022 السيناريو

الكاتب : أروي تاج الدين


لم تكن القاهرة في السينما قبل عام 1980، وهو تاريخ ظهور فيلم محمد خان الأول (ضربة شمس)، سوى مكان تدور فيه أحداث الفيلم دون أن يكون لها شخصية أو كيان له تأثير في مجريات الحكاية أو في تكوين وسلوكيات أبطالها، ولم نرى من شوارعها وأحيائها على شاشة السينما سوى لقطات عابرة، ثابتة في الغالب، لبعض الأماكن الشهيرة بها كبرج القاهرة أو الأهرامات أو حديقة الأسماك مثلاً كأماكن للقاء الحبيبين أو شخصيات الفيلم، لكن أن تتجول الكاميرا في شوارعها وتحاول أن تجد لها ممرًا في الطرق المزدحمة وبين المارة فلم نراه سوى مرة وحيدة عام 1955 حينما أخرج كمال الشيخ فيلمه حياة أو موت وقام بتصوير أجزاء كبيرة منه في شوارع قلب المدينة الصاخبة.
كانت تجربة حياة أو موت مغامرة إنتاجية وإخراجية، إنتاجيًا لكونه نوع مختلف على جمهور معتاد على القصص الميلودرامية فكيف سيتقبل فيلمًا بطلته طفلة صغيرة تتجول في شوارع القاهرة حاملة زجاجة دواء. وإخراجيًا لصعوبة التصوير في شوارع قلب المدينة المزدحمة بمعدات التصوير الضخمة وبين المارة الذين يتجمهرون للمشاهدة، ومع ذلك أخرج كمال الشيخ فيلمًا جذابًا وممتعًا، استمد إثارته من حركة الطفلة الصغيرة في شوارع المدينة وتجاوزها للعقبات النابعة من سلوكيات المارة العاديين بعيدًا عن المعارك الهوليودية المصممة التي كانت تملأ أفلام تلك الفترة.
منذ بداية عقد الثمانينات، انطلق تيار في السينما المصرية جعل من القاهرة شخصية رئيسية في أفلامه، ليس فقط بحضورها المرئي على الشاشة ولكن كشخصية فاعلة ومؤثرة في السرد والشخصيات وصارت الغريم الذي يراوغ الأبطال ويقهرهم في الحكايات السينمائية، أو الشيطان الذي يأكل أرواحهم الطيبة ويُظهر أسوأ ما فيهم. تألقت هذه التيمة في ذلك العقد واستمرت حتى التسعينات خاصة في أفلام محمد خان الذي بدأ هذا التيار ثم أصبحت القاهرة بعدها بطلة أغلب أفلامه، وتطرق إليها مخرجون آخرون مثل سمير سيف وعمر عبد العزيز وعلي عبد الخالق وغيرهم.
في هذا المقال سوف نستعرض نماذج لهذه الأفلام التي صارت تنويعات على تيمة القاهرة كبطل ضد في سينما الثمانينات، واختصمت المدينة التي انعكست فيها بوضوح التقلبات الاجتماعية والسياسية كنتيجة لعصر ما بعد الحرب والانفتاح، فأصبحت تضج بزحام متناقضاتها وتمتص روح الوافدين إليها أو تطرد القاطنين بها.
المدينة الخادعة
كما ذكرت في المقدمة، يعد محمد خان المخرج الوحيد الذي تجسدت القاهرة كشخصية رئيسية في أغلب أفلامه، لذا سوف يتردد اسمه كثيرًا خلال المقال ونحن نناقش تنويعات هذه التيمة، لكن هنا سوف يكون الحديث عن فيلمين من أهم أفلامه أحدهما هو الذي أوجد القاهرة ككيان مادي ومعنوي على شاشة السينما وهو فيلم (ضربة شمس - 1980)، والآخر هو (الحريف - 1983).
تمتد المدينة في ضربة شمس كساحة مفتوحة للبطل يمارس فيها ألعابه التي يجيدها، يظن أنه خبر طرقاتها وتمرس على التوغل في دروبها ولكنها سرعان ما تراوغه وتصير المدينة، التي كان يحفظها عن ظهر قلب، كائن مجهول مبهم وملغز يلقي إليه بألعابه المخيفة حتى تنتصر عليه.
تتجلى فكرة المدينة الخادعة في هذا الفيلم من خلال مشهدين، الأول تتابع مطاردة شمس على درجاته النارية لسيارة الشرطة في شوارع المدينة بدءًا من الدقيقة 36:47 والذي يمتد لأكثر من ثلاث دقائق، نرى من زاوية علوية سيارة الشرطة المحاصرة في زحام القاهرة ثم تتحرك الكاميرا إلى اليمين لتكشف عن وجود شمس على دراجته النارية في الشارع المقابل، يراوغ الزحام بثقة لاعب خبير ليشق طريقه إلى سيارة الشرطة التي تجاوزته فيخترق الأزقة الضيقة التي يبدو أنه يعملها جيدًا حتى يصل في نهاية التتابع إليها، ثوان قليلة قبل أن تلقي إليه المدينة بألغازها.
المشهد الثاني وهو المشهد الأخير بعد انتهاء الليلة المرعبة ومع ظهور أول خيوط الفجر، تتابع الكاميرا خروج شمس وخطيبته من الترام بوجوه جامدة ونظرة ذاهلة، متجهًا إلى كبري المشاه لترتفع الكاميرا في لقطة بانورامية لتكشف عن الشوارع الغارقة في الصمت وعتمة الفجر لتعكس مشاعر شمس الغائمة تجاه المدينة التي كان يدرك مسالكها ولكنها أصبحت الآن مكان يخبئ له المجهول المخيف.
يعيش فارس بطل فيلم (الحريف) على هامش الحياة والمدينة والبناية الضخمة التي يسكن سطحها في قلب المدينة، يطل على شوارعها الواسعة من نافذة غرفته الضيقة، وكأنه لا يعيش فيها واقعيا ولكنه يتفرج عليها من بعيد مثل حال العمارة الضخمة التي يخبره زميله في العمل أنه من ساكني السطوح "يعني ساكن فيها بالإسم بس"، وسط عالم ةمن المهزومين الذين يقطنون أزقة المدينة المترعة بالفقر.
في مشهد قبل النهاية تتحول المدينة التي كان يومًا ما ساحات مفتوحة للعب إلى متاهة تشبه متاهات الفأران، تتقطع أنفاس فارس بحثًا عن مخرج له من بين هذه الأزقة الملتوية المنغلقة ويقف في لحظة حيرة وقلق يبحث عن منفذ للخروج بسيارته من حواريها الخانقة إلى شوارعها الفسيحة، رمزًا لمحاولاته للتغلب الفقر.
القاهرة التي تأكل الوافدين إليها
لم تكن شيطنة المدينة في مواجهة الريف الطيب بفكرة جديدة على السينما المصرية، فقد تمت معالجتها كثيرًا في الأفلام الكلاسيكية مثل (زينب – 1930) إخراج محمد كريم، و(ليلى بنت الريف – 1941) إخراج توجو مزراحي، وفيلم يوسف شاهين (ابن النيل – 1951) .. وغيرها، لكنها عاودت الظهور بتركيز أكبر في فترة الثمانينات وكرست لفكرة الفلاح التي بهرته أضواء المدينة فامتصت القاهرة روحه وأفسدته ببريقها ومغرياتها، أو قهرته وأحبطت أحلامه.
ترتكز فكرة فيلم (غريب في بيتي – 1982) سيناريو وحيد حامد وإخراج سمير سيف، على أزمة الإسكان والاحتيال على أصحاب الأحلام في امتلاك أربعة جدران يتحصنون بها في معالجة خفيفة الظل، لكن في خضم ذلك يصطدم شحاتة أبو كف القروي الشغوف بكرة القدم بموبقات المدينة الكبيرة وعقباتها بدءًا من النشال الذي يسرق محفظته أثناء مشادة التاكسي إلى الفندق المشبوه الذي سكن فيه لعدم امتلاكه ما يكفي لفندق محترم وصولاً إلى رواد النادي الكبير الذي جلبه ليلعب في فريقه ولهوهم به حتى فقد قدرته السحرية على تسديد الأهداف.
أما في فيلم (البيه البواب – 1987) إخراج حسن إبراهيم وسيناريو يوسف جوهر، الذي يرصد صعود البوابين في الأحياء الراقية ونفوذهم على ساكني هذه البنايات، يتحول عبد السميع من الصعيدي الساذج الذي يصطدم بزحام المدينة وعادات أهلها إلى التلميذ النجيب الذي سرعان ما يتعلم الدرس ويتفوق ويصير التاجر ورجل الأعمال الذي يستخدم وكيل الوزارة ليكون تابعًا له، لكنه حتى وإن تعلم قواعد اللعبة فلن يستطيع التغلب على سطوة المدينة التي تهزمه في النهاية وتعيده إلى مكانه الأول.
ويعود محمد خان ليلعب على ذات الفكرة ولكن بتركيبة بطل مختلفة في (مستر كاراتيه – 1993) سيناريو رؤوف توفيق، فلا يتعرض بطله صلاح لإغراءات المدينة ولكن لضرباتها المتكررة فتخطف ساقة ويضيع صديقه الوحيد الذي سانده في وحدته بها، وهو يحاول التغلب على هذه الصفعات بنبل وشجاعة وحتى لا تسرق منه القاهرة براءته يعود أدراجه إلى أحضان الريف الهادئ السعيد مع حبيبته.
دعوة للخروج من القاهرة
تعد افتتاحية فيلم (خرج ولم يعد – 1984) لمحمد خان وسيناريو عاصم توفيق، مانيفستو لما وصل له حال القاهرة في تلك الفترة من ضوضاء وتلوث وارتفاع العمارات الشاهقة التي أصبحت تحجب الضوء والحياة عن البيوت الصغيرة في الأزقة والشوارع الضيقة، وكأنها وحش ضخم على وشك أن تلتهمهم. يستيقظ عطية مفزوعًا من صوت معدات الحفر الثقيل، ويفتح صنبور المياه لينساب منه سائل أسود كريهه، وتتحرك الكاميرا في بان أفقي لتكشف عن ضئالة وأنزواء البيت الذي يسكنه بجوار البناية الضخمة التي تحاصره، نرى كل هذا على الشاشة مصاحبًا لصوت أسمهان وهي تغني في الراديو "يا حبيبي تعالا إلحقني" وكأنها استغاثة داخلية من البطل ليبحث له أحد عن حل للوضع المتردي الذي أصبح يعيش فيه. ويجد محمد خان الحل في الخروج من هذه المدينة التي لم يعد العيش فيها ممكنًا إلى رحابة الريف وسكينته وخيره الوفير.
يختصم أيضاً المخرج عبد العزيز المدينة الكبيرة في فيلمه (هنا القاهرة – 1985) سيناريو سعيد محمد مرزوق، مستعرضًا مشكلات عدة مثله الزحام والفوضى وسلوكيات سكانها مضيفًا إليها البيروقراطية وأشياء أخرى من خلال مهندس صعيدي ينزل إلى القاهرة مع زوجته ليقدم مشروعًا قوميًا للحكومة فيمر بعدة مواقف تفسد عليه رحلته وتكسر الصورة الخيالية الجميلة التي رسمها في ذهنه عن المدينة التي لم يزرها من قبل. وبرغم أن الفيلم يتضمن قضايا عدة لا تتعلق بالزحام فقط، لكن المخرج يرجعها جميعًأ إلى الانفجار السكاني في القاهرة ويقدم حل الخروج منها إلى الصحراء.
عودة الهارب
يمثل فيلم (آخر الرجال المحترمين – 1984) سيناريو وحيد حامد وإخراج سمير سيف، دعوة للتصالح ليس مع زحام القاهرة وعشوائيتها وحدها ولكن مع المتناقضات الإنسانية أيضاً من خلال البحث عن الجمال والطيبة في قلب القبح والشرور. يقدم الفيلم تنويعة مختلفةعلى فكرة البطل الوافد إلى القاهرة، فأستاذ فرجاني رجل بمقاييس نموذجية يعيش بقوانين مثالية ولا يرى من الحياة سوى اللونين الأبيض الأسود. قاهري هارب من القاهرة والبشر بعد حادث أليم أفقده أطفاله وزوجته، يلوذ بهدوء الريف وبساطته وبراءة الأطفال من عنف المدينة وصخبها.
تتيح له العودة إلى القاهرة اكتشاف عوالم أخرى سفلية تُصير بقوانينها الخاصة، ورغم سلوكهم الإجرامي ظاهريًا إلا أنهم يحملون في تكوينهم مساحات مضيئة تجعلهم يرسمون لأنفسهم الحدود ويتمسكون بمبادئ إنسانية. فيتعامل مع لص لا يخطف الأطفال ويضع في اعتباره الحالة المادية للموظف البسيط فلا يسرقه، ويمكنه عالم جامعي القمامة من الوصول إلى الطفلة الضائعة، ويجد في الخاطفة امرأة قهرها ألم فقدان طفلتها والقدرة على الإنجاب وتحاول تعويض هذا الفقد بأطفال تلتقطهم من الشارع لتمارس معهم أمومتها المهدرة.
فتسمح له تجربة العودة إلى القاهرة اختبار ما يكمن تحت سطح هذا الجنون والفوضى والزحام من تجربة إنسانية تستحق الاكتشاف والتأمل ومعايشة كل تفاصيلها لاختبار معدنها الحقيقي، وتجعله يفهم أنه بين الأبيض والأسود هناك مئات الدرجات اللونية التي يجب إدراكها.


التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات