الكاتب : بسمة شرين
أتذكر حين جلست مع أبي وأنا في سن السابعة نشاهد سويا من أجل حفنة ديناميت، لم يكن الفيلم المفضل لي ولا حتى لأبي وأبي -لو ووددتم أن تعلموا- يعد من كبار معجبي أفلام الويسترن وعلى الأخص أفلام سيرجيو ليوني وكان يجعلني أشاهدها معه مرتين على الأقل في الأسبوع، ولكن كان هناك شيئا غريبا في هذا الفيلم بالتحديد يجعله مميزا عن بقية أفلام ليوني ويجعله قريبا من قلب والدي، وكثيرا ما كنا نعيد مشاهد بعينها لكي نعيد تمثيلها أو لكي ندندن سويا موسيقاها ....
كبرت وكبر أبي كذلك وما زلنا نشاهد أفلام ليوني معا ومازال من أجل حفنة ديناميت يحظى بمكانة كبيرة في قلب أبي، لم يتغير شيء سوى إدراكي الان لماذا هذا الفيلم بالتحديد لليوني مختلف وناضج عن بقية أفلامه الويسترن، ولكن قبل أن أبدأ في الدفاع عن هذا الفيلم وقراءته بشكل مختلف، دعوني أذكر الأسباب التي جعلت هذا الفيلم لم يلق النجاح ولا الاهتمام كبقية أفلام ليوني الأخرى وجعلته البطة السوداء في أعمال ليوني.
فيلم " من أجل حفنة ديناميت "1971 يحكي عن المتمرد الأيرلندي شون أو جون مالوري (جيمس كوبيرن) الذي يجد نفسه في المكسيك التي مزقتها الثورة عام 1913، هاربًا من الحكومة البريطانية. يركب جون دراجة نارية ويقابله قاطع طريق مكسيكي خوان ميراندا (رود ستيغر) وعائلته من الخارجين عن القانون الذين يحملون السلاح، يشكل خوان شراكة غير سهلة مع جون لسرقة بنك ميسا فيردي الوطني المنيع. وبدلاً من ذلك، فإن ما بدا وكأنه فرصة لا يمكن تفويتها للثراء يصبح فخًا، يقع في شباكه الثنائي ويتورطا في القتال الي جانب الثوريين ضد السلطة.
بداية موفقة، ولكن..
بدأت فكرة الفيلم أثناء إنتاج فيلم حدث ذات مرة في الغرب الأمريكي، عندما قدم سيرجيو دوناتي – الذي شارك في كتابة الفيلم السابق- لليوني معالجة مبدئية للفيلم. وفي نفس الوقت تقريبًا، اندلعت أعمال شغب سياسية في باريس كما كانت الأوضاع السياسية في روما غير مستقرة في أواخر الستينات، وأصبحت المثل العليا للثورة والقومية اليسارية حديث شائع بين طلاب الجامعات وصانعي الأفلام في جميع أنحاء أوروبا، ولذلك قرر ليوني، الذي سبق له كسر الطابع المثالي والرومانسي عن الغرب الأمريكي القديم في أفلامه السابقة، فعل ذلك مرة أخري وتسليط الضوء على وحشية وعنف الثورة وأن الثورة ليست بالنقاء ولا الرومانسية التي يروج لها .....
ولهذا بدأ الفيلم بمقولة شهيرة لماو تسي-تونغ
" إن الثورة ليست عشاء اجتماعيًا ولا حدثًا أدبيًا ولا رسمًا ولا تطريزًا. لا يمكن أن يتم ذلك بأناقة ولطف، الثورة عمل من أعمال العنف."
اشترك في كتابة سيناريو الفيلم مع ليوني كلا من سيرجيو دوناتي لوتشيانو فينسينسوني وكان من المقرر أن يقوم بإخراجه بيتر بوغدانوفيتش، ولكن سرعان ما انسحب الأخير من المشروع إلى أن قرر الاستوديو في النهاية أن تؤول مهمة الإخراج لسيرجيو ليوني.
تعثرات في اختيار الأبطال الرئيسية
تحمس الأستوديو في البداية لفيلم ويسترن آخر من كتابة وإخراج ليوني خصوصا أن ليوني وقتها بالنسبة للاستوديو كالوزة التي تبيض ذهبا بالإضافة الي أن أفلامه دائما تحقق أعلى الإيرادات في جميع السينمات عالميا ولم يخفق له فيلم قط وجمهورها عريض من الرجال والشباب.
أراد ليوني في البداية أن يقوم الممثل إيلاي والاك بدور خوان قاطع الطريق المكسيكي حيث أن تعتبر شخصية خوان قاطع الطريق نوعا ما امتدادا لشخصية توكو من فيلم الطيب والشرس والقبيح والذي قام بتمثيلها الأخير، ولكن الاستوديو رفض وأراد نجما أكثر لمعانا وجماهيرية عن والاك فتم اختيار الممثل رود ستيغر للدور.
لم يكن اختيار الممثل لدور جون المتمرد الأيرلندي شيئا هينا أيضا علي ليوني؛ لأنه أراد أن يقوم كلينت ايستوود بالدور، ولكن ايستوود رفض فطرح اسم الممثل مالكولم ماكدويل ولكن الاستوديو رفض الي أن استقر الأمر في النهاية على جيمس كوبيرن الذي كانت جماهيريته وقتها في أوجها بعد عرض فيلمه العظماء السبعة المنتمي أيضا لنوعية أفلام الويسترن.
بالرغم من أن ليوني لم يحصل على الممثلين الذين أرادهم للأدوار الرئيسية، ولكن كوبيرن وستيجر قدما واحدا من أفضل الأدوار في مسيرتهم الفنية وهو ما أكده ستيغر في سمينار بنيويورك بقوله ان ليوني واحدا من أفضل المخرجين الذين عمل معهم.. وهو يعطي للممثل كل ما يحتاجه لتحقيق حضوره و كاريزمته على الشاشة من خلال استخدام اللقطات المقربة والموسيقى وبناء المشهد.
كثرة الطباخين تفسد الطبخة
احتوى الفيلم على الأساسيات التي تجعله ينتمي لنوعية الإسباجيتي ويسترن.. وهي الاعتماد على ممثلين من جنسيات مختلفة مع الحفاظ على وجود أبطال عمل أمريكان وإنتاج أوروبي والتصوير في صحراء إسبانيا أو إيطاليا والموسيقى التصويرية التجريبية التي كانت بقيادة المايسترو إنيو موريكوني وبالطبع مخرج إيطالي.
العنوان الأصلي للفيلم الإيطالي هو Giù la testa عبارة مشهورة في إيطاليا معناها أبقي رأسك منخفضة.. وفي رأيي يعتبر هذا العنوان موفق جدا لإنه يلخص فلسفة الفيلم بالكامل وهي ابقي رأسك منحني لا تتجادل لا تشارك وإلا سيطلق عليك الرصاص وتمت ترجمتها ل duck,you sucker بالإنجليزية وليوني وقتها كان مقتنع بأنها عبارة مشهورة ومستخدمة في أمريكا وهو ما كان عكس ذلك تمام ..ولذلك حين تم طرحه في السينمات أحدث ربكة للمشاهد لربطه بفيلم Donald Duck فتم تغييرها من قبل الاستوديو الي A fistful of dynamite كمحاولة رخيصة وساذجة لجعله يبدو كفيلم A fistful of dollars من أجل جذب المشاهد ولكن الفيلم كان مختلف تماما عن سابقه..
العنوان الثالث والأخير الذي طرح به الفيلم في أوروبا ويعتبر الأكثر منطقية هو Once upon a time a revolution لضمه لثلاثية Once upon a time " حدث ذات مرة " ولأن الفيلم يتناول الثورة كأنها خرافة.
لم يسلم الفيلم أيضا من التدخلات غير الفنية من قبل الموزعين؛ حيث قام بعضهم بقص كل مشاهد الفلاش باك الخاصة بجون مالوري ومن ضمنها مشهد النهاية والذي أفقد شخصية جون جوهر إنساني وفلسفي وعلاقته بالثورة والوطن ومنهم من قص الأجزاء التي كانت في نظرهم تبطيء من وتيرة الفيلم واقتصرت أغلب المشاهد فقط على الانفجارات وإطلاق الرصاص كنوع بدائي من جذب جمهور التستوستيرون، ولكنهم اتفقوا جميعا على حذف المقولة الافتتاحية للفيلم للحد من الجرعة السياسية للفيلم.
فأصبحت محاولاتهم لتحسين إيرادات الفيلم بغير قصد سبب رئيسي في سوء استقبال الجماهير للفيلم وكانت إيراداته منخفضة جدا عن بقية أفلام ليوني السابقة وأصيب ليوني وقتها بالإحباط.
فرصة ثانية متأخرة
قام الاستوديو في 1989 أي بعد 18 سنة من عرض الفيلم بطرح نسخة LD للفيلم بمعدل 138 دقيقة، وتوالت ظهور النسخ غير المكتملة من وقتها الي أن تم ترميمه في 2009 وعرضت نسخة شبة مكتملة للفيلم بمعدل 154 دقيقة في الدورة 62 لمهرجان كان بفرنسا، شملت النسخة على مشهد فلاش باك النهاية لجون مالوري وأيضا بالجملة الافتتاحية للفيلم...يذكر أن النسخة التي عرضت بالسينمات في 1971 كانت تتراوح مدتها من 120 الي 125 دقيقة أي بمعدل غياب تقريبا 30 دقيقة في الفيلم.
لماذا لم تحب هوليوود نضج ليوني؟!
الثورة وليوني
جاء فيلم من أجل حفنة ديناميت متمردا على المعتقدات والمبادئ القديمة لليوني -الذي تربي في بيئة اشتراكية-ونقد من خلاله طبقة المثقفين كما عرض الثورة بشكل مختلف عن أقرانه من السينمائيين وقتها.. لأنهم كانوا يميلون جعل الثورة رومانسية لكن ليوني جعلها قبيحة وقاسية وواقعية لأكثر شيء ممكن ولذلك بدأ فيلمه بمشهد تبول لخوان قاطع الطريق على مجموعة من النمل العاملين في رمزية واضحة للقهر والتحقير الذي تتعرض له الطبقة العاملة.
ولكن فعل ليوني الأكثر جرأة - وربما الأكثر إثارة للجدل – في الفيلم هو رفضه للمثل الثورية لعام 1968. ولذلك جاء موقف خوان للثورة أكثر تشاؤمًا بقوله " يأتي الرئيس الجديد، مثل الرئيس القديم"... وأيضا في حديثه مع جون أثناء التخييم مع الوطنيين عندما عاتبه الأخير بعدم الوطنية وتجاهله للثورة التي هم متورطون فيها. واقتبس منه:
الثورة لا تحاول أن تخبرني عن الثورة، فأنا أعرف كل شيء عن الثورة وكيف تبدأ ...الناس الذين يقرأون الكتب يذهبون للناس الذين لا يقرأون الكتب ويخبرونهم بأنه حان وقت التغيير، فالناس الفقراء هم من يصنعون التغيير، فيجلس الناس الذين يقرؤون الكتب حول الطاولات الكبيرة ويتحدثون ويأكلون، ولكن ماذا حل بالفقراء؟ إنهم ميتون! هذه هي الثورة التي تتحدث عنها ولذلك لا تخبرني عن الثورات ........ ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ يتكرر هذا الشيء اللعين مرة أخرى..
وينتهي المشهد برمي جون للكتاب الذي كان يقرأه وهو " الوطنية " لميخائيل باكونين.
ليوني يتخلى عن ديناميكيته المعتادة في بناء الفيلم
بخلاف الوطنية، احتوى الفيلم على موضوع محبب لليوني وهو الصداقة والتي لم تكن بمثل هذا النضج في أفلامه.. فكانت هناك محاولات سابقة ولكن على استحياء؛ في من أجل بضعة دولارات أخري بين الكولونيل مورتيمر والرجل بلا اسم؛ وفي فيلم الطيب والشرس والقبيح بين توكو و بلوندي؛ وفي حدث ذات مرة في الغرب الأمريكي بين شيان و هارمونيكا، افتقرت تلك المحاولات في تأثيرها علي تطور الشخصيات ولكن الصداقة بين شون و خوان في الفيلم مختلفة وناضجه، فإنهم ليسوا شخصيات محبوبة تمامًا، فخوان أب عاجز يفتقر إلى الضمير. على سبيل المثال، في الجزء الأول من الفيلم لم يتأثر عندما يُقتل الأبرياء؛ لقد قتل بدم بارد العديد من الأبرياء من أجل التلاعب بجون؛ ينظر إلى الاعتداء الجنسي على امرأة على أنه معروف لها؛ وهو يتخلى عن أطفاله بسهولة لأنه يعتقد خطأً أن جون يريد فقط أن يهرب الاثنان إلى الولايات المتحدة من أجل سرقة البنوك معًا.
جون أيضًا، يفتقر إلى الضمير فما هو إلا متطرف سياسي متهور ومدمر ذاتيًا ويستمتع بأي فرصة لديه لتخليص العالم "من بضع زي رسمية"، بغض النظر عمن هم يخدمون. تحقيقا لهذه الغاية، فإنه يسعد كثيرا بتفجير جسر يلجأ إليه المئات من الجنود المشاة، ويقتل صديقه لأنه لا يستطيع تحمل ترك الخائن على قيد الحياة حتى لو كان من الواضح أنه تعرض للضرب من قبل الضباط.
يلعب ليوني بذكاء بهذه الميزة لصالحه، ويقلب موقفنا تجاه هذه الشخصيات بينما يدخل الفيلم فصله الأخير. يتعلم كل من خوان وجون دروسًا قاسية في الحياة - دروس تمنحهما الضمير وتحثهما على التساؤل والتخلي عن الفلسفات التي كانت تحكم أفعالهما سابقًا؛ فعلي سبيل المثال يفضل خوان الانتقام لعائلته على الحصول على المال وتتغير أراء جون عن الثورة ليظهر في الفصل الأخير تساهلا تجاه الطبيب الخائن لأنه تعلم قبول ضعف البشر ...
يأخذ الفيلم طابعًا عاطفيًا في هذه المرحلة، ليجعل خوان وجون شخصيات بشرية يمكننا أخيرًا التعاطف معها.
معالجة ليوني وعرضه لشخصية "الشرير" في من أجل حفنة ديناميت كانت غير تقليدية أيضًا. ففي الأفلام الثلاثة السابقة للمخرج، تم إنشاء ديناميكية ثلاثية الأبعاد ذات أبعاد عملاقة بين الشخصيات الرئيسية في الفيلم؛ الرجل بلا اسم والكولونيل مورتيمر مقابل إنديو في من أجل بضعة دولارات أخرى؛ بلوندي وتوكو مقابل انجل اي في الطيب والشرس والقبيح؛ وهارمونيكا وشيان مقابل فرانك في فيلم حدث ذات مرة في الغرب الأمريكي، ولكن ليوني في من أجل حفنة ديناميت يتخلي عن تلك الديناميكية ويقدم شرير الفيلم الكولونيل غونثر رزا في الدقيقة 78 من بدء الفيلم.. ويلعب دور رزا ممثل مسرحي غير مألوف، والذي لا يجلب إحساسًا راسخًا بالشر في هذا الدور، ولا نرى أبدًا أن رزا يفعل الكثير من شأنه أن يحوله إلى شخصية تكرهها لأن الفيلم يقدمه فقط كجندي يقوم بعمله.
موسيقي من السماء
لا يمكننا الحديث عن ليوني دون ذكر موريكوني، فالموسيقي التصويرية للفيلم في رأيي تعد واحدة من أفضل أعمال موريكوني فكانت متنوعة من حيث الأسلوب؛ هناك كل شيء بدءًا من المقطوعات الأوبرالية بصوت السوبرانو إيدا ديل أورسو ، وأصوات الالات الأوركسترالي الشبيه بالمعدن الثقيل ، والصفير الكئيب ، وأصوات الجوقة الكوميدية .
ولكن التيمة المفضلة بالنسبة الي هي التيمة الشاعرية الخاصة بجون أو شون والتي يدمج فيها موريكوني كل تلك العناصر مضيفا لها أيضا اسم شون ...وتلك التيمة نسمعها فقط حين يتذكر شون الماضي لتضفي الموسيقي على علاقته بالثورة ذلك الطابع العاطفي والذاتي أيضا.
جميلة وخيالية كالثورة تماما
يتركنا ليوني قبيل النهاية مع مشهد فلاشباك حالم لجون وصديقه -الذي قتله سابقا- يتبادلان القبل الحميمية مع فتاة أيرلندية غامضة لم يصرح الفيلم بشكل قاطع عمن تكون.. ولكنها تظهر في مشهد في البداية أيضا وتتبادل القبل مع جون فقط، ولكن يمكننا تفسيرها بأنها ترمز للثورة، وسماح جون لصديقه بتقبيلها في النهاية يجعلنا ندرك حجم التغيير الذي طرأ علي أفكاره ومعتقداته نتيجة لصداقته مع خوان.
المشهد مصمم بعناية شديدة مستخدما فيه ليوني تقنية الSlow Motion مصاحبا له موسيقي موريكوني ليتركنا ليوني في النهاية مع حلم صيفي جميل عن الثورة ، ولكي تستمتع حقا به عليك مشاهدة النسخة المكتملة من الفيلم ، لأن أعمال ليوني كالأحاجي إن أخفيت قطعة منها لن تفهمها.